ج5.وج6. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
وروي
عن البراء: أن آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُوْنَكَ قُلِ اللهُّ يُفْتِيْكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ} [النساء: 672].
وقال أبي بن كعب: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
[التوبة: 821].
وقيل: إن قوله تعالى: {وَاتَّقُوْا يَوْمًا تُرْجَعُوْنَ فِيْهِ إِلَى اللهِّ}
إنما نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع.
وقال الطبري في «تفسيره»: الإرباء الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على
فلان، إذا زادَ عليه، يُربي إرباءً، والزيادة هي الربا، وربا الشيء، إذا زاد عما
كان عليه فعظُم، فهو يربو رَبْوًا، وإنما قيل للرابية رابيةً لزيادتها في العِظَمِ
والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان
في رباء قومه، يراد أنه في رِفعةٍ وشرف منهم.
وأصل الربا، الإنافة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان، أي أناف غيرَه وصيَّره زائدًا،
فإنما قيل للمربي: مُرْبيًا؛ لتضعيفه المالَ الذي كان له على غريمه حالًا، أو
لزيادته عليه فيه بسبب الأجل الذي يؤخره
إليه فيزيده إلى أجله الذي كان قبلَ حلِّ دينه عليه، ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:
131].
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والربيع
والضحاك والسُّدِّي وغيرهم.
وقال الزَّمَخْشري: كتب الربا بالواو على لغة من يفخم.
وعن الثعلبي: كتبوه في المصحف بالواو؛ وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء، بكسر
أوله، وغلطهم في ذلك البصريون.
وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو؛ لأنَّ أهلَ الحجاز تعلَّموا الخط من أهل الحيرة،
ولغتهم الربو، مضموم، فصورةُ الخطِّ على لغتهم، وكذا قرأه أبو السماك العدوي.
وزعم أبو الحسن طاهر ابن غلبون أن أبا السماك قرأ: «الرَّبُو»، بفتح الراء وضم
الباء ويجعل معها واوًا.
(1/62)
وقال
ابن قتيبة: قراءة أبي السماك وأبي السوار بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة، وقرأه
الحسن بالمد والهمز، وقرأه حمزةُ والكِسائي بالإمالة، وقرأه الباقون بالتفخيم.
وفي «شرح المهذب»: أنت بالخيار في كتبه بالألف والواو والياء، والرماء: بالمد
والميم، والرُّبْيَة: بالضم والتخفيف لغة فيه.
وذكر أبو الحسن بن الحصار في كتابه «الناسخ والمنسوخ» قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} الذي يتعلق بهذه الآيات من النسخ حكمان:
أحدهما: تحريم الربا، وذلك بأن نعلم تاريخَ نزول الآية ونعلمَ ضرورة الخلق إلى
المعاوضات، فهذه الآية مدنية، ويدل على تاريخها حديثُ عائشة، قالت: «لما نزلت
الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المسجد
فحرَّمَ التجارة في الخمر».
وهذه وصف حال شاهدتها عائشة، وإنما بنى بها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد
مقدَمِه المدينة، ومما بيَّنَ ذلك أن الخمر إنما حُرِّمت في شهر ربيع الأول من
السنة الرابعة في غزوة بني النضير، فحرم التجارة فيها، وذلك بعد الهجرة بأربعة
أعوام وأربع عشرة سنة من أول الإسلام، ولم ينقل عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنكار
الربا ولا تحريمُه قبل نزول هذه الآيات في تحريم الربا، ناسخة لما كان عليه في
الجاهلية، ومن أول الإسلام إلى هذه الغاية، ويدل عليه أن الربا غير معقول المعنى،
وإنما يُعلَمُ ببيان الله سبحانه وبيانِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد ردَّ
الله جلَّ وعزَّ قولَ من قال: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} بأن قال:
{وَأَحَلَّ اللهُّ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فلا فرق في الصورة إلا ما يرجع
إلى حلِّه سبحانه وتحريمه، وليس في ذلك شيءٌ يثبت إلا ما كان بالمدينة، وإقرار
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى وقتِ نزولِ الآيات حكم ثابت وشرع متَّبَعٌ.
(1/63)
2086
- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي
جُحَيْفَةَ: «رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا ـ يعني فكَسَر محاجمَه ـ
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ ثَمَنِ
الكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الوَاشِمَةِ وَالمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ
الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ المُصَوِّرَ». [خ 2086]
عند أبي داود: «اشترى أبي عبدًا حجامًا، فكسر أبي محاجمَه، فقلت: أتكسرها؟».
وفي لفظ: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهاني عن ثمن الدم».
قال المهلب: هذه الأشياء المنهي عنها في هذا الحديث مختلفة الأحكام، فمنها على
سبيل التنزُّه، مثل كسب الحجام وثمن الكلب، وهو مكروه غير محرم، وإنما كُرِهَ
للضَّعة والسقوط في بيعه، ومنها حرام بيِّنٌ مثل الربا، وإنما اشترى أبو جُحَيفةَ
الغلام ليخلص من إعطاء الحجام أُجرةَ حجمه؛ خشيةَ أن يواقع نهيَ النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم تورعًا وتنزهًا.
قال ابن بطال: والنهي عن ثمن الكلب وكسب الحجام يحتمل أن يكون في بدء الإسلام ثم
نُسِخَ، ألا ترى أنه أباحَ الاصطيادَ بالكلب فكان كسائرِ الجوارح في جوازِ بيعه،
وكذا لما أعطَى الحجامَ أجره كان ناسخًا لما تقدَّم.
وقال ابن التين: قال كثير من العلماء: إن الحجَّام جائز له وسائغ أخذ
الأجر بالبناء وغيره من سائر الصناعات، وقالوا: معنى نهيه عن ثمن الدم، أي السائل
الذي حرمه الله.
وقال: وقال أبو حنيفة: أجرة الحجام من ذلك، أي: لا يجوز أخذه، وهو قول أبي هريرة
والنخعي، واعتلُّوا بأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن مهر البغي وكسب الحجَّام،
فجمع بينهما، ومهر البغي حرام إجماعًا، فكذلك كسب الحجام.
وقالوا: إن الإجارةَ عند جميع الأئمة لا تصح إلا على معلوم، ومدة معلومة،
والحجَّام يعمل على غير هذين فأجرته فاسدة.
(1/64)
وقال
آخرون: كسبُه على الحجامة غير طيِّب، وهو حلال على أخذ الشَّعر، وهو قول عطاء،
وعليه أنها إجارة جائزة إذا رأى الشَّعر قبل ذلك.
وقال آخرون: يجوز للمُحتَجِم إعطاءُ الحجام الأجرَ، ولا يجوز للحجام أخذها، رواه
ابن جرير عن أبي قِلابة، وعلَّتُه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطى الحجامَ
أجره، فجائز لهذا الاقتداء بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أفعاله، وليس
للحجَّام أخذها للنهيِ عن كسبه، وبه قال ابن جرير، إلا أنه قال: إن أخذ الأجرة
رأيتُ له أن يعلفَ به ناضحَه ومواشيه ولا يأكله، فإن أكلَه لم أر أنه أكله حرامًا.
وفي «شرح المهذب»: قال الأكثرون: لا يحرم أكلُه لا على الحرِّ ولا على العبد، وهو
مذهب أحمد المشهور.
وفي رواية عنه، وقال بها فقهاء المحدثين: يحرم على الحرِّ دون العبد لحديث محيصة:
«اعلفه ناضحك ورقيقَك».
وذكر ابن الجوزي: أن أجرَ الحجام كره لأنه مما يُعين به المسلم أخاه إذا احتيج
إليه فلا ينبغي للمسلم أن يأخذ من أخيه على ذلك أجرًا.
بَابٌ: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَالله لاَ يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]
في «تفسير الطبري» عن ابن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الربا وإن
كثر فإلى قُلِّ».
وقال المهلَّب: سئل بعض العلماء عن هذه الآية وقيل: نحن نرى صاحبَ الربا يربو
ماله، وصاحب الصدقة ربما كان مُقِلًا، فقال: يربي الصدقات، بمعنى أن صاحبها يجدها
مثل أُحُدٍ يوم القيامة، وصاحب الربا يجد عملَه ممحوقًا وإن تصدق به، أو وصل رحمه؛
لأنه لم يكتب له بذلك حسنة، وكان عليه إثم الربا.
قال ابن بطال: وقالت طائفة: إن الربا يمحق في الدنيا والآخرة على عموم اللفظ، وذكر
عبد الرزاق عن معمر أنه قال: «سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى
يمحق».
(1/65)
وقوله:
{كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} قال الطبري: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفرٍ مقيم عليه،
مستحل أكل الربا وإطعامه.
{أَثِيمٍ} متماد في الإثم بربه، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من
معاصيه، لا ينزجر عن ذلك، ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في
تنزيله وآي كتابه.
2087 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، قال: قَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «الحَلِفُ مَنَفقَةٌ
لِلسِّلْعَةِ، مَمحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ». [خ 2087]
قال ابن المنير: ذكر هذا الحديث كالتفسير للآية؛ لأن الربا الزيادة، فقال: كيف
يجتمع المحاق والزيادة؟ فبيَّن بالحديث أن اليمين مزيدة في الثمن وممحقة للبركة
منه، والبركة أمر زائد على العدد، فتأويل قوله: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا} أي يمحق
البركة منه وإن كان عدده باقيًا على ما كان.
و (مَمْحِقَةٌ): بفتح الميم وكسر الحاء ويصح بفتحها، قال ابن قُرقُول: كذا قيد
القاضي أبو الفضل، قال: والذي أعرف بفتحها.
و (مُنَفِّقَةٌ): قال ابن التين: هما بفتح الميم؛ لأنها مفعلة من نفق ومحق، وعن
ابن فارس: ويقال: المُمْحِقة، وهو رديء، وقال النووي: هما بفتح أولهما وثالثهما
وسكون ثانيهما.
بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الحَلِفِ فِي البَيْعِ
2088 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثنا هُشَيْمٌ، أخبرنا العَوَّامُ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى:
«أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ، وحَلَفَ بِالله لَقَدْ
أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ.
فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]. [خ 2088]
(1/66)
وعنده
في موضع آخر عن ابن مسعود عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديث الأشعث
وسيأتي: «من حلف على يمين يَقْتَطِعُ بها مال امرئ مسلم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ} الآية».
قال ابن أبي حاتم عن أبي العالية: الأليم الموجع في القرآن كله.
قال: وكذلك فسره سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل وأبو قتادة وأبو مالك وأبو عمران
الحُوفي.
وذكر ابن التين وغيره: أن هذا الوعيد الشديد في هذه اليمين الغَموس لما جمعت من
المعاني الفاسدة، وكذا كذبه في اليمين بالله تعالى، وهو أصل ما يحلف به، وغرَّر
المسلمين، واستحلال مال المشتري بالباطل وهو الثمن القليل الذي لا يدوم به في
الدنيا عوضًا عما كان يلزمه من تعظيم حق الله تعالى والوفاء بعهده والوقوف عند
أمره، فخاب متَّجره وخسرت صفقته.
وحديث ابن مسعود موافق لحديث ابن أبي أوفى؛ لأن كليهما في أخذ مال الناس بالباطل.
وفي «تفسير الطبري»: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وابن الأشرف وحيي بن
أخطب.
وفي «تفسير أبي القاسم الجوزي»: قال ابن عباس: «نزلت في ناس من علماء اليهود
أصابتهم فاقة، فجاؤوا إلى كعب بن الأشرف، فسألهم كعب عن النبي؟ فقالوا: نعم، هو
رسول الله، فقال كعب: لقد حرمتم خيرًا كثيرًا، كنت أريد أن أميركم وأكسوا عيالكم،
قالوا: فإنه شُبِّه علينا ورجعوا عمَّا قالوه، وزعموا أن بعثَه على غيرِ ما عندهم،
ففرح كعب ومارهم، فنزلت».
وعند الزمخشري: قيل: نزلت في الذين حرفوا التوراة، وقيل: فيمن حلف على سلعة، وقيل:
فيمن حلف يمينًا فاجرة، والوجه: أن نزولها في أهل الكتاب.
(1/67)
وقال
ابن مقاتل: نزلت في رؤوس اليهود؛ منهم كعب بن الأشرف وابن صوريا، كتموا أمر محمد
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التوراة، ويشترون به ثمنًا قليلًاـ يعني عرضًا من
الدنيا ـ ويختارون على الكفر بمحمد ثمنًا قليلًا ـ يعني عرضًا من الدنيا يسيرًا ـ
مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام ولو تابعوا محمدًا لحبست عنهم تلك
المآكل.
بَابُ مَا قِيلَ فِي الصَّوَّاغِ
وَقَالَ طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا».
وَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ،
فَقَالَ: «إِلَّا الإِذْخِرَ».
عند الحاكم صحيحًا عن قيس بن أبي غرزة قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا
معشر التجار! إنه يشهد بيعكم اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة».
وعنده أيضًا مصحح الإسناد عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن
أبيه، عن جده، يرفعه: «يا معشر التجار! [إن التجار] يبعثون يوم القيامة فجارًا إلا
من اتقى وبر وصدق».
وعن عبد الرحمن بن شِبْل مرفوعًا: «إن التُّجَّارَ هم الفُجَّار، فقالوا: يا رسول
الله! أليس قد أحلَّ الله البيعَ؟ قال: بلى، ولكنهم يغامزون فيأثمون، ويحدثون
فيكذبون» وقال: صحيح الإسناد.
هذان التعليقان تقدَّما عنده مسندان.
(1/68)
2089
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أخبرنا عَبْدُ الله، أخبرنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ،
أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: «كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ، فَلَمَّا
أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ
مَعِي، فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ،
وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرُسِي». [خ 2089]
وفي لفظ: «بينما أنا أجمع لشارِفيَّ من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان
إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا أنا بشارفاي قد
جُبَّتْ أسنمتهما، وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك
عيني حين رأيتُ ذلك المنظر، وقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: فعل حمزة بن عبد المطلب،
وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشرف النواء
(1/69)
فوثب
حمزة إلى السيفِ فأجبَّ أسنمتهما، وبقرَ خواصرهما، وأخذ من أكبادِهما، قال علي:
فانطلقت حتى أدخل على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعنده زيد بن حارثة، فعرف
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وجهي الذي لقيت، فقال: مالك؟ فقلت: يا رسول
الله! ما رأيت كاليوم، عدا حمزةُ على ناقتيَّ، فأجبَّ أسنمتهما، وبقرَ خواصرَهما،
وها هو ذا في بيت معه شرب، قال: فدعا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بردائه،
فارتدى به، ثم انطلق يمشي، واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه
حمزة، فاستأذن عليه، فأذن له، فإذا هم شرب، فطفق النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل، محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم، ثم صعد النظر، فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال
حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه ثمل، فنكص
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه».
وفي لفظ: «كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أعطاني شارفًا من الخمس».
وفي لفظ: «أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ».
وفي لفظ: «وذلك قبل تحريم الخمر».
قال ابن بطال: لم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر. وذكر إسماعيل بن إسحاق
القاضي أنه كان في غزوة بني النضير حين حكَّم سعدًا.
قال: وأحسب أن بعضهم قال: نزل أمر الخمس بعد ذلك، وقيل: إنما كان الخمس يقينًا في
غنائم حنين، وهي آخر غنيمة حضرها سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال: وإذا كان كذلك فيحتاج قول علي إلى تأويل. انتهى.
ذكر ابن إسحاق أن عبد الله بن جحش لما بعثه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
(1/70)
في
السنة الثانية إلى نخلة في رجب، وقتل عمرو بن الحضرمي وغيره واستاقوا الغنيمة، وهي
أول غنيمة، قسم ابن جحش الغنيمة، وعزل لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخمس،
وذلك قبل أن يفرض الخمس، فأخَّرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمر الخمس
والأسيرين، ثم ذكر خروج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بدر في رمضان فقسم
غنائمها مع الغنيمة الأولى وعزل الخمس، فيكون قول علي: «شارفي من نصيبي من
المغانم»، يريد يوم بدر، ويكون قوله: «وكان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أعطاني شارفًا قبل ذلك من الخمس»، يعني قبل يوم بدر من غنيمة ابن جحش.
وقال ابن التين عن الداودي: فيه دليل أن آية الخمس نزلت يوم بدر؛ لأنه لم يكن قبل
بنائه بفاطمة رضي الله عنهما مغنم إلا يوم بدر، وذلك كله سنة ثنتين من الهجرة في
رمضان، وكان بناؤه بفاطمة بعد ذلك.
وذكر أبو محمد في «مختصره» أنه تزوجها في السنة الأولى، قال: ويقال: في السنة
الثانية على رأس اثنين وعشرين شهرًا، وهذا كان بعد بدر.
وذكر أبو عمر عن عبد الله بن محمد بن سليمان الهاشمي: نكحها علي بعد وقعة أحد، وقيل:
تزوجها بعد بنائه بعائشة بسبعة أشهر ونصف.
وقال ابن الجوزي: بنى بها في ذي الحجة، وقيل: في رجب، وقيل: في صفر من السنة
الثانية.
وفي كتاب أبي زيد عمر بن شبة من رواية أبي بكر بن عياش: «أن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم غرَّمَ حمزة الناقتين».
وقد أجمع العلماء على أن ما أتلفه السكران من الأموالِ يلزمه ضمانُه كالمجنون.
وأما السَّنام المقطوع إن لم يتقدَّم نحرُ الناقتين فهو حرام بإجماع، وحديثه في
كتاب السنن، وإن كان ذكَّاهما فلحمهما حلال إلا ما حُكِيَ عن عكرمة وإسحاق وداود:
أنه لا يحل ذبيحة غاصب ولا متعدٍّ.
وفي الحديث الاستعانة باليهود، وأن معاملتهم
لا تكره وإن كان مالهم يخالطه الربا.
(1/71)
وقَينقاع:
بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف، وفي نونه ثلاث لغات: الضم والفتح والكسر،
ويصرف على إرادة الحي، ولا يصرف على إرادة القبيلة.
وهم أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحاربوا
فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى نزلوا على حكمه.
والعرُس والعرْس: مهملة، الإملاك والبناء، وقيل: هو طعامه خاصة، وقد يذكَّر،
وتصغيرها بغير هاء، وهو نادر؛ لأن حقَّه الهاء، إذ هو مؤنث على ثلاثة أحرف،
والجمع: أعراس وعروسات.
والعروس: نعت للرجل والمرأة، رجل عروس في رجال أعراس، وامرأة عروس في نسوة عرائس،
ذكره ابن سيده.
وفي «التهذيب» للأزهري: العرس طعام الوليمة، وهو من أعرسَ الرجل بأهلِه إذا بنى
عليها ودخل بها، وتُسمَّى الوليمة عرسًا، والعرب تؤنِّث العرس.
وكذا ذكره القزَّاز وابن فارس وصاحب «الكتاب المغيث» وأبو المعالي في «المنتهى».
وفي «الموعب»: العرس، مثل: طُيب، وتسكن العين، وعن الفراء والأصمعي وأبي زيد
ويعقوب: هي أنثى، وتصغيرها عُريسي وعُريسة، وهو طعام الزفاف، والعرس مثل قرط: اسم
الطعام الذي يتخذ للعروس.
وقال ابن دريد: سألت أبا عثمان عن اشتقاق العروس؟ فقال: قالوه تفاؤلًا من قولهم:
عرس الصبي بأمه إذا ألفها.
وفي كتاب الشرب عند البخاري: «ومعي صائغ»، قال ابن التين: عند أبي الحسن قال:
«ومعي طالع»، قال: ومعناه طالع يدله على الطريق.
وقوله: «أفظعني»، قال ابن فارس: أفظع الأمر وفظع أي اشتد، وهو مفظع وفظيع.
وقال المهلب: فيه من الفقه: تضمين الجنايات بين ذوي الأرحام، والعادة فيها أن تهدر
من أجل القرابة، كما هدر علي قيمة الناقتين.
وقوله: «وهل أنتم إلا عبيد لأبي»، قيل: أراد أن أباه جدهم
والأب كالسيد، وقيل: كان ثملًا فقال ما ليس جيدًا.
قال ابن الجوزي: وقوله: «قبل تحريم الخمر» احتج بهذا بعض من يرى أن طلاق السكران
لا يقع.
(1/72)
قال
النووي: أما ما يقوله من لا تحصيل له أن السكر لم يزل محرمًا فباطل لا أصل له ولا
يعرف.
والبناء: الدخول بالزوجة والأهل.
فيه: أنهم كانوا إذا أراد أحدهم الدخول على أهله رفع قبةً أو بناءً يدخلان فيه.
والشِّعر الذي أنشده حمزة، زعم أبو عبيد الله المرزباني أنه لعبد الله بن السائب
جدِّ أبي السائب المخزومي، وأن القينة تمثَّلت به.
وقول البخاري:
2090 - حَدَّثنا إِسْحَاقُ، حَدَّثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله. [خ 2090]
فذكر حديث ابن عباس المذكور في الحج.
قال أبو نصر بن ماكولا وابن البيع: هو إسحاق بن شاهين الواسطي، وأكد ذلك قول
الإسماعيلي: حَدَّثنا ابن عبد الكريم، حَدَّثنا إسحاق بن شاهين، حَدَّثنا خالد،
فذكراه.
قال البخاري:
وَقَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ: لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا.
هو حديث تقدم عنده مسندًا قبل.
و (الشارف): قال في «المخصص» عن الأصمعي: ناقة شارف وشروف، قال سيبويه: جمع
الشارف: شُرُف، والقول في الشارف كالقول في البازل ـ يعني خرج نابها.
أبو حاتم: شارفة.
صاحب «العين»: والجمع شوارف، ولا يقال للبعير شارف، وعن يعقوب: شرُفت وشرَفت.
وفي «المحكم»: الشارف من الإبل المسن والمسنة، والجمع شرف وشَرف.
وفي «الجامع»: هي الناقة المسنة، وتجمع شرفًا وشوارف.
و (النواء): ذكره أبو العباس أحمد بن محمد بن ولَّاد في «الممدود المكسور أوله»
فقال: النواء، السمان من الإبل، يقال: جزور ناوية، وبعير ناو، وقد نوت تنوي نيًا.
وفي «تهذيب» الأزهري: قال أبو الدُّقَيش: النِّي: الشحم، وقال غيره: النِّي اللحم،
بكسر النون والنَّي الشحم.
وفي «المخصص»: وقد نوت نِواية ونَواية.
بَابُ ذِكْرِ القَيْنِ وَالحَدَّادِ
(1/73)
2091
- حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: «كُنْتُ
قَيْنًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى العَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ،
فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلْتُ: لاَ أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ الله، ثُمَّ
تُبْعَثَ، قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالًا
وَوَلَدًا، فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ
لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} [مريم: 77]. [خ 2091]
وفي لفظ: «وإني لمبعوث بعد الموت، فسوف أقضيك إذا رجعتُ إلى مالي».
وقال البخاري في التفسير بأثر هذا الحديث:
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدًّا: أي هَدْمًا.
وهو تعليق رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن أبيه قال: حَدَّثنا أبو صالح، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن طلحة، عنه.
وقال مقاتل: «صاغ خباب للعاص شيئًا من الحلل، فلما طلب منه الأجر قال: ألستم
تزعمونَ أن في الجنة الحرير والذهب والفضة والولدان؟ قال خباب: نعم، قال العاص:
فميعاد ما بيننا الجنة».
وعند الواحدي: قال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينًا، وكان يعمل للعاصي بن وائل، وكان
العاصي يؤخر حقَّه، فأتاه يتقاضاه، فقال: ما عندي اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست
بمفارقك حتى تقضيني، فقال العاصي: يا خباب ما لك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لحسن
الطلب، قال: ذاك إذا كنتُ على دينك، وأما اليوم فإني على الإسلام، قال: أفلستم
تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا؟ قال: بلى، قال: فأخِّرني حتى أقضيك في
الجنة ـ استهزاء ـ فو الله إن كان ما تقول حقًّا إني لأفضل فيها ذهبًا منك، فأنزل
الله تعالى الآية. انتهى.
كذا ذكره عن مقاتل، وليس في «تفسيره» إلا ما قدمته. فينظر.
(1/74)
وزعم
ابن العربي: أن من عيَّن للكفر أجلًا كائنًا فهو الآن كافر إجماعًا، فكيف يصدر مثل
هذا عن خباب، ودينه أصح وعقيدته أثبت وإيمانه أقوى وآكد من هذا كله؟ ولم يُرد خباب
هذا؛ وإنما أراد: لا تعطيني حتى تموت ثم تبعث، أو أنك لا تعطيني ذلك في الدنيا،
فهنالك يؤخذ قسرًا منك.
وقال أبو الفرج: لما كان اعتقاد هذا المخاطب أنه لا يبعث خَاطَبَهُ على اعتقاده،
فكأنه قال: لا أكفر أبدًا، وقيل: أراد خبابٌ أنه إذا بعث لا يبقى كفر؛ لأن الدار
دار الآخرة.
وقال الكلبي: كان العاصي من زيادة العرب.
وفي كتاب «المعاني» للفراء: حديث هشيم عن المغيرة عن إبراهيم: أنه كان يقرأ:
«مالًا وَولدًا»، وكذلك يحيى بن وثاب، ونصب عاصم الواو، وثقَّل في كل القرآن، وقرأ
مجاهد: «ماله وولده إلا خسارًا»، ونصب سائر القرآن.
والوُلد والوَلد: لغتان، وقيس تجعل الوُلد جمعًا والوَلد واحدًا.
وفي «ديوان الأدب» للفارابي في باب (فُعْل) بضم الفاء وتسكين العين: الوُلْد، لغة
في الوَلَدِ، ويكون واحدًا وجمعًا، وذكره أيضًا في باب (فِعْل) بكسر الفاء وتسكين
العين: الوِلْد، وفي باب (فَعَل) بفتح الفاء والعين: الوَلَد.
وفي «المحكم»: الولد والولد ما ولد أيًا ما كان، وهو يقع على الواحد والجمع،
والذكر والأنثى، وقد يجوز أن يكون الوُلْد جمع وَلَد: كوَثَن وَوُثن، والولد
كالولد وليس بجمع، والولد أيضًا الرهط.
وفي الحديث: أن الحدَّادَ لا يضره مهنة صاغته إذا كان عدلًا، قال أبو العتاهية:
ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم
وليس على حرٍّ تقيٍّ نقيصة إذا أسَّس التقوى وإن حاك أو حجم
والقَينُ: هو الذي يصلح الأسنة، والحداد أيضًا يقال له القين، ذكره الزجاج في
«المعاني».
وفي «المحكم»: القين: الحداد، وقيل: كل صانع قين، والجمع أقيان وقيون، وقال: يقين
قيانة صار قينًا، وقان الحديدة قينًا عملها، وقان الإناء قينًا أصلحه.
(1/75)
والتقين:
التزين بألوان الزينة.
وفي «الكامل» للمبرد ما يوضح أن القين الحداد، قال جرير يعير الفرزدق:
هو القين وابن القين لا قين مثله لفطح المساحي أو لجدل الأداهم
وهذا التبويب فيه إشكال، حيث فرق بين القين والحداد، وإن كنا ذكرنا أن جماعة فرقوا
بينهما، ولكن ليس في الحديث ذكرٌ إلا لأحدهما، وفي بعض الأصول: لم يذكر الحداد،
ولعله الصواب.
بَابُ ذِكْرِ الخَيَّاطِ
2092 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ الله، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ: فَذَهَبْتُ مَعَ
رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى
رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ،
فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ
حَوَالَيِ القَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ
يَوْمِئِذٍ». [خ 2092]
وفي لفظ: «جعلتُ ألقيهِ إليه».
قال الخطابي: فيه جواز الإجارة على الخياطة ردًّا على من أبطلها، بعلَّةِ أنها
ليست بأعيان مرئية ولا صفات معلومة، وفي صنعة الخياطة معنى ليس في سائر ما ذكره
البخاري من ذكر القين والصائغ والنجار؛ لأن هؤلاء الصناع إنما تكون منهم الصنعة
المحضة فيما يستصنعه صاحب الحديد والخشب والذهب والفضة، وهي أمور من صنعة توقف على
حدها ولا يخلط بها غيرها.
(1/76)
والخياط
إنما يخيط الثوب في الأغلب بخيوط من عنده، فيجتمع إلى الصنعة الآلة، واحد منهما
معناه التجارة والآخر الإجارة، وحصة أحدهما لا تتميز من الأخرى، وكذلك هذا في
الخرَّاز والصبَّاغ إذا كان يخرز بخيوطه ويصبغ هذا بصبغه على العادة المعتادة فيما
بين الصناع، وجميع ذلك فاسد في القياس، إلا أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وجدهم على هذه العادة أول زمن الشريعة فلم يغيرها، إذ لو طولبوا بغيرها لشق عليهم،
فصار بمعزل من موضع القياس، والعمل به ماض صحيح لما فيه من الإرفاق.
وفيه دلالة على تواضعه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أجاب دعوةَ الخياط وشبهِه، وقد
اختلف في إجابة الدعوة: فمنهم من أوجبها، ومنهم من قال: هي سنة، ومنهم من قال: هي
مندوب إليهم.
والدُّبَّاءُ: ذكره ابن ولاد في «المضموم الممدود»، فقال: الدباء بالضم والتشديد،
وهو القرع، واحدته دباءة، وذكره ابن سيده في «الممدود الذي ليس له مقصور من لفظه».
وفي «النبات» لأبي حنيفة: الدباء: هي اليقطين ينفرش ولا ينهض، كجنس البطيخ
والقثاء، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «كل ورقة اتسعت ورقَّت فهي يقطين».
وفي «الجامع» للقزَّاز: الدُّبا، بالقصر لغة في القرع.
وفي «شرح المهذب»: هو القرع اليابس.
وأما قول القرطبي: حكى ابن سراج فيه القصر، وليس معروفًا؛ غير جيد؛ لما ذكره
القزاز.
وعند الإسماعيلي: الخبز الذي جاء به الخياط يومئذ كان من شعير.
وقال الداودي: فيه دليل أنه صنع بذلك المرق والخبز ثريدًا لقوله: «من حوالي
القصعة».
قال القرطبي: إنما تتبَّعه من حوالي القصعة؛ لأن الطعام كان مختلفًا، فكان يأكل ما
يعجبه منه، وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد.
(1/77)
وإلقاء
أنس له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدُّبَّاء دليل على جواز مناولة بعض المجتمعين
لبعض من الطعام شيئًا، ولا نكير على من فعل ذلك، والمكروه هو أن يتناول شيئًا من
أمام غيره أو يتناول من مائدة أخرى، فقد كرهه ابن المبارك، وسيأتي ذكر هذا أيضًا
في كتاب الأطعمة.
الأبواب التي بعده تقدم ذكرها.
بَابُ شِرَاءِ الإِبِلِ الهِيمِ، أَوِ الأَجْرَبِ الهَائِمُ المُخَالِفُ
لِلْقَصْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
2099 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: «كَانَ هَا
هُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ، فَذَهَبَ ابْنُ
عُمَرَ فَاشْتَرَى تِلْكَ الإِبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ
فَقَالَ: بِعْنَا تِلْكَ الإِبِلَ فَقَالَ: مِمَّنْ بِعْتَهَا؟ قَالَ: مِنْ شَيْخٍ
صفته كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ وَالله ابْنُ عُمَرَ، فَجَاءَهُ
فَقَالَ: إِنَّ شَرِيكِي بَاعَكَ إِبِلًا هِيمًا وَلَمْ يَعْرِفْكَ، قَالَ:
فَاسْتَقْهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا قَالَ: دَعْهَا، رَضِينَا بِقَضَاءِ
رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لاَ عَدْوَى»، سَمِعَ سُفْيَانُ عَمْرًا.
[خ 2099]
هذا السياق تفرد به البخاري، وقوله: (سَمِعَ سُفْيَانُ عَمْرًا) روينا عن عبد الله
بن الزبير الحُمَيدي أنه قال: حَدَّثنا سفيان، حَدَّثنا عمرو بن دينار، وزاد:
«وكان نواس يجالس ابن عمر وكان يضحكه، فقال يومًا: وددت أن لي أبا قبيس ذهبًا،
فقال له ابن عمر: ما تصنع به؟ قال: أموت عليه، فضحك ابن عمر».
قال ابن قُرقُول: عند الأصيلي والكافة: «نَوَّاس»، وعند القابسي: «نِوَاس»، بكسر
النون وتخفيف الواو، وعند بعضهم: «نِواسي».
والهيم: هي التي أصابها الهيام: داء لا تَروي من الماء، بضم الهاء وبالكسر، اسم
الفعل، ومنه قوله جلَّ وعزَّ: {شُرْبَ الهِيمِ} [الواقعة: 55]، وقيل: في الآية
الكريمة غير هذا.
(1/78)
وقيل:
هو داء يكون معه الجرب؛ ولهذا ترجم البخاري: شراء الإبل الهيم والأجرب، ويدل عليه
قول ابن عمر حين تبرَّأ إليه بائعها من عيبها: (رَضِيتُ بِقَضَاءِ رَسُولِ الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لاَ عَدْوَى).
وقيل: الهيم جمع الأهيم والهيماء، قال الخطابي: وهو: العطشان الذي لا يَروى، قال:
ولا أعرف للعدوى في الحديث معنى، إلا أن يكون ذلك إذا رعت مع سائر الإبل وتُرِكَتْ
معها ظُنَّ بها العدوى، وقد يكون من الهيام وهو جنون يصيبها فلا تلزم القصد في
سيرها. انتهى كلامه.
وليس كما قال، وللعدوى معنى ظاهر؛ ولذلك قال ابن عمر: (رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) في صحة هذا البيع، على ما فيه من التدليس والعيب، و
(لاَ عَدْوَى) عليك، ولا أرفعكما إلى حاكم، ولا ظلم ولا اعتداء.
وقال ابن سيده: الهائم والهيام: داء يصيب الإبل عن بعض المياه بتهامة يصيبها منه
مثل الحمى.
وقال الهجري: هو داء يصيبها عن شرب النَّجْل إذا كثر طحلبه واكتنفت به الذبان.
انتهى.
الذي رأيت في «نوادر الهجري»: الهِيام: من أدواء الإبل مجرور الهاء، وكل الأدواء
بضم أولها، وهو عن شرب النجل إذا كثر طحلبه واكتنفت به الذُّبان، جمع ذباب بضم
الذال، في أي حال احتاج إلى الشربة، وهو في آخر الربيع وأول الصيف إلى أن ينقضي
الصيف كله، فمن علامة الأهيم قيامه ونزوله وإقباله بوجهه على الشمس من حيث دارت،
وهو مع ذلك يأكل ويشرب إلا أن بدنه في نقيصة، فإذا أشكل على صاحبه أمرَه استبان
له، فإن وجده حارًا مصعدًا في منخريه فليس به هيام، وإن وجد ريحه مثل ريح الخميرة
فبعيره أهيم، فكل بعير يشم بول بعير أهيم أو دبره أو ريح فمه أو شيئًا منه أعداه
فهام. انتهى.
هذا يرد قولَ الخطابي المذكور.
(1/79)
قال
الهروي وأبو الشمام: الهيام مماطل، فإن أخذه في الربيع لم يزل به حتى يدخل الخريف
ويشرب ماءه، فإذا شربه مات، أو يجفر، ومتى تجفر فالحنوة في عنقه، وهي كسرة يلوي
عنقه أو ذنبه لا بد منهما، وهي في الذنب أهون ويبرأ ويصح، وإن كان في العنق ربما
هانت، ويرى أثرها في عنقه.
وقال أبو العباس المبرد: قرأت على سلمة، قال الفراء: الهُيام والِهيام بضم الهاء
وكسرها، وواحد الهيم أهيم وهيمان، وهيما في المؤنث.
وفي كتاب «الإبل» للنضر بن شميل: وأما الهيام بنحو الدوار؛ جنون يأخذ البعير حتى
يهلك.
وفي كتاب «خلق الإبل» للأصمعي: إذا ثخن جلد البعير وكثر شربُه للماء ونحل جسمه
فذلك الهيام.
وفي «المخصص» الإبل: اسم واحد يقع على الجميع، ليس بجمع، ولا اسم جمع، إنما هو دال
عليه، والإبل مخففة عنه، وجمعها آبال، وعن سيبويه: وقالوا إبلان؛ لأنه اسم لم يكسر
عليه، وإنما يريدون قطيعين.
وقال ابن التين: قول البخاري في التبويب: (الهَائِمُ: المُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِي
كُلِّ شَيْءٍ) أي يهيم يذهب على وجهه.
قال: وليس الهائم واحد الهيم، فانظر لِمَ أدخل هذا البخاري في تبويبه. انتهى.
لقائل أن يقول: لما رأى البخاري أن الهيم من الإبل كالذي قاله الهجري وغيره قبلُ،
كان ذلك يشبه الرجل الهائم من العشق وشبهه، فقال: الهائم المخالف للقصد، وكذلك
الإبل الهيم تخالف القصد في قيامها وقعودها ودورها مع الشمس كالحرباء.
وأما (وَيْحَ): فذكر ابن سيده: أنها كلمة تقال للرحمة، وكذلك ويحما.
قال حميد الأرقط:
وويح لمن لم يدر ما هو ويحما.
وقيل: ويحه كويله.
وقيل: ويح تقبيح.
وعن ابن جني الأزدي: أدخل الألف واللام على الويح سماعًا أم تبسطًا وإذلالًا.
وفي «الجامع»: هو مصدر لا فعل له.
وعن الخليل وأنشد قول حميد: ويحما كلمةٌ واحدة، وأضاف ويح إلى ما، ولو فصل لقال:
ويحًاما كما يقول: أيًا ما.
(1/80)
وفي
«الصحاح»: لك أن تقول ويحًا لزيد، وويح لزيد، ولك أن تقول: ويحك وويح زيد.
وفي «المجمل» عن الخليل: لم يسمع على بنائه إلا ويس وويه وويل وويك، وعن سيبويه:
ويح: زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل: لمن وقع فيها، وكذا فرق الأصمعي فيما رواه
المازني بين ويل وويح، فقال: ويح تقبيح، وويح ترحم، وليس تصغيرها.
وفي «التهذيب»: ويح: كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، بخلاف ويل: فإنها للذي
مُستحقُّها.
وقوله: (اسْتَقْهَا) يحتمل أن يكون قاله مجمعًا على رد البيع أو مختبرًا هل الرجل
مغتبط بها أم لا؟
وفيه: جواز شراء المعيب وبيعه إذا كان البائع قد عرَّف عيبه ورضيه، وليس ذلك من
الغش.
بَابُ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا
وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الفِتْنَةِ.
هذا التعليق ذكره عبد الله بن أحمد في كتاب «العلل» فقال: سألت ابنَ معين عن محمد
بن مصعب القَرْقَسَاني فقال: ليس بشيء، وكان لي رفيقًا فحدثنا عن أبي الأشهب، عن
أبي رجاء، عن عمران بن حصين: أنه كره بيع السلاح في الفتنة، فقلنا لمحمد بن مصعب:
هذا يروونه عن أبي رجاء قوله، فقال: هكذا سمعته، ثم قال يحيى: لم يكن من أصحاب
الحديث.
قال عبد الله: وسمعت أبي ذكر محمد بن مصعب فقال: لا بأس به، فقلت: أنكر يحيى عليه
حديث أبي رجاء إذ رواه عن عمران قولَه، فسكت.
وفي «تاريخ الخطيب»: رواه محمد بن مصعب أيضًا مرفوعًا إلى النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم، وكذا هو في كتاب «البيوع» لابن أبي عاصم.
ورواه ابن عدي في «كامله» من حديث بحر بن كثير السَّقَّاء ـ وهو ضعيف ـ عن عبيد
الله بن القِبْطي عن أبي رجاء عن عمران.
(1/81)
2100
- حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ أَفْلَحَ ـ يعني عن ابن كثير ـ، عَنْ [أَبِي] مُحَمَّدٍ مَوْلَى
أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم عَامَ حُنَيْنٍ، فَأَعْطَاهُ ـ يَعْنِي دِرْعًا ـ قال: فبِعْتُ
الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ
مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ». [خ 2100]
وفي لفظ: «خرجنا مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين
جولة، فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فضربته من ورائه على
حبلِ عاتقه بسيف فقطعت الدرع وأقبل علي فضمَّني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه
الموت، فأرسلني، فلحقت عمرَ فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمْر الله تعالى، ثم تراجعَ
الناس إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: من قتل قتيلًا له عليه بيِّنة
فله سَلَبُه، فقمت لألتمسَ بيِّنة على قتيلي فلم أرَ أحدًا يشهد لي فخبت، ثم بدا
لي، فذكرتُ أمره لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: [مالك؟]، فقال رجل من جلسائه: سلاحُ هذا الذي يذكر عندي، فأرضه منه،
فقال أبو بكر: كلا، لا يعطيه أُصَيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن
الله ورسوله، فقام رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأدَّاه إلي» الحديث.
وقال في الأحكام: حَدَّثنا قتيبة، عن الليث، عن يحيى، عن ابن أفلح، فذكره، وقال في
آخره: وقال لي عبد الله بن صالح، عن الليث: «فقام رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فأدَّاه إليَّ».
كذا ذكر هذه اللفظة من جهة كاتب الليث معلقة، وقد أسلفناها من عنده مسندةً بسند
على شرطه، فكأنَّه غفل عن ذلك حتى ذكرها من جهة من ليس على شرطه في الأصول من غير
زيادة.
(1/82)
وزعم
الإسماعيلي أن هذا الحديث ليس في شيء من ترجمة الباب. انتهى.
لقائل أن يقول: لما بوب البخاري: «باب بيع السلاح في الفتنة»، ذكر قول عمران،
وقوله بعده: «وغيره»، دخل فيه حديث أبي قتادة: «إذا باع السلاح في غير أبان فتنة»،
أو يقول: إن الرجل لما قال: «سلب ذلك القتيل عندي فأرضه» فكأنه بمنزلة البيع، وذلك
وقت فتنة؛ لأن الرضا لا يكون إلا مع مقاربة التماثل.
وذكر المنذري أن اللذين شهدا لأبي قتادة: الأسود بن خزاعي، وعبد الله بن أنيس.
وقال ابن بطال: إنما كُرِهَ بيع سلاح المسلمين في الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على
الإثم، وذلك منهي عنه، فأما بيعه في غير الفتنة فمباح.
وقال السفاقسي: كراهة عمران بيع السلاح في الفتنة لعله يريد الفتنة التي لا يعرف
الظالم فيها من المظلوم، وإلا فلو علمنا لِبيع من المظلوم ولم يُبَعْ من الظالم.
و (المَخْرَف): بفتح الميم والراء، وقال بعضهم: بكسر الميم وفتح الراء، وهو
البستان، وقيل: الحائط من النخل يخترف فيه الرطب، أي: يُجتنى.
وقيل: بكسر الميم، ما يجنى فيه الثمر، وبالفتح: الحائط من النخل.
وفي كتاب «الأنوار» لأبي حنيفة عن أبي نصر: يقال للنخلة مخرف، ويقال للطريق: مخرف،
فأما ما لفظ منه فيه فهو مخرف بالكسر.
وفي «المحكم»: المخرف
القطعة الصغيرة من النخل لست أو سبع يشتريها الرجل للخرفة.
و (تَأَثَّلْتُهُ): جعلته أصلَ مالي.
و (بَنو سَلِمَةَ): بكسر اللام، بطن من الأنصار، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الخمس
إن شاء الله تعالى.
بَابٌ فِي العَطَّارِ وَبَيْعِ المِسْكِ
(1/83)
2101
- حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثنا أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ الله قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى،
يحدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سمعتُ رَسُولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَثَلُ
الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ
الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ
تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَيتكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ
مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً». [خ 2101]
ولما ذكره ابن حبان في «صحيحه» قال: فيه دليل على إباحة المقايسات في الدين.
وعند مسلم عن أبي سعيد قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المسكُ أطيب
الطيب».
وفي كتاب «الإشراف»: روينا عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسند جيد: «أنه
كان له مسك يتطيب به». انتهى.
الذي رويناه في «سنن أبي داود»: «سُكَّةٌ يَتطيَّبُ بها»، فينظر.
قال المهلب: أصلُ المسك التحريم؛ لأنه دم، فلمَّا تغيَّر عن الحالة المكروهة من
الدم، وهي الزَّهْم وفَيح الرائحة؛ صار حلالًا بطيبِ الرائحة، وانتقلت حاله كالخمر
تتخلل فتحل بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وهذا الحديث حجة في طهارته.
قال ابن بطال: لأنه لا يجوز حمل النجاسة، فدلَّ على طهارته، وعلى هذا جلُّ
العلماء: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأنس، وسلمان، وابن سيرين، وابن المسيب،
وجابر بن زيد، والشافعي، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق.
خالف في ذلك آخرون، فذكر
ابن أبي شيبة أن عمر قال: «لا تحنطوني به، وكرهه»، وكذا عمر بن عبد العزيز وعطاء
والحسن ومجاهد والضحاك، وقال أكثرهم: لا يصلح للحي ولا الميت؛ لأنه ميتة، وهو
عندهم بمنزلة ما أُبِينَ من الحيوان.
قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك إلا عن عطاء. انتهى.
(1/84)
عطاء؛
روى ابن أبي شيبة عنه من طريق جيدة أنه سئل: «أيُطَيَّبُ الميت بالمسك؟ قال: نعم،
أوليس يجعلون في الذي تخمرونه المسك؟» فهذا خلاف ما قال أنه صح عنه.
قال ابن المنذر: وهذا قياس غير صحيح؛ لأنَّ ما قطع من الحي يجري فيه الدم، وهذا
ليس سبيل نافجة المسك؛ لأنها تسقط عند الاحتكاك كسقوط الشعرة.
وقال أبو الفضل عياض: وقع الإجماع على طهارته وجواز استعماله.
وفي «شرح المهذب»: نقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبًا باطلًا، وهو مستثنى من
القاعدة المعروفة: أنَّ ما أُبِينَ من حيٍّ فهو ميت، أو يقال: هو في معنى الجنين
والبيض واللبن.
وفي هذا الحديث: النهي على مجالسة من يُتَأذَّى بمجالسته، كالمغتاب والخائض في
الباطل، والندب إلى من يُنَالُ في مجالسته الخير، من ذكر الله تعالى، وتعلم العلم،
وأفعال البر كلها.
قال ابن بطال: وروي عن إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه كان عطَّارًا.
وذكر المفضل بن سلمة في كتاب «الطيب»: المسك مذكَّر، فمن أنَّثه ذهب إلى رائحته
وأرجه.
(1/85)
وذكر
المسعودي في «مروج الذهب»: أنه يدفع موادَّ الدم إلى سرَّة الغزال، فإذا استحكم
لونُ الدم فيها ونضح آذاه ذلك وحكَّه، فيفزع حينئذ إلى أحد الصخور والأحجار
الحارَّة من حرِّ الشمس، فيحتك بها مُلتذًّا بذلك، فينفجر حينئذ وتسيل على تلك
الأحجار كانفجار الجراح والدُّمَّل، ويجد بخروجه لذة، فإذا فرغ ما في نافجته اندمل
حينئذ ثم اندفعت إليه مواد من الدم تجتمع ثانية، فيخرج رجال النبت يتَّبعون تلك الحجارةَ
والجبالَ فيجدون الدمَ قد جفَّ بعد إحكام الموادِّ ونضج الطبيعةِ، وجفَّفته الشمس
وأثَّر فيه الهوى، فيودعونه نوافج معهم قد أخذوها من غزلان اصطادوها معدَّةً معهم،
ولغزاله نابان صغيران محدودان الأعلى منهم، مدلىً على أسنانه السفلى، ويداه
قصيرتان ورجلاه طويلتان، وربما رموها بالسهام فيصرعونها ويقطعون عنها نوافجها
والدم في سررها خام لم ينضج وطري لم يدرك، فيكون لرائحته سهولة، فيبقى زمانًا حتى
تزولَ عنه تلك الروائح السهلة الكريهة، ويكتسب موادًا من الهوى ويصير مسكًا، وسبيل
ذاك سبيل الثمار إذا كانت على الأشجار، وقطعت قبل استحكام نضجها في شجرها واستحكام
موادها. انتهى.
هذا يرد قول ابن المنذر الذي حكيناه قبلُ.
ويؤيده أيضًا قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله: (لاَ يَعْدَمُكَ) بفتح الياء، قال ابن التين: وضبط في البخاري بضم الياء
وكسر الدال، ومعناه: ليس يعدوك.
وأبو طَيبة: بطاء مهملة مفتوحة، قيل: اسمه هبار، وقيل: نافع، وقيل: ميسرة.
قال ابن الحذاء: عاش مئة وثلاثًا وأربعين سنة.
والحجام تقدم ذكره.
بَابُ التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
ذكرَ فيه حديثَ عمر المذكور في الصلاة:
(1/86)
2104
- 2105 - أَرْسَلَ إليه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِحُلَّةِ حَرِيرٍ
أَوْ سِيَرَاءَ، فَرَآهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُرْسِلْهَا
لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُها
إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا». [خ 2104 - 2105]
وحديث:
نَافِعٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا اشْتَرَتْ
نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قَامَ عَلَى البَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ
الكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! أَتُوبُ إِلَى
الله، وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ
النُّمْرُقَةِ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»،
وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ هذه الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ
المَلاَئِكَةُ صلى الله عليهم وسلم».
قال ابن عبد البر: ورواه الزهري عن القاسم عن عائشة كالذي قبله سواء، إلا أنه جعل
في موضع «النمرقة» قرامًا، وقد قال الخليل: القرام جمع قرامة، قال: وهي ثوب صوف
ملون.
(1/87)
قال
أبو عمر: والمعنى في ذلك واحد؛ لأنها كلها ثياب تُمتَهَنُ، ولا يُرخَّصُ في شيء
منها في هذا الحديث، وإن كانت الرُّخصَةُ قد وردت في غيره في هذا المعنى فإن ذلك
مُتعارِضٌ، وحديث عائشة هذا من أصح ما يروى في هذا الباب، إلا أن عبيد الله بن عمر
روى هذا الحديث عن القاسم عنها فخالف في معناه، وذكر فيه الرخصة فيما يُرتَفَقُ
ويتوسَّدُ، وهو: دخل على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفي البيت ستر منصوب
عليه تصاوير، فعرف الغضب في وجهه، قالت: «فهتكتُه وأخذتُه فجعلته مِرفَقَتينِ،
فكان يرتفق بهما في بيته».
قال: فهذه الرواية مخالفة للزهري ونافع عن القاسم، وعبيد الله حافظ ثقة، وسماعه
صحيح، والزهري ونافع أجلُّ منه، فالله أعلم بالصحيح في ذلك. انتهى.
سنذكر حديثَ عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه بنحو حديث عبيد الله.
قال ابن عبد البر: ومن جهة النظر لا يجب أن يقع المنع والحظر إلا بدليل لا
مُنازِعَ له، قال: وحديث سهل بن حُنَيفٍ مع أبي طلحة يعضد ما رواه عبيد الله بن
عمر، وهو ما رواه مالك عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله: «أنه دخل على أبي
طلحة يعوده، قال: فوجدنا عنده سهل بن حنيف، قال:
بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ
2107 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، سَمِعْتُ يَحْيَى
سَمِعْتُ نَافِعًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أنه قَالَ: «إنّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ البَيْعُ خِيَارًا». [خ 2107]
قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ
صَاحِبَهُ.
وفي لفظ: «أو يقول أحدهما لصاحبه اختر».
(1/88)
وفي
لفظ: «لكلِّ واحد منهما الخيار ما لم يتفرَّقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر
فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما
البيع فقد وجب البيع» هذا لفظ نافع.
ولفظ سالم: قال عبد الله بن عمر: «وكانت السنة أنَّ المتبايعين بالخيار حتى
يتفرَّقا».
ورواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر بمعنى ما رواه نافع إلا أنَّ لفظ حديثه آكد في
إثبات خيار المجلس لأنه قال: «كلُّ بيِّعين لا بيع بينهما حتَّى يتفرَّقا إلا بيع
الخيار».
وفي لفظ: «كلُّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرَّقا أو يكون بيعهما عن
خيار، وإذا كان البيع عن خيار فقد وجب».
وفي لفظ: «كلُّ بيِّعين لا بيع بينهما حتَّى يتفرَّقا إلا بيع الخيار».
وقال عبد العزيز بن جعفر بن يزداد في كتاب «البيوع» عن أحمد: هذا الحكم الذي في
حديث ابن عمر لا يحفظ إلا من جهة عبد الله بن دينار وهو ثقة، ولكن أصحاب ابن عمر
الحفاظ نافع وغيره لم يذكروه، والعمل على روايتهم.
وقد اتَّفقت الأئمَّة
على إخراج حديث نافع، واتَّفق محمَّد وأبو عبد الرحمن على حديث عبد الله بن دينار،
وتفرَّد محمَّد بحديث سالم، وأمَّا حديث نافع فرواه عنه مالك وأيُّوب والليث ويحيى
بن سعيد وعبيد الله بن عمر وابن جريج والضحاك بن عثمان، وإسماعيل.
قال أبو العباس الطرقي: وأظنُّه ابن إبراهيم بن عقبة.
وقال ابن عساكر: هو إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص.
قول البخاري إثر حديث حكيم:
2108 - «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا». [خ 2108]
زَادَ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ قَالَ: قَالَ هَمَّامٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِأَبِي التَّيَّاحِ، فَقَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الخَلِيلِ، الحَدِيث.
وفي موضع آخر قال همام: وجدت في كتابي «يختار ثلاث مرار».
ذكر عن أبي المعالي أحمد بن يحيى بن هبة الله بن البيع أن أحمد هذا هو ابن حنبل،
وبهز هو ابن أسد.
(1/89)
وفي
«صحيح مسلم»: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا ابن مهدي، حدثنا همام، عن أبي التياح قال:
سمعت عبد الله بن الحارث، الحديث.
وعند أبي داود حديث أبي برزة.
وذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد بن معروف في كتاب «البيوع» عن أبي عبد
الله أحمد بن حنبل، وقيل له: حديث أبي برزة تذهب إليه؟ قال: أما فعل أبي برزة فلا،
ولكن إلى ما روى عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيِّعان بالخيار مالم
يتفرَّقا»، وأبو برزة كان في عسكر فلم يكن عنده أن يبطل خياره.
وعند النسائي حديث سمرة مرفوعاً: «البيِّعان بالخيار مالم يتفرَّقا».
وعند ابن حزم من طريق أبي الحسن عنه مرفوعاً: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا
ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى، ويتخايران ثلاث مرار».
وعند أبي عيسى - محسَّناً - عن عمرو بن العاص: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرَّقا
إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحلُّ له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله».
وعن أبي هريرة: «لا يفترَّق اثنان إلا عن تراض» وقال: حديث غريب.
وعند ابن أبي شيبة: «ما لم يتفرَّقا من بيعهما أو يكون بينهما خيار».
وعند البيهقي - بسند جيد - عن ابن عباس وابن عمر: «من اشترى بيعاً فوجب له فهو
بالخيار ما لم يفارقه صاحبه، إن شاء أخذه وإن شاء فارقه ولا خيار له».
وعن أنس: «يا أهل البقيع لا يفترقن بيِّعان إلا عن رضا».
وعند ابن ماجه عن أبي سعيد: «إنما البيع عن تراض».
وعن جابر: «اشترى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من رجل حملَ خَبَطٍ، فلمَّا
وجب البيع قال: له اختر. فقال الأعرابي: عمّرك الله بيعاً».
وعند الدارقطني: «لم أرَ كاليوم مثله بيعاً، عمَّرك الله، من أنت؟ قال: من قريش».
وعند الترمذي: «خيَّر أعرابياً بعد البيع» وقال: حديث صحيح غريب.
وعند الطحاوي: «حمل قَرَظٍ».
وعن طاووس مرسلاً: كان ذلك الابتياع قبل البعثة.
وقول البخاري في:
بَابٌ: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
(1/90)
وَبِهِ
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ.
هذا التعليق عن ابن عمر تقدَّم ذكره.
والتعليق عن شريح والشعبي ذكره أبو بكر فقال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي في
رجل اشترى من رجل بِرْذَوناً، فأراد أن يردَّ قبل أن يتفرَّقا، فقضى الشعبي أنه
وقد وجب عليه، فشهد عنده أبو الضحى أنَّ شريحاً أُتيَ مثل ذلك فردَّه على البائع،
فرجع الشعبي إلى قول شريح.
وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي السَّفَر عن الشعبي عن شريح قال: البيعان
بالخيار ما لم يتفرَّقا.
وحدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن شريح مثله.
وفي «شرح المهذب» حكى عنه النووي: أنَّ التفرق إذا حصل بالقول وجب البيع، فالله
أعلم.
والتعليق عن ابن أبي مليكة رواه أبو بكر مرسلاً عن وكيع، حدثنا هشام بن زياد، عن
عبد العزيز بن رفيع عنه
قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا».
وحدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز عنه مثله مرسلاً.
والتعليق عن عطاء رواه أبو بكر عن جرير بن عبد الحميد، عن ابن رفيع عنه، وعن ابن
أبي مليكة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرسلاً.
وقال الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء: إذا وجبَ البيع خيَّرَه
بعد وجوبِه، بأن يقول: اختر إن شئت فخذ، وإن شئت فدع، قال: فقلت: فخيَّره بعد وجوب
البيع فأخذ ثمَّ ندم قبل أن يتفرَّقا من مجلسهما ذلك، أيقيله منه لا بدَّ؟ قال:
لا، حسبه إذا خيَّره بعد وجوب البيع.
وقوله في هذا الباب:
2110 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ. [خ 2110]
فذكر حديث حكيم، ذكر الجيَّاني أنَّه ابن منصور، وقال: حديث مسلم عن إسحاق بن
منصور عن حَبَّان.
وقوله في:
بَابُ إِذَا كَانَ البَائِعُ بِالخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ
2113 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. [خ 2113]
(1/91)
فذكر
حديث ابن دينار عن ابن عمر، قال أبو نعيم الحافظ: محمَّد هو الفريابي، وسفيان هو
ابن سعيد الثوري.
وقال ابن التين: تبويب البخاري لم يأت فيه هنا بما يدلُّ على خيار البيع وحده،
وأخذه القاضي من حديث حَبَّان المذكور.
قال: وقول هَمَّام: (وَجَدْتُ فِي كِتَابِي: يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ) ليس
بمحفوظ، والرواة على خلافه، وإذا خالف الواحدُ الرواةَ جميعاً لم يُقبل قوله،
سيَّما أنه إنما وجده في كتابه، وربَّما أُدْخِلَ على الرجل في كتبه إذا لم يكن
سدَّها لضبط.
قال القرطبي: ظاهر ألفاظ هذا الحديث - وإن كثرت - متواردة على ثبوت خيار المجلس
لكل واحد من المتبايعين، وأنَّ التفرُّق المذكور إنَّما هو بالأبدان، وإليه ذهب
كثير من الصحابة والتابعين، وحمله طائفة من أصحابنا وغيرهم: على أنَّه محمول على
ظاهره لكن على جهة الندب لا على الوجوب.
وعن مالك وربيعة وأبي حنيفة ومحمَّد وأبي يوسف والثوري والنخعي - في أحد قوليهما -
أنَّ التفرُّق إذا حصل بالأقوال وجب البيع ولا خيار إلا إن اشترط.
وقال أبو بكر بن العربي: قال مالك: ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف.
يريد: أنَّ فرقتهما ليس لها وقت معلوم.
قال: وهذه جهالة وُقِف البيع عليها، فيكون كبيع الملامسة والمنابذة، وكبيع خيار
إلى أجل مجهول، وما كان كذلك فهو فاسد قطعًا، ولا يُعارَضُ هذا الأصل بظاهرٍ لم
يتحصَّل المراد منه مفهومًا؛ وقد روي في بعض طرقه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جدِّه عبد الله بن عمرو مرفوعاً، ذكره ابن يزداد في كتاب «البيوع» عن أحمد بن
حنبل: «إلا أن يكون صفقة خيار، فلا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله».
فظاهر هذه الزيادة مخالفة لظاهر أوَّل الحديث، فإن تأوَّل من أخذ بظاهر لفظ الحديث
الاستقالة: باختيار الفسخ، تأوَّلنا الخيار باختيار الاستقالة، وإذا تقابل
التأويلان وقف الحديث، والقياس في جانبنا.
(1/92)
وقال
ابن حزم: قال الأوزاعي: كل بيع فالمتبايعان بالخيار فيه ما لم يتفرَّقا بأبدانهما
إلا بيوعاً ثلاثة: المغنم، والشركاء في الميراث يتقاومونه، والشركاء في التجارة
يتقاومونها.
قال الطحاوي: تنازع أهل العلم في التفرُّق المذكور؛ فقالت طائفة: هو قول البائع
للمبتاع قد بعتك، وقول المبتاع: قد قبلت، فهل يكون للبائع الرجوع عمَّا قال قبل
قول المبتاع له: قد قبلت ذلك، ويكون للمبتاع قبول ذلك منه ما لم يفارق البائع
ببدنه فإن فارقه ببدنه لم يكن له بعد ذلك أن يقبل منه القول الذي قاله له؟ قالوا:
ولو كان ذلك بعد مفارقته ببدنه لكان ذلك له بعد المدة الطويلة.
وممَّن كان يذهب بالحديث إلى هذا التأويل
أبو يوسف وعيسى بن أبان.
وقال محمَّد: إنَّ قول البائع للمبتاع: قد بعتك، وقول المبتاع له: قد قبلت، يكونان
به متفرِّقين، وأن يكون ذلك كقوله جل وعز: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ
كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].
وقال آخرون: الفرقة بالأبدان لأنهما قبل تعاقدهما بالبيع متساومان وليسا
بمتبايعين، وإنَّما جُعل لهما الخيار بعد كونهما متبايعين إلى أن يفترقا، وبه قال
الشافعي.
قال: ولا حجَّة في ذلك لأنَّ العرب تسمِّي الشيء باسم ما قرب منه، وقد حكى لنا
المزني عنه أنَّه قال في قوله جل وعز: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] أنَّ العرب قد تقول: قد دخل فلان مدينة
كذا لقربه منها، ولقصده إلى دخولها، وإن لم يكن في الحقيقة دخلها، فاحتمل الحديث
مثله.
وفي «المدونة» عن أشهب: هذا الحديث منسوخ بقوله: «المسلمون على شروطهم»، وبقوله
أيضا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا اختلف البيِّعان استُحلِف البائع»، فلو كان
بينهما خيار لم يكن هناك يمين.
(1/93)
وقيل:
هو مخالف لظاهر قوله جل وعز: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] إذ
لا يمكن الإشهاد بعد التفرُّق.
وبقوله جل وعز: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
قال أشهب: الذي اجتمع عليه أهل العلم من أهل الحجاز أنَّ البيِّعين إذا أوجبا
بينهما البيع لزم، وليس العمل على هذا الخبر عندهم، واستدلوا بقوله: «لا يبع أحدكم
على بيع أخيه»؛ أي: لا يَسُمْ، فكذا معنى قوله: «المتبايعان» يعني: المتساومين، أو
يحمل على الندب بدليل مفارقة ابن عمر؛ إذ ليس من شأنه التحيُّل في إبطال واجب.
وذكر أبو الفرج البغدادي عن أبي حنيفة ومالك أنَّ خيار المجلس ليس بثابت، واعترضا
عليه بأوجه خمسة:
الأول: أنَّ مالكاً رواه وذهب إلى خلافه، ورأي الراوي مقدَّم على روايته؛ لأنه
يُشعِرُ بالطعن فيما روى.
الثاني: أنَّه خبر واحدٍ فيما تعمُّ به البلوى فلا يُقبل.
الثالث: أنَّه يخالف قياس الأصول؛ لأن عقود المعاوضات لا يثبت فيها خيار المجلس.
الرابع: أنهم حملوه على المتساومين، وسُمِّيا متبايعين لأنَّ حالهما يؤول إلى ذلك.
الخامس: أنهم حملوه على حالة التواجب إذا قال البائع: بعت، ولم يقل المبتاع: قبلت،
فالبائع مخيَّر بين أن يفي بما قال أو يرجع، وكذا المشتري.
قالا: وهذا حمل الكلام على حقيقته؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبت
الخيار بسبب التبايع، والتبايع اسم لحالة تشاغلهما بالبيع، فأمَّا بعد ارتباط
الإيجاب بالقبول فلا يسمَّيان متبايعين، إنَّما يقال: كانا متبايعين، فعلى هذا
يكون المعنى: ما لم يتفرَّقا بالأقوال؛ لقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] انتهى.
(1/94)
واحتجَّ
لهما أيضاً بقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى
يستوفيه»، فدلَّ على أنَّه جائز له بيعه في المجلس قبل التفرُّق، وبحديث ابن عمرو
المذكور أوَّلاً، وهو دليل على أنَّ صاحبه لا يملك الفسخ إلا من جهة الاستقالة،
وأنَّ البيع قد تمَّ قبل التفرُّق، وقال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:
1] وهذا عقد.
أجاب الشافعيون عمَّا أوَّله أبو يوسف وابن أبان بأنَّهما ما داما في المقاولة
يسمَّيان متساومين لا متبايعين، ولهذا إنَّه لو حلف ما باع وكان متساوماً لا يحنث.
وقيل: إنَّ حمله على خيار المجلس يحصل به فائدة لم تكن قبل الحديث معروفة، وحمله
على المساومة يخرجه عن الفائدة.
وقيل: إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مدَّ الخيار إلى التفرُّق، وهو تصريح بثبوته
بعد انقضاء العقد، والراوي - وهو ابن عمر - أعلم بمراد الحديث، وقضى به أبو برزة
الأسلمي في كتاب أبي داود أيضاً، وكذا شريح وغيره على ما تقدَّم.
وأمَّا احتجاجهم بقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة:
4] فالجواب عنه بأنَّ الإيجاب والقبول ليس
تفرُّقاً منهما في القول؛ لأنَّ من أوجب البيع فغرضه أن يقبله صاحبه، فإذا قبله
فقد وافقه، ولا يُسمَّى ذاك مفارقة.
وأمَّا قوله جل وعز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] فهو معارض مخصوص، وكذا قوله: «حتَّى يستوفيه».
ويجاب عن قوله: «لا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله» فإنَّ الترمذي جعله في
كتابه دليلاً على ثبوت خيار المجلس؛ لأنَّ معناه: مخافة أن يختار الفسخ، فعبَّر عن
الإقالة بالفسخ لأنَّها فسخ، يدلُّ على هذا أمران:
الأول: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبت لكلِّ واحد منهما الخيار ما لم
يتفرَّقا، ثمَّ ذكر الإقالة في المجلس.
قال في «شرح المهذب»: ومعلوم أنَّ من له الخيار لا يحتاج إلى الإقالة، فدلَّ أنَّ
المراد بالإقالة: الفسخ.
(1/95)
الثاني:
لو كان المراد حقيقة الإقالة لم يمنعه من المفارقة مخافة أن يقيله؛ لأنَّ الإقالة
لا تختصُّ بالمجلس.
ويجاب عن قياسهم إيَّاه على النكاح والخلع أنَّه ليس المعقود فيهما المال، ولهذا
لا يفسدان بفساد العوض بخلاف البيع.
ويجاب عن قولهم: خيار مجهول، بأنَّ الخيار الثابت شرعاً لا يضرُّ جهالة زمنه كخيار
الردِّ بالعيب، والأخذ بالشفعة، بخلاف خيار الشرط فإنَّه يتعلَّق بشرطهما، فاشترط
بيانه.
ويجاب عن قول من قال: عمل مالك على خلاف روايته؛ بأنَّ الحديث إذا كان صحيحاً كان
حجَّة على راويه وغيره؛ إذ من الجائز نسيانه إيَّاه أو تأوُّله، على أنَّا لا
نتابعهم في هذا، وإلا الحكم إنَّما هو لازم للصحابي الراوي ذلك الحديث، وأمَّا
العالم إذا روى حديثاً لا يلزم بالعمل به، ولا يقدح في روايته إذا عمل بخلافه؛
لأنَّه يروي ما له وما عليه، على ذاك الناس ... صحيحاً من غير رواية مالك ورواه عن
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غير ابن عمر على ما تقدم ... عنه بأنَّ سيِّدنا
رسول الله كان يؤدِّي ما حُمِّل من الرسالة إلى الشخص الواحد وإلى الاثنين وإلى
الجماعة، فإذا بلغ هذا الشخص لزم الحكم الباقين، وكم من حكم تفرَّد بروايته واحد
وتبعه الباقون.
على أنَّا نقول: ليس هو خبر واحد؛ بل هو مشهور أو متواتر على رأي الحاكم وأبي عمر
وابن حزم؛ إذ رواه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمانية من الصحابة بأحاديث
مسندة، غير المراسيل.
وفي قول البخاري: (بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ) ولم يذكر حديثاً فيه بيان تلك
المدَّة نظر، ذكره ابن التين.
وأمَّا ابن المنير فقال: اللهم إلا أن يؤخذ بمعنى التبويب من عدم تحديده؛ إذ في
الحديث تفويض الأمر إلى الحاجة في اشتراطه، وهو مذهب مالك، انتهى.
(1/96)
الذي
يظهر أنَّ البخاري أراد ما ذكر معلَّقاً عن همام من أنَّه يختار ثلاث مرار؛ لأنَّه
قال: (بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ) ولم يقل: باب مدَّة الخيار، والله تعالى
أعلم.
وقد اختلف الفقهاء في أمد الخيار:
فقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم إلى الأمد الذي اشترط إليه الخيار، وهذا قول
ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وأبي يوسف، ومحمَّد، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبي
ثور، وابن المنذر.
وقال الليث: يجوز الخيار إلى ثلاثة أيام فأقل.
وقال عبيد الله بن الحسن: لا يعجبني شرط الخيار الطويل إلا أنَّ الخيار للمشتري ما
رضي البائع.
وقال ابن شبرمة والثوري: لا يجوز البيع إذا شرط فيه الخيار للبائع أو لهما.
وقال سفيان: البيع فاسد بذلك، فإن شرط الخيار للمشتري عشرة أيام أو أكثر جاز.
قال ابن حزم: وروينا في ذلك آثاراً عن المتقدمين، روى الشعبي: أن عمر اشترى فرساً
واشترط حبسه على إن رضيه وإلا فلا بيع بعد بينهما، فحمل عليه عمر رجلاً فعطب
الفرس، فجعلا بينهما شريحاً، فقال شريح لعمر: سلم ما ابتعت أو رد ما أخذت، فقال
عمر: قضيت بالحق.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه
قال: اشترى نافع دار السجن بأربعة آلاف فإن رضي عمر فالبيع بيعه، وإن عمر لم يرض
فلصفوان أربعة، فأخذها عمر.
وعن ابن عمر: كنت ابتاع إن رضيت حتى ابتاع ابن مطيع إن رضيها، فقال: إن الرجل
ليرضى ثم يدع فكأنما أيقظني، فكان يبتاع ويقول: هاء إن أحدث.
وقال سليمان بن البرصاء: بايعت ابن عمر بيعاً فقال لي: إن جاء ما اتفقنا إلى ثلاث
ليال فالبيع بيعنا، وإلا فلا بيع بيننا وبينك.
قال أبو محمد: لا نعلم عن الصحابة في بيع الخيار شيئاً غير هذا، وهو خلاف قول أبي
حنيفة والشافعي ومالك، وهي عندهم بيوع فاسدة مفسوخة.
(1/97)
وقال
مالك: يجوز شرط الخيار في بيع الثوب اليوم واليومين، والجارية إلى خمسة أيام
والجمعة، والدابة تركب اليوم وشبهه، ويُسارُ عليها البريد ونحوه، وفي الدار الشهر
لتختبر ويشاور فيها، ولا فرق بين شرط الخيار للبائع والمشتري.
وفي «علل الخلال» قال الأثرم: قلت لأحمد: الذي يقول أهل المدينة في العهدة الثلاث
والسنة؟ قال: أما عهدة السنة فما أدري رووه عن أبان عن عثمان وهشام بن إسماعيل،
وأما حديث الثلاث فلو ثبت حديث عقبة، ولكن الحسن ما أراه سمع منه؛ لأنه بصري، ولكن
الحسن كان يأخذ هكذا.
وقال محمد بن الحكم عن أحمد: ليس في عهدة الرقيق حديث صحيح، ولا أذهب إليه، إنما
روي عن الحسن عن عقبة، وليس فيه شيء يصح. قلت: إن مالكاً يذهب إليه؟ قال: ما
يعجبني.
وقال الثوري: يجوز شرط الخيار للمشتري عشرة أيام وأكثر، ولا يحوز شرطه للبائع.
وقال الأوزاعي: يجوز أن يشترط شهراً أو أكثر.
وقال أبو حنيفة والشافعي وزفر: الخيار في البيع ثلاثة أيام ولا يجوز الزيادة
عليها، فإن زاد فسد البيع، وروي أيضاً عن ابن شبرمة.
قال في «شرح المهذب»:
ويجوز شرط الخيار ثلاثة أيام في البيوع التي لا ربا فيها، فأما البيوع التي فيها
ربا - وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام - فلا يجوز فيها شرط الخيار، فإنه لا يجوز أن
يتفرقا قبل تمام البيع، ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين، فلو جوزنا
شرط الخيار تفرقا ولم يتم البيع بينهما.
وقد روى ابن ماجه - بسند حسن - من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني نافع عن
ابن عمر قال: سمعت رجلاً من الأنصار يشكو إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه
يغبن في البيوع فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة
ابتعتها ثلاث ليال».
ولما رواه البخاري في «تاريخه» بسند صحيح إلى ابن إسحاق جعله عن منقذ بن عمرو.
(1/98)
والأمة
مجمعة على جواز شرط الخيار، واحتجوا أيضاً بما رواه الحُدَّاني محمد بن يوسف
أخبرنا محمد بن عبد الرحيم بن شَرُوْسٍ، أخبرنا حفص بن سليمان، أخبرنا أبان عن
أنس: «أن رجلاً اشترى بعيراً واشترط الخيار أربعة أيام، فأبطل النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم البيع، وقال: إنما الخيار ثلاثة أيام».
قال الحُدَّانيُّ: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا رجل سمع أباناً يقول عن الحسن: اشترى
رجل بيعاً وجعل الخيار أربعة أيام، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيع
مردود، وإنما الخيار ثلاثة أيام»، وأبان وحفص بن سليمان ضعيفان جداً.
وقال ابن حزم: وأما حديث: «المسلمون عند شروطهم» فلا يصح.
وقول البخاري: [بَابُ] إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الخِيَارِ، هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ
ثم ذكر حديث ابن عمر:
2109 - «أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ». [خ 2109]
قال فيه ابن المنير: الظاهر أنه قصد جواز البيع وتفويض الأمر بعد اشتراط الخيار
المطلق إلى العادة في مثل السلعة، وهذا مذهب مالك، وهو أسعد بإطلاق الحديث، خلافاً
لمن منع البيع كذلك إلحاقاً بالغرر.
وقال ابن التين في قوله: (أَوْ يَقُوْلُ لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ أَوْ يَكُوْنُ بَيْعَ
خِيَارٍ)
قال الداودي: هما سواء، ومعناها أنه بيع خيار الشرط.
وعن ابن حبيب: معناه قطع خيار المجلس.
وقال ابن بطال: ظاهر هذا الحديث يدل أن الخيار يجوز اشتراطه بغير توقيت، فلا معنى
لقول من خالف.
وذهب أكثر العلماء الذين يرون الافتراق بالأبدان إلى أنه إذا خيَّر أحدُهما صاحبَه
بعد البيع فاختار إمضاء البيع فقد تمَّ البيع وإن لم يتفرقا بالأبدان إلا أحمد بن
حنبل فإنه قال: هما بالخيار حتى يتفرقا، خيَّرَ أحدهما صاحبه أو لم يخيِّره.
قال: وأما الذين يجيزون البيع بالكلام فهو عندهم جائز.
(1/99)
وقال
الخطابي: قوله: (وَكَانَا جَمِيْعَاً) يبطل كل تأويل تأوله أهل العراق وغيرهم،
وكذا قوله: (وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا [وَلَمْ] يَتْرُكْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ) قال: وفيه أبين دلالة على أن التفرق
بالأبدان هو القاطع للخيار.
بابٌ: إذَا اشْتَرَى شَيئا فَوَهَبَ مِنْ ساعَتِهِ قِبْلَ أنْ يَتَفَرَّقَا ولَمْ
يُنْكِر البَائِعُ عَلى المُشْتَرِي أوِ اشْتَرى عَبْدا فأعْتَقَهُ
وَقَالَ طاوُسٌ: فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضا ثُمَّ باعَهَا
وَجَبَ لَهُ والرِّبْحُ لَهُ.
هذا التعليق رواه وعبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه به.
وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين: إذا بعت شيئاً على الرضا؟ قال: الخيار لكليهما حتى
يفترقا عن رضا.
2115 - وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي سَفَرٍ،
فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي، فَيَتَقَدَّمُ
أَمَامَ القَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ،
فَيُؤَخِّرُهُ عُمَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعُمَرَ:
«بِعْنِيهِ»، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «بِعْنِيهِ» فَبَاعَهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ». [خ 2115]
هذا التعليق روى البخاري منه قطعة في باب: «من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو
أحق»، فقال [2610]: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا ابن عيينة.
وعند الإسماعيلي عن أبي أحمد بن زياد وابن صالح: أخبرنا ابن أبي عمر، وقال ابن
صالح: وحدثنا هارون، حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان عن عمرو.
(1/100)
وقال
أبو نعيم: حدثنا أبو علي، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان حدثنا
عمرو، قد ذكره.
ورويناه أيضاً في «مسند عبد الله بن الزبير الحميدي» من رواية بشر بن موسى عنه.
قال البخاري:
2116 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بِعْتُ مِنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ مَالًا بِالوَادِي بِمَاله بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا
رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتي خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي
البَيْعَ وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ «المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا»،
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ، رَأَيْتُ أَنِّي
غَبَنْتُهُ، بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ،
وَسَاقَنِي إِلَى المَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ. [خ 2116]
هذا التعليق رواه الإسماعيلي عن أبي عمران: حدثنا الرمادي، قال: وأخبرني يعقوب بن
سفيان قال: وأخبرنا القاسم حدثنا ابن زَنْجُوْيَه، قالوا: حدثنا أبو صالح، حدثنا
الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بهذا.
ورواه أيضاً من حديث أيوب بن سويد، عن يوسف بن يزيد، عن الزهري عن سالم عن أبيه.
قال: ورواه أبو صالح أيضاً عن الليث عن يونس، أخبرنا القاسم، أخبرنا ابن زنجويه
حدثنا أبو صالح.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا الإسماعيلي.
قال البيهقي: ورواه أبو صالح أيضاً ويحيى بن بكير عن الليث، عن يونس بن يزيد عن
الزهري عن سالم عن أبيه.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو عمرو حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا يعقوب بن
سفيان، حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد.
ثم قال: ذكره يعني البخاري فقال: وقال الليث، ولم يذكر من دونه، ويدل على أن
الحديث لأبي صالح، وأبو صالح ليس من شرطه.
(1/101)
قال
ابن بطال: هذا الباب حجة لمن يقول: الافتراق بالكلام، وحديث عمر بيِّنٌ في ذلك،
ألا ترى أن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهب الجمل في ساعته لابن عمر
قبل التفرق، ولو لم يكن الجمل له لما وهبه حتى يجب له بافتراق الأبدان.
وأما حديث ابن عمر في مبايعته لعثمان فقد احتج به من قال: إن الافتراق بالأبدان.
واحتج به أيضًا من قال: إن الافتراق بالكلام، وكان من حجة الذين جعلوا الافتراق
بالكلام أن قالوا: لو كان معنى الحديث التفرق بالأبدان، لكان المراد به الحض
والندب إلى حسن المعاملة من المسلم للمسلم، ولَا يفترسه في البيع على استخباره عن
الداء والغائلة، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من أقال نادمًا أقال الله
عثرته يوم القيامة»، ألا ترى قول ابن عمر: «وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار».
قال ابن التين: وذكر أبو عبد الملك أن في بعض الروايات: «وكانت السنة يومئذ».
قال: ولو كان على الإلزام لقال: كانت السنة، وتكون إلى يوم الدين.
قال ابن: بطال فحكى ابن عمر أن الناس كانوا يلتزمون حينئذٍ الندب؛ لأنه كان زمن
مكارمةٍ، وأن الوقت الذي حكى فيه التفرق بالأبدان كان التفرق بالأبدان متروكًا،
ولو كان على الوجوب ما قال: وكانت السنة، فلذلك جاز أن يرجع على عقبيه؛ لأنه فهم
أن المراد بذلك الحض والندب، لا سيما وهو الذي حضر فعل النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في هبته البكر له بحضرة البائع قبل التفرق.
وقال الطحاوي: روينا عن ابن عمر ما يدل أن رأيه كان في الفرقة بخلاف ما ذهب إليه
من قال: إن البيع لا يتم إلا بها. وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا بشر بن
بكير، حدثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر
قال: ما أدركت الصفقة حيًّا فهو من مال المبتاع.
قال ابن جرير: صح هذا عن ابن عمر، ولا يعلم له مخالف من الصحابة.
(1/102)
قال
ابن المنذر: يعني في السلعة تتلف عند البائع قبل أن يقبضها المشتري بعد تمام
البيع.
قال ابن المنذر: هي من مال المشتري؛ لأنه لو كان عبدًا فأعتقه المشتري كان عتقه
جائزًا؛ ولو أعتقه البائع، لم يجز عتقه.
قال الطحاوي: فهذا ابن عمر يذهب فيما أدركت الصفقة حيًّا فهلك بعدها أنه من مال
المشتري، فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التي تكون بعد
ذلك، وأن البيع ينتقل بالأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع حتى يهلك من ماله إن
هلك، وهذا من ابن عمر دالٌّ على مذهبه في الفرقة التي سمعها من النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فيما ذكروا.
وقد وجدنا عن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يدل على أن المبيع يملكه
المشتري بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
«من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه»، فكان ذلك دليلًا على أنه إذا قبضه حلَّ له
بيعه، ويكون قابضًا له قبل التفرق بالأبدان.
وروي عن سعيد بن المسيب يعني الحديث المخرج عند ابن ماجه من طريق ابن لهيعة، عن
موسى بن وردان، عنه قال: سمعت عثمان يخطب على المنبر ويقول: كنت أشتري التمر
فأبيعه بربح فقال لي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا اشتريت فاكتل، وإذا
بعت فكِلْ».
فكان من ابتاع طعامًا مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه
فاكتاله وقبضه ثم فارق بائعه، فكلٌّ قد اجتمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة
الكيل.
وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل
ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالًا يحل به بيعه، فقد كان ذلك اكتيالاً له وهو له مالك،
وإن اكتاله اكتيالاً لا يحل بيعه فقد كال له وهو غير مالك له، فثبت بما ذكرنا وقوع
ملك المشتري في المبيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه من طريق
الآثار.
(1/103)
وفي
الحديث: أن يسأل رب السلعة بيعها وإن لم يعرضها، وأن البيع لا يحتاج إلى قبض.
قال ابن التين: وقول البخاري: (إِذَا لَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى
الْمُشْتَرِي) تعسف، ولا يحمل فعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه وهب ما فيه
لآخر خيار ولا إنكار؛ لأنه إنما بعث صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مبينًا.
وقوله: (سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُوْدَ) يعني: أن الأرض التي أعطيته بعدها من أرض
ثمود ثلاث ليالٍ، والأرض التي أعطاني من المدينة على ثلاث.
وقوله في الترجمة: (أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) كأنه إنما أخذه من القياس
على الهبة؛ لأن العتق آكد من الهبة.
وفي الحديث: جواز بيع الشيء الغائب على الصفة.
قال ابن بطال: وأجمع العلماء على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من
الهبة أو العتق أنه بيع جائز، واختلفوا إذا أنكر ولم يرض بما أحدثه المبتاع،
فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام يجيزون هبته وعتقه، ومن يرى التفرق بالأبدان لا
يجيز شيئًا من ذلك، إلا بعد التفرق، وحديث عمر حجة عليهم.
%ج 3 ص 148%
بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الخِدَاعِ فِي البَيْعِ
2117 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: «إِذَا
بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ». [خ 2117]
وعند الدارقطني من حديث ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر أن رجلًا من الأنصار كان
بلسانه لوثة، وكان لا يزال يغبن في البيوع، فذكر ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فقال: «إِذَا بعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ مرتين».
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن يحيى بن حبان، قال: هو جدي منقذ بن عمرو، وكان
رجلًا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة ولا
يزال يغبن.
(1/104)
وفيه:
وكان عُمِّر عُمرًا طويلًا، عاش ثلاثين ومئة سنة، وكان في زمن عثمان حين فشا
الناس.
وفي لفظ عن ابن عمر: كان حَبَّانُ بن منقذ رجلًا ضعيفًا، وكان قد سُفع في رأسه
مأمومة، فجعل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له الخيار فيما يشتري ثلاثًا،
وكان قد ثقل لسانه، فكنت أسمعه يقول: لا خلابة لا خلابة.
قال الدارقطني: وكان ضرير البصر.
وفي الطبراني: لما عمي قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك.
وعند ابن حزم من حديث ابن إسحاق: «أن منقذًا سُفِعَ في رأسه مأمومة في الجاهلية،
فحلت لسانه».
وفيه: «وأنت بالخيار ثلاثًا»، وقد تقدم طرف منه قبل.
وفي «الاستيعاب»: الذي قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قل لا خلابة» هو
منقذ بن حبان، وذلك محفوظ من حديث ابن عمر وغيره، انتهى.
الحاكم ذكره من حديث ابن عمر قال: كان حَبَّان بن منقذ رجلاً ضعيفاً، الحديث.
وقال: هو حديث متصل الإسناد.
وقال الجياني: حَبَّان بن منقذ شُجَّ في بعض مغازيه مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في بعض الحصون بحجر.
وزعم ابن قرقول أن هذا
الرجل كان ألثغ ولا يعطيه لسانه إخراج اللام، فكان ينطق به ياءً باثنين من تحت أو
ذالًا معجمة.
قال: وعند ابن أبي جعفر عن بعض شيوخه: «لا خيانة» بالنون، وهو تصحيف.
وزعم أبو عمر أن هذا خاص بهذا الرجل، وأن المغابنة بين المتبايعين لازمة، ولا خيار
للمغبون بسببها، سواء قلت أو كثرت، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وأصح
الروايتين عن مالك.
وقال البغداديون من أصحابه: للمغبون الخيار بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة، وإن
كان دونه فلا، وكذا حدَّه أبو بكر وابن أبي موسى من الحنابلة. وقيل: من السدس، وعن
داود: العقد باطل.
وعن مالك: إن كانا عارفين بتلك السلعة وبسعرها في وقت البيع لم يفسخ البيع كثيراً
كان الغبن أو قليلاً، فإن كان أحدهما غير عارفٍ بذلك فسخ البيع، إلا أن يريد أن
يمضيه، ولم يحدَّ مالك في ذلك حدًّا.
(1/105)
احتجَّ
لأبي حنيفة ومن تابعه: أن هذا المخدوع جعل له الخيار لما يلحقه من ذلك، فلو كان
الغبن شيئًا يملك به فسخ العقد لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه.
قال المالكيون: هذه الحجة لنا لأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لك الخيار،
ولم يقل له: اشترط الخيار، فلو كان الغبن مباحاً لم يكن لقوله: «لا خلابة» معنى،
ولم ينفعه ذلك، فلما كان ذلك منفعة جعل له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخيار
بعد ذلك لينظر فيما باعه ويسأل عن سعره، وإنما جعل له ذلك ليرينا الحكم في مثله.
وأيضاً إن قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تلقوا الركبان للبيع فمن تلقاها فهو
بالخيار إذا دخل السوق» انتهى.
اعترض ابن حزم على هذا بقوله: فيه الخيار إلى دخول السوق، ولعله لا يدخله إلا بعد
عام
أو أكثر.
قال المالكيون: وإنما جعل له الخيار في ذلك لأجل الغبن يلحقه، فعلم بهذا أن الغبن
يوجب الخيار، وأيضاً لو ابتاع سلعة فوجد بها عيباً كان له الخيار في الرد لأجل
النقص الموجود بها، فلا فرق بين أن يجد النقص بالسلعة أو بالثمن.
وتمسك بهذا الحديث من لا يرى الحجر على الكبير، لا سيما وقد جاء في بعض طرقه أن
أهل هذا الرجل سألوا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحجر عليه لما في عقوده من
الغبن، فلم يحجر عليه، وأمره بقوله: «لَا خِلَابَةَ» انتهى.
لقائل أن يقول: لما سألوا الحجر أقرهم - عليه الصلاة والسلام - عليه، فلو كان الحجر
على الكبير لا يجوز لأنكر عليهم قولهم.
وقال ابن العربي: يحتمل أن الخديعة كانت في العيب أو في العين أو في الكذب أو في
الثمن أو في الغبن، وليست قضية عامة فتحمل على العموم، وإنما هي خاصة في عين
وحكاية حال.
فإن قيل كيف يدعون الخصوص وقد روى ابن لهيعة: حدثنا حبان بن واسع، عن طلحة بن يزيد
بن ركانة أنه كلم عمر بن الخطاب في البيوع، فقال: «ما أجد لكم شيئاً مما جعله
سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحبان بن منقذ».
(1/106)
وفي
حديث ابن لهيعة عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن جده، قال: عمر بن الخطاب .. الحديث.
فيقال له: هذان حديثان ضعيفان.
وقال ابن حزم: ومن قال حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة، فله الخيار ثلاث ليال بما في
خلالهن من الأيام، إن شاء رد بعيب أو بغير عيب أو بخديعة أو بغير خديعة بغبن أو
بغير غبن، وإن شاء أمسك، فإذا انقضت الليالي الثلاث بطل خياره ولزمه، ولا رد إلا
من عيب إذا وجد.
فإن قال لفظا غير: لا خلابة، بأن يقول: لا خديعة،
أو لا غشاً، أو لا كيداً، أو لا غبناً، أو لا مكراً، أو لا عيباً، أو لا ضرراً، أو
على السلامة، أو لا داءً، أو لا غائلةً أو لا خبثاً، أو نحو هذا لم يكن له الخيار
المجعول لمن قال: لا خلابة؛ لكن إن وجد شيئاً مما بايع على ألا يعقد بيعه بطل
البيع، وإن لم يجده لزمه البيع.
و (الخِلَابَة): المخادعة، خَلَبَه يَخْلبُه خَلْباً وخِلابة وخَالَبَه.
قال ابن سيده: وهي الخِلِّيبى، وَرجل خالبٌ، وخَلَّاب، وخَلْبُوب وخَلَبُوب:
خدَّاع، الأخيرة عن كراع. زاد الجوهري: كذاب.
قال ابن سيده: وامرأة خَلَبوب على مثال خيروب، هذه عن اللحياني. وخَلُوب وخالِبة
وخَلَّابة.
وفي «الكتاب المنتهى»: الخَلْب القطع والخديعة باللسان، خلَبه يخلِبه، ويخلُبه،
واختلبه اختلاباً، والخَلُوب: الخادع، والخَلِبَة: الخدَّاعة من النساء.
بابُ مَا ذُكِرَ فِي الأسْوَاقِ
قول عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب تقدم أول كتاب البيوع.
(1/107)
2118
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
زَكَرِيَّا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ
بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ
بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟
قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى
نِيَّاتِهِمْ». [خ 2118]
في مسلم: «صنع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في منامه شيئاً لم يكن يفعله؟
فسئل فقال: العجب إنَّ ناساً من أمَّتي يؤمُّون البيت لرجل من قريش قد لجأ
بالبيت»، وفيه: «قلنا: يا رسول الله إنَّ الطريق قد يجمع الناس. قال: نعم فيهم
المستبصر والمجبور وابن
السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتَّى، يبعثهم الله على نيَّاتهم».
وفي «مستخرج أبي نعيم»: «وفيهم أشرافهم».
وعند الإسماعيلي: «وفيه سواهم»، بدل من أسواقهم قال: ورواه البخاري: «وفيهم
أسواقهم»، وليس سواهم، وأظنُّ أنَّ «أسواقهم» تصحيف، فإنَّ الكلام في الخسف بالناس
لا بالأسواق.
وقال المهلَّب: في هذا أن من كثَّر سواد قوم في معصية أو فتنة أنَّ العقوبة تلزمه
معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك؛ لأنَّ الخسف لمَّا أخذ السوقة عقوبة لهم شمل
الجميع.
واستنبط مالك من هذا: مَن وجد مع قوم يشربون الخمر وهو لا يشرب أنَّه يعاقب.
ويريد المهلب: أنَّ المغلوبين على تكثير السواد ليسوا ممَّن يستحقُّ العقوبة،
لقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ} [الفتح: 25] الآية.
(1/108)
وفيه:
علم من أعلام النبوة، وهو إخباره بما يكون.
قال ابن التين: لعلَّ هذا الجيش الذين يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة فينتقم منهم،
ويكون الذين يبعثون على نيَّاتهم وحضرت آجالهم بالخسف، كانوا ينكرون بقلوبهم ولا
يقدرون على غير ذلك؛ وقد قال جلَّ وعزَّ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث قوله: «إنَّ ناساً من أمَّتي يؤمُّون هذا البيت»، والجيش الذي
يهدمونه ليسوا من أمَّته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
والبيداء من الأرض: المفازة.
فإن قيل: ما ذنب من أُكره على الخروج أو من جمعته وإيَّاهم الطريق؟ فيجاب بأنَّ
عائشة لمَّا سألت، قال: «يبعثون على نيَّاتهم» فماتوا
بها حين حضرت آجالهم وبعثوا على نيَّاتهم.
حديث أبي هريرة تقدم في الصلاة.
وذكر البخاري حديث أنس بن مالك:
2120 - كَانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا أَبَا القَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَالَ:
إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَمُّوا
بِاسْمِي، وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي». [خ 2120]
وفي حديث خالد بن إسماعيل عن زهير عن حميد: دعا رجل بالبقيع يا أبا القاسم ..
الحديث
قال ابن التين: ليس هذا الحديث ممَّا يدخل في هذا التبويب؛ لأنَّه ليس فيه ذكر
للسوق؛ اللهم إلا أن يريد أصل الحديث.
ورواه أيضاً من حديث جابر.
(1/109)
وأخبرنا
الإمام أبو محمد النضري قراءة عليه، أخبرنا ابن الفرات، عن فاطمة بنت سعد الخير،
أخبرنا أبي قراءة عليه، أخبرنا أبو منصور المعمري، أخبرنا القاضي أبو بكر محمَّد
بن عمر، أخبرنا الإمام أبو حفص البغدادي، قال: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد
العزيز، حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا سلمة - يعني ابن الفضل - عن يحيى بن
العلاء، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من تسمَّى باسمي فلا يتكنَّى بكنيتي».
وفي حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه: «لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي،
أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم».
وفي حديث شريك بن عبد الله عن مسلم بن عبد الرحمن عن أبي زرعة: «من تسمَّى باسمي
فلا يتكنَّى بكنيتي ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمَّى باسمي».
ومن حديث ابن أبي ليلى عن أم حفصة بنت عبيد عن عمِّها البراء بن عازب: «من تسمَّى
باسمي فلا يتكنَّى بكنيتي».
وفي لفظ: «لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي».
قال ابن شاهين: ذكر الخلاف في ذلك فذكر حديثاً من جهة محمَّد
بن عمران الحجبي سمعت صفية بنت شيبة قالت عائشة: جاءت امرأة إلى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله إني ولد لي غلام فسميته محمَّدًا وكنَّيته بأبي
القاسم فذُكر لي أنك تكره ذلك. فقال: «ما حرِّم اسمي وأُحلَّ كنيتي».
وعن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد أنَّ محمَّد بن علي ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن
طلحة ومحمد بن سعد كانوا كلهم يُكنَّون بأبي القاسم، وكان لمالك بن أنس ابن يقال
له: محمَّد، وكنيته أبو القاسم، فقيل له في ذلك، فقال: لا بأس به.
(1/110)
وهذا
الحديث يوجب أن يكون ناسخاً للأوَّل؛ لأنَّ ولد الصحابة كُنُّوا بأبي القاسم، وقد
روي عن بعض التابعين أنَّه كان يقول: إذا رأينا الرجل يُكنَّى بأبي القاسم
كنَّيناه بأبي القاصم بالصاد من جهة الكره لذلك، وحديث النهي فطُرُقُه لا أعلم في
أكثرها علَّةً.
وزعم ابن التين أنَّ الشافعي وأهلَ الظاهر ذهبوا إلى أنَّه لا يحلُّ التكنِّي بأبي
القاسم لأحد أصلاً، سيَّما كان اسمه أحمداً أو محمَّداً أم لم يكن؛ لظاهر الحديث.
الثاني: أنَّ هذا النهي منسوخ، وأنَّ هذا الحكم كان في الزمن الأوَّل للمعنى
المذكور في الحديث ثمَّ نسخ، فيباح لكلِّ أحد، وهو مذهب مالك وجمهور العلماء.
الثالث: قال ابن جرير: ليس بمنسوخ، والنهي نهي تنزيه، لا نهي حرمة.
الرابع: النهى عن التكنِّي بأبي القاسم مختصٌّ بمن اسمه محمد أو أحمد، ولا بأس بها
لمن لم يكن اسمه ذلك.
الخامس: النهي عن التكنِّي بأبي القاسم مطلقاً، وألا يسمِّي القاسم؛ لئلا يُكنَّى
والده به.
السادس التسمية بمحمد مطلقا لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «تسمون أولادكم محمدًا
وتلعنونهم».
وقوله: (وَلَا تَكَنُّوا) قال ابن التين: ضبط في أكثر الكتب بفتح التاء وضم النون
المشددة، وفي بعضها بضم التاء والنون على وزن تُزَكُّوا، وفي بعضها
بفتح التاء والنون مشدَّدة مفتوحة على حذف إحدى التاءين.
وقوله: (لَمْ أَعْنِكَ) أي: لم أردك.
(1/111)
2122
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي طَائِفَةِ
النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي
قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ،
أَثَمَّ لُكَعُ؟ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا
أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّه فأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ». [خ 2122]
في موضع آخر: «أين لكع ثلاثاً؟ ادع الحسين بن علي».
عند الإسماعيلي: «فجاء الحسن أو الحسين يشتدُّ».
وقال الداودي: سقط بعض الحديث عن الناقل، وإنما أدخل حديثاً في حديث، إذ ليس بيت
فاطمة في سوق بني قينقاع، إنَّما بيتها بين أبيات النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
ومعانقته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحسن إباحة ذلك لغيره، وأمَّا معانقة الرجل
للرجل فاستحبَّها سفيان، وكرهها مالك وقال: هي بدعة.
وتناظر مالك وسفيان في ذلك فاحتجَّ سفيان بأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعل
ذلك بجعفر، قال مالك: هو خاصٌّ له، فقال: ما تخصُّه بغير ذلك؟ فسكت مالك.
اللُّكَعُ: في قول الأصمعي: هو العَيِيُّ الذي لا يتَّجه لمنطق ولا غيره، مأخوذ من
الملاكيع، يعني الذي يخرج مع السلى من البطن.
قال الأزهري: والقول قول الأصمعي، ألا ترى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال
للحسن وهو صغير: «أين لكع؟» أراد أنه لصغره لا يتَّجه لمنطق ولا ما يصلحه، ولم يرد
أنَّه لئيم ولا عبد.
وفي «الموعب»: اللَّكَيع، والمرأة لَكيعة ولَكَعاء ولَكَاع ومَلْكَعانة.
قال: ويوصف به الحسن والحمق واللؤم، وقد لَكَع لَكْعاً مثل حدر.
(1/112)
وقال
بعض النحويين يعني سيبويه: لا يقال مَلْكَعان إلا في النَّداء، وبعض يقوله في
النِّداء وغيره.
وعن
إسماعيل حدثنا أبو الحسن سمعت المبرد حدثنا الثوري عن أبي يزيد: اللُّكَع الفلو،
والأنثى: لُكعة.
وفي «المحكم»: اللُّكَع المهر.
وفي «الجامع»: أصل اللُّكْع من الكُلْع ولكن قلب.
وفي «الصحاح»: اللُّكَع الذليل.
وفي «المجمل»: اللَّكْع الكَسْع. انتهى
الأشبه والأجود أن يحمل الحديث على ما قاله بلال بن جرير الخطفي، وسئل عن
اللُّكَع؟ فقال: هو في لغتنا الصغير.
قال الهروي: وإلى هذا ذهب الحسن، إذا قال الإنسان: يا لُكع، يريد: يا صغير.
قال السهيلي: كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمزح ولا يقول إلا حقاً، وههنا أراد
تشبيهه بالفلو والمهر؛ لأنه طفل، كما أنَّ الفلو والمهر كذلك، وإذا قصد بالكلام
قصد التشبيه لم يكن إلا صدقاً، والله تعالى أعلم.
وقول سفيان:
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ،
أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ.
أراد البخاري أن يبيِّن سماع عبيد الله من نافع المعنعن في السند.
2123 - 2124 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو
ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بن عقبة، عَنْ نَافِعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ:
«أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ
أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ
الطَّعَامُ». [خ 2123 - 2124]
وفي لفظ: «حتى يستوفوه».
وعند أبي داود بسند جيد، عن زيد بن ثابت: «نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم».
وعند مسلم عن أبي هريرة: «من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى [يكتاله]»
قال أبو عمر: وفي حديث القاسم بن محمَّد: نهى أن يبيع أحدٌ طعاماً اشترى بكيل
حتَّى يستوفيه.
(1/113)
قال:
والقبض والاستيفاء سواء، ولا يكون ما بيع من الطعام على الكيل والوزن مقبوضاً إلا
كيلاً أو وزناً، وهذا لا خلاف فيه، فإن وقع البيع في الطعام على الجزاف، فقد اختلف
في بيعه قبل قبضه وانتقاله.
وقال في: باب كَرَاهةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ
2125 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أفلح، حَدَّثَنَا هِلاَلٌ،
عَنْ عَطَاءِ
عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ وقيل له: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ
رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللهِ
إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ. [خ 2125]
وفيه: «وَلَا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ».
وفي آخره:
تَابَعَهُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلاَلٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ،
عَنْ هِلاَلٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سَلاَمٍ.
متابعة عبد العزيز أخرجها البخاري مسندة فقال: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ».
قال أبو علي بن السكن: هو ابن مسلمة.
وقال أبو مسعود الدمشقي: هو عبد الله بن محمَّد بن رجاء.
وقال الجيَّاني: عندي أنَّه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وإلى ذلك أشار أبو
مسعود.
على أنَّ الحاكم أبا عبد الله قطع على أنَّ البخاري لم يخرج في «صحيحه» عن كاتب
الليث.
وقد روى البخاري في كتاب «الأدب» عن عبد الله بن صالح، حدثنا عبد العزيز بن أبي
سلمة عن هلال، وهو حديث تفرد به البخاري.
وأمَّا قول سعيد عن هلال، فرويناه في «معجم الطبراني» قال: حدثنا المطَّلب بن
شعيب، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أسامة،
عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: إنَّا لنجد صفة رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم .. الحديث.
ورواه الترمذي من حديث محمَّد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده،
وقال: حسن غريب.
قوله: (أَجَلْ) أي نعم.
(1/114)
وكان
عبد الله بن عمرو كما روى البزَّار من حديث ابن لهيعة، عن واهب عنه، أنه رأى في
المنام كأنَّ في إحدى يديه عسلًا وفي الأخرى سمنًا وكأنَّه يلعقهما، فأصبح فذكر
ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «تقرأ الكتابين التوراة والقرآن» فكان
يقرأهما.
وقوله: (وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ) أي:
حافظهم وحافظ دينهم. يقال: أحرزت الشيء أحرزه إحرازاً، إذا حفظته وضممته إليك
وصنته عن الأخذ. والأميُّون: العرب؛ لأنَّ الكتابة كانت عندهم قليلة.
وقوله: (سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ) يعني: لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على
الله تعالى في الرزق والنصر، والصبر عند انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق،
واليقين بتمام وعد الله، فتوكَّل عليه، فسمِّي المتوكِّل.
وقوله: (لَيْسَ بِفَظٍّ) أي: سيئ الخلق.
(وَلَا غَلِيظٍ): وهي الشدَّة في القول.
وقول القائل لعمر: أنت أفظُّ وأغلظ. قيل: لم يأت أفعل هنا للمفاعلة بينه وبين من
أشرك معه، بل بمعنى: أنت فظٌّ غليظ على الجملة لا على التفصيل.
و (السَّخَّابُ): الكثير الصياح والجلبة، ولم يكن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
سخَّابًا في سوق ولا غيره، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:
4].
وفيه: ذمُّ الأسواق وأهلها الذين يكونون بهذِه الصفة المذمومة من الصخب، واللغط
والزيادة في المِدْحَة والذمِّ لما يتبايعونه، والأيمان الحانثة؛ ولهذا قال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «شرُّ البقاع الأسواق» لما يغلب على أهلها من هذِه الأحوال
المذمومة.
وقوله: (ولَا يَدْفَعُ بِالسَّيئَةِ السَّيِّئَةَ) أي لا يسيء إلى من أساء إليه
على سبيل المجازاة المباحة لمَّا تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال جل وعز:
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى: 43]
(1/115)
وقوله:
(بِالْمِلَّةِ الْعَوْجَاءِ) يعني ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، وتغيير ملَّة
إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن استقامتها، وإمالتها بعد قوامها.
وقوله: (وَيفْتَحُ بِه أَعْيُنًا عُمْيًا) قال ابن التين: كذا للأصيلي جعل
(عُمْيًا)، نعتًا للأعين، وهو جمع عمياء، وفي بعض روايات الشيخ أبي الحسن: «أعين
عُمي»، فأضاف أعين إلى عُمي وهو جمع أعمى، وكذلك الكلام في الآذان أيضًا.
وقوله: (وَقُلُوبًا غُلْفًا) فليس هو إلا جمع أغلف سواء كان مضافًا أو غير مضاف،
وترك
الإضافة فيه بيِّن، وقرأ ابن عباس «غُلْفٌ» -بضم اللام- كأنَّه جعله جمع غلاف، وهي
قراءة الأعرج وابن محيصن.
وقوله: (أُحِبُّهُ) بضم الهمزة من أحبَّ رباعي وهي اللغة المشهورة. وقيل فيه بفتح
الهمزة من حبَّه يَحِبُّه ثلاثي، أنشد للمبرد في «الكامل»:
أحب أبا مروان من أجل تمره وأعلم أن الرفق بالمرء أرفق
ووالله لولا تمره ما أحببته وكان عياض منه أدنى ومشرق
وقال آخر:
لعمرك إنني وطلاب مضر لكالمزداد مما حبَّ بعدا
قال: وقرأ أبو رجاء: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبُّكُمُ اللَّهُ} ففعل في هذا شيئين
أحدهما أنه جاء به من حببت، والآخر أنه أُدغم في موضع الجزم، وهو مذهب تميم وقيس
وأسد.
وقال أبو جعفر محمد بن أحمد الجرجاني في ردِّه على المبرد الذي رواه ابن أَشْتَه،
وكذا في «الاستغناء» وهو الصواب عن أبي رجاء «يَحْبِبْكُمُ اللَّهُ» بإظهار
التضعيف وفتح الياء من يَحبب، ولا يكادون يقولون: حبَّ، في الماضي، إنَّما يُقال
في المستقبل فقط، هذا هو المشهور، على أنَّهم قالوا في يحِبُّ أيضًا؛ إنَّها لغةٌ
قد ماتت.
(1/116)
قال
صاحب «المنتهى»: وهذا شاذ، لأنَّه لا يأتي في المضاعف يفعِل -بالكسر- ممَّا كان
متعدياً إلا ويشركه يفعُل - بالضمِّ- ما خلا هذا الحرف وحده وهو الحُبُّ والحِبُّ
ذكره ابن سيده وقال: كره بعضهم حببته، وأنكر أن يكون هذا البيت لفصيح؛ يعني قوله:
ما حببته، وحكى سيبويه: حببته وأحببته بمعنى. انتهى
الشعر الماضي رويناه عن ابن بري في كتاب «الإيضاح» أنه قال هو لغيلان بن شجاع
النهشلي، وقال: الحِبُّ يجيء تارة بمعنى المحِّب، وتارة بمعنى المحبوب، وشاهد
الأول قول المخبل:
أتهجر ليلى، بالفراق، حبيبها وما كان نفسا، بالفراق، تطيب
أي محبها
وشاهد الثاني قول ابن الدُّمَيْنَة:
وإن الكثيب الفرد، من جانب الحمى إلي، وإن لم آته، لحبيب
أي لمحبوب.
ومن الأمثال السائرة: من حَبَّ طَبَّ.
باب الكَيْلِ عَلَى البَائِعِ وَالمُعْطِي
لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}
[المطففين: 3] يَعْنِي: كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ كَقَوْلِهِ:
{يَسْمَعُونَكُم} [الشعراء: 72]: يَسْمَعُونَ لَكُمْ.
روينا عن الفراء في كتاب «المعاني» أنه قال: الهاء في موضع نصب، تقول في الكلام:
قد كلتك طعامًا كثيرًا، وكلتني مثله، وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا
التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم، فهذا شاهد وهو من كلام أهل الحجاز ومن
جاورهم من قيس.
وقوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2] يريد من الناس وهما يعتقبان -
يعني: على ومَنْ- في هذا الموضع؛ لأنه حق عليه فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال:
أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فهو مثل قولك: استوفيت منك.
وفي «مقامات التنزيل» لأبي العباس: هذِه السورة في رواية همام وقتادة ومحمد بن ثور
عن معمر مكية.
وقال السدي: إنها مدنية.
وقال أبو بكر بن عياش عن الكلبي: نزلت على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طريقه
من مكة إلى المدينة.
(1/117)
وقال
السدي: استقبل بها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو داخل المدينة من مكة
شرفها الله تعالى.
قال أبو العباس: نظرت في اختلافهم فوجدت أول السورة مدنياً كما قال السدي والكلبي
وآخرها مكياً كما قال قتادة و ... .
ثم إن الكلبي روى عن أبي صالح عن ابن عباس: كان يمر عليٌّ على الحارث بن قيس وناس
معه فيسخرون من علي ويضحكون؛ ففيه نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون} [المطففين: 29] إلى آخر السورة.
وفي «أسباب النزول» للواحدي عن السدي: قدم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
المدينة وبها رجل يقال له: أبو جهينة ومعه صاعان
يكيل بأحدهما ويُكال بالآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفي «تفسير الطبري»: كان عيسى بن عمر - فيما ذُكِرَ عنه - يجعلهما حرفين، ويقف على
كالوا، وعلى وزنوا، فيما ذكر، ثم يبتدئ فيقول: هم يخسرون، والصواب في ذلك عندنا
الوقف على هم.
قال البخاري:
وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا».
هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة من حديث طارق بن عبد الله المحاربي بسند صحيح.
قال البخاري:
وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ لَهُ:
«إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ».
هذا التعليق رواه الدارقطني بسند فيه ضعف إلى منقذ مولى سراقة، وهو غير مشهور، عن
عثمان، قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا ابتعت طعامًا فاكتل، وإذا بعت
فكِل».
ورواه أيضاً محمد بن حمير - عند ابن أبي حاتم - عن الأوزاعي، حدثني ثابت بن ثوبان،
حدثني مكحول، عن أبي قتادة قال: كان عثمان يشتري الطعام ويبيعه قبل أن يقبضه، فقال
له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا ابْتَعْتَ فَاكتَلْ إِذَا بِعْتَ
فَكِلْ» قال: وقال أبي: هذا حديث منكر بهذا الإسناد.
(1/118)
ورواه
ابن ماجه من حديث ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان وعن
جابر: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه
الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري» في إسناده ابن أبي ليلى.
وقال السفاقسي: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ) أي: أوفِ، (وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ)
أي: استوف بكيل لا لك ولا عليك.
وقوله في حديث ابن عمر:
2126 - «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ». [خ 2126]
وعند مسلم: «حتى ينقله من مكانه».
وعند أبي داود: «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه».
وعنده أيضاً عن ابن عباس: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه».
قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
ولمسلم: «حتى يكتاله».
وعن أبي
هريرة: «حتى يكتاله».
وعن جابر: «إذا ابتعت الطعام فلا تبعه حتى تستوفيه».
وعند أبي داود عن زيد بن ثابت: «نهى أن تباع السلع حيث تُبْتاع حتى يحوزوها إلى
رحالهم».
وعند أحمد عن حكيم بن حزام: «إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه».
رواه من حديث يوسف بن ماهك عن حكيم ورواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن
يوسف عن عبد الله بن عصمة عن حكيم، وابن عصمة ضعيف ذكر هذا الدارقطني.
وعند أبي داود بسند جيِّد عن زيد بن ثابت: «نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم».
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا فليس له بيعه حتى يقبضه،
واختلفوا في بيع غير الطعام على أربعة مذاهب:
أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام، قاله الشافعي
ومحمد بن الحسن، وهو قول ابن عباس.
الثاني: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون، قاله عثمان بن عفان وابن
المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
الثالث: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأراضي، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.
(1/119)
الرابع:
لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب، قاله مالك وأبو ثور.
وفي رواية ابن وهب عن مالك: في دون الخضروات.
وقال عثمان البَتِّي: يجوز بيع كل شيءٍ قبل قبضه، وكأنه لم يبلغه الحديث.
وفي حديث جابر:
2127 - «كِلْ لِلْقَوْمِ». [خ 2127]
فلما كان هذا للوفاء الذي على أبيه لأنه الغارم عنه صار كأنه بائع واليهودي مشتري؛
لأنه أعطى الثمن قبل ذلك في مقابلة ما يأخذه من التمر، ولهذا أتى البخاري بهذا
الحديث في هذا الباب.
وفيه: أنَّ الكيل على البائع، والذي عليه الفقهاء أنَّ الكيل والوزن فيما يكال
ويوزن من المبيعات على البائع، ومن عليه الكيل والوزن فعليه أجرة ذلك.
قال المهلب: وكتاب الله جلَّ وعزَّ يشهد أيضاً بذلك وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] فدل هذا أن يكيل إذا اشترى ويكتل لغيره إذا باع.
وفي قصة يوسف صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن البائع عليه الكيل، قال تعالى: {أَلَا
تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} [يوسف: 59].
والتعليقان اللذان إثر حديث جابر تقدم في الصلاة وصلهما، وسيأتي في الأطعمة له
تكملة.
2128 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، عَنْ ثَوْرٍ،
عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ
لَكُمْ». [خ 2128]
ورواه ابن ماجه عن عمرو بن عثمان بن سعيد عن بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن
خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، عن أبي أيوب، فذكره من مسند أبي أيوب.
رواه إسماعيل بن عياش، عن بحير مثل رواية بقية.
وقال الدارقطني في كتاب «العلل»: القول قول بحير بن سعد لأنه زاد.
ورواه ابن ماجه أيضًا عن هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن عبد الرحمن
الحمصي، عن عبد الله بن بسر.
(1/120)
وقال
البيهقي: رواه أبو الربيع الزهراني، عن ابن المبارك، عن ثور، عن خالد، عن جبير بن
نفير، عن المقدام.
أخبرنا أبو عمرو الأديب أخبرنا الإسماعيلي أخبرنا المنيعي عنه.
وكذا رواه الإسماعيلي في «مستخرجه» من حديث أبي الربيع بزيادة جبير بن نفير.
وعنده: «يبارك لكم فيه».
وفي «علل ابن أبي حاتم» قال أبي: هذا الصحيح؛ لأن ثورًا زاد رجلًا، وهي أشبه
بالصواب.
السر في الكيل لأنه يتعرف به ما يقوته وما يستغله.
قال ابن بطال: لأنهم إذا اكتالوا يزيدون في الأكل، فلا يبلغ لهم الطعام إلى المدة
التي كانوا يقدرونها، وقال صلى الله
عليه وسلم: «كيلوا» أي: أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم مع ما وضع
الله جل وعز من البركة في مُدِّ أهل المدينة بدعوته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال: والكيل مندوب إليه، والندب إليه دليل على البركة.
وقال أبو الفرج البغدادي: يشبه أن تكون هذِه البركة للتسمية عليه في الكيل.
فإن قيل: هذا معارض بما ذكرته عائشة: كان عندي شطر شعير فأكلت منه حتى طال علي،
فكلته ففني.
فالجواب قول المهلب: أنها كانت تخرج قوتها بغير كيل، وهي متقوتة باليسير، فبورك
لها فيه مع بركته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الباقية عليها وفي بيتها، فلما كالته
علمت المدة التي يبلغ إليها ففني عند انقضائها.
وقيل أيضًا: إنه يعارض ما روي: [أن] النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على حفصة
فوجدها تكتال على خادمها، فقال: «لا توكي فيوكي الله عليك».
قالوا: قال ذلك لأنه في معنى الإحصاء على الخادم والتضييق، أما إذا اكتال على معنى
المقادير وما يكفي الإنسان فهو الذي في حديث الباب، وقد كان صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم يدَّخر لأهله قوت سنة، ولم يكن ذلك إلا بعد معرفة الكيل.
وروي أن النظر في المعيشة خير من بعض التجارة، ولهذا قيل: ما عال من اقتصد.
وقال أبو الدرداء: من فقهك عويمر إصلاحك معيشتك.
الباب الذي بعده تقدم.
(1/121)
باب
مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَةِ
حديث ابن عمر تقدم وكذا حديث ابن عباس.
قال الجوهري (وَالحُكْرَةِ): بضم الحاء، قال ابن التين: هو إمساك الطعام عن البيع
مع الاستغناء عنه عند حاجة الناس إليه انتظار الغلاء في ثمنه.
وفي «المحكم»: الاحتكار جمع الطعام ونحوه ممَّا يؤكل واحتباسه والحُكْرَة والحُكْر
جميعاً ما احتُكِر.
والجُزاف والجِزاف والجزافة: بيعك الشيء واشتراؤك بلا كيل
ولا وزن. قال ابن سيده: وهو يرجع إلى المساهلة، وهو دخيل.
وقول صخر الغي:
فأقبل منه طوال الذرى ... كأن عليهن بيعاً جزيفا
أراد: طعاماً بيع جزافاً بغير كيل، يصف سحاباً.
وفي كتاب الأزهري من نسخة عليها خطه: جُزاف، وعلى الجيم رفعة، وتحتها خفضة.
وفي «شرح المهذب»: عند الشافعي بيع الصبرة من الحنطة والتمر مجازفة صحيح، وليس
بحرام. وهل هو مكروه؟ وفيه قولان أصحهما مكروه كراهة تنزيه، والبيع بصبرة الدراهم
كذلك حكمه.
وعن مالك أنه لا يصح البيع إذا كان بائع الصبرة جزافاً يعلم قدرها، كأنه اعتمد ما
رواه الحارث بن أبي أسامة عن الواقدي عن عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس قال: سمع
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عثمان يقول في هذا الوعاء كذا وكذا: ولا أبيعه إلا
مجازفة، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا سميت كيلا فكل».
وعند عبد الرزاق: قال: قال ابن المبارك عن الأوزاعي: إن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال: «لا يحل لرجل باع طعاماً جزافاً قد علم كيله حتى يعلم صاحبه».
وفي كتاب «الرِّبَا» لابن أسلم: أخبرنا عبد الله بن منير، عن سلمة عن ابن المدل عن
الأوزاعي عن واصل قال: سألت مجاهدًا وعطاءً والحسن وطاوس عن الرجل يشتري طعامًا
جزافًا لا يعلم كيله ورَب الطعام قد عرف كيله؟ فكرهوه كلهم.
(1/122)
قال
القرطبي: في حديث الباب دليل لمن سوَّى بين الجزاف والمكيل من الطعام في المنع من
بيع ذلك حتى يقبض، ورأى أن قبض الجزاف قبضه، وبه قال الكوفيون والشافعي وأبو ثور
وأحمد وداود، وحمله مالك على الأولى والأحب.
ولو باع الجزاف قبل نقله جاز، لأنه بنفس تمام العقد في التخلية بينه وبين المشتري
صار في ضمانه، ولدليل الخطاب في قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
«من ابتاع طعاما بكيل» وما في معناه.
وإلى جواز ذلك صار سعيد بن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وإسحاق.
وقال ابن قدامة: إباحة بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها لا نعلم
فيه خلافا، فإذا اشترى الصبرة جزافا فلم يجز بيعها حتى ينقلها، نص عليه أحمد في
رواية الأثرم، وعنه رواية أخرى: بيعها قبل نقلها، اختاره القاضي، وهو مذهب مالك.
قال: ونقلها قبضها، كما جاء في الخبر.
وقال مالك فيمن رفع طعامًا ضيعته ليس بحكرة.
وعن أحمد: إنما يحرم التحكير ما يقوت دون سائر الأشياء.
واحتكاره في الحرم إلحاد فيه.
وزعم جماعة أن المنع منه إنما هو زمن الشدة والمجاعة، دليله أن سعيد بن المسيب روى
هذا الحديث عن معمر بن عبد الله بن نافع، سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يقول: «لا يحتكر إلا خاطئ مرتين» وكان يحتكر البدوي الحنطة والبزر، كذا في «مسند
أحمد».
وعند ابن التين وغيره: الزيت، كذا هو في البخاري.
وفي «مسند الدارمي» من حديث سعيد بن المسيب أيضاً عن عمر عن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون».
وعند الحاكم عن أبي أمامة: «نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحتكر الطعام».
وعن ابن عمر يرفعه: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله جل وعز، وبرئ
الله منه».
في «علل الخلال» قال أحمد: هذا حديث منكر.
قال الحاكم: وعن أبي هريرة يرفعه: «من احتكر يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو
خاطئ وقد برئت منه ذمة الله جل وعز».
(1/123)
وعن
عائشة مرفوعاً: «ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه».
وعن اليَسَع بن المغيرة: «مرَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برجل في السوق يبيع
طعاماً بسعر هو أرخص من سعر السوق فقال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبشر
فإنَّ الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله
والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله عز وجل».
وعن معقل بن يسار سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من دخل في شيء من
أسعار المسلمين ليغلي عليهم كان حقًّا على الله أن يقذفه في معظم جهنم ورأسه
أسفله».
قال الحاكم: هذه الأحاديث خرجتها احتساباً لما فيه الناس من الضيق وإن لم تكن على
شرط هذا الكتاب. انتهى
وقال مهنا: حدثنا بقية عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن أبي هريرة يرفعه: «يحشر
الحكَّارون وقتلة الأنفس إلى جهنم في درجة واحدة»، وقال: كتبته عن عبد الرزاق.
وفي «المصنف» من حديث نوفل بن عبد الملك عن أبيه عن علي: «نهى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم عن الحكرة بالبلد».
ومن حديث ليث عن الحكم: أُخبر عليٌّ برجل احتكر طعاماً بمئة ألف، فأمر به أن يحرق.
وعن ابن عمر: ولا يحتكر إلا خاطئ أو باغي.
وعن عثمان: أنه نهى عن الحكرة.
وذكر أبو العباس القشيري في المحتكرين من حديث الهيثم بن رافع: حدثنا أبو يحيى
المكي أن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من احتكر
على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام».
ومن حديث القاسم عن أبي أمامة يرفعه: «نهى أن يحتكر الطعام».
وعن كثير عن ابن عمر عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من احتكر أربعين يوماً
برئ من الله، وبرئ الله منه».
وعن سهل بن سعد مثله.
ومن حديث عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن، عن عمه قال النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «المحتكر كالملحد في كتاب الله».
(1/124)
وعن
عائشة وعلي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من احتكر طعاماً أربعين يوماً يريد
به غلاء المسلمين ثم تصدَّق يعني بذلك الطعام لم يكن كفارة».
قال النخعي عن «إن باعه وتصدق بثمنه لم يقبل منه»: وإن حج لم يقبل منه.
وذكره النسوي من حديث سعيد عن معمر بن عبد الله بن فضلة، من حديث الدولابي عن عبد
السلام بن عاصم أخبرنا أبو زهير أخبرنا أبو إسحاق عن محمد بن إبراهيم عنه.
وقال سعيد: وكان معمر يحتكر.
وعن أبي الزناد قال: قلت لابن المسيب: تحتكر؟ قال:
ليس هذا بالذي قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنما هو: أن يأتي الرجل
للسلعة عند غلائها فيغالي بها، وأما أن يشتريه إذا اتضع ثم يرفعه فإذا احتاج الناس
إليه أخرجه، فذلك خير.
وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك.
وقول ابن عباس:
2132 - «وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ». [خ 2132]
يجوز بهمز وبغير همز؛ أي: يؤخر.
قال ابن التين: قول ابن عباس: (دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ) تأوله على السلف، وهو أن
يشتري منه طعامًا بمئة إلى أجل ويبيعه منه قبل قبضه بمئة وعشرين، وهو غير جائز؛
لأنه في التقدير بيع دراهم بدراهم والطعام مؤجل غائب.
قال ابن التين: وليس هذا تأويله عند أكثر العلماء، وقيل: معناه: أن يبيعه من آخر
ويحيله به.
(1/125)
2134
- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ
صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنَ الغَابَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ
زِيَادَةٌ. قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ، سَمِعَ عُمَرَ بْنَ
الخَطَّابِ يُخْبِرُ عَن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ
وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ». [خ 2134]
كذا هذا الحديث في جميع النسخ، وكذا ذكره الإسماعيلي وأبو نعيم وابن التين، وأما
ابن بطال فترجم له: باب بيع ما ليس عندك منفرداً عن الأحاديث قبله.
وهو حديث خرَّجه الجماعة.
وفي لفظ البخاري:
2174 - «التَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَدَعَانِي طَلْحَةُ،
فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي، فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي
يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الغَابَةِ، وَعُمَرُ يَسْمَعُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ». [خ 2174]
وعند أبي نعيم الأصبهاني قال الحميدي: قال سفيان: هذا أصح حديث روي
عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصرف.
وخالف ذلك أبو الوليد بن رشد فقال: أصحها حديث أبي سعيد الخدري؛ يعني الآتي بعد.
وكذا قاله ابن عبد البر، قال: وفي طريق يحيى بن يحيى الليثي عن مالك: «الذهب
بالورق».
وكذا رواه معن وروح بن عبادة وعبد الله بن رافع عن مالك.
وكذا قاله معمر وابن علية في هذا الحديث عن الزهري: «الذهب بالورق»، ولم يقولوا:
«الذهب بالذهب والورق بالورق».
(1/126)
وعن
أبي بكر بن أبي شيبة: أشهد على ابن عيينة أنه قال: «الذهب بالورق»، ولم يقل:
«الذهب بالذهب»؛ يعني في حديث ابن شهاب هذا.
ورواه ابن إسحاق عن الزهري فقال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة» الحديث.
وكذا رواه أبو نعيم عن ابن عيينة ولم يقله أحد عن ابن عيينة غيره.
وكذا رواه الأوزاعي عن مالك.
وعند البيهقي: «ولا يشفوا بعضه على بعض فإني أخاف عليكم الرِّمَّا»، قيل لنافع:
وما الرَّمَّا؟ قال الربا.
قال الخطيب: قوله: «إني أخاف عليكم الرَّمَّا» من كلام عمر، ووهم ابن معشر فوصلها
بحديث أبي سعيد وأدرجها.
وعند ابن حزم: روينا من طريق ابن وهب عن يزيد بن عياض، عن إسحاق بن عبد الله عن
جبير بن أبي صالح، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قال: «التمر بالتمر» الحديث.
ثم قال: مالك لا يعرف له سماع من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجبير بن أبي
صالح مجهول، ويزيد بن عياض هو بن جعدة مذكور بالكذب والرجيع. انتهى كلامه.
وفيه نظر في موضعين:
الأول: مالك قال أحمد بن صالح: له صحبة، وصح حديثه: «كنا عند النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فقال وجب» الحديث.
وقال سلمة بن وردان: رأيت
جماعة من الصحابة فذكره فيهم.
وفي «تاريخ البخاري»: «وكلهم صحب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ منهم مالك بن
أوس».
وفي كتاب «الصحابة» للبغوي رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذكره فيهم: ابن
خزيمة والماوردي وابن منده وابن السكن وأبو نعيم وأبو عمر.
الثاني: جبير ليس مجهولاً، لرواية ابن أبي ذئب وإسحاق بن عبد الله عنه، وكذا ذكره
في كتاب «الثقات» لابن حبان.
وعند مسلم عن معمر عن عبد الله: «الطعام بالطعام مثلا بمثل».
وعن عثمان يرفعه: «لا تبيعوا الدينار بالدينار ولا الدرهم بالدرهم».
(1/127)
وعن
أبي هريرة: «الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما،
والتمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً
بيد، فمن زاد واستزاد فقد أربا إلا ما اختلفت ألوانه».
وفي لفظ: «وزناً بوزن مثلاً بمثال فمن زاد واستزاد فقد أربا».
وعن فضالة بن عبيد: «الذهب بالذهب وزنا بوزن».
وعند أبي القاسم البغوي بسند صحيح عن هشام بن عامر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم نهى عن بيع الورق بالذهب نساء، وأنبأنا أن ذلك الربا».
وعند البيهقي من حديث بشر بن عمر، حدثنا مالك، عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن
عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم إلينا.
ثم قال: قال الشافعي: هذا خطأ، أخبرنا سفيان عن وردان الرومي سأل ابن عمر: إني
أصوغ الحلي ثم أبيعه وأستفضل فيه قدر أجرتي أو عمل يدي، فقال ابن عمر: الذهب
بالذهب لا فضل بينهما، هذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم.
قال الشافعي: يعني بصاحبنا: عمر بن الخطاب.
قال أبو عمر قول: الشافعي عندي غير جيد على أصله؛ لأن حديث ابن عيينة في قوله «صاحبنا»
مجمل يحتمل أن يكون أراد الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الأظهر فيه ويحتمل أن
يكون عمر فلما قال
مجاهد: عهد نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسر ما أجمل وردان، وهذا أصل يعتمد
عليه الشافعي في الآثار، لكن الناس لا يسلم أحد منهم من السهو انتهى كلامه.
(1/128)
وكأن
الواهم هو لا الشافعي، لأن البيهقي روى عن أبي عبد الله الحافظ حدثنا أبو بكر بن
إسحاق أخبرنا أبو مسلم حدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم سمعت نافعًا يقول:
كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف، ولم يسمع فيه من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
شيئًا، قال: قال عمر: لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل
سواء بسواء كما تقدم، فهذا نافع يقول: إن ابن عمر لم يسمع النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في الصرف شيئاً، ولا يقول نافع هذا إلا بتوقيف من سيده عبد الله.
وقال البيهقي: وفي رواية سالم أيضا دلالة على أنه أباه لم يسمع من النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم في الصرف شيئا، إنما سمعه من أبيه ومن أبي سعيد وهي في «صحيح
الإسماعيلي» من حديث ابن أخي الزهري عن عمه عن سالم عن أبيه أن أبا سعيد حدثه
حديثاً مثل حديث عمر عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصرف.
وتحمل رواية مجاهد في قوله: «عهد نبينا إلينا» على الأمة، كما قيل في قول الحسن:
خطبنا عبد الله، أو لما كان أبوه من العدالة والضبط هو المخبر نزله في الصحة منزلة
من سمعه من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال بعضهم في حديث مسدد عن يحيى بن
سعيد كأنك تسمع الحديث من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعني لسلامة الطريق
ولثقته رجالا وضبطهم.
يزيد هذا وضوحاً ما في «صحيح مسلم» من حديث أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن
الصرف فلم يريا به، فسألت أبا سعيد الخدري فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك
لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، جاءه
صاحب نخل بصاع من تمر طيب فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنى لك هذا؟»
قال: انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع، فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت» الحديث،
قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني.
(1/129)
وفي
لفظ: فجاءه ابن عمر فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل» الحديث.
فقال أبو سعيد: سمعته أذناي يقول: «لا تبايعوا الذهب بالذهب» الحديث.
وهو في «صحيح البخاري» من حديث سالم عن أبيه أن أبا سعيد حدثه فذكره.
وعند ابن عدي من حديث معاوية بن عطاء عن الثوري عن منصور عن زر عن ابن عمر،
الحديث، وفيه: «ونهى عن بيع الزيت بالزيت»، وقال: إسناد باطل، وعن سفيان: لا تصح
هذه الزيادة بوجه من الوجوه.
وعند مالك في «الموطأ» عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب
أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن.
قال أبو عمر: وهذا يجري مَجرى المتصل، وظاهره الانقطاع لأني لا أحفظ لعطاء سماعاً
من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيئاً، لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة
عثمان سنة اثنتين وثلاثين ومولد عطاء: سنة إحدى وعشرين.
وقيل: سنة عشرين ويمكن أن يكون سمع عطاء من معاوية؛ لأنه سمع من جماعة أقدم من
معاوية، ولكنه لم يشهد هذه القصة لأنها كانت في زمن عمر بن الخطاب، وذكر أن مثل
هذه القصة عرضت لمعاوية مع عبادة بن الصامت وحديث عبادة محفوظ عند أهل العلم، ولا
أعلم أن أبا الدرداء رواه، انتهى.
في «الموطآت» للدارقطني: رواه أبو قرة موسى بن طارق قال: ذكر مالك، عن زيد بن أسلم
عن عطاء أو عن سليمان بن يسار أنه أخبره: أن معاوية باع سقاية، الحديث، وكذا ذكره
عبد الله بن وهب في «مسنده» عن مالك.
حديث عبادة المشار إليه خرجه مسلم بلفظ: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر [والشعير بالشعير والتمر] بالتمر
والملح بالملح سواء بسواء عيناً بعين».
وفي لفظ: «الطعام
بالطعام مثلاً بمثل» الحديث.
(1/130)
وعند
الدارمي بسند جيد عن مسروق عن بلال.
وذكره ابن بطال بسند فيه عن ابن المسيب عن بلال قال: كان عندي تمر دون، فابتعت
تمراً أجود منه في السوق، وبنصف كيله صاعين بصاع، فحدثت النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم بما صنعت فقال: «هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه وخذ تمرك فبعه ثم
اشتر به التمر» انتهى.
الذي في الصحيح: أن هذا رواه أبو سعيد قال جاء بلال. الحديث.
وعند البزار: حدثنا العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين،
حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عنه. ثم قال: وهذا الحديث رواه عن إسرائيل
عمرو بن محمد وعثمان بن عمر.
وحدثنا محمد بن معمر، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا كثير بن يسار، عن ثابت، عن أنس:
أتي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتمر الريان فقال: «أنى لكم هذا التمر؟»
قالوا: كان عندنا تمر بعل فبعناه صاعين بصاع فقال: «ردوه على صاحبه».
وعند الحاكم من حديث إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير قال: سمعت أبا أسيد الساعدي
سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم
وصاع حنطة بصاع حنطة وصاع شعير بصاع شعير وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بين شيء من
ذلك» وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعند البخاري سيأتي عن أبي بكرة: «نهانا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
نبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبيع الذهب الفضة كيف
شئنا يعني يداً بيد».
وفي «الموطأ»: مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: «أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة
عينا و كل أربعة بثلاثة عيناً، فقال لهما رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
أربيتما فردا».
قال أبو عمر: السعدان سعد بن مالك وسعد بن عبادة.
قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن الذهب عينه وتبره سواء لا يجوز
التفاضل في شيء منه.
(1/131)
وكذلك
الفضة بالفضة تبرها وعينها ومصوغ ذلك كله ومضروبه، لا يحل التفاضل في شيء منه،
وعلى ذلك مضى السلف والخلف.
قال ابن بطال: كتب أبو بكر الصديق إلى عماله، وروي مثله عن علي، وروى مجاهد عن
ثلاثة [عشر] صحابياً مثله، وإنما حرم الله جل وعز الربا حراسة للأموال وحفظاً لها.
قال أبو عمر: إلا شيء يروى عن معاوية من وجوه أنه كان لا يرى الربا في بيع العين
بالتبر ولا بالمصوغ، وكان يجيز في ذلك التفاضل ويذهب إلى أن الربا لا يكون في
التفاضل إلا في التبر بالتبر والمصوغ بالمصوغ وفي العين بالعين، والسنة المجتمع
عليها من نقل الآحاد ونقل الكافة خلاف ما كان يذهب إليه معاوية.
وقوله: (فَتَرَاوَضْنَا) يعني زدت أنا ونقص هو.
وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الأعيان الستة المنصوص عليها الذهب والفضة
والحنطة والشعير والتمر والملح، واختلفوا فيما سواها، فذهب أهل الظاهر وقبلهم
مسروق وطاووس والشعبي وقتادة وعثمان البتي فيما ذكره الماوردي: إلى أنه يتوقف
التحريم عليها.
وقال سائر العلماء: لا يتوقف التحريم عليها بل يتعدى إلى ما في معناها.
فأما الذهب والفضة، فالعلة فيهما عند أبي حنيفة، الوزن في جنس واحد، فألحق بهما كل
موزون.
وعند الشافعي: العلة فيهما جنس الأثمان.
وأما الأربعة الباقون ففيها عشرة مذاهب:
مذهب أهل الظاهر المتقدم ألا ربا في غير الأجناس الستة.
الثاني: ذهب أبو بكر بن كيسان الأصم: إلى أن العلة فيها كونها منتفعاً بها، فحرم
التفاضل في كل ما ينتفع به، حكاه عنه القاضي حسين.
الثالث: مذهب ابن
سيرين وأبي بكر الأودي الشافعي: إلى أن العلة الجنسية، فحرم كل شيء بيع بجنسه:
كالتراب بالتراب متفاضلاً، والثوب بالثوبين والشاة بالشاتين.
الرابع: مذهب الحسن بن أبي الحسن: أن العلة المنفعة في الجنس، فيجوز عنده بيع ثوب
قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار، ويحرم عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته
ديناران.
(1/132)
الخامس:
مذهب سعيد بن جبير: أن العلة تفاوت المنفعة في الجنس، فيحرم التفاضل في الحنطة
بالشعير لتفاوت منافعهما، وكذلك الباقلاء بالحمص والدخن بالذرة.
السادس: مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أن العلة كونه جنساً تجب فيه الزكاة، فحرم
الربا في جنس تجب فيه الزكاة من المواشي والزروع وغيرهما، ونفاه عما لا زكاة فيه.
السابع: مذهب مالك: كونه مقتاتاً مدخراً، فحرم الربا في كل ما كان قوتاً مدخراً،
ونفاه عما ليس بقوت: كالفواكه، وعما هو قوت لا يدخر: كاللحم.
الثامن: مذهب أبي حنيفة: أن العلة كونه مكيل جنس، أو الوزن مع جنس، فحرم الربا في
كل مكيل وإن لم يؤكل: كالجص والنورة والأشنان، ونفاه عما لا يكال ولا يوزن وإن كان
مأكولا: كالسفرجل والرمان.
التاسع: مذهب سعيد بن المسيب، وهو قول الشافعي في القديم: أن العلة كونه مطعوماً
يكال أو يوزن فحرمه في كل مطعوم يكال أو يوزن، ونفاه عما سواه، وهو كل ما لا يؤكل
ولا يشرب، أو يؤكل ولا يوزن: كالسفرجل والبطيخ.
العاشر: أن العلة كونه مطعوماً فقط، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أم لا، ولا ربا
فيما سوى المطعوم غير الذهب والفضة، وهو مذهب الشافعي الجديد.
في «شرح المهذب»: وهو مذهب أحمد وابن المنذر.
قال ابن رشد: اتفقوا على أن من شرط الصرف أن يبيع ناجزاً، واختلفوا في حده فقال
أبو حنيفة والشافعي: ما لم يتفرقا، وقال مالك: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف،
وإن لم يفترقا.
وذكر الإسماعيلي أن البخاري قال: بيع الطعام والحكرة، وليس فيه الحكرة، انتهى.
لقائل أن يقول: الأصل في الاحتكار حبس الطعام، وإذا قبضه وحازه فقد حبسه عن غيره
وفي حديث ابن عمر المذكور هذا في الباب لفظة: «حتى يقبضه»، وفي لفظ: «حتى ينقله»
فلعل هذا مراد البخاري، والله تعالى أعلم.
وأما الحديث المصرح فيه بالحكرة من طريق معمر بن عبد الله فليس على شرطه إنما هو
على شرط مسلم وقد قدمناه.
(1/133)
وقوله:
(سَوَاء بِسَوَاءٍ) قال ابن التين: ضبط في غير أمٍّ بالقصر، وهو في اللغة: ممدود
مفتوح السين؛ أي: المماثلة في المقادير.
وصرف وافتعل اصطرف منه، والأصل: اصترف بتاء.
والذهب: قال في «المنتهى»: ربما أنث لغة حجازية، والقطعة منه ذهبة، وتجمع على
أذهاب وذهوب.
وفي «تهذيب الأزهري»: لا يجوز تأنيثه إلا أن يجعل جمعاً لذهبة.
وفي «الموعب» لابن التياني عن صاحب «العين»: الذهب التبر، والقطعة منه ذهبة، يذكر
ويؤنث.
وعن ابن الأنباري: الذهب أنثى وربما ذُكِّر، وعن الفراء: وجمعه ذهبان.
(وَهَاءَ وَهَاءَ): قال صاحب «العين» هو حرف يستعمل في المناولة، تقول: هاء وهاكَ،
وإذا لم تجئ بالكاف مددت فكانت المدة في هاء خلفاً من كاف المخاطبة فتقول: للرجل
هاءَ، وللمرأة هائي، وللاثنين هاؤهما، وللرجال هاؤم، وللنساء هاؤنَّ.
وعن الفراء: أهل الحجاز يقولون: ها يا
رجل، وللمرأة: هَأِ امرأة بهمزة ليس بعدها يا.
وأهل نجد من تميم وقيس وأسد يختلفون فيقول بعضهم: هاءَ يا رجل نصباً، كقول أهل
الحجاز للاثنين: هاءَوَا، وللثلاث هاءَن بهمزة مخففة.
ويخلطون في الواحدة فيقولونها بالياء وبغير ياء هائي وهاءِ.
وكان بمعنى إذا قالوا للمرأة هائي ممدودا أن يقولوا للرجل هَأْ مثل خَفْ.
وبلغني أن بعض العرب يجعل مكان الهمز كافا فيقول: هاك يا رجل بغير همز، ذكره في
«الموعب».
وفي «المنتهى»: يقول هَأْ يا رجل بهمز ساكنة، مثال هَعْ؛ أي خذ.
وفي «الجامع»: فيه لغات: بألف ساكنة وهمزة مفتوحة اسم للفعل، ولغة أخرى: ها يا رجل
كأنه من هائي يهائي فتحذف الياء للجزم، ومنهم من يجعله بمنزلة الصوت فيقول: ها يا
رجل وها يا رجلان وها يا رجال وها يا امرأة وها يا امرأتان وها يا نسوة وأنشد
المرزباني لعُرَيْفِجَة ويقال عرفجة بن رميلة النهشلي:
لما رأت في ظهري انحناء وفي يدي من كرمي التواء
تجعل في كل غبوقي ماء ثم تقول من بعيد هاء
دحرجه إن شئت أو إلقاء لا جعل الله به شفاء
(1/134)
وفي
هذه اللفظة لغات سبع ذكرها السِّيْرَافيُّ.
وقوله: (لَا تُشِفُّوا) الشفاء النقصان والزيادة شفَّ يَشِّفُّ شفا زاد وأشفَّ
يُشِفُّ إذا نقص والاسم منه الشف.
قال ابن التين: أراد في الحديث لا تزيدوا بعضها على بعض ولا تنقصوا وكأنَّ الزيادة
أولى لأنه عداه بعلى، وعلى مختصة بالزيادة وعن مختصة بالنقصان ولا يصح حمله على
النقص مع على إلا على مذهب من يجيز بدل الحروف بعضها من بعض وفيه بعد.
والربا: يقع في التبايع بمعنيين:
أحدهما بالزيادة، والآخر بالنسيئة، فالزيادة لا تكون إلا في الجنس الواحد كالذهب
بالذهب متفاضلاً، والورق بالورق متفاضلاً.
والنسيئة تكون في الجنس الواحد والجنسين كالذهب بالذهب نسيئة والذهب
بالورق نسيئة، وهذان الأمران حرام عند الشافعي، وبه قال عامة الصحابة والتابعين
ومن بعدهم.
وقال أبو حنيفة كذلك في النقدين، وقال فيما عداهما: يجوز التفرق قبل القبض، فأجاز
فيهما النسيئة.
وذهب جماعة من الصحابة إلى أنَّ الربا إنما هو في النسيئة خاصة، فأمَّا التفاضل
فجائز إذا كان يدًا بيدٍ، حكي ذلك عن ابن عباس وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وعبد
الله بن الزبير والبراء بن عازب.
واختلف عن ابن عباس؛ ففي مسلم أنَّ أبا سعيد قال له: أرأيت هذا الذي تقول أشيء
سمعته من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو شيء وجدته في كتاب الله جل وعز؟
فقال: ما وجدته في كتاب الله ولا سمعته من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
ولأنتم أعلم برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مني، ولكن أخبرني أسامة أنَّ رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الربا في النسيئة».
وعند الترمذي وابن المنذر وأبي بكر الأثرم: أنه رجع إلى قول الجماعة.
وعند ابن حزم من طريق حبان بن عبد الله، عن أبي مجلز: قال عبد الله لأبي سعيد:
جزاك الله خيرًا ذكرتني أمرًا قد كنت أنسيته، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فكان
ينهى عنه بعد ذلك.
(1/135)
قال
أبو محمد: حبان عن أبي مجلز لا حجة فيه؛ لأنه منقطع لم يسمعه من أبي سعيد ولا من
ابن عباس.
قال أبو محمد: وقد روى رجوع ابن عباس، سليمان بن علي الربعي، وهو مجهول لا يدرى من
هو، عن أبي الحوراء، وروى عنه أيضًا أبو الصهباء أنه كرهه، وروى عنه طاوس ما يدل
على الثقة، وروى عنه الثقة المختص به خلاف هذا، ثم روى بسند صحيح من حديث عبد الله
بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّه
قال: ما كان الربا قط هاك وهات. وحلف سعيد بن جبير بالله ما رجع عنه عبد الله حتى
مات. انتهى.
وفي حديث سعيد عن أبي صالح قال: صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف.
وعن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف، فكان يأمر به ولم
ير به بأسًا.
قال ابن حزم: وفي حديث أبي مجلز عن أبي سعيد الذي أسلفناه: «وإن لك ما يُكال
ويوزن» قال أبو محمد: هذِه اللفظة ليست من كلام النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
إنما هي مدرجة من كلام أبي سعيد؛ لأن أبا صالح رواه عن أبي سعيد وكذا نافع وأبو
سلمة بن عبد الرحمن وأبو المتوكل الناجي وابن المسيب وعقبة بن عبد الغافر وأبو
نضرة والجريري وعطاء بن أبي رباح بأسانيد متصلة عن الثقات، وما منهم أحد ذكر هذا
اللفظ، وهو بين في الحديث لأنه لما تم كلام سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال أبو مجلز: قال: وكذا ما يُكال، الحديث، مفصولًا عن الحديث الأول.
وفي كتاب «البيوع» للأثرم قال ابن عباس: ما كان إلا برأي يقوله لأبي سعيد. قال
سليمان الربعي: فذكروا ذلك عند الحسن بن أبي الحسن فقال: يا أبا سعيد سل هذا فإن
هذا شهد أبا الحوراء أنه شهد على ابن عباس بأنه رجع قال: لو لم يرجع عنه لم يلتفت
إليه.
(1/136)
وحدثنا
موسى بن إسماعيل أخبرنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالم قال: ذكر في حديث أن أبا
صالح قال: سألت أبا سعيد فقال: هو حرام إلا مثلا بمثل، فأخبر أبو سعيد بقول ابن
عباس فالتقوا ثلاثتهم، فقال ابن عباس له: ما أنا بأقدمكم صحبة ولا أعلمكم بكتاب
الله، ولكني سمعت زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان: سمعنا نبي الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم يقول: «لا يصلح بيع الذهب والفضة إلا يدا بيد» فقال أبو سعيد: إنما
سمعته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا».
قال ابن التين: ورواية ابن عباس عن أسامة إنْ كانت محفوظة، فيحتمل أن يكون سمع بعض
الحديث فحكى ما سمع، وذلك أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئل عن الذهب
بالفضة، أو الشعير بالتمر
فقال: «إنما الربا في النسيئة».
ورد أبو سليمان قول من قال إنه منسوخ؛ بقوله: النسخ إنما يقع في أمر كان مشروعًا
قبل ورود النسخ عليه، فأما ما لم يكن مشروعاً قبل فلا يطلق عليه النسخ وهذا مما
غلط فيه كثير من العلماء، يضعون التحريم موضع النسخ كمن يقول: شرب الخمر منسوخ ولم
يكن شربه مشروعا قط وإنما كانوا يشربونها على عادتهم المتقدمة قبل الحظر.
باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
كذا هذا الباب في جميع ما رأيت من النسخ، وكذا ذكره صاحب «المستخرج» وابن التين
وقال: بوَّب البخاري: بيع ما ليس عندك، ولم يأت فيه بحديث إلا عن ابن عباس: «نهى
عن الطعام أن يباع قبل أن يقبض»، وعن ابن عمر «فلا يبعه حتى يستوفيه».
ثم قال: زاد إسماعيل: «حتى يقبضه» انتهى
لقائل أن يقول: إذا منع من بيع الشيء قبل قبضه وقد عقد فيه بيعاً كان منعه أن يبيع
ما [لم] ينتقل ملكه إليه، ولا عقد مبيعاً أولى فتبويبه على هذا صحيح.
وأما ابن بطال فبوَّب له: باب بيع الطعام قبل قبضه، وبوَّب لحديث مالك بن أوس عن
عمر: باب بيع ما ليس عندك مما قد قدمنا.
(1/137)
وقال:
لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا في ملكك وضمانك من الأعيان كالمكيلة والموزونة
والعروض لنهي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك.
وقد روى النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن: عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده، قال فيه الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط جماعة من أئمة المسلمين ولفظه: «لا يحل سلف
وبيع ولا شرطين في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك».
وفي لفظ عن جده عبد الله: أنه كتب عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه لما بعث
عتاب بن أسيد إلى أهل مكة شرفها الله تعالى قال له: «أخبرهم أنه لا يجوز بيعتين في
بيعة ولا بيع ما لا يملك ولا سلف وبيع ولا شرطين في بيع».
وعن حكيم بن حزام قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تبع ما ليس عندك».
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال البيهقي: إسناده حسن متصل.
وقال أبو طالب عن أحمد: إنما يرويه أيوب عن محمد عن يوسف بن ماهك عن حكيم مرسلاً،
وغيره يجعل بين يوسف وحكيم عبد الله بن عصمة.
وذكر ابن حزم من جهة أصبغ: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أبي حدثنا حبان بن هلال حدثنا
همام بن يحيى أخبرنا ابن أبي كثير أن يعلى حدثه أن يوسف حدثه أن حكيم بن حزام
حدثه. الحديث.
قال ابن القطان: وكذا رواه ابن أيمن عن أبي خيثمة سواء.
وروى الدارقطني من حديث أحمد بن صخر الدارمي، عن حبان بن هلال، عن همام بن يحيى،
عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلى، عن يوسف، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم، والله
أعلم.
(1/138)
قال
ابن بطال: استنبط البخاري يعني حديث حكيم وإن لم يكن من شرطه، من حديث مالك بن
أوس، وذلك أنه يدخل في بيع ما ليس عندك والمعنى ما يكون في ملكك غائبًا من الذهب
والفضة، ولا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذا البر والتمر والشعير لا يباع شيء منه
بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، لقوله: «إلا هاء وهاء»، يعنى خذ وأعط
حياطة من الله جل وعز لأصول الأموال، وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع
ما ليس عندك مما يكون في الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله جل وعز لعباده
ورفقًا بهم.
وقول البخاري:
2136 - زَادَ إِسْمَاعِيْلُ: «حَتَّى يَقْبِضَهُ». [خ 2136]
يعني ابن أبي أويس عن مالك، وليس هو زيادة إنما أتى بلفظة بدل أخرى، وقال
الإسماعيلي ردا على البخاري: قد قاله أيضاً الشافعي وقتيبة وابن مهدي عن مالك.
ثم في النسخ التي رأيناها: (فَلَا يَبِيْعُهُ)، قال ابن التين: محمول على أن لفظه
لفظ الخبر ومعناه الأمر مثل قوله جل وعز: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة: 79]
وزعم ابن المنذر أن قوله: «نهى عن بيع ما ليس عندك» يحتمل أن يقول: أبيعك هذه
الدار بكذا على أن أشتريها من صاحبها، أو على أن يسلمها لك
صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز ألا يقدر على تلك السلعة، أو
لا يسلمها إليه مالكها.
أو نقول: يحتمل أن يقول: أبيعك عبدًا أو دارًا مغيبة عني في وقت البيع، فلعل الدار
تتلف ولا ترضاها، فهذا أيشبه الغرر.
وفي كتاب «الربا» لمحمد بن أسلم قاضي سمرقند: ومن الاحتيال في الربا إذا قال: اشتر
هذا حتى أشتريه منك، حدثنا علي بن حكيم، عن وكيع، عن سفيان بن سعيد، عن ابن جريج،
عن زيد بن أسلم أن رجلاً قال لرجل: اشتر هذا البعير حتى أشتريه منك، فقال: كرهه
ابن عمر.
وحدثنا علي عن وكيع عن سفيان عن حماد عن إبراهيم: أنه كره أن يقول اشتر فذكر من
كذا وكذا حتى أشتريه منك.
(1/139)
وحدثنا
علي عن وكيع عن الحكم بن أبي الفضيل سمعت الحسن يقوله، وسأله عن الرجل يساومني
الحرير فأقول: ليس عندي، فيقول: اشتر حتى أشتريه منك، قال: المواضعة وكرهه.
وحدثنا علي عن وكيع عن محمد بن أسلم عن إبراهيم بن ميسرة قلت لطاوس: يأتيني الرجل
فيسامني بسلعة وليست عندي فيقول لي اشتر حتى أشتريها منك فكرهه.
قال محمد بن أسلم: ولقد كره الحسن وابن سيرين أن يكون الرجل يشتري التجارة فيحملها
إلى منزله، فيضعها في بيت يبتغي بها من يشتريها بالنسيئة.
وذكر أبو إسحاق في «المهذب» ولا يجوز بيع ما لا يملكه في غير إذن.
قال محيي الدين رحمهما الله تعالى: يريد من غير إذن شرعي فيدخل فيه الوكيل والولي
والوصي وبيع مال المحجور وبيع القاضي ونائبه ممن يمتنع من بيع ماله في وفاء ما
عليه من الدين.
الباب الذي بعده تقدم ذكره.
باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ البَائِعِ، أَوْ
مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ
المُبْتَاعِ.
هذا التعليق تقدم ذكره، وأن ابن حزم صححه، وقال ابن التين: لا مخالف لابن عمر فهو
الإجماع.
وذكر البخاري حديث عائشة المتقدم في كتاب الصلاة مطوَّلاً، وهنا ذكره لقول النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكر لما قال له:
2138 - يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي نَاقَتَانِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ:
«قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ». [خ 2138]
قال ابن التين: بيع الغائب على الصفة جائز، ومنعه الشافعي، وجائز عند مالك أنْ
يبيع والمشتري بالخيار إذا رأى، وأنكر هذا البغداديون من أصحابه.
وعند أبي حنيفة أنَّ البيع جائز، وإن لم يشترط المشتري الخيار، ويجب له الخيار
حكمًا، ويستدل بهذا الحديث، وأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخذها بالثمن، ولم
يذكر شرط خيار رؤية، ودليل البغداديين: أنه عقد عَرِيَ عن الصفة فكان فاسدًا
كالسلم.
(1/140)
قال
المهلب: وجه استدلال البخاري في هذا الباب بحديث عائشة أنَّ قول الرسول صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكر في الناقة: (قَدْ أَخَذْتُهَا) لم يكن أخذاً باليد،
ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامه لابتياعها بالثمن وإخراجها من ملك أبي بكر؛
لأنَّ قوله: (قَدْ أَخَذْتُهَا) يوجب أخذًا صحيحًا وإخراجًا واجبًا للناقة من ملك
أبي بكر إلى ملك سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالثمن الذي يكون عوضًا
منها، فهل يكون التصرف بالبيع قبل القبض أو الضياع إلَّا لصاحب الذمة الضامنة لها؟
انتهى
وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر وغيره: أنَّ أبا بكر لمَّا قدَّم الناقة لرسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليركبها، قال: «لا أركب ناقة ليست لي» قال: هي لك، قال:
«بالثمن».
فهذا دليل على رؤيتها وحوزها، انتهى.
قال: وفي استعداد أبي بكر للناقتين دليل على أنه أفهم الناس لأمر الدين؛ لأنه
أعدهما قبل أن ينزل الإذن بالخروج من مكة إلى المدينة؛ لأنه قبل ذلك رجا أنه لا بد
أن يؤذن له فأعد لذلك، انتهى.
في «الدلائل» للبيهقي وغيره أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إني أرجو
أن يؤذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: [وهل يؤذن لك] قال: «نعم»
فاشترى ناقتين وحبس نفسه على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ويستدل أبو حنيفة ومن قال بقوله بأن الافتراق بالكلام لا بالأبدان، لأن النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قد أخذتها بالثمن» قبل أن يفترقا، وتم البيع
بينهما.
قال ابن التين: وقع في رواية للبخاري: «عددتهما للخروج»، وصوابه: أعددتهما، لأنه
رباعي.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في هلاك المبيع قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة
والشافعي إلى أن ضمانه إن تلف من البائع.
وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: من المشترى.
وأما مالك ففرق بين الثياب والحيوان، فقال: ما كان من الثياب والطعام، فهلك قبل
القبض، فضمانه من البائع.
(1/141)
قال
ابن القاسم: لأنه لا يعرف هلاكه ولا بينة عليه، وأما الدواب والحيوان والعقار فمصيبته
من المشترى.
وعن ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبداً أو احتبسه بالثمن، وهلك في يديه قبل
أن يأتي المشترى بالثمن، فكان سعيد بن المسيب وربيعة والليث يقولون: هو من البائع.
وأخذ به ابن وهب، وكان مالك قد أخذ به أيضًا، وقال سليمان بن يسار: مصيبته من
المشترى سواء حبسه البائع بالثمن أم لا، ورجع مالك إلى قول سليمان بن يسار.
باب لَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ،
حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ
2139 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ
عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ». [خ 2139]
وفي لفظ في باب: «النهي عن تلقي الركبان» وذكره هنا كان أنسب مما ذكره: «نهى رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة
أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب» انتهى.
بهذا اللفظ [هنا] ترجم به الباب، وكأنه على عادته يحيل على أصل الحديث.
وهو حديث خرجه الستة، وكذا حديث أبي هريرة المخرج إثر حديث ابن عمر بلفظ:
2140 - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ
لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ
يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا». [خ 2140]
وفي حديث عقبة بن عامر من عند البيهقي: «لا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى
يذر ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر» وسنده جيد.
وعند ابن السكن: «لا يبع بعضكم على بيع بعض إلا الغنائم والمواريث».
(1/142)
قال
ابن قرقول: يأتي كثير من الأحاديث على لفظ الخبر، وقد يأتي بلفظ النهي، وكلاهما
صحيح.
وقال أبو السعادات بن الأثير: كثير من روايات هذا الحديث «لا يبيع» بإثبات الياء،
والفعل غير مجزوم، وذلك لحن، وإن صحت الرواية فيكون لا نافية، وقد أعطاها معنى
النهي، لأنه إذا نفي أن يوجد هذا البيع، فكأنه قد استمر عدمه، والمراد من النهي عن
الفعل: إنما هو طلب إعدامه واستبقاء عدمه، فكان النفي الوارد من الواجب صدقه يفيد
ما يراد من النهي.
وقال ابن حزم: ثم ولا يحل لأحد أن يسوم على سوم أخيه، ولا يبيع على بيعه، والمسلم
والذمي سواء، فإن فعل فالبيع مفسوخ، وذكر الحديث.
ثم قال: هذا خبر معناه الأمر، لأنه لو كان معناه الخبر لكان خلفًا لوجود خلافه،
والخلاف مقطوع ببعده عن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقال النووي: في جميع النسخ: (وَلَا يَسُومُ) بالواو، وكذا: (يَخْطُبُ) مرفوع،
وكلاهما لفظه لفظ الخبر، والمراد به النهي، وهو أبلغ في النهي، لأنَّ خبر الشارع
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُتصوَّر وقوع خلافه، والنهي قد يقع خلافه، فكان
المعنى عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتم.
قال ابن التين وغيره: البيع هنا السوم.
مثاله أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله،
بأرخص منه، أو أجود منه بثمنه أو نحو ذلك، وهذا حرام.
ويحرم أيضاً الشراء على شراء أخيه وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع
وأنا أشتري منك بأكثر من هذا
الثمن ونحو هذا.
وأما السوم فهو أن يكون قد اتفق صاحب مالك السلعة والراغب فيها أو ركنا وتبايعا
ولم يعقداه، فيقول للبائع: أنا اشتريته وهذا حرام بعد استقرار الثمن، أما السوم في
السلعة التي تباع فيمن يزيد، فليس بحرام.
(1/143)
قال
ابن التين: وأجمع العلماء أن حكم الذمي حكم المسلم في ذلك إلا الأوزاعي فإنه أجاز
السوم على سوم الذمي محتجًّا بما في مسلم: «لا يسم المسلم على سوم المسلم».
وكذا يفهم من حديث ابن عمر المذكور: «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه» والذمي ليس أخا
للمسلم، وهذا يرد قول ابن حزم الذي سلف إذا قاس الذمي على المسلم من غير نص فخالف
قاعدته.
قال النووي: أجمع العلماء على منع البيع على بيع أخيه والشراء على شرائه والسوم
على سومه فلو خالف وعقد فهو عاص وينعقد البيع هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين.
وقال داود لا ينعقد، وعن مالك روايتان كالمذهبين. وجمهورهم على إباحة البيع
والشراء فيمن يزيد وبه قال الشافعي وكرهه بعض السلف.
والكلام على الخطبة يأتي إن شاء الله تعالى في الشروط.
وبيع الحاضر للباد والنجش يأتي ذكرهما.
باب بَيْعِ المُزَايَد
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ المَغَانِمِ
فِيمَنْ يَزِيدُ.
هذا التعليق روى ابن أبي شيبة بعضه عن وكيع، عن سفيان، عمن سمع مجاهدًا وعطاء
قالا: لا بأس ببيع من يزيد.
وعند البيهقي من حديث زيد بن أسلم: سمعت رجلًا تاجرًا -يقال له: شهر- يسأل عبد
الله بن عمر عن بيع المزايدة، فقال: نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
يبيع أحدكم على بيع أخيه حتى يذر، إلا المغانم والمواريث.
وفي «علل الخلال» عن أحمد: هذا حديث منكر.
وقال أبو بكر: حدثنا وكيع عن حزام بن هشام الخزاعي، عن أبيه قال: شهدت عمر بن
الخطاب باع إبلًا من إبل الصدقة فيمن يزيد.
وحدثنا معمر عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك
عن رجل من الأنصار: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باع حِلْسا وقد جاء:
فيمن يزيد».
وعند الترمذي فقال رجل: آخذهما بدرهم، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من
يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟» فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه. وقال: هذا حديث
حسن.
(1/144)
وقال
منهال: سألت أحمد عن أبي بكر الحنفي فقال: لا أعرفه. وحديث أنس في بيع القدح ليس
له إسناد.
قال أبو بكر: حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال: لا بأس ببيع من يزيد.
2141 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ حدثنا عَبْدُ الله أخبرنَا الحُسَيْنُ
المَكْتِبُ عنْ عَطَاءِ بنِ أبِي رباحٍ عنْ جابِرٍ أنَّ رجُلاً أعْتَقَ غلاَما
لَهُ دُبُر فاحْتاجَ فأخذَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ مَنْ
يَشْتَرِيهِ مِنِّي فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا
فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. [خ 2141]
وفي لفظ: «لم يكن له مال غيره فاشتراه ابنُ النحام بثمان مئة درهم عبداً قبطياً،
مَاتَ عَام أول، فِي إِمَارَة ابْن الزبير.
هذا حديث أخرجه الستة.
وعند مسلم: أعتق رجل من بني عُذْرَة فبلغ ذلك النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
«لك مال غيره؟» قال لا. فقال: «من يشتريه مني؟» فاشتراه نعيم بثمان مئة درهم. فقال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك
فإن فضل شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول بين يديك وعن
يمينك وعن شمالك».
وفي لفظ: أن رجلاً من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غُلَاماً عَن دبر يُقَال
لَهُ يَعْقُوب.
وعند أبي داود: «أنت أحق بثمنه والله غنى عنه» وباعه بسبع مئة أو تسع مئة درهم.
وعند النسائي: وكان محتاجاً وعليه دين فذكر ذلك لرسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فباعه وأعطاه ثمنه فقال: «اقض دينك».
وفي لفظ: «أنفقها على عيالك فإنما الصدقة عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول».
وفي لفظ: «من يشتريه؟ من يشتريه؟»، وفيه: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه».
اختلف العلماء هل المدبر يباع أم لا؟
فذهب أبو حنيفة ومالك وجماعة
(1/145)
من
أهل الكوفة إلى أنه ليس للسيد أن يبيع [مدبره، قال] أبو حنيفة إن مات سيده ولم
يخرج من الثلث سعى في فكاك رقبته وإن مات سيده وعليه دين فبيع للغرماء سعى لهم
وخرج حراً.
وأجازه الشافعي وأحمد وأهل الظاهر وأبو ثور وإسحاق، وهو قول عائشة ومجاهد والحسن
وطاوس، وباعت عائشة مدبرة لها سحرتها.
وكرهه ابن عمر وزيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين وابن المسيب والزهري والشعبي والنخعي
وابن أبي ليلى والليث بن سعد.
وعن الأوزاعي: لا يباع إلا من رجل يريد عتقه.
وجوز أحمد بيعه بشرط أن يكون على السيد دين.
وعن مالك يجوز بيعه عند الموت، ولا يجوز في حال الحياة، كذا ذكره ابن الجوزي عنه.
وحكى مالك إجماع أهل المدينة على بيع المدبر وهبته.
استدل من أجاز بيعه بحديث جابر، قال ابن بطال: ولا حجة فيه لأن في الحديث أن سيده
كان عليه دين فثبت أن بيعه كان لذلك؛ لأنها قضية عين تحتمل التأويل، وتأوله بعض
المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه. انتهى.
قد أسلفنا هذا في متن الحديث قبل، فلا حاجة إلى التأويل.
وأما ما روي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «المدبر لا يباع ولا يشترى
وهو جزء من الثلث» فذكره ابن جرير من حديث ابن عمر ووهاه.
قال وروي عن أبي جعفر محمد بن علي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرسلاً، أنه
باع خدمة المدبر، وعن جابر أن أولاد سيد المدبر الذي باعه النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم كان سفيهاً، فلذلك تولى بيعه بنفسه.
المدبرة إذا مات سيدها ما نراهم إلا أحراراً، وولدها كذلك.
وعن ابن شهاب وربيعة أن عائشة باعت مدبرة، فأنكر ذلك عمر وأمرها أن تشتري
غيرها بثمنها وتدبرها.
ومن قال المدبر لا يباع فيما ذكر في «المصنف»: شريح وزيد بن ثابت وابن المسيب
وسالم والشعبي والحسن ومحمد وابن عمر بأسانيد لا بأس بها.
قال ابن سيرين: لا بأس ببيع خدمة المدبر، وكذا قاله ابن المسيب.
(1/146)
وقال
ابن بطال: وقد قيل إن سيد المدبر الذي باعه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان
سفيهاً، فلذلك تولى بيعه بنفسه، وبيع المدبر عند من يجوزه لا يفتقر فيه إلى بيع
الإمام وهذا الحديث أصل في أن أفعال السفيه مردودة. انتهى.
وهذا هو الذي فهمه البخاري إذ بوَّب عليه أيضاً: «باب من باع مال المفلس والمعدم
وقسمه بين الغرماء».
قال ابن بطال: وجمهور العلماء على أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد التدبير
بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا سرى التدبير في الولد، فلأن يلزم في الأم بطريق
الأولى.
قال ابن التين: قال بعض العلماء: لا يجوز لأحد أن يخلع من جميع ماله لهذا الحديث؛
ولحديث كعب بن مالك وسعد بن مالك.
وأجمع المسلمون على صحة التدبير، ومذهب الشافعي ومالك في آخرين أنه يحسب عتقه من
الثلث.
وقال الليث وزفر: من رأس المال.
وذكر ابن رشد: أن جمهور العلماء يجوِّز وطء المدبرة إلا ابن شهاب فإنه منعه.
وعن الأوزاعي كراهته إن لم يكن وطئها قبل التدبير.
وقال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث بيع المزايدة، والمزايدة أن يعطي به واحد
ثمناً ثم يعطي غيره زيادة فيقبلها. انتهى
كأن البخاري أراد بالترجمة ما حكاه عن عطاء، وما قدمناه من حديث أنس في المزايدة
ليست من شرط البخاري، والله تعالى أعلم.
باب النَّجْشِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ البَيْعُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ.
وقال البخاري: وَهْوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ، لَا يَحِلُّ. قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «الخَدِيعَةُ فِي النَّارِ».
هذا حديث خرجه أبو داود في سننه بسند لا بأس به.
قال البخاري:
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهْوَ رَدّ».
هذا التعليق خرجه البخاري في صحيحه مسنداً.
(1/147)
2142
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ النَّجْشِ».
[خ 2142]
وقال أبو عمر: رواه أبو سعيد إسماعيل بن محمد قاضي المدائن، عن يحيى بن موسى
البلخي، أخبرنا عبد الله بن نافع، عن مالك عن نافع عن ابن عمر: «نهى رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التخيير»، والتخيير أن يمدح الرجل السلعة بما ليس
فيها، هكذا قال التخيير وفسره، ولم يتابع على هذا اللفظ، والمعروف النجش.
قال الشافعي: النجش أن يحضر الرجل السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها
ليقتدي به السُّوَّام فيعطوا بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يعلموا سومه فهو عاص
إن كان عالماً بنهي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والبيع جائز لا يفسده معصية
رجل نجش عليه.
قال أبو عمر: والنجش أيضًا أن يفعل ذلك ليغر الناس في مصلحته، والمشتري لا يعرف
أنه ربها.
وأصل النجش: الاستثارة، وسمي الناجش ناجشاً لأنه يلبس الرغبة في السلعة ويرفع
ثمنها وهذا التناجش، ينجش نجشاً.
وفي «الزاهر»: أصل النجش مدح الشيء وإطراؤه.
وفي «الغريبين»: النجش: تنفير الناس عن الشيء إلى غيره.
وفي «الجامع»: أصله من الختل، يقال: نجش الرجل إذا ختل.
وفي «المغرب» للمطرزي: النجش بفتحتين، وروي بالسكون.
وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع لازم ولا خيار.
وعن مالك له الخيار إذا علم وهو عيب من العيوب [كما في المصراة].
وقال أهل الظاهر: [البيع] باطل مردود على بائعه إذا ثبت ذلك عليه.
وكأن البخاري يذهب إلى قولهم.
وحديث أبي هريرة تقدم.
باب بَيْعِ الغَرَرِ وَحَبَلِ الحَبَلَةِ
(1/148)
2143
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عَنْ بَيْعِ
حَبَلِ الحَبَلَةِ»، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، كَانَ
الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، الَّذِي فِي
بَطْنِهَا. [خ 2143]
وفي لفظ: «كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم عنه».
وعند مسلم: «كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة».
وكأن البخاري فهم من بيع حبل الحبلة الغرر فلهذا بوب عليه، والحديث الذي فيه الغرر
صريحاً لم يذكره، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر».
وفي كتاب «البيوع» لأحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل زيادة: «نهى عن المضامين
والملاقيح وحبل الحبلة».
وفي «صحيح ابن حبان» عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن
بيع الغرر».
عند أحمد بسند لا بأس به عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر».
قال أحمد فيما ذكره حنبل: لم يرفعه عن زيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع غير ابن
سماك، اضرب عليه من مكانك. وحدثنا هشيم فلم يرفعه جعله من قول ابن مسعود.
وعن عمران بن حصين: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن بيع ما في ضروع
الشاة قبل أن تحلب وعن بيع الجنين في بطون الأنعام وعن بيع السمك في الماء وعن بيع
المضامين يعني الغيَّب والملاقيح وحبل الحبلة وعن بيع الغرر» رواه ابن أبي عاصم في
كتاب «البيوع».
وعن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بيع الغرر»، رواه
ابن ماجه بسند ضعيف، وقال أحمد: هو حديث منكر.
(1/149)
وعند
الدارقطني: «نهى أن يباع تمر حتى يطعم أو صوف على ظهر أو لبن في ضرع أو سمن في
لبن».
وعن شهر بن حوشب عن أبي سعيد: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شراء ما
في بطون الأنعام حتى تضع وعن ما في ضروعها إلا بكيل وعن شراء [العبد وهو آبق وعن
شراء المغانم حتى تقسم] وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة القانص».
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.
قال أبو عمر بن عبد البر: جاء تفسير هذا الحديث يعني حديث ابن عمر -كما ترى- سياقه
وإن لم يكن مرفوعاً فهو من قول ابن عمر وحسبك. وبهذا التأويل قال مالك والشافعي،
وهو الأجل المجهول، ولا خلاف بين العلماء أنَّ المبيع إلى هذا من الأجل لا يجوز.
وقال آخرون في تأويل الحديث: معناه: بيع ولد الجنين الذي في بطن الناقة.
قال أبو عبيد: هو نتاج النتاج، وبهذا قال أحمد وإسحاق.
وهذا البيع أيضا مجمع على أنه لا يجوز [ولا يحل] لأنه بيع غرر ومجهول، وبيع ما لم
يُخلق. وذلك لا يجوز في بيوع المسلمين، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث جعل التفسير عن عبد الله لقول أبي بكر في كتاب «الفصل للوصل
المدرج في النقل»: تفسير حبل الحبلة ليس من كلام عبد الله بن عمر، وإنما هو من
كلام نافع أدرج في الحديث، رواه أبو سلمة موسى بن إسماعيل التّبُوْذَكي، عن جويرية
مبيناً مفصلاً أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا أبو سهل القطان حدثنا عبد الكريم بن
الهيثم التبوذكي حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله أن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون
الجزور إلى حبل الحبلى وأن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن ذلك.
و (حَبَل الحَبَلَةِ): أن تنتج الناقة ما في بطنها وينتج الذي في بطنها فسر ذلك
نافع.
وقوله: هو بيع ولد الجنين الذي في بطن الناقة هو التفسير الأول سواء فلا حاجة كانت
به إلى ذكره.
وذكر ابن السكيت وأبو عبيد ولم أره لغيرهما من القدماء أن الحبل مختص بالآدميات،
وإنما يقال في غيرهن الحمل.
(1/150)
قال
ابن السكيت: إلَّا في حديث «نهى عن بيع حبل الحبلة» وذلك أن يكون الإبل حوامل
فيبيع حبل ذلك الحبل، انتهى.
وفي «المحكم»: كل ذات ظفر حبل.
قال الشاعر:
أو ذِيخَة حُبْلى مُجِحٍّ مُقْرِب
ونقله الجوهري عن أبي زيد.
وقال ابن دريد: يُقال لكل أنثى من الإنس وغيرهم: حبلت. وكذا ذكره الهجري والأخفش
في نوادرهما.
وفي «الجامع»: امرأة حبلى، وسنورة حبلى. وأنشد:
إن في دارنا ثلاث حبالى ... فوددنا أن لو وضعن جميعا
جارتي ثم هرتي ثم شاتي ... فإذا ما وضعن كن ربيعا
جارتي للمخيض والهر للفار ... وشاتي إذا اشتهيت مجيعا
حكاه في «الموعب» عن صاحب «العين» والكسائي.
ومعنى حبل الحبلة: حمل الكَرْمة قبل أن تبلغ، جعل حملها قبل أن تبلغ حبلاً، وهذا
كما نهى عن بيع ثمر النخل قبل أن يزهي.
قال: وقيل: هو أن يباع ما يكون في بطن الناقة، انتهى.
وهذا يرد قول النووي لقول أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات.
وفي «الغريبين»: الحبل يراد به ما في بطون النوق وأدخلت فيها الهاء للمبالغة، كما
تقول نَكَحَة وسَحَرَة.
قال صاحب «مجمع الغرائب»: ليس الهاء في الحبلة على قياس نَكَحَة، ولا مبالغة ههنا
في المعنى، ولعل الهروي طلب لزيادة الهاء وجهاً، فأطلق ذلك من غير تثبت، والله
تعالى أعلم.
وفي «المغرب» للمطرزي: حبل الحبلة مصدر حبلت المرأة، وإنما أدخلت التاء لإشعار
الأنوثة لأن معناه أن يبيع ما سوف تحمله الجنين إن كان أنثى، انتهى.
و (حَبَل الحَبَلَةِ): بفتحهما قال النووي حكي إسكان الباء في الأول، وهو غلط
والصواب الفتح.
وأمَّا (الغَرَرِ): فزعم ابن بطال أنَّه هو ما يجوز أن يوجد وألا يوجد، وكل شيء لا
يعلم المشتري هل يحصل له أم لا فشراؤه غير جائز، لأنه غرر.
قال ابن الأثير: هو ما كان على غير عهدة ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط
بكنهها المتبايعان من كل مجهول.
باب بَيْعِ المُلاَمَسَةِ
(1/151)
وَقَالَ
أَنَسٌ: نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
هذا التعليق خرجه البخاري في باب: «بيع المخاضرة» مسنداً بلفظ: «نهى رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن المحاقلة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة،
والمزابنة».
والمخاضرة: بيع التمر خضراً لم يبد صلاحها.
وزعم ابن حزم أن بيع ذلك من المغيبات وشبهها جائز، يتصرف المرء في ملكه بما شاء،
والتسليم ليس شرطاً في صحة البيع، فإن قالوا: نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
عن بيع الغرر، قلنا: ليس هذا بغرر؛ لأنه بيع شيء قد صح في ملك بائعه وهو معلوم
الصفة والقدر، فعلى ذلك يباع ويملكه المشتري.
قلنا: ليس هذا بالغرر ملكاً صحيحاً، فإن وجده وإلا اعتاض منه الآخر.
وذكر أيضاً من حديث أبي هريرة يرفعه: «نهى عن المنابذة والملامسة».
2144 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي
عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَا
سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عَنِ
المُنَابَذَةِ، وَهْيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ
قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ،
وَالمُلاَمَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ». [خ 2144]
وفي لفظ:
2145 - «نُهِيَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: المُلامَسَةِ
وَالمُنَابَذَةِ». [خ 2145]
وعند مالك عن داود عن أبي سفيان عنه: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى
عن المحاقلة والمزابنة»، والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل، والمحاقلة
كراء الأرض بالحنطة.
وفي كتاب الطَّرْقي: فسر بعضهم الملامسة في حديث أبي هريرة المذكور في كتاب الصلاة
وهو أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر أحدهما إلى ثوب الآخر ولكن
يلمسه لمساً.
(1/152)
وقيل:
أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام، فيقول له صاحبه: بعتك هذا بشرط أن
يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته. أو يجعل نفس اللمس بيعاً فيقول إذا
لمسته فهو مبيع لك أو يبيعه متاعاً على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس، وغيره.
قال النووي: وهذا البيع باطل على هذه التأويلات كلها، والله أعلم.
والمنابذة: هو أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك يشتري أحدهما من الآخر، ولا يدري
كل واحد منهما كم مع الآخر.
وقيل: أن يجعل النبذ نفس البيع، وهو تأويل الشافعي.
وقيل: يقول: بعتك، فإذا نبذته إليك فقد انقطع الخيار، ولزم البيع.
وقيل: المراد نبذ الحصاة، ونبذ الحصاة هو أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت
عليه الحصاة التي أرميها، أو: بعتك من هذه الأرض ما انتهت إليه الحصاة، أو يقول:
بعتك بأنك بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة، أو يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعاً،
فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيع منك بكذا.
وهذان البيعان عند جماعة العلماء من بيع الغرر
والقمار لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه ولا علم صفته.
ومن هذا بيع الشيء الغائب على الصفة فإن وجد كما وصف لزم المشتري ولا خيار له إذا
رآه، وإن كان على غير الصفة فله الخيار، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق، وهو مروي عن
ابن سيرين وأيوب والحارث العُكْلي والحكم وحماد. ذكره ابن حزم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز بيع الغائب على الصفة وغير الصفة، وللمشتري خيار
الرؤية، وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس والنخعي والشعبي والحسن البصري ومكحول وهو قول
الأوزاعي وسفيان، كأنهم استندوا إلى ما رواه الدارقطني عن أبي هريرة بسند ضعيف
يرفعه: «من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه».
والمحاقلة: قيل هي بيع الزرع في سنبله بمقدار من الغلة معلوم.
(1/153)
وقال
أبو عبيد: مأخوذ من الحقل، وهو الذي يسميه الناس: القراح بالعراق. وفي الحديث: «ما
تصنعون بمحاقلكم؟» أي: بمزارعكم. وتقول للرجل: احقل، أي: ازرع.
وإنما وقع الحظر في المحاقلة والمزابنة لأنهما من الكيل، وليس يجوز شيء من الكيل
والوزن إذا كانا من جنس واحد إلا يداً بيد، ومثلا بمثل، وهذا مجهول لا يدرى أيهما
أكثر.
وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن يغلظ سوقه.
قال: فإن كانت المحاقلة مأخوذة من هذا فهو ببيع الزرع قبل إدراكه.
قال: والحقلة المزرعة، وقيل: لا يثبت البقلة إلا الحقلة.
وقيل: بيع الزرع قبل أن يطيب.
وقيل: هو حقل ما دام أخضر.
وقيل: هي المزارعة بالثلث والربع أو نحوه مما يخرج منها، فيكون كالمخابرة. انتهى.
يرد هذا ما رواه جابر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن المخابرة
والمحاقلة» والمحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بما به فرق حنطة والمخابرة كراء الرض
بالثلث والربع.
قال ابن جريج: فقلت لعطاء: أَفسَّرَ لكم جابر في المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم.
والمزابنة: أن يبيع الرجل التمر في رؤوس النخل بمئة فرق.
فهذا يوضح لك أن المخابرة غير المحاقلة، وزعم الشافعي أن تفسير
المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن تكون عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
منصوصاً، ويحتمل أن يكون عن رواية من دونه، والمحاقلة في الزرع كالمزابنة،
والمخابرة هي المزارعة على الجزء والخبرة بالضم هو النصيب.
قال ابن قرقول: سميت زمن خيبر لمعاملة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إياهم على
الجزء من ثمارها فقيل: خابرهم، ثم تنازعوا فنهوا عنها ثم جازت بعد. هذا قول ابن
الأعرابي وغيره يأباه.
وقيل: إنها لفظة مستعملة، والأكار: يقال له الخبير لعلمه في الأرض.
وقيل: مشتقة من الخبار وهي الأرض اللينة.
وقال ابن الأنباري: مأخوذة من خيبر؛ لأن أول هذه المعاملة كان فيها.
(1/154)
وقال
ابن عبد البر: أقل أحوال هذا التفسير إن لم يكن مرفوعاً فهو من قول أبي سعيد
الخدري، وقد أجمعوا أن من روى شيئاً وعلم مخرجه سلم له تأويله؛ لأنه فهم مخرج
القول فيه فهو أعلم به.
وقد جاء تفسير المزابنة عن ابن عمر وجابر المذكورين في الصحيح وحديث ابن عمر
والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا.
وفي لفظ: والمزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، أو زبيب إن
كان كرماً أو حنطة إن كان زرعاً.
وقال سفيان: المخابرة كراء الأرض بالحنطة، والمزابنة بيع ما في رؤوس النخل بالتمر،
والمحاقلة: بيع السنبل من الزرع بالحب المصفى.
المنابذة تقدم.
باب النَّهْىِ لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالغَنَمَ وَالبَقَرَ
وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ
وَالمُصَرَّاةُ التِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ، وَجُمِعَ فَلَمْ تُحْلَبْ
أَيَّامًا. وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ المَاءِ، يُقَالُ منه: صَرَّيْتُ
المَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ.
المحفلة: هي المصراة، مأخوذ من حفل الناس، واحتفلوا: أي اجتمعوا وكثروا، وكل شيء
كثرته فقد حفلته، ولما كانت التصرية في الإبل والغنم والبقر يؤخر صاحبها حلبها
أياماً حتى يجتمع لبنها في
ضرعها، فإذا جاء من يطلبها يحسبها غزيرة اللبن فيزيد في ثمنها، ثم يظهر له بعد ذلك
نقص لبنها عن أيام تحفُّلها.
وفي «المحكم»: حَفَلَ اللَّبنُ فِي الضَّرْع يَحْفِلُ حَفْلًا وحُفُولًا
وتَحَفَّلَ واحْتَفَلَ: اجْتَمَعَ؛ وحَفَلَه هُوَ وحَفَّلَه، وضَرْع حَافِل،
والجمع حُفَّل، وناقة حَافِلَة وحَفُول، وحَفَل الشيء يَحْفِلُه حَفْلاً
والتَّحَفُّل التزين وكذلك التَّحْفِيْل.
قال: وصَرِيَت الناقة، وصَرَت وأَصْرَت: تحفَّل لبنها في ضرعها، وصَرَيْت الناقة
وغيرها من ذوات اللبن، وصَرَّيتها وأَصْرَيْتُها: حفَّلْتها. وناقة صَرْيَاء:
مُحَفَّلة، وجمعها: صَرَايَا، على غير قياس.
(1/155)
2148
- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ
فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بعد أَنْ يَحْلِبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ،
وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ». [خ 2148]
هذا خرجه الستة في كتبهم، ولما ذكر ابن حزم الذين رووه عن الأعرج والذين رووه عن
أبي هريرة قال: هؤلاء الأئمة الأثبات الثقات رواه عنهم من لا يحصيهم إلا الله جل
وعز فصار نقل كأنه متواتر لا يرده إلا محروم غير موفق.
وقال البخاري:
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَمُوسَى
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صَاعَ
تَمْرٍ».
التعليق عن أبي صالح رواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن سهيل
عن أبيه أبي صالح فذكره.
وخرج أيضاً التعليق عن موسى بن يسار، عن القعنبي عن داود بن قيس عن موسى بن يسار
عن أبي هريرة فذكره.
والذي علقه عن مجاهد لم أر إلا ما في «مسند البزار»: حدثنا محمد بن موسى القطان
حدثنا عمر بن لبان حدثنا محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عنه عن أبي هريرة، الحديث،
وفيه: «من ابتاع مصراة فله أن يردها وصاعاً من طعام».
وقال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي
هريرة إلا محمد بن مسلم، ورواه عن محمد بن مسلم عمران وأبو حذيفة.
والتعليق عن الوليد بن رباح رواه ... .
وقال البخاري:
وَقَالَ بَعْضُهُمْ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ».
هذا التعليق رواه مسلم عن العقدي عن قرة عنه عن أبي هريرة وفيه: «وهو بالخيار
ثلاثة أيام»، وفيه: «صاعا من طعام لا سمراء».
قال البيهقي: المراد بالطعام هنا التمر لقوله: «لا سمراء».
(1/156)
وكذا
رواه عوف عن الحسن مرسلاً وفيه: «إناء من طعام أو يأخذها».
قال: ورواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أنس مرفوعاً وفيه: «صاعاً من تمر».
وفي حديث عوف عن ابن سيرين عن أبي هريرة: «هو بالخيار إن شاء ردها وإناء من طعام».
قال البخاري:
وَقَالَ بَعْضُهُمْ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «صَاعًا مِنْ تَمْرٍ». وَلَمْ يَذْكُرْ
ثَلاَثًا.
هذا التعليق رواه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان عن أيوب عن محمد فذكره.
ورواه البيهقي من طريق يزيد بن هارون حدثنا هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ: «من
اشترى مصراة فردها فليرد معها صاعا من تمر لا سمراء».
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد عن أبي أسامة عن هشام بن حسان
عن محمد وفيه: «وهو بالخيار ثلاثة أيام وقال صاعا من تمر لا سمراء» يعني الحنطة
قال البخاري: وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ.
وذكر البخاري في حديث الأعرج عن أبي هُرَيْرَةَ: «ولاَ تُصَرُّوا الغَنَمَ، ومَنِ
ابْتَاعَهَا فهو بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا: إن رضيها
أمسكها، وإن سخطها رَدَّهَا وَصَاعَاً من تَمْرٍ». [خ 2148]
وفي لفظ: «ففي حلبتها صاع من تمر»
وفي حديث المعتمر: حدثنا أبي، حدثنا أبو عثمان عن ابن مسعود: «من اشترى شاة محفلة
فردها فليرد معها صاعاً من تمر».
أن تلقى البيوع.
قال الإسماعيلي: حديث المحفلة من قول ابن مسعود، وقد رفعه أبو خالد الأحمر، عن
التيمي، أخبرنا به القاسم حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد فذكره.
قال: ورواه ابن المبارك ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي ويزيد بن زريع وقاسم وجرير
وغيرهم موقوفًا على ابن مسعود. حديث المحفلة.
قال: وقرأت على عمران بن موسى عن ... عن عبيد الله بن معاذ حدثنا المعتمر، قال
قال: أبي أخبرنا أبو عثمان، عن عبد الله قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من
اشترى شاة محفلة فردها، فليرد معها صاعًا من تمر».
(1/157)
وفي
«سنن سعيد بن منصور» عن فليح عن أيوب عن عبد الرحمن عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي
هريرة يرفعه: «من اشترى شاة مصراة فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وصاعاً من لبن».
وفي «المصنف» لابن أبي شيبة من حديث ابن أبي كثير، عن أبي كثير عن أبي هريرة
يرفعه: «إذا باع أحدكم اللقحة أو الشاة فلا يحفلها».
أخبرنا أبو الأحوص عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه: «لا تستقبلوا ولا تحفلوا»، وقال
قيس بن أبي حازم كان يقال: التصرية خلابة.
وعند ابن ماجه من حديث المسعودي عن جابر، عن أبي الضحى، عن مسروق عن ابن مسعود أنه
قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «بيع
المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم».
وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي الضحى إلَّا من حديث جابر الجعفي.
وعنده أيضاً من حيث جميع بن عمير - وفيه كلام شديد - عن ابن عمر قال رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد
معها مثل أو مثلي لبنها قمحا».
قال ابن قدامة: هذا حديث مطرح الظاهر بالاتفاق؛ إذ لا قائل به مع شك الراوي أيضا
ومخالفة الأحاديث الصحاح.
وعند البيهقي من حديث شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنه نهى أن
يتلقى الجلَّاب وأن يبيع حاضر لباد ومن اشترى مصراة فهو بخير النظرين فإن حلبها
ورضيها أمسكها وإن ردها رد معها صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر».
قال البيهقي يحتمل أن يكون هذا الشك من بعض الرواة لا
أنه على وجه التخيير ليكون موافقاً للأحاديث الفائتة في هذا الباب.
ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» فذكر المصراة عن وكيع حدثنا شعبة عن الحكم وفيه:
«صاعا من تمر أو صاعا من طعام» فلا حاجة إذاً إلى ما ذكره البيهقي، ولا التفات إلى
من قال: هو مضطرب، كما سيأتي.
(1/158)
قوله:
(لا تُصَرُّوا) كذا هو مضبوط بضم التاء وفتح الصاد، وضم الراء المشددة بعدها واو
الجمع.
و (الإِبِلَ): بالنصب، قال القرطبي نحو: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:
32] وهو الصحيح تقييدًا ولغة.
قال: وقد قيده بعضهم: «لا تَصُرُّوا الإبلَ» بفتح التاء، وضم الصاد، ونصب
«الإبلَ». وبعضهم: بضم التاء وفتح الصاد، ورفع «الإبلُ» والأول هو الصحيح.
قال ووجهه: أنها مأخوذة من: صَرَّيت اللبن في الضَّرع: إذا جمعته. وليست من الصَّر
الذي هو الربط، ولو كان من ذلك لقيل فيها: مُصَرورة. وإنما جاء: مصراة. وإلى معناه
ذهب أبو عبيد وغيره.
وعلى هذا: فأصل «تُصَروا الإبل»: تصريوا، استثقلت الضمَّة على الياء، فنقلت إلى ما
قبلها؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضمومًا فانقلبت الياء واواً، فاجتمع
ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وبقيت واو الجمع.
و (الإبلَ): ينصب على أنه مفعول (تُصَرُّوا). هذا أحسن ما قيل في هذا، وأجراه على
القياس.
وقال النووي: يحتمل أنْ يكون أصل المصراة مُصَرَّرة، أُبدلت إحدى الراءين، كقوله
تعالى: {دَسَّاهَا} [الشمس: 10] أي: دسسها، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس، قال:
ويحتمل أن يكون أصلها مصرورة، فأبدل من إحدى الراءين ياءً، كما قالوا: تَقَضِّيَ
البازي.
ومعنى التصرية عند الفقهاء: أن يجتمع اللبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم
الضرع.
وعند الشافعي: هو أن يربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها.
قال الخطابي: وقول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح.
والتصرية حرام سواء تصرية الناقة والشاة والجارية والأتان والفرس لأنه غش وخداع
وبيعها صحيح مع أنه حرام، وللمشتري
الخيار في إمساكها وردها.
قال الأصحاب في خيار المشتري لها: هل هو على الفور وبعد العلم؟ أو ممتد ثلاثة أيام
لظاهر الأحاديث؟
(1/159)
والأصح
عندهم أنه على الفور، ويحملون التقييد بثلاثة لأن الغالب أنه لا يعلم فيما دون
ذلك، وإذا ردها رد معها صاعاً من تمر سواء كان اللبن قليلا أو كثيرا، سواء كانت
ناقة أو بقرة أو شاة، وهذا مذهب الشافعي ومالك في رواية عنه والليث وابن أبي ليلى
وأبي يوسف وأبي ثور، وفقهاء المحدثين.
وقال بعض أصحاب الشافعي يرد صاعاً من قوت البلد ولا يختص بالتمر.
وقال أبو حنيفة، وطائفة من أهل العراق، وبعض المالكية، ومالك في رواية عنه غريبة،
يردها ولا يرد صاعًا من تمر، لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئا لغيره رد مثله إن كان
مثلياً وإلا فقيمته وأما جنس آخر من العروض فخلاف الأصول.
وعن القرطبي لم يأخذ به أبو حنيفة والكوفيون ومالك وابن أبي ليلى في رواية.
قال أبو حنيفة ومحمد: التصرية ليس بعيب، ولا يردّ به. وحكي عن أبي حنيفة: أنه يرجع
بأرش التصرية.
ولهذا الخلاف سببان:
أحدهما: أن هذا الحديث يعارضه قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في: «الخراج بالضمان».
المخرج عند الترمذي مصححاً من حديث لابن عباس.
وعند الحاكم صحيحاً من حديث الزنجي عن هشام عن أبيه عن عائشة مثله، ثم قال: رواه
ابن أبي ذئب عن مخلد عن عروة عنها مختصراً، قال: وفي حديث عاصم بن علي بسنده عن
عائشة: «قضى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن الخراج بالضمان».
رواية الثوري أخبرناه [أبو] بكر الصيرفي، حدثنا عبد الصمد بن الفضل حدثنا قبيصة بن
عقبة عنه.
ورواه أيضا ابن المبارك ويحيى بن سعيد.
وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الخراج بالضمان قلت: هشام بن عروة رواه؟ قال:
لم يروه إلا مسلم بن خالد.
وقال مهنا عن [حماد بن سلمة فحدث به] عن هشام عن أمه، عن عائشة: «الخراج بالضمان».
[لا وإنما المتحدث] به ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن
عروة عن عائشة.
وقال: كان إذا جاؤوه بهذا الحديث في كتاب حدث به، عن ابن أبي ذئب وإذا سألوه عنه
يحدث به، وما أدري لهذا الحديث أصلاً.
(1/160)
وأخرج
الترمذي هذا الحديث عن أبي سلمة ويحيى بن خلف حدثنا عمر بن علي عن هشام. قال: حديث
حسن صحيح غريب من حديث هشام.
واستغربه محمد بن إسماعيل من حديث عمر بن علي، ورواه جرير عن هشام أيضاً.
وحديث جرير يقال تدليس، ذكر فيه جرير ولم يسمعه من هشام، ولما ذكر حديث ابن خفاف
حسنه.
وقال في «العلل»: قال محمد: لا أعلم لمخلد غير هذا الحديث وهو حديث منكر. قلت:
فحديث هشام؟ قال: إنما رواه الزنجي وهو ذاهب الحديث. قلت: قد رواه عمر بن علي عن
هشام، فلم يعرفه من حديث عمر. فقلت: ترى أن عمر ذكر فيه، فقال: لا أعرف عمر بن
علي. قلت له: رواه جرير عن هشام؟ فقال: قال محمد بن حميد: إن جريراً روى هذا في
المناظرة ولا يدرون له فيه سماعاً. وضعف محمد حديث هشام في هذا الباب.
وخرج ابن حبان حديث مخلد في «صحيحه»، وقال أبو علي الطوسي: يقال هذا حديث صحيح
غريب.
وقال ابن حزم: هذا خبر فاسد.
وقال ابن القطان قال المنتجالي: مخلد ثقة.
قال: فالحديث على هذا صحيح، ووجه ذلك أن مشتري المصراة ضامن لها لو هلكت عنده
واللبن غلة فيكون له.
الثاني: أنه معارض لأصول شرعية وقواعد كلية:
أحدها: أن اللبن مما يضمن بالمثل، والتمر ليس بمثل.
الثاني: أنه لما عدل عن المثل إلى غيره فقد نحا به نحو المبايعة، فهو: بيع الطعام
[بالطعام غير يد بيد، وهو الرِّبا.
الثالث: أن الصَّاع] المقابل [للَّبن محدودٌ]، واللَّبن ليس بمحدود، [فإنَّه
يختلف] بالكثرة والقلَّة.
الرابع: أن اللبن غلَّة، فيكون للمشتري كسائر المنافع، فإنها لا تردُّ في الردّ
بالعيب ولما كان ذلك، فالحديث وإن كان صحيحًا؛ فهو منسوخ بقوله: «الخراج بالضمان»،
وإما مرجوح بما ذكروا من القواعد المخالفة، فإنها قواعد كلية.
قال ابن عبد البر: قال مالك: أو لأحد في الأخذ بهذا الحديث رأي.
(1/161)
قال
ابن القاسم: وأنا آخذ به؛ إلا أن مالكاً قال لي: أرى أهل البلدان إذا نزل بهم هذا
أن يعطوا الصاع من عيشهم. قال: وأهل مصر عيشهم الحنطة.
وزعم أبو حنيفة أنه كان قبل تحريم الربا.
وروى أشهب عن مالك نحو ذلك أنه سئل عن هذا الحديث فقال: سمعت ذلك وليس بالثابت ولا
الموطَّأ عليه. قيل له: نراك تضعف الحديث. قال: كل شيء يوضع موضعه وليس بالموطأ
ولا الثابت وقد سمعته.
قال: واعتلوا في جواز دعوى النسخ في ذلك قالوا: كما نسخت العقوبات بالغرامات. ولم
يجعلوا حديث المصراة أصلًا يقيسون عليه ولد الجارية إذا ولدت عند المشتري ثم اطلع
على عيب لأنهم اختلفوا في ذلك: فقال مالك: يردها وولدها على البائع.
وقال الشافعي: يحبس الولد لنفسه لأنه حدث في ملكه، قالوا: ومعلوم أن في لبن
المصراة جزءاً حادثاً في ملك المشتري في الحلبة الأولى لأن اللبن يحدث بالساعات
فقد أثر في هذا الحديث برد ما حدث من ذلك في ملك المبتاع وهذا يعارضه حديث الخراج
فلهذا لم يجعلوا هذا الحديث أصلاً يقيسون عليه يعني المصراة.
قال أبو عمر: وقيل نسخه {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ} [النحل: 126] قالوا: ولا يجب فيمن استهلك لأحد شيئاً إلا مثله أو قيمته
ومنهم من قال: نسخه الخراج بالضمان والكالئ بالكالئ.
وقال: نسخت كما نسخت العقوبات في الغرامات بأكثر من المثل ... تؤخذ منه ... التمر
من غير ... غرامة مثله.
قال ابن التين ومن جملة ما [ردوا به] حديث المصراة بالاضطراب قال: مرة صاعاً من
تمر ومرة صاعاً من طعام ومرة مثل أو مثلي
لبنها قمحاً.
وأيضاً: إن الحديث وإن وقع بنقل العدل الضابط عن مثله إلى قائلة لا بد في اعتباره
أن يكون غير شاذ ولا معلول، واختلف الناس في التعليل:
(1/162)
فأبو
حنيفة اعتبر أن مخالفته عموم الكتاب والسنن المشهورة علة في التوقف عن العمل بظاهر
الحديث، وهذا الحديث كما ترى يعارضه قوله جل وعز: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وبحديث الخراج ونحوه من أدلة إيجاب
المثل الكامل أو الناقص.
وقال الطحاوي: قال محمد بن شجاع: نسخه حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فلما
قطع صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالفرقة الخيار ثبت بذلك ألا خيار لأحد بعد هذا إلا
لمن استثناه سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا وهو قوله لا بيع
الخيار.
قال الطحاوي: وهذا عندي فاسد لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب
وخيار العيب لا تقطعه الفرقة.
وقال عيسى بن أبان: كان ذلك في أول الإسلام حيث كانت العقوبات في الديون حتى نسخ
الله الربا فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها.
وقال ابن حزم: صح عن ابن مسعود من اشترى محفلة فليرد معها صاعا من تمر. وصح أيضا
عن أبي هريرة من فتياه ولا مخالف لهما من الصحابة في ذلك.
وعن زفر: يردها وصاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو نصف صاع من برٍّ.
وقال ابن أبي ليلى في أحد قوليه وأبو يوسف: يردها وقيمةَ صاعٍ من تمر.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إن كان اللبنَ حاضرًا لم يتغيَّر ردها ورد اللبن، ولا يرد
معها صاع تمر [ولا شيئًا، وإن كان قد أكله لم يكن له ردها] لكن يرجع بقيمة العيب
فقط.
وعن داود: لا يثبت [الخيار] بتصرية البقر؛ لأنها ليست مذكورة في الحديث.
قال ابن عبد البر: واختلف المتأخرون من أصحاب
مالك في مشتري عدد من الغنم فوجدها كلها مصراة، فبعضهم قال: يرد عن كل واحدة صاعاً
من تمر، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال بعضهم: يرد عن جميعها صاعاً واحداً من تمر
أو صاعاً من عيش بلده.
(1/163)
قال
ابن قدامة: فمن اشترى مصراة من غير الأنعام كالأمة والأتان والفرس ففيه وجهان:
أحدهما يثبت له الخيار، وهو مذهب الشافعي لعموم قوله: «من اشترى مصراة ومن اشترى
محفلة»، ولأنه تصرية ما يختلف الثمن فيه فثبت الخيار لتصرية الأنعام.
الثاني: لا يثبت له الخيار.
قال ابن التين: اختلف إذا ردها - يعني المصراة - بغير عيب التصرية فعن أشهب هل يرد
الصاع معها أم لا؟
قال أبو عمر: وأما قوله: «لا تلقوا الركبان» فقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة،
فرواية الأعرج عن أبي هريرة: «لا تلقوا الركبان».
وفي رواية ابن سيرين عنه: «لا تلقوا الجلب».
ورواية أبي صالح وغيره: «نهى أن تتلقى السلع حتى تدخل الأسواق».
وروى ابن عباس: «لا تستقبلوا السوق ولا يتلق بعضكم لبعض».
والمعنى واحد.
فحملة مالك على أنه لا يجوز أن يشتري أحد من الجلب والسلع الهابطة إلى الأسواق
وسواء هبطت من أطراف المصر أو من البوادي حتى يبلغ بالسلعة سوقها.
وقيل لمالك: أرأيت إن كان ذلك على رأس ستة أميال؟ فقال: لا بأس بذلك، والحيوان
وغيره في ذلك سواء.
وعن ابن القاسم: إذا تلقاها متلق واشتراها قبل أن يهبط بها إلى السوق، قال ابن
القاسم: تعرض فإن نقصت عن ذلك الثمن لزمت المشتري.
قال سحنون: وقال لي غير ابن القاسم يفسخ البيع.
وقال الليث: أكره تلقي السلع وشراءها في الطريق لو على بابك حتى تقف السلعة في
سوقها؛ وسبب ذلك [الرفق بأهل الأسواق] لئلا ينقطع بهم [عما له جلسوا] يبتغون من
فضل الله تعالى، فنهوا عن ذلك؛ لأن في ذلك إفساداً عليهم.
وقال الشافعي: رفقاً بصاحب السلعة لئلا يبخس في ثمن سلعته.
وعند أبي حنيفة: من أجل الضرر، فإن لم يضر
بالناس تلقي ذلك لضيق المعيشة، وحاجتهم إلى تلك السلعة، فلا بأس بذلك.
(1/164)
وقال
ابن حزم: لا يحل لأحد تلقي الجلب، سواء خرج لذلك أو كان ساكناً على طريق الجلاب،
وسواء بعد موضع تلقيه أو قرب، ولو أنه عن السوق على ذراع فصاعداً، لا لأصحابه ولا
لقوت ولا لغير ذلك، أضر ذلك بالناس أو لم يضر، فمن تلقى جلباً أي شيء كان فإن
الجالب بالخيار إذا دخل السوق متى ما دخله، ولو بعد أعوام في إمضاء البيع أو رده.
واحتج بحديث علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وابن عباس في النهي
عن ذلك، ثم قال: هذا نقل متواتر رواه خمسة من الصحابة وأفتى به أبو هريرة وابن عمر
ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة أجمعين، انتهى.
حديث علي رواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن عبد الملك عن أبيه عن علي ونوفل ضعيف.
بابُ بَيْع الْعَبْدِ الزَّانِي
وَقَالَ شُرَيْحٌ: إنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا.
هذا التعليق ذكره أبو ... .
2152 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ، حَدثنَا اللَّيْثُ، حدَّثني سَعِيدٌ
المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ قَالَ
النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذَا زَنَتِ الأمَةُ فتَبَيَّنَ زِناهَا
فَلْيَجْلِدْهَا ولاَ يُثَرِّبْ فإنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا ولَوْ
بِحَبْلٍ مِنْ شَعر». [خ 2152]
وفي رواية أيوب بن موسى: «فليجلدها الحد».
قال أبو عمر: لا نعلم أحدًا ذكر فيه الحد غيره.
وقال الدارقطني: رواه ابن جريج وإسماعيل بن أمية وأسامة بن يزيد وعبد الرحمن بن
إسحاق وأيوب بن موسى ومحمد بن عجلان وابن أبي ذئب وعبيد الله بن عمر العمري،
فقالوا: عن سعيد، عن أبي هريرة، لم يذكروا أبا سعيد.
وفي مسلم كذلك، وذكره البخاري في كتاب المحاربين متابعة من جهة إسماعيل ابن أمية.
قال الدارقطني: والمحفوظ حديث الليث، والله تعالى أعلم.
(1/165)
2153
- 2154 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ
وَلَمْ تُحْصِنْ قَالَ: «إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ
فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ». [خ 2153 - 2154]
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ.
هذا خرجه الستة في كتبهم.
قوله: (وَلَمْ تُحْصِنْ) قال الطحاوي: لم يقل هذِه اللفظة غير مالك بن أنس عن
الزهري.
قال أبو عمر: هي في رواية ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب، كما رواه مالك.
قال ابن عبد البر: تابع مالكًا على سند هذا الحديث يونس بن يزيد ويحيى بن سعيد،
ورواه عقيل والزبيدي وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله، عن شبل بن حامد
المزني أنَّ عبد الله بن مالك الأوسي أخبره أنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم سُئل عن الأمة، الحديث.
إلَّا أنَّ عقيلًا وحده قال: مالك بن عبد الله، وقال الآخران: عبد الله بن مالك،
وكذا قال يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن شبل بن حامد عن عبد الله بن مالك الأوسي،
فجمع الإسنادين جميعًا في هذا الحديث، وانفرد مالك بإسناد واحد.
وعند عقيل والزبيدي وابن أخي الزهري فيه أيضًا إسناد آخر عن ابن شهاب عن عبيد الله
عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئل عن الأمة
إذا زنت. الحديث.
هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث، جعل شبلًا مع أبي هريرة وزيد، فأخطأ وأدخل
إسناد حديث في آخر، ولم يقم حديث شبل.
قال أحمد بن زهير: سمعت يحيى يقول: شبل لم يسمع من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
شيئًا.
(1/166)
وفي
رواية: [ليست له صحبة]، يقال: شبل بن معبد، وشبل بن حامد، روى عن عبد الله بن
مالك، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال يحيى: وهذا عندي أشبه.
وقال محمد بن يحيى النيسابوري: جمع ابن عيينة في حديث: أبا هريرة
وزيد بن خالد وشبلًا، وأخطأ في ضمه شبلًا إلى أبي هريرة وزيد بن خالد في هذا
الحديث.
قال: وإن كان عبيد الله بن عبد الله قد جمعهم فيه، فإنه رواه عن أبي هريرة وزيد عن
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعن شبل، عن عبد الله بن مالك، عن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم فترك ابن عيينة عبد الله، وضم شبلًا إلى أبي هريرة وزيد فجعله
حديثًا واحدًا، وإنما ذا حديث وذاك حديث، وقد ميزهما يونس بن يزيد، وتفرد معمر
ومالك بحديث أبي هريرة وزيد.
قال: وروى الزبيدي وابن أخي الزهري وعقيل حديث شبل فاجتمعوا على خلاف ابن عيينة.
قال أبو عمر: كذا قال محمد بن يحيى: إن معمراً ومالكًا تفردا بحديث أبي هريرة
وزيد، وقد تابعهما يحيى بن سعيد الأنصاري. انتهى
قد خرج البخاري أيضًا هذا الحديث من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد
الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد، فذكره.
وأما تخريجه في كتاب الترمذي وحكم بصحته عن الأشج عن أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة. فغير جيد لأن النسائي لما رواه في كتابه أدخل حبيب بن أبي
ثابت بين الأعمش وأبي صالح.
وعند النسائي أن رجلاً أتى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إن جاريتي زنت
وتبين زناها. قال: «اجلدها خمسين» ثم أتاه فقال: عادت وتبين زناها. قال: «اجلدها
خمسين» ثم أتاه فقال: عادت. قال: «بعها ولو بحبل من شعير».
وفي لفظ من حديث الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة في الرابعة أو الثالثة بعها ولو
بضفير، قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ.
(1/167)
ولما
ذكر أبو عمر [حديث عمارة بن أبي فروة، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة
مرفوعًا: «إذا زنت الأمة» الحديث، قال: ورواه إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن حميد،
عن أبي هريرة، قال فإن الطريقين جميعا خطأ].
وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي جميلة عن علي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أُخبر بأمة فجرت، فأرسلني إليها فقال: «أقم عليها الحد»، ثم قال: «أقيموا الحدود
على ما ملكت أيمانكم».
وممن كان يجلدها إذا زنت أو يأمر برجمها ابن مسعود وأبو برزة وسيدة نساء العالمين
فاطمة رضي الله عنها وزيد بن ثابت وأبو المهلب وإبراهيم النخعي وابن عمر وأشياخ
الأنصار -قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى- وعلقمة والأسود وأبو جعفر محمد بن علي وأبو
ميسرة.
قوله: (فتَبَيَّنَ زِناهَا) يريد إما بالبينة أو بالحبل أو بالإقرار.
والأمة: المملوكة، وجمعها إماء، وإموان.
قال القتال الكلابي أنشده المبرد:
أنا ابن أسماء أعمامي لها وأبي إذا ترامى بنو الإموان بالعار
وهل يجلدها السيد أم لا؟
وبالأول قال مالك والشافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يقيمه إلَّا بإذن الإمام بخلاف التعزير، احتج في «الهداية»
بأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أربع إلى الوالي» فذكر منها الحدود.
وهل يكتفي السيد بعلم الزنا أو لا؟
عند المالكية في هذا روايتان، قال القرطبي: إذا كانت متزوجة بأجنبي لم يقمه سيدها
ومنهم من لم يفرق بين التزويج وغيره.
وقوله: (ولاَ يُثَرِّبْ) لا يوبخ ويلوم وينكث ويعير على الذنب، كأنه يقول لا يكتفي
بذلك ويعطل الحد الواجب عليها، ولأن الإكثار من اللوم يزيل الحياء والحشمة، وغالب
أحوال العبيد عدم الاندفاع باللوم، وإنما يظهر أثر ذلك في لحر لقول ابن مفرغ:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامة
ولما أخذه ... .
وفي الحديث أنَّ الأمة لا تُرجم سواء كانت [متزوجة أم لا، والزاني إذا] حد ثم زنى
ثانيًا لزمه حد آخر على ذلك الأئمة الأربعة.
(1/168)
(فَلْيَبِعْهَا
ولَوْ بِحَبْلٍ) والبيع واجب، وذكر الحبل بمعنى التقليل والتزهيد في الزانية.
واستنبط منه بعضهم جواز البيع بالغبن، قال: لأنه بيع خطير بثمن يسير.
قال القرطبي وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الغبن المختلف فيه إنما هو بيع الجاهلة من
المغبون، وأمَّا مع علم البائع بقدر ما باع وما قبض فلا يختلف فيه، لأنه عن علم
منه ورضا، فهو إسقاط لبعض الثمن، لا سيما أن الحديث خرج على جهة التزهيد وترك
الغبطة.
واختلفوا في قوله: (وَلَمْ تُحْصِنْ) فقيل: لم تعتق، ويكون فائدته أنها لو زنت وهي
مملوكة فلم يحدها سيدها حتى عتقت لم يكن له سبيل إلى جلدها.
وقيل: ما لم تتزوج، وفائدته إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد فلو كان ملكه جاز للسيد
ذلك لأن حقهما حقه.
وقيل: لم تسلم وفائدته أن الكافرة لا تحد وإنما تعزر وتعاقب وعلى هذا فيكون الجلد
المأمور به تعزيراً لا حداً.
قال القرطبي: كل هذا إنَّما يتنزل على أن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
علَّق الجلد المأمور به في الجواب على نفي الإحصان المأخوذ قيدًا في السؤال، وعلى
القول بدليل الخطاب. وحينئذ يكون هذا الحديث على نقيض قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25] فإن شرط الجلد في الحديث نفي الإحصان، وشرط الحدِّ في
الآية ثبوت الإحصان، فلا بدَّ أن يكون أحد الإحصانين غير الآخر. ولو قرَّرناه
واحدًا فيهما للزم أن يكون الجلد المترتب على الإحصان مثبتاً في الآية.
وقد اختلف في إحصان الآية الكريمة كما اختلف في الإحصان المنفي في الحديث:
فقال قوم: هو الإسلام. قاله ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. فعلى هذا: فلا
تُحدُّ كافرةٌ.
وقال آخرون: هو التزويج. قاله علي وابن عباس، وابن جبير، ومجاهد
وعلى هذا فتُحدُّ المتزوجة وإن كانت كافرة، قال الشافعي.
(1/169)
وقال
آخرون: هو الحرية. روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، وعلى هذا: فلا تُحدُّ أمةٌ بوجه
وإن كانت مسلمة، لكنها يعزرها سيِّدها.
وكل هذا الخلاف أوجبه اشتراك لفظ الإحصان.
والذى يرفع الإشكال عن الحديث إن شاء الله تعالى: أن نفي الإحصان إنما هو من قول
السَّائل، ولم يصرَّح النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأخذه قيدًا في الجلد. فيحتمل
أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعرض عنه، وأتى بالجلد مطلقًا.
ويشهد لهذا التأويل أن الأحاديث الواردة في جلد الأمة إذا زنت ليس فيها ذكر لذلك
القيد من كلامه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقوله: «إذا زنت أمة أحدكم».
قال: ولو سلمنا أن ذلك القيد من كلامه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتنزلنا على القول
بدليل الخطاب فأولى الأقوال به أن يحمل على التزويج.
ويستفاد منه صحة مذهب مالك رفعا للاشتراك، وتنزيلاً للحديث على فائدة مستجدَّة.
قال: والذي يحسم مادة الإشكال عن الآية والحديث حديث علي: «أقيموا على أرقائكم
الحدّ، من أحصن منهم ومن لم يحصن».
وهذا الحديث وإن كان موقوفًا على علي في كتاب مسلم، فقد رواه النسائي مرفوعا بهذا
اللفظ، قال: فتُحدُّ الأَمَة على أي حال كانت.
ويعتذر عن الإحصان في الآية بالذكر فإنه أغلب حال الإماء أو الأهم في مقاصد الناس،
لا سيما إذا حمل الإحصان على الإسلام.
وإذا باعها عرَّف بزناها، لأنَّه عيبٌ، ولعل السيِّد الثاني يُعِفُّها بالوطء، أو
يبالغ في التحرز عليها، أو يزوجها أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها والتوسعة
عليها وشبه ذلك.
[ ... ابن ... ] بأن فقهاء الأمصار على أنَّه كالأمة إلا أهل الظاهر فقالوا يجلد
مئة جلدة مصيراً إلى قوله جل وعز: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} [النور: 2] انتهى.
الآية الكريمة ترد قولهم لأنه قال: كل واحد. ولا قائل [بحد الأمة جلد] مئة لا نحن
ولا هم.
(1/170)
وزعم
ابن عبد البر أن من قرأ «أَحصنَّ» بفتح الألف فمعناه: تزوجن وأسلمن، ومن قرأ
أُحصنَّ بضم الألف فمعناه: زوجن
قال الطحاوي: وزعم بعضهم أن قوله: (فَاجْلِدهَا) على التأديب لا الحد، وقال:
ويحتمل أنَّ الله تعالى أعلم نبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ حد الإماء إذا
زنين قبل الإحصان جلد خمسين، فأعلم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك الناس.
وكان الشطر فيهن بعد الإحصان بالتزويج ما هو أغلظ من ذلك إذ كان هو المفعول
بالقياس على الحرائر، ثم أبان الله عز وجل أنَّ حكمهن بعد الإحصان كحكمهن قبله
تخفيفًا ورحمة بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] الآية.
حديث يزيد تقدم.
باب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ؟ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ
يَنْصَحُهُ؟
وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ
أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ».
هذا التعليق رواه مسلم في الاستئذان عن قتيبة ويحيى بن أيوب وابن حجر عن إسماعيل
بن جعفر عن العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قال: «حق المسلم على المسلم ست» فذكر منها: «وإذا استنصحك فانصح له».
وعند البيهقي من حديث حمزة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الزبير عن جابر قال رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه» انتهى.
كذا قال عبد الملك بن عمير، وفي النسائي عن عبد الملك بن جريج عن أبي الزبير أصل
الحديث.
قال البيهقي: وروي معناه عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه عن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم.
وقيل عنه عن أبيه عمن سمع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [وفيه: النهي عن بيع حاضر
لبادٍ].
[قال البخاري:]
وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ.
هذا التعليق رواه .. .
(1/171)
وقال
ابن التين: يحتمل أن يكون البخاري أراد بحديث ابن عباس «لا يبع حاضر لباد» وبقول
عطاء: إن بيع الحاضر للبادي جائز بلا كراهة. وترجمته بعد هذا تحقق مقصوده وهي من
كره أن يبيع حاضر لباد بأجر.
قال ابن بطال: أراد البخاري جواز ذلك بغير أجر، ومنعه إذا كان بأجر، كما قال ابن
عباس: لا يكون له سمساراً، فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان من طريق النصح.
قال ابن التين: ولأنَّ البدوي قد يستنصح الحضري.
ويحتمل أنْ يكون صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك على معنى المصلحة لأهل الحضر
والنظر لهم؛ لإلزامهم الجماعة، وطلبهم للعلم والمذاكرة فيه فقال: «دعوا الناس يرزق
الله بعضهم من بعض» فإذا تولى الحضري البيع للبدوي رفع في أثمان السلعة، بخلاف
تولي البدوي ذلك بنفسه، فربما سأل أقل من سؤال الحضري وينتفع بذلك أهل الحضر، ولم
يزل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينظر للعامة على الخاصة، فيريد البخاري على هذا
التأويل أن ترك السمسرة على هذا التأويل، وترك بيع الحاضر للبادي من النصيحة
للمسلمين.
وقال ابن بطال: أريد به نفع أهل الحضر.
وقال الطحاوي: الحاضر يعلم أسواق البلد فيستقصي على الحاضرين، فلا يكون لهم في ذلك
ربح، بخلاف البدوي.
وقد أخذ قوم بظاهره، روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس وهو قول الليث والشافعي.
ورخص في ذلك آخرون، روي ذلك عن عطاء ومجاهد وقال: إنما نهى سيدنا رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك في زمانه وأما اليوم فلا.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديث قوله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «الدين النصيحة»
وفي جعله الخيار للبائع دليل على صحة البيع إذ الفساد لا خيار فيه، وقال صاحب
«اللباب»: نسخ هذا الخيار قوله: «البيعان بالخيار».
وقال مالك: لا أرى أنْ يبيع [حاضر للبادي، ولا لأهل القرى، وأمَّا أهل] المدن من
أهل الريف فليس بالبيع لهم بأس.
(1/172)
وقال
ابن المنذر: تأول قوم النهي على وجه التأديب لا التحريم، لقوله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض».
واختلفوا هل يفسخ ذلك البيع؟
فعن ابن القاسم: يفسخ، وإن فات لا شيء عليه.
وفي رواية سحنون عنه: يمضي البيع، وهو قول ابن وهب والشافعي.
وفي حديث طلحة بن عبيد الله عند أبي داود من حديث سالم المكي أن أعرابياً حدثه أنه
قدم بجلوبة له على عهد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنزل على طلحة فقال له:
«إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق
فانظر من يبايعك فتشاورني حتى آمرك أو أنهاك».
ورواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن سالم أبي النضر عن رجل من بني تميم
عن أبيه عن طلحة.
ورواه سليمان بن أيوب الطلحي عن أبيه عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه.
قال يعقوب بن شيبة في أحاديث سليمان بن أيوب الطلحي وهي سبعة عشر حديثاً رواها عن
أبيه عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه هذه الأحاديث عندي صحاح أخبرني بها أحمد بن
منصور عنه.
ولما خرجه البزار من حديث ابن إسحاق عن سالم المكي عن أبيه قال: هذا الحديث لا
نعلمه يروى عن طلحة إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً قال عن سالم عن أبيه عن طلحة
إلا مؤمل بن إسماعيل، وغير مؤمل يرويه عن رجل.
وعن الأوزاعي: ليست الإشارة بيعا.
وروي عن مالك الرخصة في الإشارة.
وقال الليث: لا يشير عليه.
ولم يراع الفقهاء في السمسار أجراً ولا غيره.
والناس في تأويل هذا الحديث على قولين: فمن كره بيع الحاضر للبادي كرهه بأجر وبغير
أجر.
ومن أجازه أجازه بأجر وبغير أجر.
باب لا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ
كذا هذا الباب في البخاري، وذكر ابن بطال أن في نسخته لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة
وكذا ترجم له الإسماعيلي.
قال البخاري:
(1/173)
وَكَرِهَهُ
ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالمُشْتَرِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
إِنَّ العَرَبَ تَقُولُ: بِعْ لِي ثَوْبًا. وَهْيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ.
هذان التعليقان ذكرهما ... .
وفي حديث عبد الله عن نافع: كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه مكانهم
فنهاهم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه.
قال المهلب: أعلى السوق وإن كان خارجًا عن السوق في الحاضرة أو قريبًا منها بحيث
يجد من يسأله عن سعرها لا يجوز الشراء هناك؛ لأنه داخل في معنى التلقي، وأما
الموضع البعيد الذي لا يقدر فيه على ذلك فيجوز فيه البيع وليس بتلقٍ.
قال مالك: وأكره أن يشتري في نواحي المصر حتى يهبط به السوق.
وقال ابن المنذر: بلغني عن أحمد وإسحاق أنهما نهيا عن التلقي خارج السوق، ورخص في
أعلاه.
ومذاهب العلماء في حد التلقي متقاربة، روي عن يحيى بن سعيد مقدار الميل عن المدينة
وعن مالك ستة أميال.
البابان بعده تقدما.
وقال ابن عبد البر: الرواية «بيع الثمر» بثاء مثلثة بالتمر بتاء ثانية.
باب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
ذكر فيه حديث ابن عمر:
2172 - 2173 - نهى عَنِ المُزَابَنَةِ، وَالمُزَابَنَةُ: بيع الثّمر بِكَيْل، إِنْ
زَادَ فَلِي، وإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ. [خ 2172 - 2173]
قَالَ يعني ابن عمر:
وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
رَخَّصَ فِي بيع العَرَايَا بِخَرْصِهَا.
وعند مالك عن عبد الله بن يزيد أن زيداً أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص
عن البيضاء بالسلت فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء. فنهاه عن ذلك وقال سمعت
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك.
(1/174)
ذكر
الدارقطني في كتاب «الموطَّآت» في رواية عبد الله الحنفي فقال النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم لمن حوله: «هل ينقص إذا يبس؟» قالوا: نعم. قال: «فلا إذن».
وقال عبد الحميد: «لا خير فيه».
وفي رواية ابن نمير: فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أليس ينقص إذا يبس؟» قالوا:
بلى. فكرهه.
ولما خرجه الطوسي والترمذي قالا: حسن صحيح.
وقال الحاكم: تابعه يعني مالكاً إسماعيل بن أمية ويحيى بن أبي كثير ولفظه: حدثنا
عبد الله بن يزيد أن أبا عياش أخبره سمع سعداً: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة»، ثم قال: صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة
مالك، وأنه محكَّم في كل ما يرويه من الحديث إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح
خصوصاً في حديث أهل المدينة لمتابعة هذين الإمامين له والشيخان لم يخرجاه لما خشيا
من جهالة زيد أبي عياش.
وعند الطحاوي عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله عن عمران
بن أبي أنس أن مولى لبني مخزوم حدثه أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يسلف الرجل
الرطب بالتمر إلى أجل فقال سعد: نهانا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذا.
قال أبو جعفر: فهذا عمران وهو رجل متقدم معروف قد روى هذا الحديث كما رواه يحيى بن
أبي كثير فكان ينبغي في تصحيح الآثار أن يرتفع حديث عبد الله بن يزيد لمكان
الاختلاف فيه وثبت حديث عمران فيكون النهي الذي جاء في حديث سعد هذا إنما هو لعلة
النسيئة لا غير.
ولما خرجه الحاكم من صحيحه من حديث مخرمة بن بكير عن أبيه عن عمران قال: سمعت أبا
عياش قال: سألت سعداً عن اشتراء السلت بالتمر فقال سعد: أبينهما فضل؟ قالوا نعم.
قال لا يصح. سئل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اشتراء الرطب بالتمر فقال:
أبينهما فضل؟ فقالوا: نعم الرطب ينقص. فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا يصلح. وقال
صحيح الإسناد.
(1/175)
ولما
خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث مالك عن ابن يزيد قال أبو حاتم: البيضاء: الرطب من
السلت باليابس من السلت.
وخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه على ما ذكره [الصريفي] [000]
وفي «الاستذكار» لابن عبد البر قيل: إن أبا عياش هذا هو أبو عياش الزرقي حدثني عبد
الوارث حدثنا قاسم حدثنا الخشني حدثنا ابن أبي عمر حدثنا ابن عيينة عن إسماعيل بن
أمية عن عبد الله بن يزيد عن أبي عياش الزرقي أن رجلا سأل سعداً.
وقال الطحاوي في «المشكل»: هذا محال لأن أبا عياش الزرقي من جلة الصحابة لم يدركه
ابن يزيد.
وقد روي أيضاً عن ابن يزيد عن سعد بن مالك وعياش، وهذا لا يعرف.
قال أبو جعفر فيه: بأن فساد هذا الحديث في سنده وقفه.
وقال ابن حزم: زيد أبو عياش لا يدرى من هو. وعن أبي حنيفة مجهول.
وقال ابن المواق: عينه معروفة وحاله مجهولة.
وقال الدارقطني: هو ثقة.
وذكره فيهم ابن حبان وابن خلفون.
وعند الدارقطني من حديث موسى بن عبيد الله وفيه كلام عن عبد الله بن دينار عن ابن
عمر قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرطب اليابس».
وقال الإسماعيلي: ليس في الحديث الذي ذكره البخاري من جهة النص الزبيب بالزبيب ولا
الطعام بالطعام إلا من جهة المعنى.
قال: والبخاري ينحو نحو أصحاب الظاهر فلو حقق الحديث بيع التمر في رؤوس الشجر
بمثله من جنسه يابسا أو صحح الكلام على قد ما ورد به لفظ الخبر كان أولى.
والمزابنة، مفاعلة، لا تكون إلا بين اثنين، وأصلها الدفع الشديد.
قال الداودي: كانوا قد كثر فيهم المدافعة بالخصام، فسمي مزابنة، ولما كان كل واحد
من المتبايعين يدفع الآخر في هذه المبايعة عن حقه، سميت بذلك.
قال ابن سيده: الزبن دفع الشيء عن الشيء، زَبَن الشيء يَزْبِنه زَبْنا وزَبَن به،
انتهى.
هذا يرد قول من قال الدفع من ... .
(1/176)
وفي
«الجامع» للقزاز: المزابنة كل بيع فيه غرر، وهو بيع كل جزاف لا يعلم كيله ولا وزنه
ولا عدده، وأصله أن المغبون يريد أن يفسخ البيع، ويريد الغابن ألا يفسخه فيتزابنان
عليه، أي: يتدافعان.
وقيل: هو بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا وبيع العنب في الكرم بالزبيب. وأصله
ما ذكرنا.
وعند الشافعي: هو بيع مجهول بمجهول أو معلوم، من جنس تحريم الربا في نقده، وخالفه
مالك في هذا القيد، فقال: سواء كان مما يحرم الربا في نقده أو لا، مطعوما كان أو
غير مطعوم.
وقال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر،
لأنه مزابنة، وقد نهي عنه.
فأما بيع رطب ذلك بيابسه إذا كان مقطوعاً، وأمكن فيه المماثلة، فجمهور العلماء لا
يجيزون بيع شيء من ذلك بجنسه لا متماثلاً ولا متفاضلاً، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الحنطة الرطبة باليابسة والتمر بالرطب مثلا بمثل، ولا
يجيزه متفاضلاً. قال ابن المنذر: وأظن أبا ثور وافقه.
وقال أبو عمر: لا خلاف بين العلماء أن تفسير المزابنة في هذا الحديث من قول ابن
عمر أو مرفوعة، وأقل ذلك أن يكون من قوله، وهو راوي الحديث فسلم له، كيف ولا مخالف
في ذلك.
وأجمعوا على تحريم بيع العنب بالزبيب، وعلى تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة
صافية، وهي المحاقلة، وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعاً.
وقال أبو حنيفة: وإن كان مقطوعا جاز بيعه بمثله من اليابس.
والعرية: النخلة المعرَّاة وهي التي وهب ثمرة عامها.
والعرية أيضا التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل.
وقيل: هي النخلة التي قد أكل ما عليها واستعرى الناس في كل وجه أكلوا الرطب من
ذلك.
وفي «الجامع»: وأنت مُعْرٍ.
(1/177)
وفي
«الصحاح»: فيعروها الذي أعطيته أي يأتيها وهي فعيلة بمعنى مفعولة وإنما أدخلت فيها
الهاء لأنها أفردت [فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة] والأكيلة ولو جئت بها مع
النخلة قلت نخلة عَرِيٌّ.
وعند القرطبي: وقيل هي فعيلة بمعنى فاعلة أي عريت من ملك معريها وقيل عراه يعروه
إذا أتاه يطلب منه عَرِيَّة.
(فَأَعْرَاهُ) أي: أعطاه إياها، كما يقال: سألني وأسأله، فالعَرِيَّةُ: اسم للنخلة
المعطى ثمرها، فهي اسم لعطية خالصة، وقد سَمَّتِ العربُ عطايا خاصة بأسماء خاصة،
كالمنيحة لعطية الشاة للبن، والإفْقَار لما رُكِب فقارُه، فعلى هذا إنَّ العرية
عطية لا بيع، ولِمَا ثبت ذلك عند مالك وأحمد وإسحاق والأوزاعي العرية المذكورة في
الحديث بأنها إعطاء الرجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عَامًا على ما تقتضيه
اللغة، غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة وأحكام متعددة، وحاصل مذهب مالك: أنها عطية
ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أُعطيَها أن يبيعها إذا بَدَا صلاحها من كل
أحد بالعين والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بشروط:
أحدها: أن يكون أقل من خمسة وُسْق، وفي الخمسة خلاف.
وثانيها: أن يكون خرصها من نوعها ويابسها نخلًا وعنبًا، وفي غيرهما مما يُوْسَقُ
ويُدْخَرُ للقوت خلاف.
وثالثها: أن يقوم بالخرص عند الجُداد.
ورابعها: أن يشتري جملتها لا بعضها.
وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبتها، فلو باعها من الْمُعْرِي قبل ذلك على شرط
القطع لم يجز، لتعدي محل الرخصة.
(1/178)
وأما
أبو حنيفة فإنه فَسَّرَ العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة أو نخلات ولم يقبضها
الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرًا ويتمسك بالثمرة جاز له ذلك، إذ
ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة التي لم يجب بناء على أصله: أن
الهبة لا تجب إلا بالقبض، وهذا المذهبُ إبطالٌ لحديث العرية من أصله، وذلك أن حديث
العرية تضمن أنه بيعٌ مُرَخَصٌ فيه في مقدار مخصوص.
وقال الطَّحَاويُّ: معناها عند أبي حنيفة: أن يعري الرجلُ الرجلَ ثمرةَ نخله من
نخله فلم يسلم ذلك له حتى إليه حتى يبدو له، فرخَّصَ له أن يحبس ذلك ويعطيه مكان
خرصه تمرًا، وهذا التأويل كأنه أشبه، لأن العرية إنما هي العطية، ألا ترى إلى مدح
الأنصار كيف مدحهم إذ يقول يعني سويد بن أبي الصلت فيما
ذكره القرطبي، وقال ابن التين: هو لحسان بن ثابت:
ليست بسنهاءٍ ولا رجبيَّةٍ ولكن عرايا في السنين الجوائح
قال أبو جعفر: أي أنهم كانوا يُعْرُونها في السنين الجوائح، فلو كانت العرية كما
ذهب إليه مالك, كانوا ممدوحين بها، إذ كانوا يُعْطُون كما يعطَون, ولكن العرية
بخلاف ذلك.
قال: فإن قيل: فقد ذكر في حديث زيد بن ثابت: «نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ
بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا». في هذا الحديث بيعُ تمرٍ بتمرٍ، قيل له:
ليس في الحديث من ذلك شيء, إنما فيه ذكر الرخصة في العرايا, مع ذكر النهي عن بيع
التمر بالتمر, وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما مختلف.
(1/179)
فإن
قال قائل: فقد ذكر التوقيف في حديث أبي هريرة على خمسة أوسق, وفي ذكره ذلك ما ينفي
أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه، قيل له: ما فيه ما ينفي شيئًا مما ذكرت,
وإنما يكون ذلك كذلك لو قال: لا تكون العرية إلا في خمسة أوسق, فأما إذا كان
الحديث إنما فيه: «رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ
دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» فذلك يحتمل أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا مقدارها، فنقل أبو هريرة رضي الله عنه ذلك, وأخبر
بالرخصة فيما كانت.
في «الاستذكار» عن محمود بن لبيد بطريق منقطعة أنه قال لرجل من الصحابة: إما زيد
بن ثابت وإما غيره، ما عراياكم هذه، فَسَمَّى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن الرطب يأتي ولا بيدنا ما نبتاعه به، فرخص
لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بيدهم يأكلونها رطبًا.
قال الطحاوي: ولا ينفي ذلك أن تكون تلك الرخصة جارية فيما هو أكثر من ذلك، فإن
قلت: ففي حديث جابر وابن عمر إلا أنه أرخص في العرايا، فصار ذلك مستثنى من بيع
التمر بالتمر، فثبت بذلك أنه بيع تمر بتمر.
قيل له: قد يجوز أن يكون قصد بذلك إلى المعري، ورخص له أن يأخذ ثمرًا بدلًا من
تمرٍ في رؤوس النخل، لأنه
يكون بذلك في معنى البائع وذلك له حلال، فيكون الاستثناء لهذِه العلة، وفي حديث
سهل بن أبي حَثْمَةَ: «إلَّا أنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا
تَمْرًا يَأْكُلُهَا أهْلُهَا رَطْبًا» فقد ذكر للعرية أهلًا وجعلهم يأكلونها
رطبًا، ولا يكون ذلك إلا وملكها الذين عادت إليهم بالبدل الذي أخذ منهم، وبذلك ثبت
قول أبي حنيفة.
(1/180)
قال:
وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى الْبَائِعَ
وَالْمُبْتَاعَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ».
قال: وقال زيدُ بنُ ثابت: «رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فِي النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ،
تُوهَبَانِ لِلرَّجُلِ فَيَبِيعُهُمَا بِخَرْصِهِمَا تَمْرًا» قال أبو جعفر:
فَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ رَوَى عَنِ
سَيْدِنَا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الرُّخْصَةَ فِي الْعَرِيَّةِ،
فقد أجراها مجرى الهبة.
وعن مكحول أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «خَفِّفُوا الصَّدَقَاتِ،
فإنَّ في المالِ العَرِيةَ والوصيَّةَ».
قال: فدلَّ أن العرية إنما هي ما يملكه أرباب الأموال قومًا في حياتهم كما يملكون
الوصايا بعد مماتهم.
قال ابن رشد: وإلى كونها هبة قالَ مالكٌ، وأما الشافعي فالعرية عنده بيع الرطب في
رؤوس النخل بتمر مُعَجَّل، قال القرطبي: فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها، وكأنه
اعتمد على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنه قال: العرية أن يشتري الرجل تمر
النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا، وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، لأن يحيى بن
سعيد ليس صحابيًا فيقال: فَهِمَ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولا رفعه
إليه، ولا يثبت عنه عُرْفٌ غالبٌ شرعيٌّ حتى يرجحه على اللغة، وغايته أن يكون
رأيًا ليحيى لا رواية له، ثم يعارضه تفسير ابن إسحاق، فإنه قال: العرايا: أن يهب
الرجل للرجل النخلات، فيشقَّ عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها.
ثم هو عين المزابنة المنهي عنها، ووضع رخصه في موضع، لأنه ترهق إليها حاجة أكيدة،
ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع
(1/181)
تمره
بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبًا، فإن قيل: قد يتعذَّر هذا، قيل: يأخذ بيع الرُّطب
بالتمر إذا كان الرطب لا على رؤوس النخل، إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده
ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا يجوز ذلك.
الأبواب التي بعده ... في باب تفسير العرايا.
(وَقَالَ مَالِكٌ: العَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ،
ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ
بِتَمْر).
ذكر أبو عمر عن ابن وهب أن مالكًا قال: العرية أن يعري الرجلُ الرجلَ النخلة
والنخلتين أو أكثر من ذلك سنة أو سنتين أو ما عاش، فإذا طاب الثمر وأرطب قال صاحب
النخل: أنا أكفيكم سقيها وضمانها، ولكم خرصها تمرًا عند الجداد، فكان ذلك فيه
معروفًا كله عند الجداد، ولا أحب أن يجاوز ذلك خمسة أوسق، قال: وتجوز العرية في كل
ما يبس ويدخر نحو التين والزيتون، ولا أرى لصاحب العرية أن يبيعها إلا بتمر في
الحائط ممن له تمر يخرصه.
وقال ابنُ القاسمِ عنه: لا يجوزُ بيع العرية بخرصها حتى يحل بيعها، ولا يجوز بعد
ما حلَّ بيعها أن يبيعها بخرصها تمرًا إلا إلى الجداد، وأما بالطعام فلا يصلح.
وروى محمد بن شجاع البلخي عن عبد الله بن نافع عن مالك: أن العرية النخلة
والنخلتان للرجل في حائط بعينه، والعادة بالمدينة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت
الثمار إلى حوائطهم، فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول: أنا أعطيك
خرص نخلك تمرًا، فأرخص لهما في ذلك.
قال أبو عمر: هذه الرواية مخالفة لأصل مالك في العرية.
وروى ابن القاسم عنه وسُئل عن نخلة في حائط رجل لآخر له أصلها، فأراد صاحب الحائط
أن يشتريها منه بعد ما أزهت بخرصها تمرًا يدفعه إليه عند الجداد، فقال مالك: إن
كان إنما يريد به الكفاية لصاحبه والرفق به فلا بأس، وإن كان إنما أراد ذلك لدخوله
وخروجه وضرر ذلك عليه فلا خير فيه.
قال ابن القاسم: وليس هذا مثل العرية.
(1/182)
قال
أبو عمر: هذه الرواية تضارع رواية ابن نافع، وذكر الأثرم في «سننه» عن أحمد:
العرية أنا لا أقول فيها بقول مالك، أقول: هي أن يعري الرجل الجار أو القرابة
للحاجة والمسكنة، فإذا أعراه إياها فَلِلْمُعْرَى أن يبيعها ممن شاء، ثم قال: مالك
يقول ببيعها من الذي أعراها إياه، وليس هذا وجه الحديث عندي، بل يبيعها ممن شاء،
كذا فسره ابن عيينة وغيره.
قلت له: فإذا باعها له أن يأخذ الثمن الساعة أو عند الجداد؟
قال: يأخذ الثمن الساعة، قلت: إن مالكًا يقول: ليس له أن يأخذ الثمن الساعة حتى
يجدَّ، قال: بلى يأخذه على ظاهر الحديث.
قلت: كأنه إنما رخص له من أجل الحاجة، فله أن يأخذه الساعة، قال: نعم من أجل
الساعة يأكلها أهلها رطبًا، ثم قال: الذي يشتريها إنما له أن يأكلها رطبًا.
حَدَّثَنَا الحكم بن موسى، حَدَّثَنا عيسى بن يونس، حَدَّثَنا عثمان بن حكيم عن
عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال: «لا بأسَ أنْ يُبَاعَ مَا فِي رؤوسِ
النَّخْلِ بِمَكِيْلِهِ منَ التَّمْرِ إذا كانَ بينهما فضل دينارٍ أو عشرةِ
دَرَاهَمَ».
قال الأثرم: فذكرت هذا لأبي عبد الله فقال: هذا حديث منكر.
قال أبو عمر: ويجوز للرجل أن يعري الرجل حائطه ما شاء، ولكن البيع لا يكون إلا في
خمسة أوسق فما دونها.
وفي «شرح الموطأ» لابن حبيب: العرية في الثمار بمنزلة العمرى في الدار، وبمنزلة
المنحة في الماشية.
وقول البخاري: (وَقَالَ ابنُ إِدْرِيسَ: العَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلَّا
بِالكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَكُونُ بِالْجِزَاف، وَمِمَّا
يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ المُوَسَّقَة).
ذكر الحافظ الْمِزِّيُّ: أن هذا الكلام كله قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي
الله عنه، وأن له هذا الموضع في «صحيح محمد بن إسماعيل البخاري» وموضع آخر في كتاب
الزكاة.
(1/183)
وقال
ابن التين: قيل (ابنُ إدريسَ) هو الشافعي، وقيل - هو الأكثر -: إنه عبد الله بن
إدريس الأودي الفقيه الكوفي، وكلام ابن بطال يدل على أن البخاري هو القائل:
(وممَّا يقوِّي ذلك ... ) إلى آخره لا ابن إدريس، قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وهذا إجماع، فلا يحتاج إلى تقوية، ولم يأت ذكر الأوساق الموسقة إلا
في حديث مالك عن داود بن الحسين، وفي حديث جابر من رواية ابن إسحاق، لا في رواية
ابن أبي حثمة، وإنما يُرْوَى عن سهل من قوله من رواية الليث عن جعفر بن أبي ربيعة
عن الأعرج، قال: سمعت سهل بن أبي حثمة قال: «لا يباعُ التمرُ في رؤوسِ النخلِ
بالأَوْسَاقِ الْمُوَسَّقةِ إلا أوسق ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فيأكلها الناس، وهي
المزابنة» ففي قول سهل حجة لمالك في مشهور قوله: إنه تجوز العرايا في خمسة أوسق،
وقد يجوز أن يكون الشك في دون خمسة أوسق، واليقين في خمسة أوسق، إذ الواو لا تعطي
رتبة، فلذلك يترجح قول مالك في ذلك.
الحديث الذي بعده تقدم.
وقوله: (وَقَالَ يَزِيدُ: عَن سُفيَانَ بنِ حُسَينٍ) يزيد هذا هو ابن هارون، قاله
الحافظ الدمياطي.
(بابُ بَيعِ الثِّمَارِ قَبلَ أَن يَبدُوَ صَلَاحُهَا)
(1/184)
2193
- وَقَالَ اللَّيْثُ، عنْ أَبِي الزِّنَادِ، كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ، مِنْ بَنِي حَارِثَةَ:
أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ
النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يَتَبَايَعُونَ
الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ المُبْتَاعُ:
إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أصَابَهُ مُرَاضٌ، أصَابَهُ قُشَامٌ،
عاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ: «فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَبِيعُوا
حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ التَّمْرِ» كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ. [خ 2193]
وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ
يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَتَبِينَ
الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ قَالَ أَبُو عبد الله: رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ،
حدَّثَنَا حَكَّامٌ، حدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عنْ زَكَرِيَّاءَ، عنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ سَهْلٍ، عنْ زَيْدٍ.
وأخرج أبو داود الحديثَ عن أحمد بن صالح، عن عنبسة بن خالد، عن يونس بن يزيد، عن
أبي الزناد, والبيهقي
عن أبي اليسر، والحاكم وغيرهما، حَدَّثَنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثَنَا
ابن عبد الحكم، حَدَّثَنا أبو زرعة وهب الله بن راشد عن يونس قال: قال أبو الزناد:
كان عروة يحلف، فذكره.
قوله: (فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ) أي: أقطعوا ثمر نخيلهم، ومنه الجَداد، والجداد:
المبالغة في الأمر، كذا في الرواية: (جدَّ) وقال ابن التين: أكثر الروايات:
<أَجَدَّ> قال: ومعناه: دخلوا في زمن جداد، مثل أظلم دخل في الظلام.
(1/185)
وفي
«المحكم»: جَدَّ النخلَ يَجُدُّه جَدًّا وجُدَادًا وجَدَادًا صرَمه، عن
اللِّحْياني.
و (الدُّمَانُ) قال ابنُ قُرْقُولٍ: هو بضم الدال وتخفيف الميم، رويناه من طريق
القابسي وغيره، وعن السرخسي بفتح الدال، ورواه بعضهم بكسرها وبالفتح ذكره أبو
عبيد، وبالوجهين قرأناه على ابن سراج، ومعناه: فساد الطلع وتعفينه، وعند أبي داود
من طريق ابنِ دَاسَةَ: (الدَّمَارُ) بالراء، وكأنه ذهب إلى الفساد المهلك لجميعه
الْمُذْهِب له، قال أبو الفضل غفر الله له: هذا تصحيف، وقال الخطابي: لا معنى له.
قال: وقال الأصمعي: (الدُّمَال) بميم ولام في آخره: التمر المتعفن.
وحكى أبو عبيد عن أبي الزناد: (الأدْمَانُ) بفتح الهمزة والدال، والصحيح:
(الدمَانُ) بفتح الدال وضمها، وزعم بعضهم أن فساد التمر وعفنه قبل إدراكه حتى يسود
من الدمن وهو السرقين، الذي في «غريب الخطابي» بالضم، وكأنه الأشبه، لأن ما كان من
الأدواء والعاهات فهو بالضم كالسُّعال والزُّكَام والصُّداع والْمُراض.
قال ابن التين: هو اسم لجميع الأدواء على وزن فعال غالبًا، وضُبِطَ في أكثر
الأمهات بالكسر، وقال في «المحكم»: الدمن والدمان: عفن النخل وسوادها، وقيل: هو
أنه تتسع النخلة عن عفنٍ وسواد، وقال القَزَّازُ: هو فساد النخل قبل إدراكه، وإنما
يكون ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفونًا.
و (القُشَامُ) بالضم عن الأصمعي وغيره: انتفاض تمر النخل قبل أن يصير بلحًا.
قال ابن التين: وقيل: هو أُكال يقع في التمر.
وقوله: (فَإِمَّا لَا) ذكر الجُوَاليقي أن العوام يفتحون الألف واللام ويسكنون
الياء، والصواب كسر الألف وبعدها لا، وأصله: إلا يكن ذلك الأمر فافعل هذا، وما
زائدة،
وعن سيبويه: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره، ولكنهم حذفوا لكثرة استعمالهم إياه.
(1/186)
وقال
ابن الأنباري: دخلت ما صلة كقوله جل وعز: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَدًا} [مريم: 26] فاكتفى بلا من الفعل كما تقول العرب: من سلم عليك فسلم عليه
ومَن لا، يعني: ومن لا يسلم عليك فلا تسلم عليه، فاكتُفي بلا من الفعل، وأجاز
الفراء: من أكرمني أكرمته، ومن لا، معناه: ومن لم يكرمني لم أكرمه، قال ابن
الأثير: أصلها: إن وما، أدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها.
وقد أمالت العرب: لا، إمالة خفيفة، والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء، وهو
خطأ.
ومعناه: إن لم يفعل هذا فليكن هذا.
و (الْمَشُورَةِ) قال الهَجَري في «نوادره»: لم تَفرع من شوارنا بفتح الشين، يعني المشورة،
والواو جزم، وهي فعولة، وعند ابن سِيْدَه: هي مَفْعُلة، ولا تكون مفعولة لأنها
مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال مفعولة وإن جاءت على مثال مفعول، وكذلك المشورة،
وفي «الجامع» قال الفراء: مشورة قليلة، وبدأ بها صاحب «المنتهى» وصاحب «الصحاح»
قبل المضمومة الشين، وزعم صاحب «التنصيف» والحريري في آخرين: أن تسكين الشين وفتح
الشين مما تلحن فيه العامة، وكأنه غير جيد لما أسلفناه، وهي مشتقة من شُرتُ العسل
إذا جنيته، فكأن المستشير يجني الرأي من المشير، وقيل: بل أخذ من قولك: شرت الدابة
إذا أجريتها مُقبلة ومُدبرة لتسبر جريها وتختبر جوهرها، فكأن المستشير يستخرج
الرأي الذي عند المشير، وكلا الاشتقاقين متقارب معناه من الآخر، والمراد بهذه
المشورة: ألا تشتروا شيئًا حتى يتكامل صلاح جميع هذه الثمرة لئلا تجري منازعة.
قال الداودي: هذا تأويل من بعض نقلة الحديث وإن يكن محفوظًا فقد يكون ذلك أول
الأمر، ثم عزم بعد كما في حديث ابن عمر مبتدأ النهي، وكذا حديث أنس وغيرهما.
(1/187)
قال
ابن التين: قوله: (لَم يَكُن زَيدٌ يَبِيعُ ثِمارَ أَرضِهِ حَتَّى تَطلُعَ
الثُّرَيَّا) يريد مع طلوع الفجر تطلع من المشرق، وهو وقت استقبال الضيف، وذكر عن
مالك أنه لم يأخذ بقول زيد هذا، وذكر
أن الحكم عنده لا تباع ثمار حتى تزهو، ولعلَّ زيد أيضًا لم يكن تطلع الثريا إلا
وثماره قد زهت فلذلك كان يتبعها النهي، لعل زيدًا أخذ بحديث حتى تذهب العاهة، قيل:
متى ذلك؟ قال: طلوع الثريا، ذكره الطحاوي من حديث ابن عمر.
2199 - وقول البخاري: قَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ
سَالِم بْن عَبْدِ اللهِ، عَنْ أبيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا». [خ
2199]
رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب عن يونس به، وذكر الخطيب في
«المدرج»: أن أبا الوليد رواه عن شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بزيادة:
«وكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى يَذْهَبَ عَاهَتُهَا». قال
الخطيب: وهذه الزيادة من قول ابن عمر، بيَّن ذلك مسلم بن إبراهيم وغندر في
روايتهما هذا الحديث عن شعبة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قال قوم: لا يجوز بيع الثمر في رؤوس النخل حتى تحمر أو تصفر،
منهم مالك والليث والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، كأنهم لمحوا أحاديث
الباب، وحديث أنس: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ
بيعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَحْمَرَّ أو يَصفرَّ» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
(1/188)
وعند
الخطيب زيادةٌ قال: هي مدرجة: «أَفَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ
تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيْكَ؟!» قال: وهو من كلام أنس، وكذا ذكره الدَّارَقُطْني في
تتبعه روايات مالك، قال الطحاوي: وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يجوز بيعها إذا
تخلقت وظهرت وإن لم يبدُ صلاحها، واحتجا بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «منِ
ابْتَاع ثَمَرَةً قَبْلَ أنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا للبَائِعِ إِلَّا أنْ
يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» فأباح بيع ثمرة في رؤوس النخل قبل بدو صلاحها، وقالا:
لما لم يدخل ما بعد الإبار في الصفقة إلا بالشرط جاز بيعها منفردة، فدلَّ هذا أن
نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، المراد به غير هذا المعنى، وهو النهي عن
السَّلَم في الثمار في غير حينها وقبل أن يكون، فيكون بائعًا لما ليس عنده، وقد
نهى عن ذلك في نهيه عن بيع السنين.
حَدَّثَنَا يونسٌ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ
الْأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ». قال يونس: قال لنا
سفيان: هو بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
(1/189)
وروي
أيضًا عن قتادة عن الحسن عن سَمُرَةَ قال: «نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» فدلت الآثار على أن النهي عن بيعها قبل
بدو صلاحها أنها المبيعة قبل كونها بالسلف عليها، فنهى رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عن ذلك حتى تكون وحتى تُؤْمَن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلم
فيها، ألا ترى أن ابن عمر لما سأله أبو البختري عن السلم في النخل، كان جوابه له
في ذلك ما ذكر في حديثه من النهي عن بيع الثمار حتى تطعم، فدل على أن النهي إنما
وقع في هذه الآثار على بيع الثمار قبل أن تكون ثمارًا، ألا ترى إلى قوله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ
أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيْهِ؟!» فلا يكون ذلك إلا على المنع من ثمرة لم تكن، فأما
بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، فإن ذلك عندنا جائز صحيح، لقوله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «منِ ابْتَاعَ نَخْلًا بعدَ أنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْذِي
بَاعَهَا إِلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاع»، وكان محمد بن الحسن يذهب إلى أن
النهي الذي اشترطناه ذكرناه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو بيع
الثمرة على أن تُتْرَكَ في رؤوس النخل حتى تبلغ وتتناهى وحتى تُجَدَّ، وقد وقع
البيع عليه قبل التناهي، فيكون المشتري قد باع ثمرًا ظاهرًا، وما ينميه على نخل
البائع بعد ذلك إلى أن يُجَدَّ فذلك باطل، فأما إذا وقع البيع بعدما تناهى عِظَمُه
وانقطعت زيادته فلا بأس بابتياعه واشتراط تركه إلى أنْ يُحْصَدَ ويُجَد، قال:
وإنما وقع النهي عن ذلك لاشتراط الترك لمكان الزيادة، قال: وفي ذلك دليل على أن لا
بأس بذلك الاشتراط
في ابتياعه بعد عدم الزيادة، حَدَّثَنا بذلك سليمان بن شعيب عن ابنه عن محمد،
وتأويل أبي حنيفة وأبي يوسف في هذا أحسن عندنا، والله تعالى أعلم، والنظر أيضًا
يشهد له.
(1/190)
قوله:
(حَتَّى يَزْهُوَ) قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وأزهى
إذا احمر أو اصفر، وقال غيره: يزهو خطأ في النخل، وإنما يقال: تزهى، وقد حكاهما
أبو زيد الأنصاري، وقال الخليل: أزهى التمر، قال القَزَّازُ: وأنكر أزهى بعضهم،
يعني الأصمعي، وفي «المحكم»: الزَّهْوُ والزُّهو البسر إذا ظهرت فيه الحمرة، وقيل:
إذا لَوّن، واحدته زهوة، وأزهى النخل وزها تكون بحمرة وصفرة، وقَالَ
الخَطَّابِيُّ: الصواب في العربية زَهِيَ.
قال القرطبي: حديث الباب وغيره يدل على التحريم أو الكراهة، فبالأول قال الجمهور،
وإلى الثاني صار أبو حنيفة.
وهل يجوز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع أو لا يجوز وإن شرطه؟.
روي هذا عن ابن أبي ليلى والثوري تمسكًا بعموم الأحاديث، ويجوز اشتراط التباعد
الكافة، وكذلك له الإبقاء وإن لم يصرح باشتراطه عند مالك، إذ لا يصلح اجتناء
الثمرة دفعة واحدة، لأن تناهي طيبها ليس حاصلًا، وإنما يحصل في أوقات، وشذَّ ابن
حبيب فقال: هي على الجدِّ حتى يشترط التبقية، وما صار إليه مالكٌ أوضح المسالك.
وقال ابن التين: بيعها قبل بدو صلاحها لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشترط
التبقية وهو المراد بالحديث، ولا خلاف في فساده، ذكر ذلك جماعة، وحكى بعضهم عن
يزيد بن أبي حبيب جوازه، وهذه الأخبار ترد عليه، وإن شرط القطع لا خلاف في جوازه،
وإن أطلق فلا يجوز
خلافًا لأبي حنيفة، وذكر النووي: إن باع الثمر قبل بدو صلاحها بشرط القطع صحَّ
بالإجماع، قال أصحابنا: ولو شرط القطع ثم لم يقطع فالبيع صحيح، ويلزمه البائع
بالقطع، فإن تراضيا على إبقائه جاز، وإن باعها بشرط التبقية فالبيع باطل بالإجماع،
وأما إذا اشترط القطع فقد انتفى الضرر، فأما إذا بيعت بعد بدو الصلاح فيجوز بيعها
مطلقًا وبشرط القطع وبشرط التبقية لمفهوم هذه الأحاديث، وبه قال مالك، وقال أبو
حنيفة: يجب بشرط القطع.
(1/191)
ومعنى
(يَبْدُوَ) يظهر، وهو بلا همز، ووقع في بعض كتب المحدثين بألف بعد الواو وهو خطأ،
والصواب حذفها في مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب مثل:
زيد يبدو، والاختيار حذفها أيضًا، ويقع في مثل: حتى يزهو، وصوابه حذف الألف منه.
وقال ابن الجوزي: وإذا بدا الصلاح في بعض الجنس من ثمر البستان يجوز بيع ذلك
الجنس، فيه روايتان: أحدهما يجوز، والثانية لا يجوز إلا بيع ما قد بدا صلاحه،
وإنما اشترط بدو الصلاح لأمور:
منها أن ثمن الثمرة في تلك الحال قليل، فإذا تركها حتى تصلح زاد ثمنها، وفي تعجيله
للقليل نوع تضييع للمال.
ومنها لئلا يوقع أخاه المسلم في نوع عذر.
ومنها: المخاطرة والتغرير بماله.
ومنها: مخافة التشاجر والإثم عند فساد الثمرة.
وقول البخاري في باب إذا أراد بيع تمر بتمر خيرٍ منه:
2201 – حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ، عنْ مَالِكٍ، عنْ عبد المَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ
عبد الرحمن، عنِ ابنِ المُسَيِّبِ، عنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ: أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى
خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسول
اللهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ
بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا تَفْعَل،
بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا». [خ 2201]
(1/192)
قال
ابن عبد البر: ذِكْرُ أبي هريرة في هذا الحديث لا يوجد من غير رواية عبد المجيد
هذا، وإنما يحفظ هذا الحديث لأبي سعيد، كذلك رواه قتادة عن سعيد بن المسيَّب عن
أبي سعيد من رواية حفاظ أصحاب قتادة هشام الدستوائي وابن أبي عروبة، وكذا رواه
يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد، وكذا رواه محمد بن
عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد، وروى الدراوردي عن عبد المجيد بن سُهَيْل عن أبي
صالح السَّمَّان عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
مثله سواء، ولا نعرفه بهذا الإسناد هكذا إلا من حديث الدراوردي، وكل من روى عن عبد
المجيد بن سهل هذا عنه بإسناده عن سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد ذكر في آخره، وكذا
الميزان إلا مالكًا فإنه لم يذكره في حديثه, انتهى.
ذكر البخاري في المغازي، وقال عبد العزيز الدراوردي عن عبد المجيد عن سعيد: إن أبا
سعيد وأبا هريرة حدثاه: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعثَ أَخَا
بنِي عَدِيٍّ منَ الأنصارِ إلى خَيْبَرَ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا» وعن عبد المجيد
عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله.
قال أبو عمر: جُلُّ أصحاب مالك يقولون: عبد المجيد، وفي رواية ابن نافع: عبد
المجيد، وعند يحيى بن يحيى ويحيى بن بُكَيْرٍ وابن عيينة: القولان جميعًا وعبد
المجيد أصح، وذكر الخطيب الحافظ أنَّ اسم العامل سَواد بن غَزِيَّة البَلوي حليف
الأنصار، وقيل: مالكُ بنُ صَعْصَعَة الخزرجي.
وقال ابن التين: وقع في بعض روايات الشيخ أبي الحسن: <والصَّاعَيْنِ
بالثلاثِ> بغير هاء، وهو الذي سمعت، وكذا في رواية
أبي ذَرٍّ، وفي بعض روايات أبي الحسن أثبت الهاء.
(1/193)
قال
أبو عمر: الميزان وإن لم يذكره مالك فهو أمر مجتمع عليه لا خلاف بين أهل العلم
فيه، كلٌّ يقوله على أصله: إن ما داخله في الجنس الواحد من جهة التفاضل والزيادة
لم تجز فيه الزيادة والتفاضل لا في كيل ولا في وزن، والوزن والكيل عندهم في ذلك
سواء إلا ما كان أصله الكيل لا يباع إلا كيلًا، وما كان أصله الوزن لا يباع إلا
وزنًا، وما كان أصله البيع الكيل فبيع وزنًا، فهو عندهم مماثلة وإن كرهوا ذلك، وما
كان موزونًا فلا يجوز أن يباع كيلًا عند جميعهم، لأن المماثلة لا تدرك بالكيل إلا
فيما كان كيلًا لا وزنًا اتباعًا للسنة، وأجمعوا أن الذهب والوَرِق والنحاس وما
أشبهه لا يجوز شيء من هذا كيلًا بكيل بوجه من الوجوه.
والتمر كله على اختلاف أنواعه جنس واحد، لا يجوز فيه التفاضل في البيع والمعاوضة،
وكذلك البُرُّ والزبيب وكل طعام مَكِيلٍ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهذا حكم الطعام الْمُقتات كله عند مالك، والشافعي الطعام
كله مقتاتًا كان وغير مقتات، وعند أبي حنيفة الطعام المكيل والموزون.
وأجمع العلماء على أن البيع إذا وقع محرمًا فهو مفسوخ مردود، لأمره صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لهذا العامل برد ما ابتاعه، قال: وزعم قوم أن بيع العامل الصاعين
بالصاع كان قبل نزول آية الربا، وقبل إخبارهم بتحريم التفاضل في ذلك، فلذلك لم
يأمر بفسخه، قال: وهذه غفلة، لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال في مغانم خيبر
للسعدين: «أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا» وفتح خيبر مقدم على ما كان بعد ذلك مما وقع في
تمرها وجمع أمرها.
وقد احتج بعض الشافعية بهذا الحديث على أَن الْعينَة لَيست حَرَامًا، يَعْنِي:
الْحِيلَة الَّتِي يعملها بَعضهم توصلًا إِلَى مَقْصُود الرِّبَا، بِأَن يُرِيد
أَن يُعْطِيهِ مئة دِرْهَم بمئتين،
(1/194)
فيبيعه
ثوبًا بمئتين ثمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بِمئة، وموضع الدلالة من هذا الحديث: أن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال له: «بِيْعُوا هَذَا واشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ
هَذَا» ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره، فدلَّ على أنَّه لا فرق.
قال النوويُّ: وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وأبي حنيفة، وقال مالك وأحمد: هو
حرام.
قال القرطبي: على أصل مالك في سدِّ الذرائع، فإنَّ هذه الصورة تؤدي إلى بيع التمر
بالتمر متفاضلًا، ويكون الثمن لغوًا، وأيضًا فلا حُجَّة لهم في هذا الحديث، لأنَّه
ليس فيه شراء التمر الثاني ممن باع منه التمر الأول، ولا تناوله ظاهر اللفظ
بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد احتمالًا يوجب الاستفسار، فكأنه إلى
الإجمال أقرب، وبهذا فرق بين العموم والإطلاق، فإنَّ العموم ظاهر في الاستغراق،
والمطلق صالح له لا ظاهر فيه، وإذا كان كذلك فيتقيد بأدنى دليل، وقد دلَّ على
تقييده الدليل الذي استند على سدِّ الذرائع، ولو استدل بحديث ابن عمر المذكور في
«كتاب الزهد» للإمام أحمد بسند صحيح: حَدَّثَنا أسود بن عامر، حَدَّثَنا أبو بكر بن
عَيَّاش عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح عنه، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إِذَا -يَعْنِي ضَنَّ النَّاسُ- تَبَايَعُوا بالعينِ،
واتَّبَعُوا أَذْنَابَ البقرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَنْزَلَ
اللهُ بِهِمْ بَلَاءً، فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ»،
وهو مخرج عند أبي داود من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن نافع عنه، وأبو عبد
الرحمن ليس بالمشهور، وخرجه علي بن عبد العزيز في «مسنده» عن أبي الأحوص بسند حسن،
قال: حَدَّثَنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ عن ليث عن عبد الملك عن عطاء عنه لكان
صوابًا من القول.
(1/195)
وقال
ابن حزم: ومن باع من آخَرَ دنانير بدراهم، فلما تمَّ البيعُ بينهما بالتفرق
والتخيير اشترى منه أو من غيره بتلك الدراهم دنانير تلك أو
غيرها أقل أو أكثر، فكلُّ ذلك حلال ما لم يكن عن شرط، لأن كل ذلك عقد صحيح وعمل
منصوص على جوازه، وأما الشرط فحرام، ومنع من هذا قوم وقالوا: إنه باع منه دنانير
متفاضلة، فقلنا: بل هما صفقتان، ولكن أخبرونا أَلَهُ أن يصارفه بعد شهر أو سنة
بتلك الدراهم وتلك الدنانير عن غير شرط، فمن قولهم: نعم، فقلنا لهم: التفاضل
والنسيئة معًا، ومَنْعُهُمْ من النقد هذا عجيب لا نظير له، وقد روى ابن سيرين: أن
عمر خطب فقال: إن الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار سواء مثلًا بمثل، فقال له ابن
عوف: فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب؟! فقال عمر: لا، ولكن ابتع بهذا عرضًا، فإذا قبضته
وكان له نية فاهضم ما شئت وخذ أي نقد شئت.
وقال سليمان بن بشير: أعطاني الأسود بن يزيد دراهم وقال: اشتر لي بها دنانير، ثم
اشترى بالدنانير دراهم كذا وكذا، قال: فبعتها من رجل، فقبضت الدنانير وطلبت في
السوق حتى عرفت السعر، فرجعت إلى بيعي فبعتها منه بالدراهم التي أردت، فذكرت ذلك
للأسود، فلم ير به بأسًا.
وقال ابن عبد البر: وإنما سكت من سكت من الرواة في هذا الحديث عن ذكر فسخ البيع
الذي باعه العامل، فلأنه معروف في الأصول، لأن ما ورد التحريم به لم يجز العقد
عليه، ولا بدَّ من فسخه، وقد جاء منصوصًا في هذا الحديث عند مسلم وفيه:
«فَردُّوهُ».
قال: واحتمل أن يكون العامل فعلَ هذا على أصل الإباحة التي كانوا عليها، ثم نزل
بعدُ التحريمُ. انتهى.
قد تقدم ردُّ هذا القول، وفي الحديث حجة على من يقول -يعني أبا حنيفة-: إن بيع
الربا جائز على أصله من حيث إنه بيع ممنوع بوصفه من حيث هو ربًا، فيسقط الربا أو
يصح البيع.
قال القرطبي: ولو كان على ما ذكر لفسخ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصفقة بردِّ
الزيادة على الصاع.
(1/196)
قال
ابن الجوزي: وفي التخيير له صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التمر الطيب وإقرارهم
عليه دليل على أن النفس يرفق
بها لحقِّها، وهو عكس ما يصنعه جهَّال المتزهدين من حملهم على أنفسهم ما لا تطيق
جهلًا منهم بالسُّنة.
(بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، أوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ
بِإِجَارَةٍ)
2203 - قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ،
أخبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ ابنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُخْبِرُ عَنْ نَافِعٍ،
مَوْلَى ابنِ عُمَرَ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرِ
الثَّمَرُ، فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ العَبْدُ وَالحَرْثُ،
سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ. [خ 2203]
إبراهيم هذا هو ابن يوسف بن يزيد بن زاذان الفراء، وقد تقدم من قول البخاري عن
شيوخه: هذه الصنعة أخذها منهم في حال المذاكرة.
2204 – حَدَّثَنا عبد الله بن يُوسُفَ، أخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، عنْ عبد
الله أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ
أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ». [خ 2204]
قال أبو العباس الطرقي: الصحيح من رواية نافع ما اقتصر عليه في هذا الحديث من
التأبير خاصة، قال: وحديث العبد -يعني «ومَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلهُ مَالٌ
فَمَالُهُ للْبَائِعِ إلاَّ أَنْ يشْتَرطَ الْمُبْتَاعُ» - يذكره عن ابن عمر عن
عمر موقوفًا، قال: وقد رواه عن نافعٍ عبدُ ربِّه بنُ سعيد وبُكَيْر بن الأشجِّ،
فجمعا بين الحديثين مثل رواية سالم وعكرمة بن خالد، فإنهما رويا الحديثين عن ابن
عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/197)
وما
روى النسائي حديث هلال بن العلاء عن أبيه، عن محمد بن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن
نافع، عن ابن عمر، عن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بحديث التأبير
والعبد، قال: هذا خطأ، والصواب: حديث ابنه -يعني عن عمر موقوفًا- وقال عبد ربه بن
سعيد لشعبة: لا أعلمهما إلا عن النبي ولم يشك. وقال الدَّارَقُطْني: رواه سفيان بن
حسين عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي، قال غيره: يرويه عن الزهري،
عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي، لا يذكر فيه عمر، ورواه نافع فخالف سالمًا، فجعله
عن ابن عمر عن عمر
من قوله، ووهم ابن معاوية فرواه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي،
والصواب: عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر.
قوله: (هُوَ الصَّحِيح) ورواه ابن إسحاق، وابن أبي ليلى، وأشعث بن سَوَّاد، ومحمد
بن عبيد الله، وسليمان بن موسى، وحميد الأعرج، ويزيد بن سنان، وعبد ربه بن سعيد،
عن نافع عن ابن عمر عن النبي بالقصتين جميعًا.
قال: ووهموا فيه على نافع، وروى القصتين جميعًا مرفوعين الثوري عن عبيد الله بن
عيسى، عن الزهري عن سالم عن أبيه، وسفيان عن عمر عن الزهري، قال: ورواه قتيبة عن
الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي، ولم يتابع عن ابن دينار، وذكره
البخاري أيضًا في باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، فقَالَ ابنُ
بَطَّالٍ: أراد البخاري أن النبي لَمَّا جعل لبائع أصول النخل المؤبرة أن يدخل إلى
الحائط للسقية وتعهده، ولم يَجُز لمشتري الأصول أن يمنعه الممر إليها، وكذا صاحب
العرية يجوز له أن يدخل لعريته لسقيها أو إصلاحها، ولا خلاف في هذا بين الفقهاء.
وقال أبو عمر: اتفق نافع وسالم عن ابن عمر مرفوعًا في قصة النخل، واختلفا في قصة
العبد، رفعها سالم، ووقفها نافع على عمر بن الخطاب.
قوله: (وَهُوَ أَحَدُ الأَحادِيثِ الأَربَعَةِ التي اختَلفَ فيها نافِعٌ وَسَالم).
(1/198)
وقال
القَزَّازُ: من رواه يشترط بغير هاء، أجاز اشتراط بعض الثمرة، ومن رواه بالهاء لا
يجوز اشتراط الكل، قال: وكذلك وقع في مال العبد بالهاء وبغيرها.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أخذ بظاهر هذا الحديث مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق
فقالوا: من باع نخلًا قد أُبِّرت ولم يشترط ثمرته المبتاع، فالثمرة للبائع، وهي في
النخل متروكة إلى الجذاذ، وعلى البائع السقي، وعلى المشتري تخليته وما يكفي من
الماء، وكذلك إذا باع الثمرة دون الأصل فعلى البائع السقيُ.
وقال أبو حنيفة: سواء أُبِّر أو لم يُؤَبَّر هو للبائع، وللمشتري أن يطالبه بقلعها
عن النخل في الحال، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجذاذ، فإن اشترط البائع في البيع ترك
الثمر إلى الجذاذ فالبيع فاسد.
واحتجوا بالإجماع على أن الثمرة لو لم تُؤَبَّر حتى تناهت وصارت بَلَحًا أو
بُسْرًا فبيع الثمرة لا يدخل فيه، فعلمنا أن المعنى في ذكر الإِبَار ظهور الثمرة
خاصة، إذ لا فائدة لذكر الإبار غير ذلك، ولم يفرقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد
تقرر أن من باع دارًا له فيها متاع، فللمشتري المطالبة بنقله من الدار في الحال.
قال القرطبي: ويقال: أبَرتُ النخلة آبرُها بكسر الباء وضمها، فهي مأبورة، كقوَّمت
الشيء تقويمًا فهو مقوَّم، وإبار كل ثمر بحسبه، وبما جرت عادتهم فيه بما ينبت
ثمرَه ويعقده، وقد يعبر بالتأبير عن ظهور الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فيها
شيئًا.
وقال النووي: أبَرتُه آبُرُه أبرًا بالتخفيف كأكلته آكُلُه أكلًا، وأبَّرته
بالتشديد أؤبِّره تأبيرًا كعلَّمته أعلَّمه تعليمًا، والإبار: هو شق طلع النخلة،
سواء خُطَّ فيه أم لا، ولو تأبرت بنفسها، أي: تشققت، فحكمها في البيع حكم المؤبرة
بفعل الآدمي، وفي «الكامل» للمبرد: لما غزا أبو جُبَيْلَةَ المدينة، كان مالك بن العجلان
نظر فيه من ثمرة طيبة فقال: إنه تقرر علينا ثمر هذه النخلة فأبرتها، فحديث فلما
جاء مالك ووجدها كذلك قال:
(1/199)
جددتُ
جَنَى نخلتي ظالمًا وكان الثمار لمن قد أبَرْ
فلما قدم النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المدينة أطرفوه بهذا الحديث يعني به.
(بابُ بَيعِ المخَاضَرَةِ)
2207 - ذكر فيه حديث إسحاق عن أنس: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُخَاضَرَةِ ... ) الحديث، وهو من أفراد
البخاري، وزعم الإسماعيلي أن في بعض الروايات: «والمخاضرةُ
بيعُ الثَّمَارِ قبلَ أنْ تطعمَ، وبيعُ الزَّرعِ قبلَ أن يشتدَّ ويفرك منه». [خ
2207]
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأجمعوا أنه لا يجوز بيع الزرع أخضر إلا القصيل لأكل الدواب،
وأجمعوا أنه يجوز بيع البقول إذا قُلِعَتْ من الأرض كالفجل والكُرَّاثِ والبصل
واللفت وشبهه، فأجاز شراءها مالك وقال: إذا استقل ورقه وأمن، والأمان عنده أن يكون
ما يقطع منه ليس بفساد.
وقال أبو حنيفة: بيع النبت المغيب في الأرض جائز، وهو بالخيار إذا رآه.
وقال الشافعي: لا يجوز بيع ما لا يُرى، وهو عندي بيع الغرر.
(بابُ بَيع ِالجُمَّارِ وَأَكلِهِ)
2209 - ذكرَ حَديثَ ابنِ عُمَرَ: كُنْتُ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ: «مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ
كَالرَّجُلِ المُؤْمِنِ» فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا
أَحْدَثُهُمْ، قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ». [خ 2209]
قال ابن المنير: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على بيع الجُمّار إِلَّا
بِالْقِيَاسِ على أكله، إذْ يدلُّ على أَنه مُبَاح، واستغرب الشَّارِح ذكره لبيع
الجُمّار بِنَاء مِنْهُ على أَنه مجمع عَلَيْهِ، وَأَنه لَا يتخيّل لأحد فِيهِ
الْمَنْع. وَقد وَقع فِي عصرنا لبَعْضهِم إِنْكَار على من جمَّرَ نَخلَه ليأكله
تحرجًا من أكل غَيره مما لم يَصْفُ من الشُّبهة وَنسبه لإضاعة المَال، وَذهل عَن
كَونه حفظ مَاله بِمَالِه.
(1/200)
قال
ابن التين: وأَكْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بحضرة القوم يرد على من كره من
أهل العلم إظهار الأكل، وقال: ينبغي أن يُخفى مدخله ما يُخفى مخرجه.
(بَابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي
البُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالمِكْيَالِ وَالوَزْنِ، وَسُنَّتِهِم عَلَى
نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ المَشْهُورَةِ)
وَقَالَ النَّبِيُّ لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:
6].
التعليق الأول رُوِيَ مسندًا عنده بعد، وتفسير الآية الكريمة يذكر في هذا الباب
نصًا.
2211 - ثم ذكر حديث عائشة قَالَتْ: قَالَتَ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لرَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ
عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ
مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ». [خ 2211]
وذكر حديث أبي طَيْبَةَ الحجَّام, وقال: (قالَ عَبدُ الوَهَّابِ عَن أَيُّوبَ عَن
مُحَمَّدٍ: لَا بَأسَ العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأخُذُ لِلنَّفَقَةِ
رِبحًا).
قال ابن المنير: مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضي
به على ظواهر الألفاظ، وترد إلى ما خالف الظواهر من العرف، ولهذا ساق: (لَا بَأسَ
العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ) أي: لا بأس أن يبيعه سلعة مرابحة العشرة بأحد عشر,
وظاهره: أن ربح العشرة أحد عشر، فتكون الجملة أحدًا وعشرين, ولكن العرف فيه أن
للعشرة دينارًا ربحًا, فيقضى بالعرف على ظاهر اللفظ, فإذا صحَّ الاعتماد على العرف
معارضًا بالظاهر، فالاعتماد عليه مطلقًا أولى, ووجه دخول حديث أبي طيبة في
الترجمة: أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يعارضه اعتمادًا على العرف في مثله.
(1/201)
قال
ابن التين وقوله: (وَيَأخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبحًا) إن أراد نفقة نفسه، فمذهب مالك
أنها لا تحسب ولا يحسب لها ربح، وإن أراد نفقة الرقيق فتجب عند مالك ويحسب لها
ربح، فهو خلاف مالك على كل حال إلا أن يريد أنه بيَّن ذلك، أو كانت عندهم عادة،
فتحتاج بيان هذه النفقة، لأنه يحتمل أن تكون كثيرة أو قليلة، وفي أكثر ما في الباب
دليل بوب عليه أن العادة تقوم عند عدم الشرط مَقامَه وهو مذهب مالك وغيره، وقال
الشافعي: لا اعتبار بذلك.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقوله: (يَأْخُذُ للعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ) يعني: لكل
عشرة من رأس المال دينار.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فأجازه قوم وكرهه آخرون، وممن كرهه ابن عباس، وابن عمر،
ومسروق، والحسن وبه قال أحمد وإسحاق، قال أحمد: البيع مردود.
وأجازه سعيد ابن المسيَّب والنخعي وهو قول مالك والثوري والكوفيين والأوزاعي.
وحجة منكره: لأنه بيع مجهول، وحجة من أجازه: بأن الثمن معلوم، والربح معلوم.
وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما في الصبرة من الطعام،
فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال: لا يلزم إلا القفيز الواحد، وعن مالك: لا
يأخذ في المرابحة أجر السمسار ولا أجر الشدِّ والطَّي ولا النفقة على الرقيق، ولا
كراء البيت، وإنما يحسب هذا في أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب
له الربح، لأنه لا بد منه، فإن أربحه المشتري على ما لا تأثير له جاز إذا رضي
بذلك، وقال أبو حنيفة: يحسب في المرابحة أجرة القصارة، وكراء
(1/202)
البيت،
والسمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام علي بكذا، يقوم عند عدم الشرط مقامه،
فهو مذهب مالك وغيره، وقال الشافعي: لا اعتبار بذلك، واستدلَّ جماعة من أصحابه على
جواز القضاء على الغائب في حقوق الآدميين لا حقوق رب العالمين، وكأنه غير جيد،
لأنها كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون
غائبًا عن البلد أو مستترًا لا يقدر على الخروج، وإنما هو إفتاء، فإنه إن صحَّ ما
قُلتِ فخذي من ماله بالمعروف.
وفيه دلالة أن المرأة لا تأخذ من مال زوجها شيئًا بغير إذنه قلَّ أو كثر، ألا ترى
أنه لما سألته قال لها: لا، ثم استثنى فقال: إلا بالمعروف.
وقولها في رواية أخرى: «مِسِّيكٌ» قال أبو موسى المديني: بكسر الميم وتشديد السين،
وقال ابنُ قُرْقُولٍ: كذا ضبطه أكثر المحدثين، ورواه المتقنون بفتح الميم وتخفيف
السين وكسرها، كذا عند المستملي وأبي بحر، وكذا ذكر أهل اللغة، لأن أمسك لا يبنى
منه فعل، إنما يُبنى من الثلاثي, وذكر السُّهَيلي أن أبا سفيان كان حاضرًا عند سؤالها،
فقال لها: أنت في حل مما أخذت، وهذا يوضح لك أنه ليس قضاء على غائب.
2212 – حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حدَّثَنَا ابن نُمَيْرٍ، أخْبَرَنَا هِشَامٌ،
وحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ فَرْقَدٍ، سَمِعْتُ هِشَامَ
بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: {وَمَنْ كَانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
[النساء: 6] أُنْزِلَتْ فِي وَالِي اليَتِيمِ الَّذِي يقومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ
فِي مَالِهِ، إنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ. [خ 2212]
(1/203)
هذا
الحديث أخرجه في التفسير فقال: حَدَّثَنا إسحاق بن منصور, حدَّثَنَا ابن نمير،
ولَمَّا استخرج أبو نعيم هذا الحديث في التفسير من طريق إسحاق بن إبراهيم عن ابن
نمير قال: رواه -يعني البخاري- عن إسحاق بن منصور, عن ابن نمير.
وقوله: (بابُ بَيعِ الشَّريكِ مِن شَريكِهِ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: بيع الشريك من
شريكه في كل شيء مشاع جائز, وهو كبيعه من الأجنبي، فإن باعه من الأجنبي فللشريك
الشفعة لعلة الإشاعة، قال البخاري في باب بيع الأرض والدور: ورواه عبد الرحمن بن
إسحاق عن الزهري, عبد الرحمن هذا ... مدني نزل البصرة.
وقوله: (قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فِي كُلِّ مَالٍ).
ورواه أحمد بن حنبل في «مسنده» عن عبد الرزاق بلفظ: «في كلِّ مالٍ يُقْسَمُ».
ورواهُ إسحاق بن إبراهيم عنه فقال: «فِي الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا
قُسِمَتِ الْحُدُودُ، وَعَرَفَ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ فَلَا شُفْعَةَ».
(بَابٌ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ)
2215 - ذكر حديث ابن عمر عن الثلاثة الذين سُدَّ عليهم الغار مطوَّلًا. [خ 2215]
قوله: (آوَاهُم) وفي رواية: <فَأَوَوا> هو بقصر الهمزة, ويجوز مدُّها, أي:
انضموا إلى الغار, وجعلوه لهم مأوى.
وقول بعضهم: (ادْعُوا بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ) استدلَّ به من يقول: يُسْتَحب
للإنسان أن يدعو الله تعالى بصالح عمله ويتوسل به، وفيه إثبات كرامات الأولياء
والصالحين.
وقوله: (لا أَغبِقُ) من الغُبوق, وهو اسم للشراب الْمُعَدِّ للعشيِّ.
وقوله: (دَأْبي وَدَأْبَهُما) أي: شأني وشأنهما، قال الفراء: أصله مِن دأبتُ، إلا
أن العرب حوَّلت معناه إلى الشأن.
وقوله: (فنَأَى بي طَلَبُ الشَّجَرِ يَومًا) منهم من يجعل الهمزة بعد الألف, وهما
لغتان وقراءتان, وهو البعد. أي: بعد بي طلب الشجر التي ترعاها الإبل.
وقوله: (لَمْ أَرُحْ) هو من الرواح، وهو ما بعد الزَّوال.
(1/204)
وقوله:
(يَتَضَاغَونَ) أي: يضجُّون من الجوع، والضُّغَاءُ ممدود مضموم الأول: صَوت
الذِّلة والفاقة.
وقوله: (فَافرُج) بضم الراء (عَنَّا فُرْجَةً) هي بضم الفاء، وزعم ابن التين أنه
ضبط في أكثر الأمهات (فَافْرُجْ) بضم الراء، وذكر صاحب «الصحاح»: أنه يكسر.
وذكر البخاري هنا: بـ (فَرْقٍ مِنْ ذُرَةٍ) وقال في المزارعة: «فَرْقُ أَرُزٍّ).
قوله: (فَزَرَعتُ حَتَّى اشتَرَيتُ مِنهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا) هو موضع الترجمة,
وبه استدل الحنفيون وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذن
مالكه إذا أجازه المالك بعد ذلك, وموضع الدلالة قوله: (فَلَم أَزرَعهُ حَتَّى
جَمَعتُ مِنهُ بَقَرًا) وفي رواية: <فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ
مِنْهُ الأَمْوالُ>. انتهى.
للشافعي أن يقول هذا إخبار عن شرع من قبلنا, وهل هو شرع لنا؟ فيه خلاف عند
المحققين، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: استدلَّ به أحمد على أن المستودع إذا اتجرَ في
مال الوديعة
وربح أن الربح إنما يكون لرب الملك, قال: وهذا لا يدل على ما قال, وذلك أن صاحب
الفَرَق إنما تبرع بفعله وتقرب به إلى الله جل وعز. وقد قال: إنه اشترى بقرًا, وهو
تصرف منه في أمر لم يوكله به, فلا يستحق عليه ربحًا, والأشبه معناه أنه قد يتصدق
بهذا المال على الأجير بعد أن اتجر فيه وأَنْمَاه.
والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء في المستودَع إذا اتجر بمال الوديعة, والمضارب إذا
خالف رب المال فربح أن ليس لصاحب المال من الربح شيء وعند أبي حنيفة المضارب ضامن
رأس المال، والربح له ويتصدق به والوضيعة عليه, وقال الشافعي: إن كان اشترى السلعة
بعين المال فالبيع باطل, وإن كان بغير عينه فالسلعة ملك المشتري وهو ضامن للمال.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأما من اتجر في مال غيره:
(1/205)
فقالت
طائفة: يطيب له الربح إذا ردَّ رأس المال إلى صاحبه، سواء كان غاصبًا للمال أو كان
وديعةً عندهم تعديًا فيه، هذا قول عطاء ومالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي يوسف،
واستحبَّ مالك والثوري والأوزاعي تنزهه عنه ويتصدق به.
وقالت طائفة: يرد المال ويتصدق بالربح كله، ولا يطيب له منه شيء، هذا قول أبي
حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر.
وقالت طائفة: الربح لرب المال، وهو ضامن لما تعدَّى فيه، وهو قول ابن عمر وأبي
قلابة وبه قال أحمد وإسحاق.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأصح هذه الأقوال قول من قال: إن الربح للغاصب والمتعدي,
والله أعلم.
(بَابُ الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الحَرْبِ)
2216 - حدَّثَنَا أبو النُّعْمَانِ، حدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عنْ أَبِيهِ، عنْ أَبِي
عُثْمَانَ، عنْ عبد الرحمن بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النبيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ
يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بَيْعًا أَمْ
عَطِيَّةً -أَوقَالَ: أَم هِبَةً-؟ قَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ
شَاةً». [خ 2216]
وفي موضع آخر: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ مِئَةً وَثَلاثينَ رَجُلًا، فَقَالَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ
صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ». الحديث, وفيه:
(فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ بِسَوَادِ البَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللهِ، مَا في
الثَّلاَثِينَ وَالمِئَة إِلَّا وقَدْ حَزَّ لَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ
كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، وَجَعَلَ مِنهَا قَصْعَتَيْنِ، وَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ
وَشَبِعْنَا، وَفَضَلَ فِي القَصْعَتَيْنِ فَحَمَلْناهُ عَلَى البَعِيرِ).
(1/206)
قال
أبو عبد الله: (مُشْعَانٌّ) طويل جدًا فوق الطول.
كلام البخاري لم يبِنْ منه مراده, هل كلامه عائد على الرجل أو على شعره، والذي
رأيت عند اللغويين ما ذكره ابنُ التَّيَّانيّ في «الموعب» عن الأصمعي: شَعْر
مُشْعَانٌّ بتشديد النون: منتفشٌ.
وأخبرني جويرية قال: خرج الوليد وهو مشعان الرأس وهو يقول: هلك الحجاج وقرة بن
شريك ويتفجع عليهما، واشْعَانَّ الشعر اشْعِيْنَانًا وهو الثائر المتفرق، وفي
«التهذيب»: تقول العرب: رأيت فلانًا مشعان الرأس إذا رأيته شعثًا منتفش الرأس
مُغبرًّا، وروى عمرو عن أبيه: أشعن الرجل إذا ناصَى عدوه فاشعانَّ شعره، وفي
«الجامع»: رأيت شعر فلان مشعانًا إذا رأيته جافًّا طائر الشعر، وعن المستملي: هو
البعيد العهد بالدهن، وقال ابن التين: هو مثلُ احْمَارَّ.
و (سَوادُ البَطنِ) قال ابنُ قُرْقُولٍ: قيل: هو الكبد خاصة، وقيل: حشوة البطن
كلها.
و (حَزَّ) قطع، والحُزَّةُ بضم الحاء: القطعة.
وهذا الحديث من أعلام نبوته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفيه رأفتُه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالحاضرين وتفقد الغائبين، وهو رد على جهلة المتصوفة حيث
يقولون: من غاب فات نصيبه.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: فيه ثبوت ملك الكافر على ما في يده.
وفي قوله: (أَمْ هِبَةً) دليل على قبول الهدية من المشرك لو وَهَب، وقد قال صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِعِيَاضِ بنِ حِمَار حين أهدى له في شركه: «إِنَّا لَا
نقبلُ زَبَدَ الْمُشْرِكينَ» يريد عطاءهم، قال أبو سليمان: يشبه أن يكون ذاك
منسوخًا، لأنَّهُ قد قبل هدية غير واحد من أهل
الشرك، أهدى له الْمُقَوْقَسُ وأُكَيْدَرُ دومة، قال: إلا أن يزعم زاعم أن بين
هدايا أهل الشرك وهدايا أهل الكتاب فرقًا. انتهى كلامه.
وفيه نظر في مواضع:
(1/207)
الأول:
قوله: إلا أن يزعم زاعم أن بين هدايا أهل الشرك وهدايا أهل الكتاب فرقًا، ردَّه
قول عبد الرحمن في نفس هذا الحديث: إنَّ هَذَا الرجلَ كانَ مشركًا، وقد قال له:
(أهدية أم بيع؟).
الثاني: هدية أُكَيْدر كانت قبل إسلام عبد الرحمن بن أبي بكر راوي هذا الحديث، لأن
إسلامه كان في هدنة الحديبية، وذلك في سنة سبع، وهدية أُكَيْدر كانت بعد وفاة سعد
بن معاذ، ذكر البخاري ... عنْ أنسِ بنِ مالكٍ: «إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى
إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جُبَّةً منْ سُنْدُسٍ، فَعَجِبَ
النَّاسُ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَه» وسعد توفي بعد غزوة بني قريظة سنة أربع في قول
ابن عقبة، وعند ابن إسحاق سنة خمس، وأيًّا ما كان فهو قبل إسلام عبد الرحمن، وبعث
حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس في سنة ستٍّ، ذكره ابنُ مَنْدَه وغيره، فدلَّ أنه
قبل هذا الحديث.
الثالث: لقائل يقول: إن هذين اللذين قبل منهما هديتهما ليسا سوقة، إنما هما ملكان،
وبينهما وبين السوقة فرقان، فقبول هديتهما تألُّفًا، لأنه لو ردَّ هديتهما لحصل
منهما من ذلك بعض الشيء، وكذا يقال في هدية كسرى المذكورة في كتاب الحربي من حديث
ثُوَيْرِ بنِ أبي فَاخِتَة عن أبيه عن علي، وردَّ هدية عياض بن حمار، وكان بينه
وبين النبي معرفة قبل البعثة، فلما بُعِثَ أهدى له فردَّ هديته، وكذا ذو
الجَوْشَن، لما فرغ النبي من بدر أهدى له فرسًا فلم يقبلها، وكذا مُلَاعبُ
الأَسِنَّةِ، حين رد هديته. ذكر الأولين أحمد والأخير الحربي كلهم كانوا سوقة
ليسوا ملوكًا، وأهدى له ملك أيلة وفروة الجذامي فقبلها، وهي من الباب الذي ذكرناه.
وقد ذكر أبو عبيد في «كتاب الأموال» فيما رويناه عنه في كتاب أكيدر لما ذكرناه،
قيل: إن سيدنا
%ج 3 ص 245%
(1/208)
رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما قبل هدية أبي سفيان بن حرب، لأنها كانت في
مدة الهدنة بينهما، وكذا المقوقس إنما قبل هديته، لأنه أكرم حاطبًا وأقر بنبوته
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولم يؤيسه من إسلامه، وقبول هدية الأكيدر، لأن خالدًا
قدم به، فحقن صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دمه وصالحه على الجزية، لأنه كان
نصرانيًا ثم خلى سبيله، يعني: فأهدى، وكذا ملك أيلة لما أهدى كان كساه النبي بردًا
وكتب له ببحرهم، وهذا كله يرجع إلى أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان لا يقبل
هدية إلا من كتابيٍّ.
الرابع: نقول: قَبوله هديتهم، لأنه يثيبهم عليها كما أسلفناه، وقبوله هذا المشرك
أيضًا ذلك تأنيسًا له، ولأن يثيبه بأكثر مما أهدى.
وقد اختلف الناس فيما يُهْدَى للأئمة، فروي عن علي: أنه كان يوجب ردَّه إلى بيت
المال، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: ما أَهْدَى إليه أهل الحرب فهو له دون
بيت المال.
قال أبو سليمان: وأما ما يُهْدَى لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
خاصة فهو في ذلك بخلاف الناس، لأن الله جلَّ وعزَّ اختصه في أموال أهل الحرب
بخاصية لم تكن لغيره قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ} [الحشر: 6]، بعد قوله: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7]،
فسبيل ما تصل إليه يده من أموالهم على جهة الهدية والصلح سبيل الفيء يضعه حيث أراه
الله، فأما المسلمون إذا أهدوا إليه فكان من سجيته ألا يردها بل يثيبهم.
وفيه أن ابتياع الأشياء من المجهول الذي لا يُعْرَفُ جائزٌ حتى يطَّلع على ما يلزم
التورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة وشبههما، قال ابن المنذر: من كان
بيده شيء فظاهره أنه مالكه، ولا يلزم المشتري أن يعلم حقيقة ملكه.
واختلف العلماء في مبايعة مَنِ الغالبُ على مالِه الحرامُ وقبول هديته وجائزته:
(1/209)
فرخصت
فيه طائفة، فكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى بأسًا أن يأكل الرجل من طعام العَشَّار
والصرَّاف والعامل، ويقول: قد أحل الله تعالى طعام اليهودي والنصراني، وقد أخبر جل
وعز أن اليهود أكَّالون للسحت، قال الحسن: ما لم
يعرفوا شيئًا منه حرامًا، يعني: معيَّنًا.
وعن الزهري ومكحول: إذا كان المال فيه حرام وحلال فلا بأس أن يؤكل منه، إنما يكره
من ذلك الشيء الذي يُعْرَفُ بعينه.
وقال الشافعي: لا أحب مبايعة من أكثرُ ماله ربًا أو كسبُه من حرام، فإن بويع لا
يفسخ البيع.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: والمسلم والذمي والحربي في هذا سواء.
وسيأتي ذكره أيضًا إن شاء الله في كتاب الهدية.
(بَابُ شِراءِ الممْلُوكِ مِنَ الحَرْبيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ)
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِسَلْمَانَ: «كَاتِبْ» وَكَانَ
حُرًّا، فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ.
هذا التعليق خرَّجه ابن حبان في «صحيحه» والحاكم من حديثه عن أبي الفضل الحسن بن
يعقوب, حَدَّثَنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب, حَدَّثَنا علي بن عاصم, حَدَّثَنا
حاتم بن أبي صَغِيْرَةَ، عنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ, عن زيد بن صُوحان, فذكره وقال:
هذا حديث صحيح عالٍ في ذكر إسلام سلمان الحديثَ، وفيه: حَتَّى لَقِيَنِي رَكْبٌ
مِنْ كَلْبٍ، فَسَأَلْتُهُمْ: فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامِي حَمَلُونِي حَتَّى
أَتَوا بِلَادَهُم فَبَاعُوني, فقال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كَاتِبْ
يَا سَلمَانُ».
(1/210)
وقال
البزار: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنا بكرُ بنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنا
محمدُ بْنِ إِسْحَاقَ، سَمِعَ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ
بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ الحديثَ، وفيه: «ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ
كَلْبٍ تُجَّارٌ، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ
وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ، قَالُوا: نَعَمْ،
فَأَعْطَيْتُهُمْ وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي
الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ بأُوقيةٍ, فقال رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كَاتِب يَا سَلمَانُ»، فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة
نخلة أحييها له, وعلى أربعين أوقية، الحديثَ.
وعند الحاكم أيضًا ما يدل أنه هو ملَّك رقبته لهم, وهو عنده من حديث أبي الطفيل عن
سلمان صحيحًا, وفيه: «فَمَرَّ بِي نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلْتُهُمْ عنْ
رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالُوا: نَعَمْ، ظَهَرَ فِينَا
رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَكُونَ
عَبْدًا لِبَعْضِكُمْ عَلَى أَنْ تَحْمِلُونِي عَقِبَهُ وَتُطْعِمُونِي مِنَ
الْكِسَرِ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَبِيعَ
بَاعَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَسْتَعْبِدَ اسْتَعْبَدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ:
أَنَا فَصِرْتُ عَبْدًا لَهُ حَتَّى أَتَى بِي مَكَّةَ فَجَعَلَنِي فِي بُسْتَانٍ
لَهُ» الحديثَ.
وعند البخاري: حَدَّثَنِي الحَسَنُ قالَ: حَدَّثَنا مُعْتَمِرٌ، قَالَ أَبِي
حَدَّثَنا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ: «أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَة عَشَرَ،
مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ». وسيأتي طرف منه في الفضائل, قَالَ البُخَارِيُّ: وسُبي
عمار وصهيب وبلال. انتهى.
(1/211)
يعني
البخاري أنهم كانوا في الجاهلية يسبي بعضهم بعضًا, ويمتلكون بذلك, وقد روينا عن
سعد أنه قال: أخبرنا أبو عامر العقدي وأبو حذيفة موسى بن مسعود قالا: حَدَّثَنا
زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: «إِنِّي
رَجُلٌ مِنَ العربِ منَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ, وَلَكِنِّي سُبِيْتُ، سَبَتْنِي
الرُّومُ غُلَامًا صَغِيرًا بَعْدَ أَنْ عَقَلْتُ أهلي وَعَرَفْتُ نَسَبِي»
الحديثَ.
قَالَ البُخَارِيُّ: قال الله جل وعزَّ: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
فِي الرِّزْقِ} الآية [النحل: 71] , قال ابن التين: معناه: أن الله فضَّل الملَّاك
على مماليكهم, فجعل المملوك لا يقوى على ملك مع مولاه, وأعلم أن المالك لا يشرك
مملوكه فيما عنده, وهما من بني آدم, فكيف تجعلون بعض الرزق الذي يرزقكم اللهُ لله
وبعضه لأصنامكم فتشركون بين الله وبين الأصنام، وأنتم لا ترضون ذلك مع عبيدكم
لأنفسكم؟!
(1/212)
2217
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنا أَبُو الزِّنَادِ
عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِسَارَةَ،
فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ
الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ
النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي
مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِي
حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ
مِنْ مُؤْمِنٍ غَيْرِي وَغَيْركِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَامَتْ
تَوَضَّأَتْ، ثُمَّ صَلَّتْ وَقَالَتْ: اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ
وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ
عَلَيَّ الكَافِرَ،
قَالَ: فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ». [خ 2217]
قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ: «فقَالَتْ:
اللهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ: هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ،
أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا
شَيْطَانًا، أرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللهَ كَبَتَ الكَافِرَ
وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً؟».
(1/213)
ذكر
أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب «التيجان»: (أن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خرج من مدين إلى مصر, وكان معه من المؤمنين ثلاث مئة وعشرون رجلًا, وبمصر
ملكها عمرو بن امرئ القيس بن نابليون بن سبأ، وكان خالَّ إبراهيم صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لشدة إعجابه به, فوشى به خياط كان إبراهيم يمتار منه, فأمر بإدخال
إبراهيم وسارة, ثم نحَّى إبراهيم وقام إلى سارة, فلما صار إبراهيم صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ خارج القصر جعله الله له كالقارورة الصافية, فرأى الملك وسارة وسمع
كلامهما, فهمَّ عمرو بسارةَ ومدَّ يده فيبست, فمدَّ الأخرى فكذلك, فلما رأى ذلك
كفَّ عنها وقال: يا سارة أهكذا يصيب الرجال معك؟! فقالت: أنا ممنوعة من الخلق إلا
من بعلي إبراهيم, فأمر بدخوله وقال له: لا تحدث يا إبراهيم نفسك بشيء, فقال: أيها الملك
إن الله جل وعز جعل قصرك لي كالقارورة, فما خفي عليَّ شيء مما فعلت, فقال الملك:
لكما شأن عظيم يا إبراهيم).
قال ابن هشام: وكان الخياط أخبر الملك بأنه رآها تطحن, فقال الملك: يا إبراهيم ما
ينبغي لهذه أن تخدم نفسها, فأمر له بهاجر.
وفي «المعارف» لابن قتيبة: القرية الأردن, والملك صادوق, وكانت هاجر لملك من ملوك
القبط.
وعند الطبري: كانت امرأة ملك من ملوك مصر, فلما قتله أهل عين شمس احتملوها معهم,
وزعم أن الملك الذي أراد سارة اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك.
وذكر السُّهَيلي في «الروض»: أن سارة هي بنت توبيل بن ناحور، وقيل: سارة بنت هاران
بن ناحور، وقيل: بنت هاران بن تارخ،
(1/214)
وهي
بنت أخيه على هذا, وأخت لوط, قاله الْعُتْبِي في «المعارف»، والنَّقَّاشُ في
«التفسير» قال: وذلك أن نكاح بنت الأخ كان حلالًا إذ ذاك، ثم إن النَّقَّاشَ نقض
هذا القول فقال في تفسير قوله جلَّ وعز: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]: هذا يدل على تحريم بنت الأخ على لسان نوح صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ.
قَالَ السُّهَيلي: وهذا هو الحق, وإنما توهموا أنها بنت أخيه، لأن هاران أخوه وهو
هاران الأصغر، وكانت هي بنت هاران الأكبر وهو عمُّه.
قال ابن الجوزي: على هذا الحديث إشكال ما زال يختلج في صدري، وهو أن يقال: ما معنى
توريته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الزوجة بالأخت، ومعلوم أنَّ ذِكْرَهَا
بالزوجية أسلمُ لها، لأنه إذا قال: هذه أختي قال: زوجنيها، وإذا قال: امرأتي، سكت،
هذا إن كان الملك يعمل بالشرع، فأما إذا كان كما وصف من جَوْرِه فما يبالي أكانت
زوجة أو أختًا، إلى أن وقع لي أن القوم كانوا على دين المجوس، وفي دينهم أن الأخت
إذا كانت زوجة كان أخوها الذي هو زوجها أحق بها من غيره، فكان الخليل صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أراد أن يستعصم من الجبار بذكر الشرع الذي يستعمله، فإذا هو جبار
لا يراعي جانب دينه، قال: واعترض على هذا بأن الذي جاء بمذهب المجوس زرادشت وهو
متأخر عن الزمان، فالجواب: أن لمذهب القوم أصلًا قديمًا ادَّعاهُ زرادشت وزاد عليه
خرافاتٍ أُخَرَ، وقد كان نكاح الأخوات جائزًا من زمن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ويقال: إنَّ حرمته كانت على لسان موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
قال: ودلَّ على أن دين المجوس له أصل ما رواه أبو داود: «أنَّ النبيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أخذَ الجزيةَ منْ مَجُوسِ هَجَر».
ومعلوم أن الجزية لا تؤخذ إلا ممن له كتاب أو شبهة كتاب، ثم سألت عن هذا بعض علماء
أهل الكتاب،
(1/215)
فقال:
كان من مذهب القوم أن من لها زوج لا يجوز أن تتزوج إلا أن يهلك زوجها، فلما علم
إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هذا قال: هي أختي، كأنه قال: إن كان الملك
عادلًا فخطبها مني أمكنني دفعه، وإن كان ظالمًا تخلصت من القتل، وقيل: إن النفوس
تأبى أن يتزوج الإنسان بامرأة وزوجها موجود، فعدل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن
قوله: زوجتي، لأنه يؤدي إلى قتله أو طرده عنها وتكليفه لفراقها.
وقال القرطبي: قيل: إن ذلك الجبار كان من سيرته أنه لا يغلب الأخ على أخته ولا
يظلمه فيها، وكان يغلب الزوج على زوجته، وعلى هذا يدل مساق الحديث، وإلا فما الفرق
بينهما في حق جبار ظالم؟! وهذا من باب المعاريض الجائزة والحِيَلِ من التخلص من
الظلمة، بل نقول: إنه إذا لم يتخلص رجل من الظلمة إلا بالكذب الصراح جاز له أن يكذب،
وقد يجب في بعض الصور بالاتفاق لكونه ينجي نبيًّا أو وليًّا ممن يريد قتله، أو
نجاة المسلمين من عدوهم، انتهى.
الذي ذكرناه من عند ابن هشام يرد هذا كله فينظر.
وقولها: (فَغَطَّ) قال ابن التين: ضبط في بعض الأصول بفتح الغين، وصوابه بالضم،
كذا في بعض الأصول.
و (رَكَضَ بِرِجْلهِ) أي: ضرب بها.
وقول الأعرج: (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ: قالَ: اللهُمَّ إِنْ
يَمُتْ) الحديثَ موقوف الظاهر، وكذا ذكره أصحاب الأطراف، وكأن أبا الزناد روى
القطعة الأولى مسندة وهذه موقوفة.
وقوله: (مَا أَرسَلتُمْ إِليَّ إِلَّا شَيطانًا) سبب قوله ذلك أنه جاء في بعض
الروايات لما قبضت يده عنها قال لها: ادعي لي، فقال ذلك لئلا يتحدث بما ظهر من
كرامتها فتعظم في نفوس الناس وتتبع، فَلبس على السَّامع بِذكر الشَّيْطَان.
و (آجَرُ) هي هَاجر من حَقْن من كَوْرَةِ أَنْصِنَا.
و (كَبَتَ الكافرَ) أي: ردَّه خائبًا، وقيل: أحزنه، وقيل: أغاظه، لأن الكبت شدة
الغيظ، وقيل: صرعه وصرفه، وقيل: أذلَّه، وقيل:
(1/216)
أخزاه،
وقيل: أصله كَبَدَ، أي: بلغ الهم كَبِدَه، فأبدل من الدال تاء.
وقولها: (وَأخدَمَ وَلِيْدَةً) أي: أعطى خادمًا.
وفيه قبول هدية المشرك، وهذا موضع الدلالة لما بوب البخاري، وزعم الخطابي أن من
قال لامرأة: أنت أختي، لا يريد طلاقًا لم يكن طلاقًا، ولو قال: مثل أختي، ولم يرد
الطلاق يكون ظهارًا.
وفيه دلالة لمن لم ير طلاق المكره واقعًا، والله أعلم.
2218 - ثم ذكر البخاري حديث اختصام سعد وعبد بن زمعة الحديث المتقدم. [خ 2218]
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مناسبة ذكره في هذا الباب أن عبد بن زمعة قال: هذا ابن
أَمَةٍ، أي: ولد على فراشه، فأثبت لأبيه أمةً وملكًا عليها في الجاهلية، فلم ينكر
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذاك وسمع خصامها، وهو دليل على تنفيذ عهد المشرك
والحكم به.
وذكر البخاري في حديث حكيم بن حزام (أَتَحَنَّثُ) أو (أتَحَنَّتُ)، كذا في نسخة
السماع، الأول بالثاء المثلثة والثاني بالمثناة وعليها تمريض، وفي بعض النسخ
بالعكس، كذا ذكره ابن التين، قال: ولم يذكر أحد من اللغويين التاء المثناة، وإنما
هو بالمثلثة كما جاء في حديث حراء: (فَيتَحنَّث) أي: يتعبد، وذكر أبو الفضل عياض:
أن التاء المثناة غلط من جهة المعنى، والرواية صحيحة، والوهم فيه من شيوخ البخاري
بدليل قول البخاري ويقال أيضًا: عن أبي اليمان، والصحيح الذي روته الكافَّةُ
بالمشددة، ويحتمل على تقدير الصحة أن يكون أصلها من الحانوت أو الحانة، قال ابن
الأثير: كانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت والحانةُ مثله، فعلى هذا التقدير
(أَتَحَنَّثُ) أي: أتجنب موضع الخمارين والحانة.
(1/217)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: غرض البخاري في هذا الباب إثبات ملك الحربي المشرك، وجواز تصرفه في
ملكه بالبيع والهبة والعتق وجميع ضروب التصرف, إذ أقرَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ سلمان عند مالكه الكافر، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال، باعهم ملاكُهم
-من الكفار- المسلمين، واستحقوا أثمانهم.
وقال الطبري: إن قال قائل: كيف جاز لليهودي ملك سليمان وهو مسلم؟ فالجواب: أن حكم
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وشريعتَه أن من غلبه من أهل الحرب على نفس غيره
أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل في صبغة الإسلام فهو لغالبه ملكًا، وكان
سلمان حين غلب على نفسه غير مؤمن، وإنما كان إيمانه إيمان تصديق بالنبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا بُعِثَ مع إقامته على شريعة عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فأقره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مملوكًا لمن كان في يده، إذ كان
الحكم أن من أسلم من رقيق المشركين في دار الحرب ولم يخرج مراغِمًا لسيده، وكان
سيده من أهل صلح المسلمين فهو مملوك لمالكه.
وقول البخاري: وقالَ جابرٌ: «حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بَيْعَ الخِنْزِيرِ». مذكور عنده مسندًا بعدُ بلفظ: سمعتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عامَ الفتحِ وهو بِمَكَّةَ يقولُ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى
وَرَسُوْلَهُ حَرَّمَا بَيْع الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأَصْنَامِ».
وعند ابن أبي شيبة: حدَّثَنَا ابن أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي
الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ لَنَا،
فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الكريمةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ سَأَلْنَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنهُ فَقَالَ: «أَهَرِيقُوهُ».
(1/218)
وعند
الترمذيِّ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي
اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي، قَالَ: «أَهَرِقِ الخَمْرَ،
وَاكْسِرِ الدِّنَانَ». قال أبو عيسى: رَوَى الثَّوْرِيُّ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ عِنْدَهُ
وَهَذَا أَصَحُّ، ولَمَّا ذكر حديث أبي سعيد من جهة مجالد حسنه، قال ابن التين: في
هذا إبطال لقول من شذَّ من الشافعية إذ قال: يترك الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة،
ومذهب الجمهور أنه إذا وجد الخنزير في دار الكفر وغيرها وتمكنَّا من قتله قتلناه.
وذكر البخاريُّ في:
(بَاب: لاَ يُذَابُ شَحْمُ المَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُ)
قَالَ البُخَارِيُّ: رواه جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، هذا التعليق
ذكره البخاري في «صحيحه» مسندًا بعدُ، وقال في أخبار بني إسرائيل: رواه أبو هريرة
عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كأنه يريد بما سنذكره هنا:
2223 - وذكر حديث ابنَ عباسٍ قالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا،
فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟!». [خ 2223]
وعند أبي داود من حديث أبي الوليدِ بَرَكَةَ عن ابنِ عباسٍ قال: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جَالِسًا عِنْدَ الرُّكْنِ، قَالَ: فَرَفَعَ
بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ، وقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ -ثَلَاثًا-
إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
ثَمَنَهُ».
و عن أبي هريرة يرفعه: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ
الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ».
(1/219)
وعند
مسلمٍ عن ابنِ عباسٍ: «إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، فَسَارَّ
إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بِمَ
سَارَرْتَهُ؟، قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ
شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا
فِيهَا».
وفي «علل ابن أبي حاتم» عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن
الوليد، عن عبد الله بن عمرو يرفعه: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخنازيرِ
والميتةِ والأصنامِ، فقالَ رجلٌ: مَا تَرَى في شُحُوْمِ الميتةِ؟ فقالَ: لَعَنَ
اللهُ اليهودَ» الحديثَ.
قال: قال لي أبي: لا أعلم أحدًا من المصريين روى هذا الحديث عن يزيد عن عمرو بن
الوليد، فإن كان عبد الحميد حفظه فإن محله الصدق، وذكر النسائي في «سننه» فلانًا
هذا سمَّاه سَمُرَةَ بنَ جُنْدَبٍ.
وعند البيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر: إن سمرة باع خمرًا، قاتل
الله سمرةَ الحديثَ.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: قيل: إن سمرة لم يبع الخمر بعينها، ولكن خللها ثم باعها،
وإلا فكيف يجوز على مثل سمرة بيع عين الخمر، وقد شاع تحريمه، لكنه خلَّلها
متأولًا، وكان سمرة واليًا لعمر على البصرة، ويحتمل أنه باع العصير ممن يتخذه
خمرًا، والعصير قد يسمى خمرًا كما يسمى به العنب، قال جل وعز: {إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36].
وقال ابن الجوزي: يحمل على أنه كان يأخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فيبيعها
بينهم ظنًا منه أن ذلك جائز. وقال: قائله لنا ابن ناصر وإنما كان ينبغي له أن
يوليهم بيعها، قال ابن ناصر: هذا هو الصحيح.
(1/220)
وذكر
الحافظ أبو بكر الإسماعيلي فيما رويناه عنه في كتاب «المدخل»: يجوز أن سمرة علم
بتحريم ثمنها ولم يعلم بتحريم بيعها، ولو لم يكن كذلك لما أقره عمر على عمله
ولعزله لو فعله عن علم، أخبرنا بذلك الإمام علي بن أبي بكر عرف بابن الصلاح قراءة
عليه وأنا أسمع عن سبط الشامي عنه، أخبرنا ثابت بن بندار، أخبرنا البرقاني عنه
سماعًا.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة بتحريم الله جل وعز لها،
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدَّمُ} [المائدة: 3]، واعترض بعض
الملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان الأب وطئها، فإنها تحرم على الابن،
ويحل له بيعها بالإجماع وأكل ثمنها، قال القاضي: وهذا تمويه على من لا علم عنده،
لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من
الناس، ويحل لهذا الابن الانتفاع في جميع الأشياء سوى الاستمتاع، ويحل لغيره
الاستمتاع وغيره بخلاف الشحوم فإنها محرمة المقصود منها، وهو الأكل منها على جميع
اليهود، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل على كل أحد، فكان ما عدا الأكل تابعًا له
بخلاف موطوءة الأب، وقد قال العلماء: وفي عموم تحريم الميتة أنه يحرم بيع جثة
الكافر كأنهم لمحوا ما جاء أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم
الخندق، فبذل الكفار في جسده للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عشرة آلاف درهم،
فلم يأخذها ودفعها إليهم، وقال: لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه، ذكره ابن هشام، وله
أصل في «كتاب الترمذي».
و (جَملوها) أي: أذابوها، [واستدل به أصحاب مالك على سد الذرائع، لأن اليهود توجه
عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل، وأكل الثمن ليس هو أكل
الأصل بعينه، لكنه لما كان سببًا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم ولهذا]
%ج 3 ص 255%
(1/221)
قَالَ
الخَطَّابِيُّ في هذا الحديث: إبطال الحيل والوسائل التي يتوصل بها إلى المحظورات
ليعلم أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه.
(بَابُ بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ
ذَلِكَ).
2225 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ، قَالَ: كُنْتُ
عِنْدَ ابنِ عَبَّاسٍ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا مَعِيشَتِي
مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابنُ
عَبَّاسٍ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى
يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا» فَرَبَا الرَّجُلُ
رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ
إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ، فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ وكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ
رُوحٌ. [خ 2225]
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَمِعَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنَ النَّضْرِ
بْنِ أَنَسٍ هَذَا الوَاحِدَ.
طريق سعيد هذه التي أشار إليها البخاري خرَّجها هو في كتاب اللباس عن عباس بن
الوليد عن عبد الأعلى عن ابن أبي عروبة، سمعت النضر يحدث قتادة قال: كنت عند ابن
عباس، فذكره.
(1/222)
ورواها
مسلم فأدخل ابن سعيد والنضر قتادة، قال الجِيَاني: وليس بشيء لتصريح البخاري وغيره
بسماع سعيد من النضر هذا الحديث وحده، وعند مسلم أيضًا أبي غسان وأبي موسى عن معاذ
بن هشام عن أبيه عن قتادة عن النضر مثله، وعنده أيضًا: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي
النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي
جَهَنَّمَ». وعند أبي: وليس لسعيد بن أبي الحسن في «الصحيحين» غير هذا، ولا للنضر
عن ابن عباس فيهما غيره، وعند أبي جعفر الطحاوي بسند صحيح عن أبي بكرة: حَدَّثَنا
أبو الوليد، حَدَّثَنا شعبة عن عون بن أبي جُحَيْفَةَ عن أبيه، قال: «لَعَنَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْمُصَوِّرِيْنَ».
وعن عمير عن أسامة بن زيد يرفعه: «قَاتَلَ الله قَوْمًا يُصَوِّرُوْنَ مَا لَا
يَخْلُقُوْنَ».
وعن مجاهدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ, إِنِّي جِئْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَدْخُلَ
الْبَيْتَ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ تِمْثَالُ رَجُلٍ, فَمُرْ
بِالتِّمْثَالِ, فَلْيُقْطَعْ رَأْسُهُ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ»،
وفي لفظ: «تَمَاثِيلُ خَيْلٍ وَرِجَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَقْطَعَ رُؤُوسَهَا أو
أَنْ تَجْعَلَهَا بِسَاطًا».
(1/223)
قالَ
الْمُهَلَّبُ: إنما َكُرِهَ هذا من أجل أن الصورة التي فيها الروح كانت معبودة في
الجاهلية، فَكُرِهَتْ كلُّ صورة وإن كانت لا فيء لها ولا جسم قطعًا للذريعة، حتى
إذا استوطن أمر الإسلام، وعرف الناس من أمر الله وعبادته ما لا يخاف عليهم فيه من
الأصنام والصور، أرخص فيما كان رقمًا أو صبغًا أو وُضِعَ موضع المهنة، وزعم النووي
أن كل ذلك حرام، وأما ما لا روح فيه فليس بحرام، وإليه ذهب الثوري وأبو حنيفة
ومالك وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين، قال: وقال بعض السلف: إنما ينهى عما
كان له ظلٌّ ولا بأس بالصور التي لا ظلَّ لها، قال: وهو مذهب باطل، وقال الزهري:
النهي عن الصورة عامٌّ. وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقمًا في ثوب، وهو مذهب
القاسم بن محمد. انتهى.
وكأن البخاري فَهِمَ من قوله في الحديث: (إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ
يَدِي) وأجابه ابن عباس بإباحة صور الشجر وشبهه جواز البيع فترجم عليه.
قال القرطبي: في قوله عند مسلم: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يومَ القِيَامَةِ
الْمُصَوِّرُوْنَ» يقتضي ألا يكون في النار أحد يزيد عذابه على عذاب المصورين،
وهذا يعارضه قوله جل وعز: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:
46]، وقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَشَدَّ الناسِ عَذَابًا عَالِمٌ لَمْ
يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ». وقوله: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يومَ
القِيَامَةِ إِماَمُ ضَلَالةٍ» في أشباه لذلك، قال: ووجه التوفيق أن الناس الذين
أضيف إليهم أشد لا يراد بهم كل نوع الناس، بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعَّد
عليه بالعذاب، ففرعون أشد المدعين للإلهية عذابًا، ومن يقتدي به في ضلالةِ كفرٍ
أشدُّ ممن يقتدي به في ضلالة بدعة، ومن صوَّر صورًا ذات أرواح أشد عذابًا ممن صور
ما ليس فيه روح، فيجوز أن
(1/224)
يعني
بالمصورين الذين يصورون الأصنام للعبادة كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل
النصارى، فإن عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة. انتهى.
لقائل أن يقول: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا) بالنسبة إلى هذه الآية لا إلى غيرها
من الكفار، فإن صورها للتعبد أو لمضاهاة خلق الله، فهو كافر قبيح الكفر، فلذلك
زِيْدَ في عذابه.
قال عياض: وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره، إلا ما ورد في اللعب
بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك، وكره مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادعى
بعضهم أن إباحة اللعب بهن للبنات منسوخ.
قال القرطبي: واستثنى بعض أصحابنا من ذلك ما لا يبقى كصور الفخار والشمع وما شاكل
ذلك، وهو مطالب بدليل التخصيص، وكانت الجاهلية تعمل أصنامًا من العجوة حتى أن
بعضهم جاع فأكل صنمه.
قال القرطبي: ويستفاد من قوله: (وليسَ بِنَافِخٍ) جواز التكليف بما لا يقدر عليه
قال ولكن ليس مقصود الحديث التكليف، وإنما المقصود منه تعذيب الْمُكَلَّفِ وإظهار
عجزه عما تعاطاه مبالغة في توبيخه وإظهار قبح فعله.
وقوله: (رَبَا الرَّجُلُ) قال ابنُ قُرْقُولٍ: أي ذُعِرَ وامتلأ خوفًا، وعن صاحب
«العين»: ربا الرجلُ أصابه نفس في جوفه، وهو الربو والرَّبْوة والرِّبوة، وهو نهج
ونفس متواتر.
قال عياض: مذهب العلماء كافة أن الشجر ونحوه لا يحرم إلا ما روي عن مجاهد، فإنه
جعل الشجر المثمر من المكروه، قال: ولم يقله غيره.
وقال الطحاوي: فلما أبيحت التماثيل بعد قطع رؤوسها الذي لو قطع من ذي الروح لم يبق
دَلَّ ذلك على إباحة تصوير ما لا روح له، وعلمنا أن الثياب المستثناة هي المبسوطة
لا ما سواها من الثياب المعلقة والملبوسة، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
(بَابُ إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا)
2227 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي سعيدٍ، عَنْ
(1/225)
أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ اللهُ جَلَّ
وَعَزَّ: «ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي
ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ». [خ 2227]
قَالَ البَيْهَقِيُّ: رواه النُّفَيْلِيُّ عن يحيى بن سليم فقال: عن سعيد بن أبي
سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وفي «مسند أبي يعلى الموصلي» زيادة: «وَمَنْ كُنْتُ
خَصْمُهُ خَصَمْتُهُ».
قال ابن التين: الربُّ جلَّ وعزَّ خصمٌ لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على
هؤلاء الثلاثة.
وقوله: (بَاعَ حُرًّا) يعني: متعمدًا، وغير المتعمد لا يدخل في هذا.
وقال أبو الفرج: إذا منع الحر التصرف فيما أباح الله له وألزمه حال الذِّلَّةِ
والصَّغَار، فكأنه نازع الربَّ جلَّ وعزَّ في عباده، فلذلك كان عظيمًا من الذنوب.
وقال ابن المنذر: كل من لقيته من أهل العلم على أنه من باع حرًّا لا يقطع، بل
يعاقب.
وروي عن ابن عباس: أن البيع يرد ويعاقبان.
وروى خلاس عن علي بن أبي طالب أنه قال: تقطع يدُه.
قال أبو بكر: والصوابُ قولُ الجماعة، لأنَّه ليس بسارقٍ، ولا يجوز قطع غير السارق.
وقال ابن حزم: ولا يحل بيع الحر، وفيه خلاف قديم وحديث، نوردُ إن شاء الله منه ما
تيسر، ليعلم مدعي الإجماع فيما هو أخفى من هذا أنه غير جيد.
ثم ذكر عن عبد الله بن بُرَيْدَةَ: أن رجلًا باع نفسه، فقضى عمر بن الخطاب بأنه
عبد كما أقر على نفسه، وجعل ثمنه في سبيل الله تعالى.
وَعِنْدَ ابنِ أَبِي شَيْبَةَ عن شريك عن الشعبي عن علي قال: إذا أقرَّ على نفسه
بالعبودية فهو عبد. ومن طريق سعيد بن منصور: حَدَّثَنا هشيم، أخبرنا مغيرة بن مقسم
عن النخعي، فيمن ساق إلى امرأته رجلًا، فقال إبراهيم: هو رهن بما جعل فيه حتى يفتكَّ
نفسه.
(1/226)
وعن
زرارة بن أوفى رضي الله عنه قاضي البصرة ومن التابعين رضي الله عنهم: أنه باع
حرًّا في دَين عليه.
قال أبو محمد: وقد روينا هذا القول عن الشافعي وهي أقوالٌ غريبة لا يعرفها من
أصحابه إلا من تبحر في الآثار، وهذا أيضًا عمر وعلي بحضرة الصحابة ولم يعترضهم
معترض.
قال: وقد جاء أثر
بأن الحر يباع في الدين في صدر الإسلام إلى أن أنزل الله جلَّ وعزَّ: {وَإِنْ
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة} [البقرة: 280].
روى دينار عن أبي سعيد الخدري: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بَاعَ حُرًّا أَفْلَسَ». ورواه الدَّارَقُطْني من حديث حجاج عن ابن جرير فقال: عن
أبي سعيد أو أبي سعد على الشك.
وعند الدارمي من حديث مسلم بن خالد الزنجي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن
السليماني، عن سُرَّقٍ أنَّهُ أخذَ منْ أعرابيٍّ بَعِيْرَيْنِ فَبَاعَهُمَا، فقالَ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا أَعْرَابيُّ، اذهبْ فَبِعْهُ حَتَّى تستوفيَ
حقًا» فأعتقه الأعرابي.
ورواه أبو سعد عن أبي الوليد الأزرقي عن مسلم، وهو سند صحيح، وأما قول عبد الحق:
مسلم وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيفان فغير جيد، لأن مسلمًا وثقَّه غير واحد،
وعبد الرحمن لا دخل له في هذا، ورواه أبو عبد الله الحاكم من حديث بندار،
حَدَّثَنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار،
حَدَّثَنا زيد بن أسلم، وقال: صحيح على شرط البخاري.
وفي «مراسيل أبي داود» عن الزهري ما يعارض هذا، وهو: «كانَ يَكُونُ عَلَى عَهْدِ
رَسُوْلِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ديونٌ عَلَى رجالٍ، مَا عَلِمْنَا
حُرًّا بِيْعَ في دينٍ».
وقوله: (أَعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ) يريد: نقض عهدًا عاهده عليه، قاله ابن بطال.
وقال ابن الجوزي: يعني حلف بي، لأنه اجترأ على الله جلَّ وعزَّ.
(1/227)
و
(الخَصْمُ) قال ثعلب في «الفصيح»: تقول هو خَصمٌ، وهما خَصم، وهم خَصم، الواحد
والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث على حال واحدة. وزعم الهَجَري: أن الخَصْم
بالفتح الجماعة من الخصوم، والخِصم بكسر الخاء الواحدُ، وأنشد:
وأطلب شأو الخِصم حتى أردَّه على غير ما يهوى وقد كان أضلعا
وقَالَ الخَطَّابِيُّ: الخصم هو المولع بالخصومة الماهر فيها، وعن يعقوب: يقال
للخصم: خصيم، وفي «الواعي»: خصيم للمخاصِم والمخاصَم. وفي كتاب «المطرز» عن الفراء
أنه قال: كلام العرب الفصحاء ألا يثنُّوا الاسم إذا كان مصدرًا ولا يجمعوه، ومنهم
من يثنيه ويجمعه، والفصحاء يقولون: هذا خِصم في جميع الحالات، والآخرون يقولون:
هذان خصمان وهم خصوم وخصماء وكذا ما أشبهه، وأنشد القول لذي الرمة:
أَبَرُّ عَلَى الخُصُومِ، فَلَيْسَ خَصْمٌ وَلَا خَصْمانِ يَغْلِبُه جِدالا
(بَابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اليَهُودَ بِبَيْعِ
أَرَضِيهِمْ حِينَ أَجْلاَهُمْ)
فِيهِ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
كذا ذكره البخاري من غير زيادة شيء في الباب، وهو ساقط في بعض الأصول.
والحديث الذي أشار إليه هنا خرجه في آخر كتاب الجهاد في باب إخراج اليهود من جزيرة
العرب وفيه: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ، فَمَنْ
وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ هُنَا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ
الأَرْضَ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ».
وعند ابن إسحاق: فسألوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ يُجْلِيَهمْ،
ويكفَّ عنْ دمائهم، على أنَّ لهم ما حملتِ الإبلُ منْ أموالهم إِلَّا الْحَلْقَةَ،
فاحْتَمَلُوا ذلك وخرجوا إلى خيبر، وخَلُّوا الأموالَ لرسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فكانتْ لهُ خاصةً يضعها حيثُ يشاء، فَقَسَمَهَا سيدنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على المهاجرين.
(1/228)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: فإن قال قائل: هذا معارض لحديث المقبري عن أبي هريرة، لأن فيه:
«أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِبَيْعِ أَرْضِهِم؟».
فالجواب: أنه أمرهم ببيع أرضهم قبل أن يكونوا له حربًا، ثم أطلعه الله جل وعز على
الغدر منهم، وكان قبل ذلك أمرهم ببيع أرضهم وإجلائهم، فلم يفعلوا لأجل قول
المنافقين لهم: اثبتوا، فعزموا على مقاتلته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فصاروا له
حربًا، فحلَّتْ بذلك دماؤهم وأموالهم.
(بَابُ بَيْعِ العَبِيدِ وَالحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئَةً)
(وَاشْتَرَى ابنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ،
يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ).
هذا التعليق رواه مالك في «الموطأ» فيما روينا عنه عن نافع أنَّ ابنَ عمرَ
اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأرْبَعَةِ أبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوفِيهَا
صاحِبَهَا بالرَّبَذَةِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ البَعِيرُ خَيْرًا
مِنَ البَعِيرَيْنِ).
هذا التعليق رويناه في «مسند الشافعي» قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن طاوس، عن أبيه
عن ابن عباس: أنه سئل عن بعير ببعيرين فقال: قد يكون خيرًا من البعيرين.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ
فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ في الْآخَرِ غَدًا رَهْوًا إِنْ شَاءَ
اللهُ تعالى).
هذا التعليق ذكره عبد الرزاق في «مصنفه» فقال: أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن بُدَيْلٍ
الْعُقَيْلِيّ عَن مُطَرِّفِ بن عبد الله بن الشِّخِّيْرِ أَن رَافع بن خديج
فذكره.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ المُسَيِّبِ: لاَ رِبَا فِي الحَيَوَانِ:
البَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ
ابنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً).
(1/229)
هذا
التعليق رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه قال: «لاَ رِبَا فِي
الحَيَوَانِ، قَدْ نَهَى عَنِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاقِيحِ، وَحَبَلِ
الْحَبَلَةِ» وذكره عبد الرزاق في «مصنفه»: أخبرنا معمر، عن الزهري، سئل سعيد،
فذكره.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ،
وَدِرْهَم بِدِرْهَمينِ نَسِيئَةً).
هذا التعليق رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: لَا
بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ، وَدِرْهَم بِدِرْهَمينِ نَسِيئَةً، قال: فإن كان
البعيران نسيئةً فهو مكروه.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأما قول ابن سيرين الذي ذكره البخاري فهو خطأ في النقل
عنه، والصحيح ما ذكره عبد الرزاق، قال: (وأَمَّا بيعُ الحيوانِ بالحيوانِ نسيئةً)
فإن العلماء اختلفوا فيه، فقالت طائفة: لا ربا في الحيوان، وجائز بعضه ببعض نقدًا
ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب علي بن أبي طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو
قول الشافعي وأبي ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل
نسيئةً وإن كانت من نَعَمٍ واحدة إذا اختلفت وبان اختلافها، وإنْ أشبهَ بعضها
بعضًا واتفقت أجناسها فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يدًا بيد, وهو قول
سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثوري والكوفيون وأحمد: لا يجوز بيع
الحيوان
(1/230)
بالحيوان
نسيئة اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا في ذلك بما رواه الحسن عن سمرة: «أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ بَيْعِ الحيوانِ بالحيوانِ» قال
الترمذي: حسن صحيح، وسماع الحسن من سَمُرَةَ صحيح إذا قال علي بن المديني وغيره،
وقال في «العلل»: سألت محمدًا عنه فقال: قد روى داود العطار عن معمر هذا وقال: عن
ابن عباس، وقال الناس: عن عكرمة مرسل وهَّنَ محمد هذا الحديث، قال أبو عيسى:
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فقال:
يعجبني أن تتوقَّاه. فقيل له: فيه شيء يصح؟ قال: فيه الحسن عن سمرة، ولا يصح سماع
الحسن من سمرة.
وقال عبد الله: حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا يحيى عن ابن أبي عروة عن قتادة عن الحسن
عن سمرة يرفعه: «نُهِيَ عنْ بيعِ الحيوانِ بالحيوانِ نسيئةً» قال: ثم يعني الحسن،
فقال: إذا اختلف الصنفان فلا بأس.
ولما رواه الحاكم من حديث يحيى بن الضُّرَيْسِ عن إبراهيم بن طَهْمَانَ عن الحجاج
بن الحجاج عن قتادة عن الحسن عن سَمُرَةَ: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الشَّاةِ باللحمِ» قال: صحيح الإسناد ورواته عن آخرهم
ثقات، وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة، وله شاهد مرسل في «الموطأ» عن زيد عن ابن
المسيب: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ بيعِ اللحمِ
بالحيوانِ»، وفي «التمهيد»: عن سهل بن سعد، عن النبي مثله، قال: سنده موضوع.
وبما رواه الحاكم مصحَّح الإسناد من حديث سفيان بن سعيد عن معمر عن يحيى أبي كثير
عن عكرمة عن ابن عباس: «نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ
بَيْعِ الحيوانِ بالحيوانِ نسيئةً».
(1/231)
ولما
رواه البيهقي من حديث إبراهيم بن طَهْمَانَ عن معمر، قال: وكَذَلِكَ رَوَاهُ
دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ, عَنْ مَعْمَرٍ مَوْصُولًا،
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الذِّمَارِيِّ, عَنِ الثَّوْرِيِّ, عَنْ مَعْمَرٍ, قالَ
البيهقيُّ: وَكُلُّ ذَلِكَ وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ: عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ يَحْيَى,
عَنْ عِكْرِمَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسل.
%ج 3 ص 263%
والإسماعيليُّ ذكر في حديث ابن أبي كثير أن ابن طهمان رواه عن يحيى مرسلًا.
قالَ البيهقيُّ: رُوِّينَا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ وَهَّنَ رِوَايَةَ مَنْ
وَصَلَهُ، ورُوِيَ عنِ ابنِ خُزَيْمَةَ أنَّهُ قالَ: الصَّحِيحُ عَنْ أَهْلِ
الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ الْخَبَرُ مُرْسَلٌ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ.
ولما سألَ ابنُ أبي حاتمٍ أباهُ عنْ حديثِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي
روَّادٍ عم معمرٍ مرفوعًا قال: الصحيحُ عنْ عكرمةَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مرسل، ولما سأل الأثرم أبا عبد الله عنه مرفوعًا قال: هذا باطل ليس بشيء،
وإنما هو مرسل، كذا رواه ابن المبارك، وفي كتب ابن معمر مرسل عن عكرمة.
وقال المنذري: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-: حديث ابن عباس في بيع الحيوان
بالحيوان رواه الثقات عن ابن عباس موقوفًا، أو عكرمة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مرسلًا. انتهى.
(1/232)
وقد
وقع لنا هذا الحديث مرفوعًا من طريق الزهري عن عكرمة بسند صحيح ذكره الإسماعيلي في
جمعه حديث يحيى بن أبي كثير فقال: حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن سعيد السُّلَمِي
المروزي بالبصرة، حَدَّثَنا طاهر بن خالد بن نزار، حَدَّثَنا أبي، حدَّثَنَا ابن
عيينة عن معمر عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير عن عكرمة، فذكره، وما رواه الطحاوي عن
إبراهيم بن محمد، حَدَّثَنا عبد الواحد بن عمرو بن صالح الزهري، حَدَّثَنا عبد
الرحمن بن سليمان عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا ببيعِ الحيوانِ بالحيوانِ اثنينِ بواحدٍ
ويَكْرَهُهُ نسيئةً» ولما خرجه الطُّوسي والترمذي من حديث حجاج بن أرطاة عن أبي
الزبير حسَّناه.
وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: حجاج عن أبي الزبير عن جابر
%ج 3 ص 264%
الحديث، فقال: حجاج زاد فيه شيئًا، وليث بن سعد سمعه مرسلًا من أبي الزبير لا يذكر
فيه شيئًا يقول: «إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ باعَ عَبْدًا
بِعَبْدَيْنِ» ثم قال: ليس فيه حديث يعتمد عليه ويعجبني أن يتوقاه.
وبما رواه أبو عيسى في كتاب «العلل» عن محمد بن عمرو المقدمي عن زياد بن جبير عن
ابن عمر قال: «نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الحيوانِ نسيئةً» ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: إنما يرويه عن زياد عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسلًا.
ورواه الطحاوي عن محمد بن إسماعيل الصائغ وغيره قالوا: حَدَّثَنا مسلم بن إبراهيم،
حَدَّثَنا محمد بن دينار عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير عنه مرفوعًا.
وقال الأثرم: ورواه عن مسلم، قال أبو عبد الله محمد بن دينار: زعموا كان لا يحفظ،
كان يتحفظ لهم، قال الأثرم: فذكرت له حديث ابن عمر في الحيوان قال: ليس فيه ابن
عمر، إنما هو زياد بن جبير موقوف.
(1/233)
وقال
ابن مسعود: السَّلَفُ في كلِّ شيءٍ إلى أجلٍ مُسَمَّى لا بأسَ بِهِ ما خَلَا
الحيوان.
وقال سعيد بن جبير: كان حذيفة يكره السلم في الحيوان نسيئة، وقيل: هو مذهب ابن
عباس وعمار، وأجازوا التفاضل فيه.
قال الطحاوي: وقد كان قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان نسيئة.
روى ابن إسحاقَ عن أبي سفيانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عنْ عَمْرِو بْنِ
حَرِيشٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا [فَنَفِدَتِ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ فِي قِلَاصِ الصَّدَقَةِ» فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ
إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، ثم نسخ ذلك بأحاديث المنع، وثبت] أن القرض الذي هو بدل
عن مال لا يجب فيه حيوان في الذمم، وقد روى ذلك عن
%ج 3 ص 265%
نفر من المتقدمين، ولما ذكر ابن أبي حاتم حديث ابن عمرو هذا، قال: اختلف على ابن
إسحاق في إسناده، والحديث مشهور، ولما ذكره البيهقي قال: له شاهد صحيح عن ابن جريج
أن عمرو بن شعيب أخبره عن أبيه عن جده: «أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَهَ أنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا» الحديثَ. وفيه: «الْبَعِيرَ
بِالْبَعِيرَيْنِ وبِالأَبْعِرَةِ».
وسأل عثمانُ السِّجِسْتانيُّ يحيى بن معينَ عن سند هذا الحديث, فقال: سنده صحيح
مشهور، احتجَّ للشافعي بما في «الصحيحين» عن أبي هريرة، ورواه الشافعي عن الثقة عن
سفيان بن سعد عن سلمة بن كُهَيْلٍ عن أبي هريرة: «كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ،
فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ، فَقَالَ:
أَعْطُوهُ».
(1/234)
وعند
مسلم: عن أبي رافع، قال: «اسْتَسْلَفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بَكْرًا، فَجَاءَتْهُ إِبِلٌ الصَّدَقَةِ، فقالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي رسولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ أقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فقلتُ: يا
رسولَ الله إِنِي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا جَمَلًا خِيَارًا -أو رَبَاعِيًا-
فَقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ».
قال الشافعي: هذا الحديث الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفيه
أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ضمن بعيرًا بالصفة، وفي هذا ما دل على أنه
يجوز أن يضمن الحيوان كله بصفة من السلف وغيره.
وفيه دليل أنه لا بأس أن يقضي أفضل مما عليه متطوِّعًا.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: واحتج الشافعي بأمر الدية فقال: قد قضى رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالدية مئة من الإبل، ولم أعلم المسلمين اختلفوا أنها بأسنان
معروفة في مضي ثلاث سنين، وأنه افتدى كل من لم يطب عنه نفسًا من سبي هوازن بإبل
سماها ست أو خمس إلى أجل.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: هذا فيما رواه أهل المغازي، وبما رواه عمر بن شعيب عن أبيه
عن جده.
قال
%ج 3 ص 266%
الشافعي: أخبرنا مالك عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمد بن علي، عن علي بن أبي
طالب: «أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يُقَالُ لهُ عُصَيْفِير بِعِشْرِينَ بَعِيرًا
إِلَى أَجْلٍ».
وعن مالك عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ
أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوَفِّيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ».
(1/235)
قال:
وأَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ:
«جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى
الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَشْعُرْ -أو قالَ: يَسْمَعْ- بأَنَّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ
سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بِعْهُ،
فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ».
قال: وأَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عنْ عَبْدِ
الْكَرِيمِ الْجَزَرِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بَعَثَ مُصَدِّقًا فَجَاءَ بِظَهْرٍ مُسِنَّاتٍ، فَلَمَّا رَآهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَبِيعُ الْبَكْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ
بِالْبَعِيرِ الْمُسِنِّ يَدًا بِيَدٍ، وَعَلِمْتُ مِنْ حَاجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى الظَّهْرِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
فَذَاكَ إِذًا». وفي رواية ابن عباس: «بِعِ البَعِيْرَ بِالبَعِيْرَيْنِ».
وروينا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسًا بالسلف في الحيوان.
وذكر أيضًا قول ابن شهاب في بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل: لا بأس به.
قال: وأخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان،
وإنما نُهي من الحيوان عن ثلاث: المضامين والملاقيح وحبل الحبلة.
قال: والمضامين في بطون الإناث، والملاقيح: ما في ظهور الجمال، وحبل الحبلة: بيع
لأهل الجاهلية.
(1/236)
قال:
وأخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: ولبيع البعير بالبعيرين يدًا
بيد زيادة ورق، والورق نسيئة، قال الشافعي: وبهذا كله أقول، وخالفنا بعض الناس
فقال: لا يجوز أن يكون الحيوان نسيئة أبدًا، نناقضهم بالدية، وبالكتابة
%ج 3 ص 267%
على الوصفاء بصفة، وبإصداق العبيد والإبل بصفة.
قال: فإنما كرهنا السلم في الحيوان، لأن ابن مسعود كرهه، قال الشافعي: هو منقطع
عنه، قال أحمد: يرويه عنه إبراهيم النخعي.
قال الشافعي: ويزعم الشعبي الذي هو أكبر من الذي روي عنه كراهيته أنه إنما أسلف له
في لِقَاح فَحْلِ إبل بعينه، وهذا مكروه عندنا وعند كل أحد، هذا بيع الملاقيح أو
المضامين أو هما.
وقلت لمحمد بن الحسن: أنت أخبرتني عن أبي يوسف عن عطاء بن السائب عن أبي البختري،
أن بني عم لعثمان بن عفان أتوا واديًا، فصنعوا شيئًا في إبل رجل، فقطعوا به لبن
إبله وقتلوا فصالها، فأتى عثمان بن عفان وعنده ابن مسعود، فرضي بحكم ابن مسعود،
فحكم أن يعطى بواديه إبلًا مثل إبله، وفصالًا مثل فصاله، فأنفذ ذلك عثمان.
ويُرْوَى عن ابن مسعود: أنه قضى في حيوان مثله دينًا، لأنه إذا قضى به بالمدينة
وأعطيه بواديه كان دينًا، ونريد أن يروي عن عثمان أنه يقول بقوله، وأنتم تروون عن
المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال أسلم لابن مسعود وصفاء أحدهم أبو زيادة -أو
أبو زائدة- مولانا، ويروون عن ابن عباس: أنه أجاز السلم في الحيوان، وعن رجل آخر
من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ البَيْهَقِيُّ: روى أبو حسان
الأعرج قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن السلم في الحيوان فقالا: إذا سمى الأسنان
والآجال فلا بأس.
وقال أبو نضرة: سألت ابن عمر عن السلف في الوصفاء فقال: لا بأس به، قال: [وروي عن
عمر أنه كرهه، وكذلك عن حذيفة، والحديث عنهما منقطع، وعن ابن عباس وابن عمر موصول
بقولنا: قال الشافعي في القديم: وقد يكون ابن مسعود كرهه]
%ج 3 ص 268%
(1/237)
تنزهًا
عن التجارة فيه، لا على تحريمه انتهى.
للحنفي أن يقول: الأثر عن ابن مسعود ليس منقطعًا، بل هو موصول صحيح على شرط
الشيخين، رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن وكيع، حَدَّثَنا سفيان عن قيس بن مسلم عن
طارق بن شهاب: أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ أَسْلَمَ إِلَى عَتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي
قَلَائِصَ، قال: فسألت ابن مسعود، فَكَرِهَ السَّلَمَ في الحيوان.
وأما ما ذكر عن أبي نضرة عن عمر فمعارَض بقول ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا سهل بن يوسف
عن حُمَيْدٍ عن أبي نَضْرَةَ قال: قلت لابن عمر: إن أمراءنا ينهوننا عنه -يعني
السلم في الحيوان وفي الوصفاء قال: فأطع أمراءك إن كانوا ينهون عنه، وأمراؤهم
يومئذ مثل الحكم بن عمرو الغفاري وعبد الرحمن بن سمرة، وأما حديث الحسن بن محمد عن
علي فمنقطع ظاهر الانقطاع، وكذا حديث القاسم عن ابن مسعود، وكذا حديث زياد بن أبي
مريم، وليس في حديثه النسيئة، فلا حجة فيه على الحنفي الذي يدفع ذلك من نسيئها،
وكذا كل أثر تقدم لا نسيئة فيه.
وأما الرواية عن سعيد بن جُبَيْرٍ فَمُعَارَضَةٌ بقول أبي بكر: حَدَّثَنا وكيع،
حَدَّثَنا شُعْبَةُ عن عمار صاحب السابري قال: سمعت سعيد بن جبير يسأل عن السلم في
الحيوان فنهى عنه.
وفي «مصنف وكيع بن الجراح»: حَدَّثَنا حسن بن صالح عن عبد الأعلى قال: شهدتُ
شُرَيْحًا ردَّ السَّلَمَ في الحيوان.
وحَدَّثَنَا إسرائيلُ عنْ إبراهيمَ بنِ عبد الأعلى: سمعت سويد بن غفلة يكره السلم
في الحيوان.
وحَدَّثَنَا النضرُ بن أبي مريم أن الضَّحَّاكَ رخَّصَ في السَّلَمِ في الحيوان ثم
رجعَ عنه، وإلى قول الشافعي نَحَا البخاريُّ في تبويبه، وفي حديث عائشة رضي الله
عنها وأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ...
(بَابُ بَيعِ الرَّقيقِ)
(1/238)
2229
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي ابنُ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا،
فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ، فَكَيْفَ تَرَى فِي العَزْلِ؟ فَقَالَ «أَوَ إِنَّكُمْ
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ، فَإِنَّهَا
لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ خَارِجَةٌ»، وفي موضع
آخر ابن مُحَيْرِيْزٍ، هو عبد الله بن مُحَيْرِيز أبو محيريز الجُمَحِي. [خ 2229]
وعند النسائي: سَأَلَ رجلٌ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ
الْعَزْلِ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي تُرْضِعُ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ،
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ مَا قُدِّرَ فِي الرَّحِمِ
سَيَكُونُ».
وعند أبي داود عن جابر: أنَّ رَجُلًا سألَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
إِنَّ لِي جَارِيَةً أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ:
«اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».
ولفظ الترمذي من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه: قُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْزِلُ، فَزَعَمَتِ اليَهُودُ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ
الصُّغْرَى، فَقَالَ: «كَذَبَتِ اليَهُودُ، إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَخْلُقَهُ لَمْ تَمْنَعْهُ».
أحاديث العزل تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.
(1/239)
قال
القرطبي: روى هذا الحديث موسى بن عقبة عن ابن محيريز عن أبي سعيد فقال: «أَصَبْنَا
سَبْيًا منْ سَبْي هَوازن، وذلكَ يوم حُنَيْنٍ سنةَ ثمان» ووهم ابن عقبة في ذلك،
ورواه أبو إسحاق السبيعي عن الوداك عن أبي سعيد قال: «لَمَّا أَصَبْنَا سَبْيَ
حُنَيْنٍ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ الْعَزْلِ،
فَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ». ورواه مسلم في «صحيحه»
من حديث علي بن أبي طلحة عن أبي الوداك بلفظ: «سُئِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنِ العَزْلِ» لم يذكر سبي حنين ولا غيره، وكذا ما ذكره أبو عمر
من رواية موسى بن عقبة عن ابن محيريز، ذكره مسلم ولم يذكر فيه سبي أوطاس ولا غيره،
وإنما ذكر مسلم يوم أوطاس من
%ج 3 ص 270%
حديث أبي علقمة عن أبي سعيد في قضية تحرج أصحابه من وطء السبايا من أجل أزواجهن،
وهي قصة أخرى في زمن آخر غير زمان بني المصطلق التي في الخامسة، والصحيح في الأول
رواية من روى بني المصطلق.
وفي قوله: (فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ) دلالة على عدم جواز بيع أمهات الأولاد، وهو حجة
على داود وغيره ممن يُجَوِّزُ بيعهن, وفي لفظ: (وَأَحْبَبْنَا الفِدَاءَ).
وقوله: (لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا) قال الداودي: هو أقرب إلى النهي، وقال
المبرد: معناه لا بأس عليكم أن تفعلوا، ومعنى (لا) الثانية طرحها.
و (النَّسَمَةُ): كل ذات روح، والنَّسَمُ الأرواح.
(بابٌ هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا)
(وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا).
(1/240)
هذا
التعليق ذكره ابن أبي شيبة عن ابن عُلَيَّةَ، قال: سئل يونس عن الرجل يشتري الأمة
فيسريها يصيب منها القبلة والمباشرة، فقال ابن سيرين: يكره ذلك، ويذكر عن الحسن:
أنه كان لا يرى بالقبلة بأسًا، وعن عكرمة في الرجل يشتري الجارية الصغيرة وهي أصغر
من ذلك، قال: لا بأس أن يمسها قبل أن يستبرئها، وقال إياس بن معاوية في رجل اشترى
جارية صغيرة لا يجامع مثلها، قال: لا بأس أن يطأها ولا يستبرئها، وكره قتادة
تقبيلها حتى يستبرئها.
وقال أيوب اللخمي: وقعت في سهم ابن عمر جارية يوم جلولاء، فما ملك نفسه أن جعل
يقبلها.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ثبت هذا عن ابن عمر.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الوَلِيدَةُ الَّتِي
تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ، أَوْ عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ،
وَلاَ يَسْتَبْرئ العَذْرَاء).
هذا التعليق رواه أبو بكر عن عبد الوهاب عن سعيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال:
إن اشترى أمة عذراء فلا يستبرئها، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا خلاف مَا يَقُوله
مَالك، وقيل: يستبرئ استحبابًا.
وقوله: (عَتَقَت) بفتح العين هو الصحيح، وروي بضم العين وليس بشيء، وعن ابن سيرين
في الرجل يشتري
%ج 3 ص 271%
الأمة العذراء قال: لا يقربن ما دون رحمها حتى يستبرئها. وعن الحسن: يستبرئها وإن
كانت بكرًا، وكذا قاله عكرمة، وقال عطاء في رجل اشترى جارية من أبويها عذراء، قال:
يستبرئها بحيضتين.
قال ابن الجوزي: مذهب جماعة منهم القاسم وسالم والليث وأبو يوسف: لا يستبرئ إلا من
بلغ. وكان أبو يوسف لا يرى استبراء العذراء وإن كانت بالغة.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ
الحَامِلِ مَا دُونَ الفَرْجِ).
وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: «سُئِلَ ابنُ عباسٍ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً
وَهِيَ حَامِلٌ أَيَطَؤُهَا؟ قَالَ: لَا».
(1/241)
ونهى
عنه أبو موسى الأشعري ونَاجِيةُ بن كعب وسعيد بن المسيب.
وفيه أحاديث تأتي إن شاء الله في موضعها.
2235 - حَدَّثَنا عَبْدُ الغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ
بِنْتِ حُيَيِّ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى
بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي
نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «آذِنْ
مَنْ حَوْلَكَ» فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى المَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ،
ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ
رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. [خ 2235]
في «كتاب الواقدي»: كانت تعظم أن تجعل رجلها على ركبته، فكانت تضع ركبتها على
ركبته. قال: وفُحِصَتِ الْأَرْضُ أَفَاحِيصَ، وَجِيءَ بِالْأَنْطَاعِ فَوُضِعَتْ
فِيهَا، ثُمَّ جِيءَ بِالْأَقِطِ والسَّمْنِ، فَشَبِعَ النَّاسُ، وقالوا: مَا
نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا أَمِ اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ فَلَمَّا أَرْكَبَهَا على
البعيرِ وحَجَبَهَا علم النَّاس أَنَّهَا زَوجته.
و (حَيي) قال الدَّارَقُطْني: المحدثون يقولون بكسر الحاء المهملة، وأهل اللغة
بضمها.
(1/242)
و
(صَفِيَّةُ) من سبط هارون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانت عند سَلَام بن مشكم،
وكان خمَّارًا في الجاهلية
بتخفيف اللام، وفيه يقول أبو سفيان بن حرب:
سَقَاني فَرَوَّاني كُمَيتًا مُدَامَةً عَلَى ظَمَأٍ مِنِّي سَلَامُ بنُ مِشكَمِ
وقيل: بالتشديد وخُفف ضرورة، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحُقَيق، وقال الجاحظ في
«كتاب الموالي»: وَلَدَ صفيَّةَ مئةُ نبي ومئة ملِك، ثم صيرها الله تعالى أمَةً
لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وذكر القاضي أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان النُّوقاتي في «كتاب المحنة»:
أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أراد البناء بصفية استأذنته عائشة أن تكون
في المتنقبات، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: يا عائشة لو أنك رأيتها اقشعر
جلدك من حسنها، فلما رأتها حصل لها ذلك.
وفي «طبقات ابن سعد»: أنَّ الحصن الذي كانت فيه اسمه القُموص، سباها منه هي وابنة
عم لها، فعرض عليها النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يعتقها إن اختارت الله
ورسوله، فقالت: أختار الله ورسوله، وأسلمت، فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها مهرها،
ورأى بوجهها أثر خضرة قريبًا من عينها، فقال: ما هذا؟ قالت: يا رسول الله، رأيت في
المنام قمرًا أقبل من يثرب حتى وقع في حجري، فذكرتُ ذلك لزوجي كنانة فقال: تحبين أن
يكون هذا الملك الذي يأتي المدينة زوجك؟! فضرب وجهي.
فلما صار إلى منزل يقال له: تبار على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرِّس بها
فأبت عليه، فوجد في نفسه من ذلك، فقالت: خفت عليك قرب يهود، فلما كان بالصهباء على
بريد من خيبر عرَّس بها.
وفي لفظ: رأيت كأني وهذا الذي يزعم أن الله أرسله وملكٌ يسترُنا بجناحه.
وعن أبي الوليد: وليمة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ السمن والأقط
والتمر.
وفي لفظ: التمر والسويق.
(1/243)
وفي
«الإكليل» للحاكم: رأى في المنام كما رأت صفية قبل تزوجها بسيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وعند ابن سعد: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم كأن آتيًا
يقول: يا أم المؤمنين، ففزعت وأولته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يتزوجني.
وعن ابن عباس قال:
رأت سودة في المنام كأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أقبل يمشي حتى وطئ على
عنقها، فقال زوجها: لئن صدقت رؤياك لتتزوجين به، ثم رأت ليلة أخرى أن قمرًا انقض
عليها من السماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها السكران، قال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث
إلا يسيرًا حتى أموت وتتزوجين من بعدي، فاشتكى من يومه ذلك، ولم يلبث إلا قليلًا
حتى مات.
و (يُحَوِّي) بياء ... من تحتها مضمومة، وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْوَاو، وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر وَقَول أهل اللُّغَة، وَفِي رِوَايَة أبي
الْحُسَيْن: يحوى، بِالتَّخْفِيفِ ثلاثي وَهُوَ أَن يُدِير كسَاء فَوق سَنَام
الْبَعِير ثمَّ يركبه.
وقَالَ السُّهَيلي: حديث اصطفائه صفية يعارضه في الظاهر حديث أنس: أنها صارت
لدِحْيَةَ، فأخذها منه وأعطاه سبعة أرؤس، ويروى أنه أعطاه بنتي عمها عوضًا منها.
ويروى أنه قال له: «خُذْ رَأْسًا آخرَ مَكَانَهَا» ولا معارضة، فإنما أخذها من
دِحْيَةَ قبل القَسْم، وما عوضه فيها ليس على جهة البيع، ولكن على جهة النقل أو
الهبة، غير أن بعض رواة الحديث في الصحيح يقولون فيه: إنه اشترى صفية من دِحْيَةَ،
وبعضهم يزيد فيه بعد القَسْم، فالله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان، وهذا الأخير هو الذي
أراد به البخاري في الباب الذي تقدم قريبًا، وهو باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان
نسيئة، وأورد فيه حديث صفية.
(1/244)
وقَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: كان تركه لها عند النبي صلى الله عليه والسلم وأخذه جارية من السبي
غير معينة بيعًا لها بجارية نسيئة حتى يأخذها ويستحسنها، فحينئذ تتعين له، وليس
ذلك يدًا بيد، وسفره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بصفية قبل أن يشتريها دليل لما
بوَّبَ البخاري له، لأنه لا بد أن يرفعها أو يُنزلها، وكان صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لا يمس يدَ امرأة لا تحل له، ولكن يعكر على هذا أنه كان تزوجها.
معنى قوله: (حَلَّت) أي: طهرت من حيضها، والزوجة لا تحتاج
إلى استبراء، فينظر.
وفي «سير ابن إسحاق»: لما أتى بها بلال أمر بها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَحِيزَتْ خَلْفَهُ وغطى عليها ثوبه، فعرف الناس أنه قد اصطفاها لنفسه.
واختلفوا في تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجازه أبو ثور، وكرهه مالك
والليث وأبو حنيفة والشافعي، وقال ابن الماجشون: إن كانت صغيرة أو ممن انقطع عنها
الحيض لا تستبرأ.
وفي الحديث أنَّ الوليمة بعد البناء.
و (العَبَاءةُ) ممدودة.
وفي «حواشي السنن»: الإمام إذا نقل ما لم يعلم بمقداره له استرجاعه والتعويض عنه،
وليس له أن يأخذه بغير عوض، قال: وإعطاء دِحْيَةَ كان برضاه، فيكون معاوضةُ جاريةٍ
بجاريةٍ، فإن قيل: الواهب منهيٌّ عن شراء هبته، قلنا: لم يهبه من مال نفسه، وإنما
أعطاه من مال الله على وجه النظر كما يعطي الإمام النفل لأحد أهل الجيش نظرًا،
وقيل: إنما يكون قصد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إعطاءه جارية من حشو السبي، فلما
اطلع أن هذه من خياره وأن ليس يمكن إعطاء مثلها لمثله، لأنه قد يؤدي ذلك إلى
المفسدة، فلذلك ارتجعها، ولأنه خلاف ما أراد أن يعطيه، وسيأتي الكلام عليه بأكثر
من هذا في النكاح.
(1/245)
قَالَ
البُخَارِيُّ: (وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ الحَمِيدِ، حَدَّثَنا يَزِيدُ،
كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرًا: نَهَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عنْ بيعِ الخَمْرِ).
هذا خرجه مسلم عن محمد بن مثنى عن أبي عاصم الذي علق البخاري عنه، قال القرطبي:
اختلف في جواز بيع كل محرم نجس فيه منفعة كالزبل والعذرة، فَمنع من ذَلِك
الشَّافِعِي وَمَالك، وَأَجَازَهُ الكوفيون والطبري وَذهب آخَرُونَ إِلَى إجَازَة
ذلك من المشتري دون البائع، ورأوا أن المشتري أعذر من البائع لأنه مضطرٌ إلى ذلك،
روي ذلك عن بعض أصحابنا يحرم.
كتابُ السَّلَمِ
السَّلَمُ والسَّلَفُ والتسليفُ عبارة عن معنى واحد، غير أن الاسم الخاص بهذا
الباب السلم، لأن السَّلفَ يقال على القرض، والسلم في الشرع: بيع من البيوع
الجائزة بالاتفاق، قال القرطبي: وحدَّه أصحابُنا بأن قالوا: هو بيع معلوم في الذمة
محصور بصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم.
قال ابن حزم: السلم لا يجوز إلا إلى أجل مسمى، والبيع في كل مستملك لم يأتِ
النَّصُ بالنهي عن بيعه، ولا يجوز السلم إلا في كل مكيل أو موزون فقط، ولا يجوز في
حيوان ولا في مذروع أو معدود، لا في شيء غير ما ذكر.
قال: وكرهت طائفة السلم، روي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود: أنه كان يكره
السلم كله، قال وأباح أبو حنيفة ومالك السلف في المعدود والمذروع من الثياب بغير
ذكر وزنه، ومنعا من السلف حالًا.
وقال الشافعي: السلم يجوز حالًا قياسًا على جوازه إلى أجل، وأجاز السلم في كل شيء
قياسًا على المكيل والموزون، قال أبو محمد، والأجل ساعة فما فوقها، وقال بعض
الحنفية: لا يكون أقل من نصف يوم، وقال بعضهم: لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وقال
المالكيون: يكره أقل من يومين، وقال الليث: خمسة عشر يومًا.
(1/246)
واختلف
في السلم في البيض، فلم يجزه أبو حنيفة، وأجازه مالك بالعدد، وفي اللحم أجازه
الشافعي ومالك، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السلم في الرؤوس والأكارع منعه أبو حنيفة،
وأجازه مالك، واختلف فيه قول الشافعي، [1] قال القرطبي: والسلم في الدر والفصوص
أجازه مالك.
%ج 3 ص 276%
وقول البخاري في بابِ السلمِ في كَيلٍ مَعلُومٍ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنا
إِسماعِيلُ عَنِ ابنِ أَبي نَجِيحٍ، عَن عَبدِ اللهِ بنِ كَثِيرٍ، عَن أَبي
المنهَالِ) زَعَمَ أَبو عَلي الجياني أنه لم ينسب محمدًا هذا أحدٌ من الرواة، قال:
والذي عندي في هذا أنه محمد بن سلام، وذكر أبو نصر: أن ابن سلام يروي عن ابن
عُلَيَّةَ، وكان الشيخ أبو الحسن القابسي وغيره يزعم أن عبد الله بن كثير في هذا
الإسناد هو المقري المكي، وقال أبو الحسن: ليس في «الجامع» رواية لأحد من القراء
السبعة إلا عن عبد الله بن كثير وابن أبي النجود في المبايعة، قال: وقوله هذا غير
صحيح، وابن كثير الذي في هذا السند هو عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة
السهمي، وليس له في «الجامع» إلا هذا الحديث الواحد، وذكر له مسلم حديثًا آخر في
كتاب الجنائز، رواه عنه ابن جريج.
وذكر البخاري في باب السلم إلى من ليس عنده أصل: حَدَّثَنا آدم، حَدَّثَنا شعبة،
حَدَّثَنا عمرو، سمعت أبا البختري قال: سألت ابن عباس عن السلم في النخل فقال:
«نَهَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنْ بيعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ
مِنْهُ، وَحَتَّى يوزن» الحديثَ.
(1/247)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: حديث ابن عباس ليس هو من هذا الباب، وإنما هو من الباب الذي بعده
المترجم بباب السلم في النخل، وهو غلط من الناسخ، وقال ابن المثنى: التحقيق أنه من
هذا الباب، وقلَّ من يفهم ذلك إلا مثل البخاري، ووجهه: أن ابن عباس لما سئل عن
السلم إلى من له نخل في ذلك النخل عدَّ ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بُدُوِّ
صلاحها، وإذا كان السلم في النخيل لا يجوز، لم يبق لوجودها في ملك المسلَّم إليه
فائدة متعلقة بالسلم، فيصير جواز السلم إلى من ليس عنده أصل، ولا يلزم سد باب
السلم.
(بابُ الرَّهنِ فِي السَّلَمَ)
قال فيه ابن بطال: اختلف العلماء في هذا الباب، فقال مالك: لا بأس بالرهن
%ج 3 ص 277%
والكفيل في السلم، ولم يبلغني أن أحدًا كرهه غير الحسن، ورخص فيه عطاء والشعبي وبه
قال أبو حنيفة والثوري وأبو يوسف ومحمد والشافعي، وكرهه علي بن أبي طالب وابن عمر
وابن عباس وطاوس وشريح وابن المسيب وابن جبير، وقال زفر: لا يجوز ذلك في السلم،
ولا سبيل له على الكفيل، وهو قول أحمد بن حنبل والأوزاعي وأبي ثور.
قَالَ البُخَارِيُّ:
(بابُ السَّلَم ِإِلى أَجَلٍ مَعلُومٍ)
(وَبِهِ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ... ).
هذا التعليق رواه الشافعي عن سفيان عن أيوب عن قتادة عن أبي حسان سلم الأعرج عن
ابن عباس، قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله جلَّ وعزَّ أحلَّه وأذن
فيه، وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 283] ورَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن وكيع عن هشام
حدثنا قتادة.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَأَبُو سَعيدٍ) هذا التعليق رواه البيهقي من حديث نُبَيْحٍ
العَنَزي عن أبي سعيد، أنه قال: السلم كما يقوم السعر ربًا، ولكن كيل معلوم إلى
أجل معلوم.
(1/248)
قَالَ
البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ فِي الطَّعَامِ المَوْصُوفِ،
بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ
يَبْدُ صَلاَحُهُ). هذا رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن ابن نمير، عن عبيد الله عن
نافع عنه، قال: وحدَّثَنَا ابن أبي زائدة عن حجاج عن وبرة قال: قال ابن عمر: لا
بأس بالسلم إذا كان في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
ولما رواه البيهقي من حديث ابن بكير: حَدَّثَنا مالك عن نافع عن مولاه، قال: يريد
والله أعلم أن يسلفه في زرع بعينه أو تمر بعينه فلا يجوز، لأن بيع أعيان الثمار
على رؤوس الأشجار إنما يجوز إذا بدا فيها الصلاح.
كتاب الشُّفْعة
قال ابن حزم: هي لفظة شرعية لم تعرف العرب معناها قبل سيدنا رسول الله
%ج 3 ص 278%
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كما يعزى معنى الصلاة والزكاة والصيام والكفارة
والنسك وشبهها، حتى بَيَّنَهَا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وذكر ابن
التَّيَّاني الشفعة على مثال رُكْبة، وذكر بعض الفقهاء: أن كل فعل يجوز تثقيله
وتخفيفه إذا لم يكن مسموعًا، قال ابن دريد: سميت بذلك، لأنه يشفع ماله بها،
والشافع الطالب لغيره يستشفع به إلى المطلوب منه.
وفي «التهذيب»: سئل أبو العباس [1] عن اشتقاق الشفعة فقال: الشفعة الزيادة، وهو أن
يشفعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتشفعه بها، أي: تريده، وقال ابن سِيْدَه:
الشفعة في الشيء القضاء به لصاحبه، وعن ابن بطال: هي في اللغة الضم والجمع، وقال
ابن التين: مأخوذة من الشفاعة.
قَالَ البُخَارِيُّ: (الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ).
(1/249)
وذكر
حديث جابر مرفوعًا: «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا
وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ» رواه القعنبي وأبو
عاصم عن مالك منقطعًا، فرد به الحنفي بذلك وجعله علة، ولقائل أن يقول: قد روى أبو
يوسف القاضي عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة مثله مسندًا،
فلم لا يأخذ به.
وزعم بعضهم أن قوله: (فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ ... ) إلى آخره ليس من كلام
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إنما هو من كلام الراوي فيُنظر.
قال ابن التين: أجمع المسلمون على ثبوتها للشريك في العقار ما لم يقسم، وخُصَّ
العقار بالشفعة، لأنه أكثر الأنواع ضررًا، واتفقوا على أنه لا شفعة في الحيوان
والثياب والأمتعة وسائر المنقول، وشذَّ عطاء فأثبت الشفْعَة في العُروض وقال: تثبت
الشفعة في كل شيء حتى في الثوب، وعن أحمد رواية أنها تثبت في الحيوان والبناء [2]
المنفرد.
وفي «المصنف» عن ابن أبي مليكة وسُئِلَ عن الشفعة فقال: «قَضَى النبيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ
%ج 3 ص 279%
وسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ الأَرْضِ والدَّارِ والخادمِ والجاريةِ».
قال ابن حزم: وإلى هذا رجع عطاء، وهو عنهما بأصح سند أسنده عمر بن هارون عن شعبة
عن ابن جبير عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «الشُّفْعَةُ
في العبدِ وَفِي كُلِّ شَيءٍ» ردَّه ابن عدي بعمر.
وعند الطحاوي، حدَّثَنَا ابن خزيمة، حَدَّثَنا يونس بن عدي، حَدَّثَنا أبو إدريس
الأودي عن ابن جريج عن عطاء عن جابر: «قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيء».
وقال ابن حزم: الشفعة واجبة في كلِّ جزءٍ بِيْعَ مشاعًا بين اثنين فصاعدًا من أي
شيء كان مما يقسم ومما لا ينقسم، من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، ومن عبد أو أمة أو
ثوب أو سيف أو من طعام أو حيوان أو أي شيء بيع.
(1/250)
ورُفِعَ
إلى عبد الملك بن يعلى رجلٌ باع نصيبًا له غير مقسوم فلم يُجِزْهُ.
وقال ابن سيرين: لا بأس بالشريكين بينهما الشيء الذي لا يُكَالُ ولا يُوْزَنُ أن
يبيعه قبل أن يقاسمه، وقال الحسن: لا بيع فيه ولا في غيره حتى يقاسمه إلا أن تكون
لؤلؤة أو ما لا يقدر على قسمته. ولم ير عثمان البَتِّي شفعة لشريك، ورأى ابن
شُبْرمة الشفعة في الماء، ورأى مالك الشفعة في التين والعنب والزيتون والفواكه في
رؤوس الشجر.
وفي «الاستذكار» عن مَعْمَرٍ، قلت لأيوب: أتعلم أحدًا كان يجعل في الحيوان شفعة؟
قال: لا، قال معمر: وأنا لا أعلم أحدًا جعل فيه شفعة، وقال ابن شهاب: ليس في
الحيوان شفعة.
وعن إبراهيم: لا شفعة إلا في دار أو أرض.
وعن عمر بن عبد العزيز: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَضَى بالشفعةِ
في الدينِ». وفي لفظ: «مَنِ ابْتَاعَ دينًا على رجلٍ فصاحبُ الدينِ أَوْلَى إِذَا
أَدَّى مثلَ الذي أَدَّى صَاحِبُهُ».
وجمهور العلماء على أنه لا شفعة إلا في المشاع لحق ضرر الشركة، منهم الأربعة خلا
أبا حنيفة، والأوزاعي، وإسحاق، وأبا ثور [3].
وحكاه ابن المنذر عن عمر وعثمان وابن المسيب وسلمان بن يسار وعمر بن
%ج 3 ص 280%
عبد العزيز والزهري ويحيى الأنصاري وأبي الزناد وربيعة ومالك والأوزاعي والمغيرة
بن عبد الرحمن وإسحاق وأبي ثور، وقال أبو حنيفة والثوري: يثبت بالجوار، وبه قال
فيما ذكره ابن أبي شيبة شريحٌ، فكان يقضي الرجل من أهل الكوفة للرجل من أهل الشام.
وقال إبراهيم: الشريك أحق بالشفعة، فإن لم يكن شريك فالجار.
وفي لفظ: الخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره.
وعن أبي حيان عن أبيه: أن عمرو بن حريث كان يقضي بالجوار، وعن الحكم عن علي وعبد
الله أنهما قالا: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ
لِلْجِوَارِ».
(1/251)
وعن
الشعبي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الشريكُ أَوْلَى مِنَ
الْجَارِ، وَالْجَارُ أَوْلَى مِنَ الْجُنُبِ».
وفي لفظ: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالْجِوَارِ».
وعند الترمذي محسَّنًا وقال: صححه البخاري، عن الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْضٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شِرْكٌ وَلَا قَسْمٌ إِلَّا
الْجِوَارُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الْجَارُ أَحَقُّ
بِسَقَبِهِ مَا كَانَ». زاد عبد الملك بن أنس في كتابه: قال عبد الله بن عبد
الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي الرازي عن عمرو بن الشريد، قلت لعمرو: ما سقبه؟ قال:
الشفعة، فقلت: زعم الناس أنها الجوار، قال: الناس يقولون ذلك.
قال ابن حزم: فهذا راوي الحديث لا يرى الشفعة بالجوار، ولا يرى لفظ ما روي يقتضي
ذلك.
وعن سمرة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «جَارُ الدارِ أحقُّ
بالدارِ».
أخبرنا ... عن عبد اللطيف الحراني عن يوسف بن ... الأبهري، أخبرنا الشيخان أبو بكر
بن الحاجب وأبو حفص بن ... عن أبي سعيد بن علقمة، أخبرنا أبو علي
%ج 3 ص 281%
الحسن بن علي بن نصر الطُّوسي، قال: حَدَّثَنا أبو موسى محمد بن مثنى ومحمد بن
يحيى الهذلي الذهلي، حَدَّثَنا أبو الوليد، حَدَّثَنا شعبة عن قتادة عن الحسن عنه
ثم قال: يقال: حديث سمرة حسن صحيح.
قال: وروى عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مثله، والصحيح عند أهل العلم حديث الحسن عن سمرة، ولا يعرف
حديث قتادة عن أنس إلا من حديث عيسى بن يونس، وحديث عبد الله بن عبد الرحمن
الطائفي عن عمر بن الشريد عن أبيه مرفوعًا في هذا الباب هو حديث حسن، ولما ذكر
الترمذي حديث سمرة قال: حسن صحيح.
(1/252)
ولما
رواه ابن حزم من حديث أحمد بنِ حُبَابٍ عن عيسى، قال أحمد بنُ حُبَابٍ: أخطأ فيه
عيسى، وإنما هو موقوف على الحسن، وهو عند النسائي من حديث إسحاق بن إبراهيم عن
عيسى.
وقال الدَّارَقُطْني: وهم فيه عيسى، وإنما هو موقوف عن الحسن.
وعند ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ: حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل، حَدَّثَنا الحسن
بن سَوَّار أبو العلاء، حَدَّثَنا أيوب عن عتبة اليمامي عن الفضل عن قتادة عن عبد
الله بن عمرو بن العاصي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال:
«الجَارُ أَحَقُّ بِصَقبِ أَرْضِهِ» وردَّه بانقطاع ما بين قتادة وعبد الله، وبضعف
أيوب وجهالةِ الفضل، قال: فإن كان ابنُ دَلْهَم فهو ساقط، وإن كان غيره فهو مجهول.
وعند أبي داود عن جابر: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ يُنْظَرُ فيه، وَإِنْ كَانَ
غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا»
وقال فيه الترمذي: حسن غريب، فيه عبد الله بن أحمد عن سعيد عن عبد الملك عن عطاء
عن جابر: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يَنْتَظِرُهُ بِهَا إِنْ كَانَ
طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» قال ... أو فقال بهتًا، قلت لأحمد: لم قال شعبة هذا حديث
منكر: الزهري عن أبي سلمة عن جابر يخالفه؟
%ج 3 ص 282%
(1/253)
قال:
إن عبد الله ... عبد الملك عن عطاء فخالفه، ولما ذكره الأشبيلي من طريق ابن أيمن
بلفظ: قال جابر: اشتريتُ أرضًا إلى جَنْبِ أرضِ رجلٍ، فقالَ: أنا أحقُّ بِهَا،
فاخْتَصَمْنَا إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقلتُ له: يا رسولُ الله،
ليس له في أرضي طريقٌ ولا حقٌّ، فقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «هُوَ أحقُّ
بِهَا، فَقَضَى له بالجوارِ» وذكر من عند الترمذي اللفظ الأول وقال: هذا يرويه
سليمان بن داود عن هشيم عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عنه، والذي
يرويه قبله يرويه أحمد وغيره عن هشيم بهذا السند، والحديث يدور على العرزمي، وهو
ثقة مأمون عند أهل الحديث، ذكره الترمذي، ولا نعلم أحدًا تكلم فيه عن شعبة أجل هذا
الحديث، وهو حديث حسن غريب.
وقال ابن شيبة: حَدَّثَنا غندر عن شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا عن الشفعة فقالا:
إذا كانت الدار إلى جنب الدار ليس بينهما طريق ففيها شفعة.
وعنه الطحاوي: كتب عمر بن الخطاب إلى شُرَيْحٍ أن تقضي بالشفعة للجار الملاصق.
وفي «كتاب القضايا» لأبي غانم من حديث الحكم عمن سمع عليًّا وعبد الله يقولان:
«قَضَى النبيُّ بالجوارِ» وعن الشعبي مرسلًا مثله، وكذا عن الحسن.
(بَابُ عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ البَيْعِ)
(وَقَالَ الحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ البَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ) هذا
التعليق رواه وكيع عن سفيان عن أشعث عن الحكم: إذا أذن الشفيع للمشتري في الشراء
فلا شفعة له.
وقال ابن التين: قَولُ الحكمِ بن عُتَيْبَةَ هَذَا قَالَ بِهِ سُفْيَان،
وَخَالَفَهُمَا مَالك، وَقَالَ: لَا يلْزمه إِذْنه بذلك، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا
الْعرض مَنْدُوب إِلَيْهِ. [1]
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ
شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا، فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ).
%ج 3 ص 283%
(1/254)
هذا
التعليق رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن وكيع، حَدَّثَنا يونس بن أبي إسحاق قال:
سمعت الشعبي به، وَفِيه: لَا ينكرها، بدل: لَا يغيرها.
قال ابن التين: هو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال به ابن وهب وقال مالك: هو على
شفعته وإن جازت السنةَ والسنين، وفي رواية: إذا مضت سنة فلا شفعة له، وعن أصبغ بعد
ثلاث سنين.
وقال مطرف وعبد الملك بعد خمس سنين، وقيل: هو على حقه أبدًا ما لم يوقف.
وعند ابن حزم: يأخذ الشفيع متى شاء ولو بعد ثمانين سنة أو أكثر أو يلفظ بالترك.
وعن أبي حنيفة: ثلاثة أيام، وبه يقول البَتِّي وابن شُبْرُمة وعبيد الله بن الحسن
والأوزاعي، إلا أن عبيد الله قال: لا يمهل إلا ساعة واحدة، وعن الشعبي: يوم واحد،
وعن عمر بن عبد العزيز: بضع عشرة سنة. قال أبو عمر: قضى عمر بن عبد العزيز بالشفعة
بعد أربع عشرة سنة يعني للغائب.
قال أبو عمر: أهل العلم مجمعون على أن الغائب إذا لم يعلم بالبيع ثم قدم فله
الشفعة مع طول غيبته، واختلفوا إذا علم في سفره، فقال قائلون: يشهد، فإن لم يشهد
فلا شفعة له، وقال آخرون: هو على شفعته، فإنه لمح ما رواه ابن عمر من صحب علي بن
عبد العزيز بسند فيه السلماني وغيره، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«لا شفعةَ لغائبٍ، ولا لصغيرٍ، ولا لشريكٍ عَلَى شَرِيْكِهِ إِذَا سَبَقَهُ
بالشراءِ، والشفعة كَحَلِّ العقال».
قال ابن حزم: ثم ذكر البخاري حديث أبي رافع وعرضَه بيتَه على سعد بن أبي وقاص،
وقال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: «الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ».
(1/255)
قال
النووي: واختلف العلماء فيما إذا أعلمه بالبيع فأذن له فباع، ثم أراد شريكه أن
يأخذ بالشفعة، فقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأصحابهم وعثمان البتي وابن أبي ليلى
وغيرهم له أن يأخذ بالشفعة، وقال الحكم والثوري وأبو عبيدة وطائفة من أهل الحديث:
ليس له الأخذ، مستدلين [2] بحديث سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا من عند مسلم:
«مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ، أَوْ نَخْلٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ
%ج 3 ص 284%
حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ».
وفيه أيضًا: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أرْضٍ أو زرعٍ أوْ حَائِطٍ لاَ
يَصْلُحُ أنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَيأْخُذَ أوْ يَدَعَ فَإنْ
أبَى فَشَرِيكُهُ أحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ».
قالوا: فدل هذا الحديث على أن بتركه تنقطع به شفعته، ومحال أن يقول صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: (إنْ شاءَ أخذَ وإنْ شاءَ تركَ)، فإذا ترك لا يكون لتركه معنى،
وعن أحمد روايتان كالمذهبين.
قال القرطبي: وهذا الخلاف جارٍ فيمن أسقط شيئًا قبل وجوبه كإسقاط الميراث قبل
الموت، وإجازة الوارث بالوصية قبل الموت، وإسقاط المرأة ما يجب لها من نفقة وكسوة
في السنة القابلة، ففي كل واحدة من هذه المسائل قولان.
قال ابن حزم: والشفعة واجبة للبدوي، والساكن في غير المصر، والغائب، والصغير إذا
كان كبر، والمجنون إذا أفاق، وللذمي، وقد قال قوم من السلف: لا شفعة لمن لم يسكن
المصر ولا الذمي، قاله الشعبي والحارث العكلي والبتي، وهو قول أحمد بن حنبل، زاد
الشعبي: ولا للغائب، وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة لصغير.
ولا تورث [3] الشفعة، وهو قول ابن سيرين، وعن الشعبي: لا تباع ولا توهب ولا تورث
ولا تُعار، هي لصاحبها الذي وقعت له، وفي كتاب «البيوع» للأثرم قال إبراهيم:
الشفعة لا تورث.
(1/256)
قال
ابن حزم: قال عبد الرزاق: وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق والحسن بن حي
وأبي سليمان، وقال مالك والشافعي: الشفعة لورثته.
وقال أبو سليمان الخطابي: في حديث أبي رافع دليل أن الشفعة ثابتة في الطريق، كما
في البناء إذا كانت واسعة تحتمل القسمة، وقد أضاف البائع البيت إلى داره في قوله
لسعد: (ابْتَعْ مِنِّي بيتي في دَارِكَ). وطريقهما لا محالة شائعة في العَرَصة وهي
جزء من الدار، ولذلك استحق به الشفعة
قال ابن الجوزي: اختلفت الرواية في الطرق والعِراص، هل تجب بها الشفعة بانفرادها
على روايتين، يعني عن أحمد،
%ج 3 ص 285%
وزعم ابن بطال: أن تمسك الكوفيين بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الجَارُ
أَحْقُّ بِسَقبهِ في الشفعةِ» .. غير جيد، لأن الجار هو الشريك، وأنكر عليهم
امتناعهم من هذا التفسير بأن أبا رافع استدل به، وهو رواية على إثبات الشفعة
لشريكه وهو سعدٌ، قال: وكان أبو رافع شريك سعد بِبَيْتَيْهِ. انتهى.
وكأنه غير جيد، فإن أبا رافع كان يملك بيتين متميزين من جملة المنزل إلا شقصًا
سائغًا، فهو جار لا شريك، وهذا بأن يُدِلَّ للكوفيين أولى منه بأن يدل عليهم، ولا
يلزم من قول أبي رافع: الجار أحق، حمل الحديث على الشريك، لجواز أن يكون الحديث
عنده على ظاهره في الجار الملاصق، ولكنه قاس الشريك عليه بطريق الأولى.
وفي كتاب «البيوع» للأثرم: سألت أبا عبد الله عن دار بين شركاء باع أحدهم نصيبه،
فطلب الباقون الشفعة، وحظوظُهم فيها تفاضل، كيف تكون الشفعة بينهم؟.
(1/257)
فقال:
هذه مسألة قد اختلف الناس فيها، منهم من قال بالأنصبة، ومنهم من قال: على عدد
الرؤوس، قيل لأبي عبد الله: فأيهما أعجب إليك؟ فقال: ما أدري، وأما مالك فذهب إلى
أنها بالحصص، وعن الحسن: هي على الأنصباء، وكذا قاله شريح وعطاء، وعند أبي حنيفة:
أن الهبة بالثواب لا شفعة فيها، لأنها عنده هبة ليست ببيع، وكذا لا شفعة عنده في
صداق ولا أجرة ولا جُعْل ولا خلع، ولا في شيء صولح عليه من دم عمد.
قال أبو عمر: وكان مالك يرى أولًا أن في الهبة الشفعة وإن كانت لغير ثواب، ثم رجع
عن ذلك.
و (السَّقبُ): القُرب، قال ابن دريد: سقبت الدَّار سُقوبًا وأسقبت: لُغَتَانِ
فصيحتان، أَي: قربت وأبياتهم متسابقة، أي متعاقبة، وفي «الجامع»: هو بالصاد أكثر،
وفي «الكتاب المنتهى»: الصقب بالتحريك القُرب، يقال: هذا أصقب الموضعين إليك، أي
أقربهما، وفي
%ج 3 ص 286%
الحديث: «الجارُ أحقُّ بِصَقبهِ»، والمراد أحق بصقبه رواية أخرى، ويقال: أصقبه
فَصَقَبَ وأَصْقَبَ أيضًا وصَقَّبَه أيضًا تصقيبًا، وفي «الزاهر» للأنباري: الصقب
الملاصقة، كأنه أراد بما يليه وما يقرب منه، وفي «الغريبين»: أراد بالجار الملاصق
من غير شركة، ومنه حديث عليٍّ: «إِذَا وُجِدَ قَتِيْلٌ بينَ قَرْيَتَيْنِ حُمِلَ
عَلَى أَصْقَبِ القريتينِ إِلَيْهِ» قال عبيد الله بن قيس الرقيات:
عاد له من كثيرةَ الطربُ فدمعه في الخدود ينسكبُ
كوفية نازحٌ مَحِلَّتُها لا أَمَمٌ دارُها ولا صَقَبُ
(بابٌ أَيُّ الجِوَارِ أَقْرَبُ؟)
2259 - حَدَّثَنا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، ح وَحَدَّثَنِي عَلِيٌّ،
حَدَّثَنا شَبَابَةُ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنا أَبُو عِمْرَانَ، قَالَ:
سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،
إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا
مِنْكِ بَابًا». [خ¦2259]
(1/258)
قال
الدَّارَقُطْني: في رواية سليمان بن حرب عن شعبة عن طلحة بن عبيد الله الخزاعي،
وقال الحارث بن عبيد: عن أبي عمران الجوني عن طلحة ولم ينسبه.
وقال أبو داود سليمان بن الأشعث: قال شعبة في هذا الحديث عن طلحة رجل من قريش.
وقال الإسماعيلي: قال عيسى بن يونس عن شعبة: أخبرني أبو عمران، سمعت طلحة عن
عائشة، قال شعبة: وأظنه سمعه من عائشة ولم يقل سمعته منها.
ووقع في أكثر نسخ «البخاري»: <حَدَّثَنَا عليٌّ> غير منسوب، وكذا ذكره بن
طاهر وغيره، قال ابن طاهر: ويقال: هو ابن سلمة النيسابوري، وفي نسخة: هو ابن سلمة
بن عقبة اللبقي، قال الجياني: نسبه ابن السكن: ابن عبد الله، قال: وهو ضعيف عندي،
وذكر أن أبا إسحاق المستملي نسبه فقال: علي بن سلمة اللبقي، وكذا نسبه الكلاباذي،
وفي حديث عائشة عند
%ج 3 ص 287%
ابن حزم أنها قالت: يا رسول الله، ما حق الجوار؟ قال: «أربعون دارًا» وزعم أنه
حديث ساقط.
وفي «مراسيل أبي داود» عن ابن شهاب، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أَرْبَعُونَ دارًا جَارٌ».
قال يونس: قلت لابن شهاب: وكيف أربعون دارًا؟ قال: أربعون عن يمينه وعن يساره
وخلفه وبين يديه، وذكره ابن المنذر عن الأوزاعي، وعن علي بن أبي طالب: من سمع
النداء فهو جار، وقال آخرون: من كل جانب من جوانب الدار أربعون دارًا. وقال آخرون:
هو كل من صلى معه صلاة الصبح في المسجد. وقال بعضهم: أهل المدينة كلهم جيران، وعن
أبي قلابة: الجوار أربعون دارًا، وعن الحسن: أربعون دارًا هَاهنا وأربعون دارًا
هَاهنا، هي من جوانبنا الأربع، أربعون أربعون.
(1/259)
قال
ابن المنذر: وهذا الحديث يدل على أن اسم الجار يقع على غير اللَّزيق، لأنه قد يكون
له جار لَزِيقٌ وبابه من سكة غير سكته، وله جار بينه وبين بابه قدر ذراعين وليس
بلزيق، وهو أدناهما بابا، وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا اللفظ فقال: إن الجار
اللزيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه، وليس له حدٌّ إلى الدار ولا طريق فلا
شفعة له، وعوام العلماء يقولون: إذا أوصى رجل لجيرانه أعطى اللزيق وغيره، إلا أبا
حنيفة فإنه قال: لا يعطي إلا اللزيق وحده.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لا حجة في هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار، لأن عائشة
إنما سألت عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية، فأخبرها بأن مَن قَرُبَ أولى من
غيره، والله جل وعز أعلم.
قال المهلب: وإنما أمر بالهدية إلى من قرب، لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما
يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشاركه فيه، وأنه أسرع إجابة لجاره عندما ينوبه من
حاجة إليه.
(بَابُ اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ)
وَقَوْلُ اللهِ جلَّ وعزَّ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ
الأَمِينُ} [القصص: 26]
قال مقاتل بن سليمان في «تفسيره»: هذا قول صَفُوراءَ بنت شعيب صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وهي التي تزوجها موسى صلوات الله عليه وسلامه، وكانت توأمة عيزا،
%ج 3 ص 288%
ولدت صفوراء قبلها بنصف يوم، وكان بين المكان الذي سقى فيه الغنم وبين شعيب ثلاثة
أميال، فمشى معها، وأمرها أن تمشي خلفه وتدله على الطريق كراهية أن ينظر إليها
وهما على غير جادة، فقال شعيب لابنته: من أين علمتِ قوَّته وأمانته؟ فقالت: أزالَ
الحجر عن رأس البئر، وكان لا يطيقه إلا رجال، وذكرت أنه أمرها أن تمشي خلفه كراهية
أن ينظر إليها.
(1/260)
وفي
«المعاني» للزجاج: ويُرْوَى في التفسير -يعني تفسير أحمد بن حنبل- أن أبا النبيين
كان ابن أخي شعيب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان الحجر لا يُقِلُّه أقل
من عشرة أنفس، وقد قيل: كان لا يقله أقل من أربعين نفسًا، وذكر السُّهَيلي: أن
شعيبًا هو يثرون بن صَيْفون بن مدين بن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
ويقال: شعيب بن مِلْكَاين، وقد قيل: لم يكن من مدين، وإنما هو من القوم الذين
آمنوا بإبراهيم حين نجاه الله من النار، وابنتاه ليَّاء وصفوراء، وأكثر الناس على
أنهما ابنتا شعيب، وقيل: إن شعيبًا من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وروي: أن
سلمة بن سعد لما انتسب للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى عنزة قال صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «نِعْمَ الحيُّ عَنَزَة، رَهْطُ شُعَيْبٍ وأَخْتَانُ موسى صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» فإن صح هذا الحديث فعنزة إذًا ليس هو ابن أسد بن ربيعة، فإن
مَعْدًا كان بعد شعيب صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بنحو من ألف سنة، وأخبرنا قاضي
القضاة بدر الدين بن جماعة في كتابه «العزران»: اسم إحداهما شرفا، وقيل: صفورا،
وقيل: صفيراء بنتا يثرون بنتا أخي شعيب والتي تزوجها الصغرى، وذكره البخاري في باب
من أمر بإنجاز الوعد حديث سعيد بن جبير: [1] سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ أَيَّ
الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى، قُلْتُ: لاَ أَدْرِي، حَتَّى أَسْأَلَ الحَبْر -يعني
ابنَ عَبَّاسٍ- فسألهُ فَقَالَ: «قَضَى أَفْضَلَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا إِنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 3 ص 289%
إِذَا قَالَ فَعَل».
وهو حديث تفرد به البخاري دون الجماعة، وسيأتي شيء منه بعد هذا بيسير.
(1/261)
قَالَ
البُخَارِيُّ: (وَالخَازِنُ الأَمِينُ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ)
هاتان اللفظتان ذكرهما في حديث أبي موسى الآتي بعدُ والمتقدم في كتاب الزكاة بعضه،
وهنا قال: (لَنْ -أَوْ لَا- نَسْتَعْمِل عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ).
قال الإسماعيليُّ: ليس في هذا معنى الإجازة، وقال الداودي: ذكره للخازن ليس من هذا
الباب، لأنه لم يذكر فيه إجازة، وإنما أراد البخاري أن الخازن ليس له في المال شيء
وإنما هو أجير، فلهذا أدخله في هذا الباب.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لما كان طلب العمالة دلالة على الحرص وجب أن يحترز من
الحريص عليها، وإنما أدخل الخازن في هذا الباب، لأنَّ من اسْتُؤْجِرَ على شيء فهو
فيه أمين، وليس عليه في شيء منه ضمان.
قال ابن التين: فيه دليل الإجارة لقوله تعالى: {وَالعَامِلِينَ عَلَيهَا} [التوبة:
60].
قال: وضُبط في بعض الكتب بضم الهمزة وفتح الواو وتشديد اللام فعل مستقبل، وفي
بعضها بفتح الهمزة وسكون الواو، وكأنه شك هل قال: لن أو لا.
وقال القرطبي: هذا نهي، وظاهره التحريم كما قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا
تَسْأَلِ الإمارةَ إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا هَذَا أَحَدًا
يَسْأَلُهُ ويحرصُ عليهِ» فلما أعرض عنهما ولم يولِّهما لحرصهما، ولَّى أبا موسى
الذي لا يحرص عليها.
(بابُ رَعي الغَنَمِ عَلَى قَرَاريطَ)
2262 - ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا بَعَثَ
اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ:
«نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ». [خ¦2262]
قال أبو إسحاق الحَرْبي: قَراريط اسم موضعٍ، ولم يُرد بذلك القَراريط من [1]
الفِضَّة.
وقال سويد بن سعيد: يعني كل شاة بقيراط، قال ابن الجوزي: والذي قاله الحربي أصح.
انتهى.
يزيد هذا وضوحًا أن العرب لم تكن تعرف القيراط،
%ج 3 ص 290%
(1/262)
ولهذا
قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها
القيراطُ» وكأن لهذا لم يقل البخاري: باب الاستئجار على رعي الغنم، لأنه لا ذكر
للإجارة فيه، أو ترك التلفظ بذكرها إعظامًا لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: رعيهم صلى الله عليهم وسلم توطئة وتقدمة في تعريفهم سياسة
العالم، وأجمع العلماء أنه جائز أن يستأجر شهورًا معلومة بأجرة معلومة، قال مالك:
وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق، لأنه أمين كالوكيل إلا أن يفرِّط
أو يتعدى، وبالاستقراء من كلام ابن إسحاق والواقدي وغيرهما أن ذلك كان وسنُّه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نحو العشرين.
(بَابُ اسْتِئْجَارِ المُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ
أَهْلُ الإِسْلاَمِ)
(وَعامَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَهلَ خَيبَرَ) ثم قال:
(بَابُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،
أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ، وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي
اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ).
2263 - وذكر فيهما حديث الهجرة المذكور في كتاب الصلاة: «وأنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأَبَا بكرٍ اسْتَأْجَرَا رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ،
ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ
كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ
ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ
لَيَالٍ» الحديثَ. [خ¦2263]
(1/263)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: استئجار المشركين عند الضرورة وغيرها جائز حسن، لأن ذلك ذلَّةٌ
وصَغَارٌ لهم، وإنما قَالَ البُخَارِيُّ: (إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ)
من أجل أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما عامل أهل خيبر على العمل على
أرضها، إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام
واسْتُغْنِيَ عنهم فأخلاهم عمر، وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة
وغيرها.
وفيه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منه وفاء وضرورة أو هداية.
%ج 3 ص 291%
وقال ابن التين: إنما يكره أن يؤاجر المسلم نفسه من مشرك، لأن في ذلك إذلال
المسلم.
و (أَمنَاهُ) تلاقي مثل، {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283]،
ومعناه: ائتمناه، وقال الإسماعيلي: يرحم الله البخاري ظن ظنًا فعمل عليه، من أين
في الخبر أنهما استأجراه على ألا يعمل إلا بعد ثلاث؟! بل في الخبر أنهما استأجراه،
وابتدأ في العمل من وقته بتسليمهما إليه راحلتيهما يرعاهما ويحفظهما، فكان خروجهما
وخروجه بعد ثلاث على الراحلتين اللتين قام بأمرهما إلى ذلك الوقت.
وقال ابن المنير: قاس البخاري الأجل البعيد على القريب بطريقة لا قائل بالفصل،
فجعل الحديث دليلًا على جواز الأجل مطلقًا، وعند مالك تفصيل بين الأجل الذي لا
تتغير السلعة في مثله، وبين الأجل الذي تتغير في مثله فيمتنع.
(بابُ الأَجيرِ في الغَزوِ)
(1/264)
2265
- 2266 - حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عُلَيَّةَ، حدَّثَنَا ابن جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ صَفْوَانَ بنِ
يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رسولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جَيْشَ العُسْرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي
نَفْسِي، فَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا
إِصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَسَقَطَتْ،
فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ
وَقَالَ: «أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا -قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ-
كَمَا يَقْضَمُ الفَحْلُ؟!». [خ¦2265 - 2266]
قَالَ البُخَارِيُّ: قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ عَنْ جَدِّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ: أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ
رَجُلٍ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَهْدَرَهَا أَبُو بَكْرٍ.
هذا التعليق رواه الحاكم أبو أحمد في «الكنى» عن أبي بكر بن أبي داود، حَدَّثَنا
عمرو بن علي، حَدَّثَنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن مليكة عن أبيه عن جده عن أبي
بكر: «أنَّ رجلًا عَضَّ يدَ رجلٍ، فسقطَتْ ثَنِيَّتُهُ فَأَبْطَلَهَا أبو بكرٍ».
وقال أبو عمر: أبو مليكة اسمه زهير، وهو جد ابن أبي مليكة، له صحبة يعد في أهل
الحجاز، من حديثه عن عمرو بن علي، عن أبي عاصم عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن
أبيه عن جده: أن رجلًا عضَّ يد رجل .. الحديثَ وكذا ذكره الزبير بن أبي
%ج 3 ص 292%
(1/265)
بكر،
هل الضمير في جده يعود على عبد الله أو على زهير؟ فإن كان زهيرًا فمتصل أو غيرَه
منقطع فيما بينه وبين أبي بكر، وذلك أن ابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن
عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان، كذا هو الصحيح في نسبه، وعلى
كلٍّ فما رواه البخاري منقطع في موضعين كما بيناه.
وفي «مسلم»: «قَاتَلَ يَعْلَى رَجُلًا»، قال القرطبي: ورواية البخاري: «أَنَّ
أَجِيْرًا لِيَعْلَى» هو الأولى، إذ لا يليق بِيَعْلَى مع جلالته وفضله ذلك
الفعلُ.
وقال النووي: قال الحفاظ: الصحيح المعروف أنه أجير يعلى لا يعلى، قال: ويحتمل
أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت واحد أو وقتين.
ويروى: (يَدَهُ)، ويروى: (ذِرَاعَهُ) انتهى.
لقائل أن يجمع بين الروايتين فيقول: فقال يعلى للرجل، يريد الأجير، والإنسان الذي
قاتل الأجير هو يعلى كَنَّى عن نفسه، ولا حاجة بنا إلى أن نجعلهما واقعتين.
و (جَيْشَ العُسْرَةِ) يريد تبوك، وتعرف أيضًا بالفاضحة، وقيل لها: العسرة، لأنَّ
الحرَّ كان شديدًا، والجدب كان كثيرًا، وكانت في رجب، قال ابن سعد: يوم الخميس،
وعند ابن التين: خرج في أول يوم من رجب، ورجع في سلخ شوال، وقيل: في رمضان.
و (أَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ) أي: سقطت بجذب، والثَّنِيَّةُ: مقدم الأسنان، وللإنسان
أربع ثنايا، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.
و (القَضْمُ): الأكل بأطراف الأسنان، ذكره كراع في «المنظم»، وابن سِيْدَه، وفي
«الواعي»: أصل القضم: الدقُّ والكسر، ولا يكون إلا في الشيء الصلب، وماضيه على ما
ذكره ثعلب بكسر العين، وحكى ثابت في «لحنه» وابن طلحة فتح العين، وعند ابن التين:
هو الأكل بأدنى الأضراس.
و (أهدرَها) أي أسقطها وأبطلها، وبهذا الحديث تعلق الشافعي وأبو حنيفة في جماعة
فيما ذكره النووي في أن المعضوض إذا جذب يده فسقطت أسنان العاضِّ أو فك لحييْهِ
فلا ضمان عليه.
(1/266)
قال
الشافعيُّ: وإذا صال الفحل على رجل فدفعه فأتى عليه لم يلزمه قيمته، وعند مالك يضمن.
%ج 3 ص 293%
قال القرطبي: لم يقل أحد بالقصاص في ذلك فيما علمت، وإنما الخلاف في الضمان،
فأسقطه أبو حنيفة وبعض أصحابنا، وضمنه الشافعي، وهو مشهور مذهب مالك، قال: ونزل
بعض أصحابنا القول بالضمان على ما إذا أمكنه نزع يده برفق فانتزعها بعنف، وحمل بعض
أصحابنا الحديث على أنه كان متحرك الثنايا، وقال أبو عبد الملك: لم يصح الحديث عند
مالك.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: استئجار الأجير للخدمة وكفاية مؤنة العمل في الغزو وغيره
سواء.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: وأما القتال فلا يستأجر عليه، لأن كل مسلم عليه أن يقاتل حتى
تكون كلمة الله هي العليا.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقال غيره: إنما ذكر هذا الباب، لأن عمل الجهاد كله عمل
برٍّ، ومن أهل العلم من كره أن يؤاجر نفسه في سبب منه أو ما يتعلق به.
(بابُ مَنِ استَأجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ وَلَم يُبَيِّن لَهُ
العَمَلَ)
لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأجُرَني} الآيةَ [القصص: 27] قالَ أَبو عبدِ اللهِ:
تَأْجُرُ فُلاَنًا: تُعْطِيهِ أَجْرًا، وَمِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ: أَجَرَكَ
اللهُ.
قال الإسماعيلي: المعنى على أن تأجرني تكون لي أجيرًا هذه المدة، أو تأجرني نفسك
هذه المدة، فأما أن تعطيني أجرًا من حيث لا يعلمه الآجِر فلا.
وقَالَ المُهَلَّبُ: ليس كما ترجم البخاري، لأن العمل عندهم معلوم من سقي وحرث
ورعي واحتطاب وما شاكل أعمال البادية ومهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له
أشخاص الأعمال ولا مقاديرها وقد عرفه المدة وسماها له.
(1/267)
قال:
والذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة والعمل مجهولًا غير المعهود، ولا
يجوز حتى يعلم، والنكاح على أعمال البدن لا يجوز عند أهل المدينة لأنه غرر، وما
وقع من النكاح على مثل هذا الصداق لا نأمر به اليوم لظهور الغرر في طول المدة، وهو
خصوص لموسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عند أكثر العلماء، لأنه قد قال: {إِحدَى
ابنَتَيَّ} ولم يعيِّنها،
%ج 3 ص 294%
وهذا لا يجوز إلا بالتعيين، وأما مذاهب العلماء في ذلك إذا تزوجها على أن يؤاجرها
نفسه سنة أو أكثر يفسخ النكاح إن لم يكن دخل بها، وإن دخل بها ثبت النكاح بصداق
المثل، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان حرًّا فلها مهر مثلها، وإن كان عبدًا
فلها خدمته سنة، وقال الشافعي: النكاح جائز على خدمته إن كان وقتًا معلومًا، وقال
أصحاب مالك: إنما كره مالك النكاح على الخدمة، لأنه لم يبلغه أن أحدًا من السلف
فعل ذلك، والنكاح موضوع على الاتباع والاقتداء.
قال ابن الْمُنَيِّر: ظنَّ الْمُهَلَّبُ بالبخاريِّ أنَّه أجاز أن يكون العمل
مجهولًا، وليس كما ظنَّ، إنما أراد البخاري أنَّ التنصيص على العمل باللفظ غير
مشترط، وأن المتبع المقاصد لا الألفاظ، فيكفي دلالة العوائد عليها كدلالة النطق
خلافًا لمن غَلَّب التعبد على العقود فراعى اللفظ.
(بابٌ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ، جَازَ)
2267 - فذكر حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، في قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَه} [الكهف: 77]، قال ابن التين: تبويب البخاري
يدلُّ أنَّ هذا جائز لجميع المسلمين، وإنما كان ذلك للخضر صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خاصة، ولعلَّ البخاريَّ أراد أنه يبني له حائطًا من الأصل أو يصلح له
حائطًا. [خ¦2267]
(1/268)
وقَالَ
الْمُهَلَّبُ: إنما أجاز الاستئجار عليه لقول موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] والأجر لا يُتَّخَذُ إلا
على عمل معلوم، وإنما كان يكون له الأجر لو عامله عليه قبل عمله، وأما بعد أن
أقامه بغير إذن صاحبه فلا يجبر صاحبه على غُرْمِ شيء.
وقال ابن المنذر: في هذا جواز الإجارة على البناء
البابان تقدما في الصلاة، وكذا الباب الرابع والثالث في كتاب البيوع، وكذا الباب
الخامس والسادس في كتاب الزكاة.
(بَابُ السَّمْسَرَةِ)
%ج 3 ص 295%
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَلَمْ يَرَ ابنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ،
وَالحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا).
قَالَ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا حفص عن أشعث، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم
ومحمد بن سيرين، قالا: لا بأس بأجر السمسار إذا اشترى يدًا بيد.
وحَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنا ليث أبو عبد العزيز، قال: سألت عطاء عن السمسرة فقال:
لا بأس بها. وكان حماد يكره أجر السمسار إلا بأجر معلوم، وكان سفيان يكره السمسرة.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا، فَمَا
كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ لَكَ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ) هذا
التعليق رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن هشيم عن يونس عن ابن سيرين.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا
الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ).
هذا أيضًا رواه أبو بكر عن هشيم عن عمرو بن دينار، عن عطاء عنه، وكان شُرَيْحٌ لا
يرى أيضًا بذلك بأسًا، وكذا الشعبي ومحمد بن شهاب والحكم وعطاء، وكرهه إبراهيم
والحسن وطاوس في رواية أخرى، وفي أخرى: لا بأس به.
(1/269)
وقول
البخاري: (المسلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم) تقدم أنه في «أبي داود» وفي «مصنف أبي
بكر» عن عطاء، بلغنا أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «المؤمنونَ عِندَ
شُرُوطِهِم».
وعند الدَّارَقُطْني بسند جيد عن أبي هريرة يرفعه: «الْمُسْلِمُوْنَ عَلَى
شُرُوطِهِم».
ومن حديث بِشْرِ بن عبد الله، أن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مثله بزيادة:
«إلا شَرْطًا حَرَّمَ حلالًا أو حَلَّلَ حَرَاَمًا».
ومن حديث خُصَيْفٍ عن عائشة بلفظ: «الْمُسْلِمُوْنَ عِندَ شُرُوطِهِم مَا وَافَقَ
الحق»، ومن حديث أنسٍ مثله.
وقد اختلف العلماء في أجر السمسار، فأجازه مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن دفع
إليه ألف درهم ليشتري بها بُرًّا بأجر عشرة دراهم فهو فاسد، فإن اشترى فله أجر
مثله، ولا يجاوز ما سمى له من الأجر. وقال أبو ثور: إذا جعل له في كل ألف شيئًا
معلومًا لم يجز، لأن ذلك غير معلوم، فإن عمل على ذلك فله أجر مثله، فإن اكتراه
شهرًا على أن يشتري له ويبيع فذلك جائز.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقوله في حديث ابن عباس المذكور في كتاب
%ج 3 ص 296%
البيع: (لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا) يعني: من أجل الضرر الداخل على التجار لا من
أجل أجرته، لأن السمسار أجير، وقد أمر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بإعطاءِ
الأجيرِ أجره قبلَ أنْ يجفَّ عرقه، من حديث زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة.
وأما قول ابن عباس وابن سيرين فأكثر العلماء لا يجيزون هذا البيع، وممن كرهه
الثوري والكوفيون، وقال الشافعي ومالك: لا يجوز، فإن باع فله أجر مثله، وأجازه
أحمد وإسحاق وقالا: وهو من باب القراض، وقد لا يربح المقارض.
وأما من احتج بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُوْنَ عِندَ
شُرُوطِهِم» فغير جيد، لأن السُّنة مضت بأنه لا يجوز شرط أحلَّ حرامًا ولا حَرَّم
حلالًا، ومعناه أي عند شروطهم الجائزة.
(1/270)
قال
ابن التين: وقول ابن عباس وابن سيرين لم يتابعا عليه، لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجره» انتهى.
قد ذكرنا من تابعهما، وأما هذا الحديث فيحتاج إلى عرفانه وفي أي الكتب هو، قال:
والذي يظهر أن قول ابن سيرين هذا استدل به البخاري فهو من الترجمة، قال: وقد قيل
ما ذكر عن ابن عباس وابن سيرين يجوز على وجه إذا كان الناس يعلمون أن السلعة تسوى
أكثر مما سمَّى له من الثمن ومن قيمة إجارته على بيعها بالشيء اللين، وهذا غير
ظاهر، لأنه جَاعَلَهُ بشيء غير معلوم، ولا اعتبار بأنها تسوى أكثر، لأن الحاصل في
الجُعْل غير معلوم، والمغابنة في بياعات الناس موجودة، ومن اشترط فوق إجارته فوق
ما يسوى لا بأس به إذا كان معلومًا، وإنما صحَّ ما ذكره لو وجبت له الإجارة فأعطى
أقل، فيكون حينئذ الفاضل تفضيلًا لا معاوضة في مقابلته، وأما ابتداءً فهو مقصود
مراعًى، فلا بد أن يكون معلومًا.
الذي بعده تقدم.
(بَابُ مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ العَرَبِ بِفَاتِحَةِ
الكِتَابِ)
تقييد الشيخ بأحياء العرب
%ج 3 ص 297%
يشعر بحصره أن الحكم واحد لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْمحَال وَلَا الْأَمْكِنَة،
فينظر
قَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ».
هذا التعليق ذكره البخاري في «صحيحه» بعدُ مسندًا، وهو يعكر على الحنفي في أنه لا
يأخذ على التعليم أجرًا، اللَّهمَّ إلا أن يقاوله بمعنى الأجر في الآخرة، والله
أعلم، وزعم بعضهم أنه منسوخ بحديث القوس وفي كلامه نظر.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ الشَّافعيُّ: لاَ يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ، إِلَّا
أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَيَقبَلهُ).
(1/271)
هذا
التعليق رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن مروان بن معاوية، عن عثمان بن الحارث عنه
قال: حَدَّثَنا وكيع، حَدَّثَنا سفيان عن أيوب بن عائذ الطائي عنه به.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ الحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أُجْرَة
المُعَلِّمِ).
قَالَ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة عنه به.
وقَالَ البُخَارِيُّ: (وَأَعْطَى الحَسَنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ) الذي رأيت في «كتاب
ابن أبي شيبة»: حَدَّثَنا حفص عن أشعث عن الحسن أنه قال: لا بأس أن يأخذ على
الكتابة أجرًا، وكره الشرط.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَلَمْ يَرَ ابنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ القَسَّامِ بَأْسًا،
وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ: الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، وَكَانُوا
يُعْطَوْنَ عَلَى الخَرْصِ).
قَالَ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنا وكيع، حَدَّثَنا همام عن قتادة عن يزيد
الرِّشْك عن القاسم قال: قلت لابن المسيب: ما ترى في كسب القسام؟ فكرهه، قلت: إني
أعمل فيه حتى يعرق جبيني، فلم يرخص لي فيه. قال قتادة: وكان الحسن يكره كسبه، قال
قتادة: وقال ابن سيرين: إن لم يكن خبيثًا فلا أدري ما هو! [1] وفي قول الحكم: لم
أسمع أحدًا كره أجره نظرًا، لأن سيدنا سيد المرسلين صلى الله عليهم وسلم أجمعين
كرهه لعبادة بن الصامت حين أهدى له من كان يعلمه قوسًا فقال: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ
أَنْ تُطَوَّقَ بِهَا طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا»، رواه أبو بكر وأبو داود
بسند حسن،
%ج 3 ص 298%
قال: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسَرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ،
عنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ رَجُلًا فَأَهْدَى لهُ، فَسَأَلَ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنْ كانَ شَيْءٌ يُتْحِفُكَ بِهِ
فَلَا خَيْرَ فِيهِ».
(1/272)
وقال
عبد الله بن شقيق: يكره أرش المعلم، فإن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كانوا يكرهونه ويرونه شديدًا.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يأخذوا على الغلمان في الكتاب أجرًا، وفي
الكتاب ذهب الزهري وإسحاق إلى أنه لا يجوز أخذ الأجر عليه، زاد ابن حزم الحسن بن
حي، وعند الطحاوي عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يقول: «تَعَلَّمُوا القرآنَ ولا تَغْلُوا فِيْهِ، ولَا تَأْكُلُوا
بِهِ ولا تَسْتَكْثِرُوا به» وخرجه أحمد بسند لا بأس به.
وعن عمرانِ بنِ حُصَيْنٍ يرفعه: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ، وَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ،
فَإِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ
بِهِ» خرجه الترمذي.
وعند ابن بطال من حديث حماد بن سلمة عن أبي جَرْهَمٍ عن أبي هريرة قلت: يا رسول
الله، ما تقول في المعلمين؟ قال: «أَجْرُهُمْ حَرَامٌ».
وفي «فوائد سَمُّوَيْهِ» بسند صالح عن أبي الدرداء يرفعه: «منْ أخذَ عَلَى تعليمِ
القرآنِ قَوْسًا قَلَّدَهُ الله جلَّ وعزَّ مَكَانَهَا قَوْسًا منْ نارٍ» وإلى هذا
ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومن قال بقوله يحتج بحديث عثمان وعلي: «خَيْرُكُمْ
مَنْ تَعَلَّمَ القرآنَ وَعَلَّمَهُ» ولا حجة فيهما، لأن الكلام في أخذ الأجر لا
في الخيرية.
2276 - حَدَّثَنا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، عَنْ أَبِي المُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «انْطَلَقَ نَفَرٌ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا،
حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ» فذكر حديث الرقية وأخذهم
الأجر الحديث، ثم قال: وقال شعبة: حَدَّثَنا أبو بشر، سمعت أبا المتوكل بهذا، خرج
الستة هذا الحديث، وفي لفظ: «وسقانا لبنًا». [خ¦2276]
(1/273)
وعند
أبي داود من حديث خارجة بن الصلت عن عمه يَعْنِي علاقَة بن صحار أَنه رقى مَجْنُونا
موثقًا بالحديد بِفَاتِحَة
%ج 3 ص 299%
الْكتاب ثلاثة أيام، كل يوم مرتين، كذا قال: فأعطوني مئتي شاة، فأخبرت النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بذلك فقال: «خُذْهَا فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ
بِرُقْيَةٍ بَاطِلٍ، فَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةٍ حَقٍّ».
وعند الترمذي عن أبي سعيد يرفعه: «فاتحةُ الكتابِ شِفَاءٌ منْ كلِّ سقمٍ».
وعند ابن أبي داود في «كتاب المغازي» بسند صحيح: حَدَّثَنا مسلم بن شعيب،
حَدَّثَنا عبد الرزاق عن مَعْمَرٍ عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن
مسعود: «مَرِضَ الحسنُ -أو الحسين- فنزلَ جبريلُ فأمرَهُ أنْ يقرأَ الفاتحةَ على
إناءٍ منَ الماءِ أربعينَ مرةً، فيغسلَ بهِ يديهِ ورجليْهِ ورأسهُ».
وقول البخاري: (وقالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنا أَبُو بِشْرٍ) ذكره الترمذي عن محمد بن
مثنى، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة عن أبي بشر: سمعت أبا المتوكل، وقال: صحيح،
وهو أصح من حديث الأعمش عن أبي بشر عن أبي نضرة، والنسائي عن زياد بن ميمون عن
هشيم، وعن بُنْدَار عن غُنْدَرٍ عن شعبة جميعًا عن أبي بشر به.
وفي «ابن ماجه»: «بَعَثَنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في ثلاثينَ
رَاكِبًا». وفي «النسائي»: «وذلك ليلًا».
وعند البخاري عن ابن عباس: «فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ
الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ
وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ جلَّ وعزَّ أَجْرًا؟!».
وقال ابن العربي: في هذا الحديث اضطراب، في رواية: أن أبا سعيد: قرأ، ورقى، وفي
أخرى: أن غيره هو الراقي. انتهى.
ليس في الحديث أن غير أبي سعيد رقى، إنما فيه أن رجلًا رقى بذلك عن نفسه، فأي
اضطراب على هذا؟!
(1/274)
وقوله:
(فَاسْتَضَافُوهُمْ) قال ثعلب: ضِفْتُ الرجل إذا نزلت به، وأَضَفْتُه إذا أنزلته،
وقال ابن التين: ضبط في بعض الكتب: (يَضيفوهم) بفتح الياء والوجهُ ضمُّها.
قال ابن العربي: والقِرى والضيافة متقاربان، وكأن المعنى واحد، لأن بناء قرى جمع
الشيء إلى الشيء، وبناء ضيف الميل، فكأن النازل يميل إلى المنزول عليه.
وقوله:
%ج 3 ص 300%
(لُدِغَ) يعني: من حية أو عقرب، وبيَّنَ الترمذي: أنها عقرب، وفي رواية: (سَلِيْم)
أي لديغ، قيل له ذلك تفاؤلًا بالسلامة، وقيل: لاستسلامه لما نزل به، وعند النسائي:
«أو مُصَابٌ».
وفي «فضائل القرآن» لأبي ... [1]
وقوله: (فَسَعوا لَهُ بِكلِّ شيءٍ) قَالَ الخَطَّابِيُّ: يعني عالجوا طلبًا
للشفاء، يقال: سعى له الطبيب عالجه بما يشفيه، أو وصف له الشفاء.
وقوله: (عَلى قَطيعٍ) جاء بَيِّنًا عند النسائي، أي: فجعلوا الثلاثين شاة، قال ابن
التين: والقطيع الطائفة من الغنم.
وقوله: (مِنَ الغَنَمِ) تأكيد، انتهى كلامه.
رحمه الله تعالى، [2] وفيه نظر، لما ذكره ابنُ قُرْقُولٍ وغيره: القطيع طائفة من
النعم والمواشي.
وقوله: (يَتفِلُ) بتاء مثناة وفاء مكسورة، وروي بضمه، وهو خفيف الريق، وفي
«الترمذي»: قرأ عليه الحمد سبع مرات.
وقوله: (نَشَطَ مِن عِقالٍ) أي: أُقيم بسرعة، قَالَ الخَطَّابِيُّ: وفي بعض اللغات
بمعنى حلَّ، وفي بعضها نشطته إذا عقدته، وأنشطته إذا حللته وفككته، وعند الهروي:
<فَكَأنَّمَا أُنشطَ مِنْ عِقَالٍ> قال ابن التين: كذا هو في بعض روايات
البخاري هنا.
وقوله: (وما بهِ قَلَبَةٌ) بفتح القاف واللام، أي: داء، وفي الداء قَلَبَة لأن
صاحبه يقلب من أجله ليعلم موضع الداء منه، ولما قال له صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ).
وفي رواية الدَّارَقُطْني: «وَمَا عِلْمُكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ» قال: «شَيْءٌ
أُلْقِيَ فِي رُوْعِي».
(1/275)
وقال
الداودي: (مَا أَدْرَاكَ) هو المحفوظ، وقال ابن عيينة: ما قيل فيه: ما يدريك فلم
يُدْرِهِ، وما قيل فيه وما أدراك فقد علمه.
وقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ) فيه دلالة على
جواز أخذ الأجر على الرقية بأسماء الله جل وعز، وهو موقع الترجمة، فأجازه عطاء
وأبو قلابة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك وإسحاق وجماعة من السلف
والخلف، وللحنفي أن يفرق بين هذا وبين تعليم القرآن: بأن أولئك القوم كانوا كفارًا
يجوز أخذ أموالهم مطلقًا،
%ج 3 ص 301%
أو تقول: إن حق الضيف لازم لهم ولم يضيفوهم كما في تعيين الحديث، أو أن الرقى ليست
بقربة محضة تخصه كسائر العلاجات، وإن كنا نعلم أن المستأجر على الرقى يدخل في رقاة
القرآن، إذ ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضًا بخلاف تعليم القرآن لوجوب تعليمه،
لأن فيه التبليغ عن الله عز وجل، فمن علم منهم أجزأ عن بعضهم، فإذا استأجر بعضهم
بعضًا على تعليم ذلك فإن إجارته باطلة، لأنه استأجره على أن يؤدي فرضًا هو لله جل
وعز عليه، فإذا استؤجروا على أن يعملوا ما ليس عليهم أن يعلموه جاز أخذ الأجرة
عليه.
قال القرطبي: موضع الرقية {إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعين} قال: ويظهر لي
أن السورة كلها موضع الرقية، لقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟) ولم يقل
فيها رقية، فَتُسْتَحَبُّ قراءتها على اللديغ والمريض وصاحب العاهة.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إذا كان في الآية تعوذ أو دعاء كانت أخص بالرقية مما ليس
فيه ذلك وإن كان القرآن كله مرجوَّ البركةِ والنفع.
(1/276)
وقوله:
(وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) أراد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اختبار
علمه بذلك، وموضعها: {إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ} لأن الاستعانة
بالله جل وعز على كشف الضر، وسؤال الفرج، والتبرؤ إليه من الطاقة، والإقرار
بالحاجة إليه والمعونة هو في معنى الدعاء، ويحتمل أن الراقي إنما أراد بالحمد لله
لما علم أنها ثناء على الله جل وعز، فاستفتح رقيته بالثناء رجاء الفرج كما يرجى
الاستفتاح به في الدعاء الإجابة، ولذلك قال إبراهيم التيمي: إذا بدأ الرجل بالثناء
قبل الدعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء.
وقال ابن العربي: إنما خصها، لأنه رآها سميت بأم الكتاب، فتحقق شرفها وتقدمها.
قال ابن درستويه: كل كلام استشفي به من وجع أو خوف أو شيطان أو سحر فهو رقية.
قال الزمخشري: وقد يقال الذي استرقيته بمعنى رقيته، قال: وعن الكسائي: ارتقيت بهذا
المعنى، وفي
%ج 3 ص 302%
«الموعب» رقاه رَقْيًا ورُقْيَةً ورَقَاةً، فهو راقٍ إذا عوَّذه، وصاحبه رقاء.
قال ابن الجوزي: الرقية مطلقًا على ضربين:
رقية لا تفهم فربما كانت كفرًا، نهى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنها لذلك، وفي
الصحيح قال: «لَا بَأْسَ بالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا».
ورقية جائزة على ضربين: رقية يعتقد فيها أنها ترفع لما سيعرض، فهذه منهي عنها لهذا
المعنى، ورقية لما قد حدث، فهذه رُخِّصَ فيها، قال أحمد: لا بأس بالرقية من العين،
وسأله مهنأ عن الرجل تأتيه المرأة مسحورة فيطلق عنها السحر، فقال: لا بأس.
والاستشفاء بالقرآن والدعاء فهو في معنى الرقية، فلا يكره بحال، وسيأتي له تتمة في
تَطلُّبِ الطِّبِّ.
الأبواب التي بعده تقدم ذكرها.
(1/277)
وقوله
في بابِ كَسْبِ البَغِيِّ وَالإِمَاءِ: (وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ
النَّائِحَةِ، وَالمُغَنِّيَةِ) هو مذكور في كتاب ابن أبي شيبة عن وكيع، حَدَّثَنا
سفيان عن أبي هاشم عنه: أنه كره أجر النائحة والمغنية والكاهن، وكرهه أيضًا الشعبي
والحسن، وقال عبد الله بن هبيرة: {وَأكلِهِمُ السّحتَ} قال: مهر البغي.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَول اللهِ تَعَالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ
عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]).
قال مقاتل بن سليمان في «تفسيره»: نزلت هذه الآية في ستِّ جَوَارٍ لعبد الله بن
أبي سلول، كان يكرههن على الزنا ويأخذ أجورهن، وهن مُعَاذَةُ ومُسَيْكَةُ
وأُمَيْمَةُ وعَمْرَةُ وأَرْوَى وقُتيلة، فجاءته إحداهن يومًا بدينار، وجاءت أخرى
ببُرد، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاء الله جل وعز
بالإسلام وحرم الزنا، فأتتا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وشكتا إليه،
فأنزل الله جلَّ وعزَّ هذه الآية، كذا ذكره الواحدي في «أسباب النزول»، والذي رأيت
في «تفسير مقاتل بن سليمان» في قوله جلَّ وعزَّ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ
عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] نزلت في عبد الله بن أبيٍّ المنافق وفي جاريته
أميمة، وفي عبد الله بن نبتل المنافق وفي جاريته مسيكة، وهي ابنة أميمة ومنهن
أيضًا معاذة وأروى وعمرة
%ج 3 ص 303%
وقتيلة، وأتت أميمة وابنتها مسيكة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقالتا: إنا
نُكره على الزنا، فنزلت الآية.
وفي «مسلم»: كانَ ابنُ أُبِي يقولُ لجاريةٍ له: اذْهَبِي فَأَبْغِيْنَا شيئًا،
فنزلت.
(1/278)
وعند
الزهري: أن رجلًا من قريش أُسِرَ يوم بدر، فكان عند عبد الله بن أُبِي أسيرًا،
وكانت لعبد الله جارية يقال لها: معاذة، فكان القرشي الأسير يراودها عن نفسها،
وكانت تمتنع لإسلامها، وكان ابن أُبي يكرهها ويضربها على ذلك رجاء أن تحمل من
القرشي فيطلب فداءً، فنزلت.
وفي «المصنف» عن عَبَاية بنِ رِفَاعة: «أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَرِهَ كَسْبَ الأمةِ وقال: لَعَلَّها لا تجدُ فَتَبْغِي بِنَفْسِهَا».
وعن أبي هريرة بسند صحيح: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ
كَسْبِ الأَمَةِ».
وعن عثمان بن عفان: «لَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيْرَ الكسبَ فَيَسْرِقَ، ولَا
تُكَلِّفُوا الجاريةَ غير ذاتِ الصُّنع تكسب بفرجها»، وعن جابر: «نَهَى رسولُ الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ خَرَاجِ الأمةِ إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ في عملٍ
واصبٍ».
(بَابُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا)
قَالَ ابنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لِأَهْلِهِا أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ
الأَجَلِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ الحَسَنُ، والحَكَمُ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ:
تُمْضَى الإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا.
هذا التعليق ذكر منه ابن أبي شيبة عن عبد الصمد، حَدَّثَنا حماد بن سلمة عن حميد،
عن الحكم في الرجل يؤاجر داره عشر سنين فيموت قبل ذلك، قال: تنتقل الإجارة وتبطل
العارية.
وقال إياس بن معاوية: تمضيان إلى عامهما، وقال أيوب عن ابن سيرين إنما يرثون من
ذلك ما كان يملك في حياته.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: «أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَيْبَرَ
بِالشَّطْرِ»
%ج 3 ص 304%
فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي
بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
جَدَّدَ الإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/279)
هذا
التعليق مدرج في كلام البخاري، وآخرُ كلام ابن عمر: (خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ)، وبقية
كلام البخاري، والمذكور عن ابن عمر خرجه مسلم في «صحيحه».
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ:
حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ) هذا التعليق ذكره مسلم في «صحيحه» مسندًا.
2285 - وحديث الباب: (أَعْطَى خَيْبَرَ اليَهُودَ: أَنْ يَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ
شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا). [خ¦2285]
فيه جواز المساقاة الجائزة عند جماعة العلماء إلا أبا حنيفة، وتأول أن فتح خيبر
كان عنوة، رواه ابن إسحاق عن الزهري فقال: ما أخذه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
منهم فهو له، وما تركه فهو له.
(كِتَابُ الحَوالاتِ)
قال ثعلب: تقول: أحلتُ فلانًا على فلان بالدين إحالةً، قال ابن طريف: معناه
اتبعتُه على غريم ليأخذه.
وقال ابن دُرُسْتُوَيْهِ: يعني أزال عن نفسه الدين إلى غيره وحوله تحويلًا.
وفي «نوادر اللِّحْياني»: أحيله إحالةً وإحالًا.
(بابٌ وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الحَوَالَةِ؟)
(وَقَالَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا
جَازَ) هذا التعليق رواه أبو بكر عن عَبْدَة بن سليمان عن ابن أبي عروبة عن قتادة
عن الحسن قال: إذا احْتَالَ عَلَى مَلِيٍّ ثم أَفْلَسَ بعدُ جازَ.
قال: وحَدَّثَنَا معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن: أنه كان لا يرى الحوالة براءة
إلا أن يبرئه, فإذا أبرأه فقد برئ.
وقال النخعي: كل حوالة ترجع إلا أن يقول
%ج 3 ص 305%
الرجل للرجل: أبيعك ما على فلان وفلان بكذا وكذا، فإذا باعه فلا يرجع.
وقال الحكم: لا يرجع في الحوالة إلى صاحبه حتى يفلس أو يموت ولا يدع وفاء، وعن أبي
إياس عن عثمان في الحوالة: يرجع على مسلم تَوِيَ.
وقال خَطَّاب العصفري: أحالني رجل على يهودي فتوانى، فسألت الشعبي فقال: ارجع إلى
الأول.
(1/280)
وعن
شريح في الرجل يحيل الرجل فيتوى قال: يرجع إلى الأول، والإسناد إليهم لا بأس به.
وقَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ
المِيرَاثِ، فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا، فَإِنْ تَوِيَ
لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِع عَلَى صَاحِبِهِ).
قال ابن التين: يريد ابن عباس بالتراضي من غير قرعة مع استواء الدين.
قال ابن المنير: أدخل قسم الديون والعين تحت الترجمة إذا كان هذا عينًا وهذا
دينًا، فتوى الدين لم تنتقض القسمة، لأنه رضي بالدين عوضًا فتوى في ضمانه، وقاس
الحوالة عليه من عليه وحضوره.
وقوله: (وَأَهْلُ الْمِيْرَاثِ) قال أبو عبيد: إذا كان بين ورثة أو شركاء وهو في
يد بعضهم دون بعض، فلا بأس أن يتبايعوه وإن لم يعرف كل واحد منهم نسبه بعينه، ولو
أراد أجنبي أن يشتري نصيب بعضهم لم يجز حتى يقبضه البائع.
قال: و (تَوِيَ) ضبطناه بفتح الواو وسكون الياء، والصواب كسر الواو وفتح التاء على
وزن عَلِم، التَّواء ممدودًا وقد يقصر، انتهى.
قال صاحب «المغيث»: قال أبو بكر في قوله: (ذاك الذي لا توى عليه) أي: لا ضياع ولا
خسارة، من قولهم: توى المال إذا هلك يتوى، وتوي حق فلان على غريمه إذا ذهب، تَوًى
وتَواء، والقصر أجود فهو تَوٍ وتاءٌ، وقال الجياني: فقيل: إنه من التَّو بمعنى
المنفرد، ولم يذكر ابن ولاد فيه غير القصر، وكذلك القزَّاز وصاحب «المنتهى» ابن
سيده، وقال
قال أبو علي الفارسي: طيِّئ تقول: توى ... والتياني والأزهري في آخرين.
2287 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ
أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ». [خ¦2287]
(1/281)
ذكر
أبو مسعود أن البخاري رواه عن نافع محمد بن يوسف في كتاب الحوالة، وكذا ذكره خلف
وأبو العباس الطرقي، ومن طريقه خرجه الترمذي عن الثوري، وعند أحمد: «ومَنْ
أُحِيْلَ عَلَى مَليٍّ فَلْيَحْتَلْ» وعند ابن ماجهْ عن ابن عمر: «وَإِذَا
أُحِلْتَ عَلَى مَلَيٍّ فَاتَّبِعْهُ».
وعند أبي داود من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه: «ليُّ الواجدِ يُحلُّ عِرضَهُ
وعُقوبَتَهُ» وهذا ذكره البخاري في باب: لصاحب الحق مقال معلَّقًا في كتاب
الاستقراض بلفظ: «وَيُذْكَرُ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
قال ابن المبارك: (يُحلُّ عِرضَهُ) يغلظ عليه. و (عُقُوبَتَهُ) يحبس له، ولفظ ابن
شيبة: «يُحِلُّ دينه وعقوبته».
قال ابن التين: (لَيّ الواجدِ) بفتح اللام وتشديد الياء، أي مَطلُه، يقال: لواه
بدينه لَيًّا ولَيانًا، وأصل لَيٍّ لَوْيٌ.
و (الواجد) بالجيم. وقوله: (يحلُّ عِرضَهُ) أي: لويه، و (عقوبته) حبسه، وهذا تفسير
سفيان، والواجد: الغني الذي يجد ما يقضي به دينه، ومعنى قوله: (يُحِلُّ حَبْسهُ)
أي: إذا أخفى المال، وأما إن كان ماله ظاهرًا قُضي به للغريم، وقال المنذري: فيه
دليل على أن المعسر لا يُحبَس، لأنه غير واجد.
و (العِرضُ): موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو شغله أو من يلزمه
أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب.
وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسُه وبدنُه لا غير، وفي الفصيح: العرض ريح الرجل
الطيبة أو الخبيثة، ويقال: هو نقي العرض
%ج 3 ص 307%
أي بريء من أن يُشتم أو يُعاب.
وعن ابن السيد في قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (يحل عرضه) أوضح حجة لمن
قال: إن عرض الرجل ذاته، لأنه لم يبح له أن يقول في آبائه وأسلافه، وإنما أباح له
أن يقول فيه نفسِه.
(1/282)
وقال
ابن خالويه: العرض الجلد، يقال: هو نقي العرض، أي: لا يُعَاب بشيء من قوله مطلت.
وقال الترمذي: هو جسد الإنسان، وقد تقدم ذكره أيضًا في كتاب الحج، والمطل أصله
فيما ذكره ابن فارس من قولهم: مطلت الحديدة أمطلها مطلًا إذا مددتها لتطول.
وفي «المحكم»: المطل التسويف بالعدة والدين، مطله حقه وبه يمطُله مطْلًا فأمطل.
وقال القَزَّازُ: والفاعل مَاطِلٌ ومُمَاطل، والمفعول ممطول ومُمَاطَل، ويقول:
ماطلني ومَطَلَنِي حقي.
قال ابن التين: نزل قوله جل وعز: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] في مطل الدين، وقيل: فيمن يستضيف فلا
يضاف، وقيل: يريد المكره على الكفر فهو مظلوم. وعن مجاهد: أن رجلًا نزل بقوم
فأساؤوا قِراه، فشكاهم، فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكو.
وقال القرطبي: المَطْلُ قضاءٌ استحقَّ أداؤه مع التمكن من ذلك، وطلب المستحِقُّ
حقَّه.
ويصح للإمام تأديبه وتعزيره حتى يرتدع من ذلك، حُكِيَ معناه عن سفيان.
(الظلم) [1] قال القرطبي: وضع الشيء في غير موضعه لغة، وهو في الشرع محرم مذموم،
ووجهه هنا: أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به الذم والعقاب، والذي
أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحق بدليل قوله: (لَيُّ الواجدِ) ولا يلتفت لقول من
قال إنه صاحب الحق لبعده وعدم ما يدل عليه.
وعن سحنون: ترد شهادة المُلِيِّ إذا مطل لكونه سُمي ظالمًا، وعند الشافعي بشرط
التكرار.
قال ابن التين: وقيل: المعنى أن مطل الغني بدينه، فيكون الظلم على هذا من المعنى
الذي عليه الدين، فمنع الفقير أحرى وأولى، والجمهور على
%ج 3 ص 308%
القول الأول.
(1/283)
وقوله:
(فَليَتبَع) هو بإسكان التاء في أتبع، وفي (فليتبع) مثل أخرج فليخرج، قال النووي:
هذا هو الصواب والمشهور في الروايات، والمعروف في كتب اللغة وغريب الحديث، ونقل
القاضي وغيره عن بعض المحدثين: أنه بتشديدها في الكلمة الثانية، وقال القرطبي: هو
بضم الهمزة وتخفيف التاء وكسر الباء مبنيًا لما لم يسم فاعله عند الجميع، وأما
(فليتبع) فبعضهم قيده بتشديد التاء، وكذلك قيدته على من يوثق به، وقد روي بتخفيفها
وهو الأجود، لأن العرب تقول: تبعت الرجل بحقي أتبعه اتباعًا إذا طلبته به، فأنا له
تبيع، كل ذلك بالتخفيف، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا
بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69].
ومذهب الشافعي وغيره: إذا أحيل على مليٍّ اسْتُحِبَّ له قبول الحوالة، وحملوا
الحديث على الندب، لأنه من باب التيسير على المعسر.
وقال بعض العلماء: القبول مباح لا مندوب.
وقال بعضهم: واجب، وإليه ذهب داود وغيره، وعن أحمد روايتان: الوجوب والندب، ولما
سأل ابن وهب مالكًا عن هذا الحديث قال: هذا أمر ترغيب وليس بالذي يلزمه السلطان
الناس، وينبغي له أن يطيع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
قال القرطبي: بشرط أن يكون بدين، فإن لم يكن بدين لم يكن حوالة، لاستحالة حقيقتها
إذ ذاك، وإنما يكون حمالة.
وقال ابن رشد: من الشروط المتفق عليها في الجملة كونُ ما على المحال عليه مجانسًا
لما على المحيل قدرًا ووصفًا، إلا أن منهم من أجازها في الذهب والدراهم فقط،
ومنعها في الطعام، والذين منعوها في ذلك رأوا أنها من بيع الطعام قبل أن يستوفى،
لأنه باع الطعام الذي كان له على غريمه، وأجاز ذلك مالكٌ إذا كان الطعامان كلاهما
من قرض إذا كان دين المحال حالًّا، وأما إن كان أحدهما من سَلَمٍ فإنه لا يجوز إلا
أن يكون الدينان حالَّين.
%ج 3 ص 309%
(1/284)
وعند
ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك: يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالًّا، ولم
يفرق بين ذلك الشافعيُّ، لأنه كالبيع في ضمان المستقرض، وأما أبو حنيفة فأجاز
الحوالة بالطعام وشبهه بالدراهم، وجعلها خارجة عن الأموال لخروج الحوالة بالدراهم،
ولها عند مالك ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون دين المحال حالًّا، لأنه إن لم يكن حالًّا كان دينًا بدين.
والثاني: أن يكون الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لأنه إذا
اختلف في أحدهما كان بيعًا ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا
خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين.
والثالث: ألا يكون الدينان طعامين من سَلَمٍ أو أحدهما، ولم يحل الدين المستحل به
على مذهب ابن القاسم، وجمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة في أنه إذا أفلس
المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء، وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين
على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسًا أو حكم بإفلاسه أو جحد الحوالة ولم يكن له
بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي وجماعة.
ولا بد عند أبي حنيفة من رضى المحال عليه والمحيل، وقال الشافعي: لا يرجع عليه وإن
تَوِيَ، وسواء غره بالفلس أو طوَّل عليه أو أنكره، وقال مالك: لا يرجع على الذي
أحاله إلا أن يغره من فلس.
ورُئي بخط بعض الفضلاء: في قوله: (مَطْلُ الغنيِّ ظلمٌ) دلالة أن الحوالة إنما
تكون بعد حلول أجل الدين، لأن المطل لا يكون إلا بعد الحلول.
(بابٌ إِنْ أَحَالَ دَيْنَ المَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ)
2289 - حَدَّثَنا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، إِذْا أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «هَلْ
عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»، فقَالُوا:
%ج 3 ص 310%
(1/285)
لاَ،
فَقَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟»، قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ
بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ:
«هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟»،
قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِثالِثَةٍ،
فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فقَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟»، قَالُوا: لاَ،
قَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: «صَلُّوا
عَلَى صَاحِبِكُمْ»، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ
وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. [خ¦2289]
عند الترمذي عن أبي قتادة صحيحًا: لما قال هو عليَّ، رسولُ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قال: «بالوفاء؟» قال: بالوفاء.
وعند ابن ماجهْ: فقال أبو قتادة: أنا أتكفل بهِ.
وعند أبي داود من حديث جابر، قال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، قال جابر:
وكان لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فلما فتح الله جل وعز على رسوله قال: «أَنَا
أَوْلَى بكلِّ مؤمنٍ منْ نَفْسِهِ، فمنْ تركَ دَيْنًا فعليَّ قَضَاؤهُ، ومنْ تركَ
مالًا فَلِوَرَثَتِه».
وعند الدَّارَقُطْني: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «هُمَا
عَلَيْكَ وفي مالكِ، وحقُّ الرجلِ عليكَ، والميتُ مِنْهَا بريءٌ» فقال: نعم،
فصلَّى عليهِ، وجعل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا لقي أبا قتادة يقول: «مَا صَنَعْتَ
في الدِّيْنَارَيْنِ؟» حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: «الآنَ
حِيْنَ برَّدتَ عليهِ جِلْدَهُ» ..
وعند الطبراني من حديث أسماء بنت يزيد: فقال: «عَلَى صَاحِبِكُمْ دينٌ؟» قالوا:
ديناران، فقال أبو قتادة: أنا بدينه يا رسول الله.
(1/286)
وعند
الدَّارَقُطْني من حديث ابن عباسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِجَنَازَةِ لَمْ يَسْألْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ
عَمَلِ الرَّجُلِ وَيَسْأَلُ عَنْ دَيْنِهِ, فَإِنْ قِيلَ: عَلَيْهِ دَيْنٌ كَفَّ
عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ, وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَلَّى عَلَيْهِ,
فَأُتِيَ بِجِنَازَةٍ فَلَمَّا قَامَ لِيُكَبِّرَ سَأَلَ «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»
, قَالُوا: دِينَارَانِ, فَعَدَلَ عَنْهُ وَقَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ,
فَقَالَ عَلِيٌّ: هُمَا عَلَيَّ وهو بَرِيءٌ مِنْهُمَا، فَصَلَّى
%ج 3 ص 311%
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ: «جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا, فَكَّ اللهُ رِهَانَكَ
كَمَا فَكَكْتُ رِهَانَ أَخِيكَ, إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ
دَيْنٌ إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِدَيْنِهِ, وَمَنْ فَكَّ رِهَانَ مَيِّتٍ فَكَّ
اللهُ رِهَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لِعَلِيٍّ
خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ , فَقَالَ: «بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ
عَامَّةً»، وروي نحوه عن أبي سعيد الخدري، وفيه أن عليًّا قال: أنا ضامنٌ لدينه.
وعند الطحاوي من حديث شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: إن رجلًا مات وعليه
دين، فلم يُصَلِّ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عليه، حتى قال أبو اليسر أو
غيره: هو عليَّ، فصلى عليه، فجاء من الغد يتقاضاه فقال: إنما كان ذلك من بعد الغد،
فأعطاه، فقال النبيُّ: «الآنَ بَرَّدْتَ عليهِ جِلْدَتَهُ».
(1/287)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: ترجم البخاري على الحوالة، ثم ذكر حديث الضمان، لأن الحوالة
والحمالة عند بعض العلماء معناهما متقارب، وإليه ذهب أبو ثور، فلهذا جاز أن يعبر
عن الضمان بأحال، لأنه كلمة نقل ذمة رجل إلى ذمة آخر، ونقل ما على رجل من دين إلى
آخر، والحمالة في هذا الحديث: براءة ذمة الميت، فصار كالحوالة سواء.
قال: وقد اختلف العلماء فيمن يكفل عن ميت بدين، فقال ابن أبي ليلى ومحمد وأبو يوسف
والشافعي: الكفالة جائزة عنه وإن لم يترك الميت شيئًا، ولا رجوع له في مال الميت
إن ثبت للميت مال، قال: وكذلك إن كان للميت مال وضمن عليه لم يرجع في قولهم، لأنه
متطوع، وقال مالك: له إن رجع في ماله لذلك إن قال: إنما أديت في مال الميت، وإن لم
يكن للميت مال وعلم الضامن بذلك فلا رجوع له إن ثبت للميت مال، قال ابن القاسم:
لأنه بمعنى الهدية، وقال أبو حنيفة: إن لم يترك الميت شيئًا فلا تجوز الكفالة، وإن
ترك جَازَت بِقدر مَا ترك وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.
وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدَّين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة،
وقيل: إن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما كان يمتنع من الصلاة على من
ادَّان دينًا غير جائز، والظاهر أن
%ج 3 ص 312%
ذلك كان في أول الإسلام كما قدمناه في الحديث.
(1/288)
أخبرنا
... [1] على المسند فتح الدين القاهري، وأنا أسمع عن أبي المكارم عبد الله بن
الحسين، أخبرنا الحافظ أبو بكر الهمداني قراءة عليه، قال: قرأت على محمد بن عمر بن
أحمد الحافظ، أخبرنا الحسن بن أحمد القاري، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن جعفر،
حَدَّثَنا يونس بن حبيب، حَدَّثَنا أبو داود، حَدَّثَنا شعبة عن عدي بن ثابت عن
أبي حازم عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «مَنْ تَرَكَ
كَلًّا فإليَّ، ومنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَارِثِ». قال ابن بشر يونس بن حبيب:
سمعت أبا الوليد يقول: هذا ينسخ تلك الأحاديث التي جاءت في ترك الصلاة على من عليه
الدين.
وقال أبو بكر عبد الله بن أحمد الصَّفَّار: حَدَّثَنا محمد بن الفضل الطبري،
أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن المخزومي، أخبرنا محمد بن بُكَيْرٍ الحضرمي، حَدَّثَنا
خالد بن عبد الله عن حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس: كان رسولُ الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يُصَلِّي على منْ ماتَ وعيله دينٌ، فماتَ رجلٌ منَ
الأنصارِ فقال: «عَلَيْهِ دَيْنٌ؟» فقالوا: نعم، فقال: «صَلُّوا عَلَى
صَاحِبِكُمْ» فنزلَ جبريلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: «إنَّ اللهَ جلَّ
وعزَّ يقول: إنَّمَا الظالمُ عندي في الديونِ التي حملت في البغي والإسرافِ
والمعصيةِ، فأما الْمُتَعَفِّفُ ذو العيالِ فأنا ضامنٌ أنْ أُؤَدِّيَ عنه» فصلَّى
عليه النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقال بعد ذلك: «منْ تركَ ضَيَاعًا أو
دينًا فإليَّ -أو عليَّ- ومنْ تركَ ميراثًا فلأهله» وصلى عليهم.
قال الحازميُّ: هذا الحديث بهذا السياق غير محفوظ، وهو جيد في باب المتابعات.
(1/289)
وقال
القرطبي إلزامه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بدين الموتى يحتمل أن يكون تبرعًا على
مقتضى كرم أخلاقه، لا أنه أمر واجب عليه، قال: وقال بعض أهل العلم ثبت على الإمام
أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداءً بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فإنه قد صرح بوجوب
%ج 3 ص 313%
ذلك عليه حيث قال: (فعليَّ قَضَاؤهُ) ولأن الميت المديون يخاف أن يعذب في قبره على
ذلك الدين، لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (الآنَ حين برَّدْتَ جِلْدَته)،
وكما أن على الإمام أنْ يَسُدَّ رمقه ويراعي مصلحته الدنيوية فالآخرة أحرى.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فإن لم يُعْطِ الإمام عنه شيئًا وقع القصاص منه في الآخرة،
ولم يحبس الميت عن الجنة بدين له مثله في بيت المال إلا أن يكون دينه أكثر مما له
في بيت المال.
وفي «شرح المهذب»: قيل: إنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يقضيه من مال مصالح
المسلمين، وقيل: من ماله، وقيل: كان هذا القضاء واجبًا عليه، وقيل: لم يُصَلِّ،
لأنه لم يكن للمسلمين يومئذ بيت مال، فلما فتح الله عليهم وصار لهم بيت مال صلَّى
على من عليه دين ويوفيه منه.
قال ابن المنذر: إذا تكفل عن رجل بمال فهل للطالب أن يأخذ أيهما شاء؟ فقال الثوري
والكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق: يأخذ أيهما شاء حتى يستوفي، وقال به مالك أولًا،
ثم رجع عنه وقال: لا يأخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب.
وقالت طائفة منهم أبو ثور: الكفالة والحوالة والضمان سواء، ولا يجوز أن يكون شيء
واحد على اثنين على كل واحد منهما.
وقال ابن أبي ليلى: إذا ضمن الرجل عن صاحبه مالًا يحول على الكفيل، وبرئ صاحب
الأجل إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء، والله أعلم.
(بَابُ الكَفَالَةِ [1] فِي القَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا)
كذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: <في العُرُوْضِ>.
(1/290)
قَالَ
الْمُهَلَّبُ: الكفالة بالقرض -الذي هو السلف بالأموال كلها- جائزة، وحديث الخشبة
الملقاة في البحر أصل في الكفالة بالديون من قرض كاتب أو بيع.
2290 - قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ
بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا،
%ج 3 ص 314%
فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ
كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِئَةَ
جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ). [خ¦2290]
هذا التعليق ذكره عبد الله بن وهب في «موطئه» عن أبي الزناد عن أبيه، ورواه أبو
جعفر الطحاوي مطولًا عنِ ابنِ أَبِي دَاوُدَ، ثنا ابنُ أَبِي مَرْيَمَ،
أَخْبَرَنَا عبدُ الرحمنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قالَ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ حمزةَ أَنَّ عُمَرَ
بنَ الخطابِ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا عَلَى سَعْدِ بْنِ [2] هُذَيْمٍ، فَأَتَى
حَمْزَةَ بِمَالٍ لِيُصَدِّقَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ: صَدِّقِي
مَال مَوْلَاكَ وَإِذَا الْمَرْأَةُ تَقُولُ: بَلْ أَنْتَ أَدِّ صَدَقَةَ مَالِ
ابْنِكَ، فَسَأَلَ حَمْزَةُ عَنْ أَمْرِهِمَا فَأُخْبِرَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ
زَوْجُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ, وَأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةٍ لَهَا فَوَلَدَتْ
وَلَدًا فَأَعْتَقَتْهُ امْرَأَتُهُ، قَالُوا: فَهَذَا الْمَالُ لِابْنِهِ مِنْ
جَارِيَتِهَا، فَقَالَ حَمْزَةُ: لَأَرْجُمَنَّكَ، فَقال لَهُ أهلُ المالِ:
أَصْلَحَكَ اللهُ إِنَّ أَمْرَهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَجَلَدَهُ عُمَرُ مئة وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ رجمًا.
(1/291)
فَأَخَذَ
حَمْزَةُ بِالرَّجُلِ كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ, فَسَأَلَهُ
فَصَدَّقَهُمْ عُمَرُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَقَالَ: إِنَّمَا دَرَأَ عَنْهُ
الحدَّ لأنه عَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ.
وعند الطحاوي أيضًا من حديث جَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الْمُحَبِّقِ: أَنَّ رَجُلًا زنَا بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ , فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ
وَعَلَيْهَا مِثْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا». زاد في
حديث قبيصةَ بن حُرَيْثٍ عن سلمة: «ولَمْ يُقِمْ عليهِ حَدًّا».
قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هذا هو الحكم فيمن زنا بجارية امرأته،
قالوا: وقد عمل بذلك ابن مسعود، وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: إن الذي عليه الرجم
إن كان محصنًا، والجلد إن كان غير محصن.
وروي حديث هشيم عن أبي بشر، عن حبيب بن سلمة: أن رجلًا وقع بجارية امرأته، فأتت
امرأته النعمان بن بشير فأخبرته، فقال: أمَا إن لك عندي
%ج 3 ص 315%
في ذلك خبرًا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إن كنتِ أذنتِ له جلدته مئة،
وإن كنت لم تأذني له رجمتُه.
قال: قوله: (جَلَدْتُهُ مئة) هي عندنا تعزير، كأنه درأ عنه الحد بوطء الشبهة،
وعزَّره بركوبه ما لا يحل له، فإن قيل: أفيعزر الحاكم مئة؟ قلنا: نعم، قد عَزَّرَ
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مئة.
(1/292)
وحديث
النعمان عندنا نسخ لما رواه ابنُ الْمُحَبِّقِ، وذلك أن الحكم كان في أول الإسلام
يوجب عقوبات في أموال وعقوبات في أبدان كقوله: «إِنَّا آخِذُوهَا وشَطْرَ مالهِ»
وفي حديث أبي هريرة في ضالة الإبل غرامتها ومثلها معها، وفي حديث عمرو بن العاصي:
(لَيس في شيءٍ مِن الماشيةِ قَطع إلَّا ما آواه المراح فبلغَ ثمنُه ثمنَ المجنِّ،
ففيه غرامة مثله وجلدات نَكال) حتى ينسخ بتحريم الربا، وأما ما ذكر عن ابن مسعود
فقد خالفه غيره في ذلك، روى أبو عبد الرحمن السلمي أن علي بن أبي طالب قال: لا
أوتى برجل وقع على جارية امرأته إلا رجمته.
وحمزة بن عمرو أيضًا لم ينكر عليه عمر بن الخطاب قوله: لأرجمنَّه، فوافق عليًّا
وما رواه النعمان، وقد أنكر عليٌّ على ابن مسعود، إذ لم ير عليه حدًا لما بلغه: لو
أتاني صاحب ابن أم عبد لرضخت رأسه بالحجارة، لم يدر ابن أم عبد ما حدث بعده، وقد
أفتى علقمة بخلاف قول صاحبه ابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
وقال الداودي: لعل حمزة أخذ الكفيل، يجب عليه من نقص الجارية، وقال ابن المنير:
أخذ [3] البخاري من الكفالة بالأبدان في الحدود الكفالة بالأبدان في الديون بطريق
الأولى، فمن هنا وقعت المطابقة.
وقوله في الترجمة: (وَغَيرِها) يعني: غير الأبدان،
%ج 3 ص 316%
أي: وبالحقوق المالية لحديث الخشبة.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الكفالة بالأبدان في الحدود غير صحيحة، ويسجن المدعى عليه
في الحد حتى ينظر في أمره، إلا أن جمهور الفقهاء قد أجازوا [4] الكفالة بالنفس وهو
قول مالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومحمد، واخْتُلِفَ عن الشافعي، فمرة
أجازه ومرة منعه، ولم يختلف الذين أجازوها أن المطلوب إن غاب أو مات لا يلزم
الكفيل قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة الحكم في البدن.
(1/293)
قال:
وشذَّ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص فقالا: إذا قال المقذوف أو
المدّعي للقصاص: بينتي حاضرة كفلته ثلاثة أيام، احتج لهما الطحاوي بما روى حمزة بن
عمرو وابن مسعود وجرير والأشعث: أنهم حكموا بالكفالة في النفس بمحضر من الصحابة،
حتى كتب إلى عمر بن الخطاب في ذلك، قال: ولا حجة في ذلك، لأن ذاك إنما كان على
سبيل الترغيب على المطلوب والاستيثاق، لا أن ذلك لازم لمن تكفل إذا زال المتكفل
به، لأنه يؤدي ما ضمن في ذمته عمن تكفل عنه.
واختلف العلماء فيمن يكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال؟ فقال الكوفيون:
من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب، وهو أحد قولي الشافعي، وقال
مالك والليث والأوزاعي: إذا تكفل بنفسه وعليه مال فإنه إن لم يأت به غرم المال،
ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال، فلا شيء
عليه من المال.
وقال ابن التين قوله: (وَعَذَرَهُ بالجهالةِ) يريد أنه عذره فلم يرجمه
%ج 3 ص 317%
وضربه مئة تعزيرًا، وهو حجة على من يمنع من وصول التعزير إلى الحد، ومذهب مالك له
مجاوزة الحد على ما يراه الإمام.
حديث الخشبة تقدم.
(بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ})
قَالَ البُخَارِيُّ في التفسير: (عاقَدَت) هو مولى اليمين، وهو الحليف، وذكر ابن
أبي حاتم أن سعيد بن المسيب ومجاهدًا وعطاء والحسن وابن جبير وأبا صالح والشعبي
وسليمان بن يسار وعكرمة والسُّدِّي والضحاك وقتادة ومقاتلًا قالوا: هم الحلفاء،
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن منصور عن مجاهد في قوله: {وَالَّذِينَ عَاقَدَت
أَيمانُكُم} قال: كان هذا حِلْفًا في الجاهلية.
(1/294)
وفي
«تفسير عبد» من حديث موسى بن عُبَيْدَةَ عن عبد الله بن عُبَيْدَةَ: العقد خمسة:
عقدة النكاح، وعقدة الشريك لا يخونه ولا يظلمه، وعقدة البيع، وعقدة العهد، قال
الله جل وعز: {أَوفُوا بِالعُقُودِ} [المائدة: 1]، وعقدة الحلف، قال الله جل وعز:
{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيمانُكُم} انتهى.
الذي رأيته في «تفسير مقاتل»: كان الرجل يرغب في الرجل فيحالفه ويعاقده على أن
يكون معه وله من ميراثه كبعض ولده، فلما نزلت آية الميراث جاء رجل إلى النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فذكر له ذلك، فنزلت: {وَالَّذِينَ عَاقَدَت
أَيمانُكُم فَآتُوْهُمْ نَصِيْبَهُمْ} يقول: أعطوهم الذي سميتم لهم من الميراث.
2292 - حَدَّثَني الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ
عَبَّاسٍ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] قَالَ: وَرَثَةً
{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ المُهَاجِرُونَ لَمَّا
قَدِمُوا المَدِينَةَ، وَرِثَ
%ج 3 ص 318%
المُهَاجِرِيُّ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ:
{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَّا النَّصْرَ، وَالرِّفَادَةَ،
وَيُوصِي لَهُ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ. [خ¦2292]
قَالَ البُخَارِيُّ في التفسير: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس طلحة. انتهى.
هذا مذكور في «كتاب المستدرك» من طريق أبي حفص أحمد بن عبد الحميد قال: حَدَّثَنا
أبو أسامة، قال: حدثني إدريس بن يزيد، قال: حَدَّثَنا طلحة بن مصرف .. الحديث،
وقال: صحيح على شرطهما.
وذكر أبو بكر بن المنذر في تفسيره سماعَ حماد بن إدريس أيضًا، وإدريس بن طلحة.
(1/295)
وفي
«أسباب النزول» لأبي داود: حَدَّثَنا هارون بن عبد الله، حَدَّثَنا أبو أسامة،
حدثني إدريس بن يزيد، حَدَّثَنا طلحة، فذكره، وكذا ذكره النحاس في «ناسخه» عن أحمد
بن شعيب، حَدَّثَنا هارون، للواحدي عن ابن المسيب: نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] في الذين كانوا يتبنون رجالًا غير أبنائهم
ويورثونهم، فأنزل الله تعالى فيهم أن يُجْعَلَ لهم نصيب في الوصية، وردَّ جلَّ
وعزَّ الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة، وأبى أن يجعل للمدَّعَينَ
ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبًا في الوصية.
أخبرنا علي بن أبي بكر المعروف بابن الصلاح رحمه الله تعالى، عن ابن رواح والسبط،
قالا: أخبرنا الحافظ الإسكندري قراءة عليه ونحن نسمع، أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد
بن علي بن الحسين الطُّرَيثِيثي، أخبرنا أبو علي بن شاذان، أخبرنا أبو بكر النجاد،
أخبرنا أبو داود سليمان بن الأشعث بجميع كتاب «الناسخ والمنسوخ» تأليفه، قال:
أخبرنا محمد بن أحمد، حدثني علي بن حسين عن أبي، عن يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عن
عكرمة: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
%ج 3 ص 319%
نَصِيبَهُم} [النساء: 33] كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما
الآخر، فنسخ ذلك الآية فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}
[الأحزاب: 6]، وعن الضحاك معناه.
وحَدَّثَنَا أحمد بن حنبل، حَدَّثَنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين
قال: كنت أقرأ على أم سعيد ابنة الربيع، وكانت يتيمة في حجر أبي بكر، فقرأت:
{وَالَّذِينَ عَاقَدَت} قالت: لا تقرأ (عاقَدَت) ولكن {عَقَدَتْ أَيمانُكُم} إنها
نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما
أسلم أمره الله جل وعز أن يورثه نصيبه.
(1/296)
وقال
أبو جعفر النحاس: الذي يجب أن يحمل عليه الحديث -يعني حديث ابن عباس- أن يكون
{وَلِكُلٍّ جَعَلنَا مَوَاليَ} ناسخًا لما كانوا يفعلونه، وأن يكون {وَالَّذِينَ
عَاقَدَت أَيمانُكُم} غير ناسخ ولا منسوخ.
وقال الحسن وقتادة: إنها منسوخة، ومثله يروى عن ابن عباس، وممن قال: إنها محكمة،
مجاهد وابن جبير، انتهى.
وبه قال أبو حنيفة، قال: وهذا الحكم باق غير منسوخ، وجمع بين الآيتين بأن جعل أولي
الأرحام أولى من أولياء المعاقدة، فإذا فقد ذوو الأرحام ورث المعاقدون، وكانوا أحق
به من بيت المال، قال أبو جعفر: وهو أولى ما قيل في هذه الآية، لعلتين:
إحداهما: أنه إنما يحمل الفسخ على ما لا يصح المعنى به وما كان منافيًا، فأما ما
صحَّ معناه وهو متلوٌّ فبعيد من الناسخ والمنسوخ.
والعلة الأخرى: الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن جبير عنه
أنه قال: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً» فبين بهذا أن الحلف
غير منسوخ، وتبين من قول مجاهد وسعيد أنه في النصر والنصيحة
%ج 3 ص 320%
والرفد، ويكون قول ابن عباس نسخها يعني آية: {وَلِكُلٍّ جَعَلنَا مَوَاليَ}، لأن
الناس كانوا يتوارثون بالتبني فتوارثوا في الإسلام بالإخاء، ثم نسخ هذا كلَّه
فرائض الله جل وعز بالمواريث.
وفي «المعاني» للزجاج قال بعضهم: الذي تعاقد على الموالاة يجب أن يجعل له نصيب في
المال، يعني من الثلث، وقول البخاري في التفسير: موالي أولياء ورثة، وفي بعض
النسخ: < قَالَ البُخَارِيُّ: وقالَ مَعْمَرٌ: أولياء موالي ورثة> وأيًّا ما
كان فقد ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي صالح، حَدَّثَنا معاوية بن صالح عن علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الموالي العصبة، يعني الورثة، قال أبو محمد: وروي
عن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وأبي صالح وزيد بن أسلم والسُّدِّي والضحاك ومقاتل
نحو ذلك.
(1/297)
وقوله
أيضًا: والمولى أيضًا ابن العم، والمولى المنعم، والمولى المعتق، والمولى المالك،
والمولى مولى في الدين، فقد أغفل ما ذكره الزجاج المولى كل من يليك، وكل من واتاك
في محبة فهو مولى لك.
زاد أبو موسى المديني: والمولى الْمُعْتِق، والمولى المحب، والمولى الجار، والمولى
الناصر، والمولى المأوى، والمولى الصهر، زاد ابن الأثير: والمولى الرب، والمولى
التابع.
وفي «مناقب الأئمة» لابن الباقلاني: والمولى المكان، والمولى القرار، وأما المولى
بمعنى الولي فكثير ولا يعرف في اللغة بمعنى الإمام.
وقراءة عاصم وحمزة والكسائي: {عَقَدَتْ} بغير ألف، والباقون بالألف.
قال ابن التين: وزعم الداودي أنهم في الجاهلية إذا تعاقدوا، فإن كان له ورثة سواه
كان للحليف السدس، وإن لم يكن له ورثة سواه ورثه.
وقال ابن المنير: وجه دخول حديث ابن عباس في الكفالة والحوالة:
%ج 3 ص 321%
أن الكفيل والغريم الذي وقعت الحوالة عليه، فينتقل الحق عليه كما ينتقل ههنا حق
الوارث عنه إلى الحليف، فشبه انتقال الحق على المكلف بانتقاله عنه وله، وفيه
القياس على أصل قد نسخ، وهي قاعدة اختلاف.
قال ابن التين: وفسَّر العلماء قولهم: (حَالَفَ بينَ قريش ٍوالأنصار) بمعنى آخى،
وذلك أنَّ الحلف في الجاهلية هو بمعنى الأخوة في الإسلام.
وقال الطبري في «التهذيب»: فإن قيل: قد قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا
حِلْفَ فِي الإسْلامِ» وهو يعارض قول أنس، يعني المذكور عند البخاري في هذا الباب:
«حَالَفَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بينَ قريشٍ والأَنْصَارِ في داري بالمدينة»
قيل له: هذا كان في أول الإسلام آخى بين المهاجرين والأنصار، قال: والذي قال فيه
«مَا كَانَ منْ حِلْفَ فلن يَزِيْدَهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً» يعني ما لم
ينسخه الإسلام، ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعارف على الحق والنصرة، والأخذ على
يد الظالم.
(1/298)
قال
ابن سِيْدَه: والحِلْفُ: العهد، لأنه لا يُعهد إلا بالحلف معًا، والجمع أحلاف
وحلفاء، وقد حالفه محالفة وحِلَافًا، وهو حِلْفه وحَلِيفه.
وقَالَ البُخَارِيُّ في باب مَن تكفَّل عن ميت دينًا فليس له أن يرجع به، قال
الحسن: هذا التعليق ذكره ... [1]
وذكر بعد حديث جابر، قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لو قَد جاءَنا مالُ
البَحرين قد أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا» قال: فلم يجئ مال البحرين حتى قُبِضَ النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلما جاء أمر أبو بكر فنادى: من كان له عند رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِدة أو دين فليأتنا, فأتيته فقلت: إن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال لي كذا وكذا، فحثا أبو بكر
%ج 3 ص 322%
لي حثية، فعددتها فإذا هي خمس مئة.
وقال ... قال ابن التين: فيه جواز هبة المجهول، وعند مالك فيه قولان، والمشهور
جوازه، وفي بعض الروايات: أن مال البحرين هذا كان أرسله العلاء بن الحضرمي، وفيه
دلالة على سخائه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كان المال إذ لا يَعُدُّه ولا يقدره
بمقدار عند بذله، وكذا عند أخذه، وهذا كان منه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعدًا
لجابر، وكان من خُلُقه الوفاء بالوعد، ولذلك نفذه أبو بكر بعد وفاته بقوله من غير
بينة، لأنه عدل بالكتاب والسنة، قال جل وعز: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة} [آل عمران:
110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، والسنةُ قوله:
«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعِمِّدًا» ولا يُظن بمسلم فضلًا عن صحابي تعمُّدُ ذلك.
وزعم الشافعي وجمهور العلماء: أن إنجاز العِدَة مستحب، وأوجبه الحسن وبعض
المالكية.
و (الحَثْية): ملء الكف، قال ابن قتيبة: وهي الحفنة.
الذي بعده تقدم.
(1/299)
وقول
البخاري في باب جواز أبي بكر: وقال أبو صالح: حَدَّثَنا عبد الله عن يونس عن
الزهري، أخبرني عروة عن عائشة (أنها قالت: لم أعقل أَبَويَّ ... ) الحديث، رواه
الإسماعيلي في «صحيحه» عن الحسن بن سفيان، حَدَّثَنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن
السرح، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: وأخبرنا موسى،
حَدَّثَنا يونس، حدَّثَنَا ابن وهب، أخبرنا يونس به، ثم قال: ذكر أبو عبد الله
-يعني البخاري- من هذا الحديث: «لم أَعْقِلْ أَبَويَّ إلا وَهُمَا يَدِينانِ
الدين» فقط من حديث الليث عن عقيل عن الزهري، واقتص باقي الحديث من غير ذكر خبر
عبد الله بن صالح، حَدَّثَنا عبد الله عن يونس عن الزهري، وهو غير ابن وهب، وقد
ذكرته بإسناده عن أبي الطاهر ويونس عن ابن وهب، وجوَّده معمر، ولما ذكره أبو نعيم
من حديث ابن السرح
%ج 3 ص 323%
عن ابن وهب قال: روى -يعني البخاري- حديث يونس عن أبي صالح المروزي عن عبد الله بن
المبارك عن يونس.
وقال الجياني في رواية ابن السكن، وقال أبو صالح سلمويه: حَدَّثَنا عبد الله بن
المبارك عن يونس، قال: وأبو صالح سلمويه اسمه سليمان بن صالح مَرْوَزِيٌّ، روى
البخاري عن ابن أبي رِزْمة عنه، وحُكِيَ أيضًا عن الأَصِيلي، وتبعهما شيخنا أبو
الحجاج، وأما شيخنا الحافظ أبو محمد الدمياطي فزعم في «حواشيه على كتاب البخاري»:
أن أبا صالح هذا اسمه محبوب بن موسى الأنطاكي الفراء، ورئي بخط أبي بكر محمد بن
محمد بن يحيى الواسطي المعروف بابن المقرئ الإسكندراني قبالة هذا قول الشيخ
الدمياطي هذا: لا أعلم من أين أخذه؟!
وقال ابن المنير: أدخل البخاري هذا الباب في الكفالة، وينبغي أن يناسب كفالة
الأبدان كما ناسب {وَالَّذِينَ عَاقَدَت أَيمانُكُم} كفالة الأموال، ووجهه أن مجير
أبي بكر رضي الله عنه كأنه تكفل للمجار ألا يضام من جهة من أجاره منهم، وضمن لمن
أجاره عمن أجاره منه لا يؤذيه فتكون العهدة عليه.
(1/300)
كتاب
الوكالة
وفي نسخة: <كِتَابٌ في الوكالةِ>.
(بابُ وَكَالَةِ الشَّريكِ الشَّريكَ فِي القِسمَةِ وَغَيرهَا)
(وَقَد أَشرَكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلِيًّا في هَدِيَّةٍ
ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِها).
هذا التعليق تقدم عند مسند.
وحديث جِلالُ البُدن أيضًا تقدم.
وحديث عقبة: (أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِه) يأتي إن شاء الله
تعالى في الضحايا.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل، وهو بمنزلة
الأجنبي في أن ذلك مباح منه، وحديث علي بيِّن في الترجمة، فإن قيل: ليس في حديث
%ج 3 ص 324%
عقبة وكالة الشريك، قيل: عقبة إنما وكله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على قسمة
الأضاحي، وهو شريك للموهوب لهم بتوكيله على ذلك كتوكيل شركائه الذين قسم عليهم
الضحايا.
وقال ابن التين: اختلف قول مالك في الشركة في الهدي إذا كان تطوعًا.
وفي حديث عقبة الوكالة على الصدقة، وفيه التفويض إلى الوكيل، كذا ذكره الداودي.
قال ابن التين: ويحتمل أن يكون عَيَّنَ له من يعطيه وما يعطيه، فلا يكون في ذلك
تفويض.
(بَابُ إِذَا وَكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الحَرْبِ، أَوْ فِي دَارِ
الإِسْلاَمِ جَازَ)
(1/301)
2301
- حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ
المَاجِشُونِ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «كَاتَبْتُ
أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا، أَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ،
وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ
قَالَ: لاَ أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي
الجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ: عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ،
خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلاَلٌ،
فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِس الأَنْصَارِ، فَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ
خَلَفٍ: لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا» الحديثَ، وقال في آخره: سَمِعَ يُوسُفُ
صَالِحًا، وَإِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ. [خ¦2301]
قال ابن التين: ليس في هذا الحديث وكالة إنما تعاقدا أن يجير كلُّ واحدٍ منهما صاغية
صاحبه. انتهى.
لقائل أن يقول: إذا تعاقدا على جواز ذلك فهو بمعنى التوكيل، لأن الوكيل إنما هو
مرصد لمصالح موكله وقضاء حوائجه.
قال ابن التين: رواية الداودي: (في طَاغِيَتِهِ) قال: والطاغية ما طعن له إلى حيث
سما، يقال للمسافر وللجماعة: طاغية، قال: ولم يذكر أحد هذه الرواية غيره، والصاغية
بغين معجمة: المال، وقيل: الحاشية، يقال: صاغية الرجل حاشيتُه وكل مَن يصغي إليه،
أي يميل إليه، ومنه: أصغيت
%ج 3 ص 325%
إلى فلان، أي ملت بسمعي إليه، قال ابن سيده: وأراهم إنما أنثوا على معنى الجماعة.
وعن القزَّاز: صاغية الرجل أهلُه، يقال: أكرموا فلانًا في صاغيته، أي في أهله.
انتهى.
يشبه أن يكون هذا هو الأليق بتفسير الحديث، والله أعلم.
وقال الهروي: خالصته، وابن أمية المقتول اسمه علي.
(1/302)
وقول
بلال: (لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا) لأنه هو الذي كان يعذبه ويضع على صدره الصخور.
وقول البخاري في باب الوكالة في الصرف والميزان: (وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ وَابنُ
عُمَرَ فِي الصَّرْفِ).
ذكره أبو ... [1]
والحديث الذي فيه تقدم.
(بابٌ إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوِ الوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ، أَوْ شَيْئًا
يَفْسُدُ، ذَبَحَ أَو أَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الفَسَادَ)
2304 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ المُعْتَمِرَ، أَنْبَأَنَا
عُبَيْدُ اللهِ عَنْ نَافِعٍ، سَمِعَ ابنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ يَرعَاهَا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ
لَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِنَا تَموتُ، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ،
فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، أَوْ أُرْسِلَ إِلَيهِ مَنْ يَسْأَلُهُ، «فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا».
[خ¦2304]
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَتُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْها.
تَابَعَهُ عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ الله. انتهى.
متابعة عبدة هذه ذكرها البخاري في «صحيحه» مسندة في الذبائح عن صدقة بن الفضل عنه،
وقد اخْتُلِفَ في ابن كعب هذا، فذكر في «الأطراف» في ترجمة عبد الله بن كعب، وذكره
البخاري أيضًا في موضع آخر فسماه عبد الرحمن، وعند الإسماعيلي من رواية ابن عبد
الأعلى: حَدَّثَنا المعتمر، سمعت عبيد الله عن نافع أنه سمع ابن كعب يخبر عبد الله
بن عمر عن أبيه بهذا الحديث، ثم قال: وقال ابن المبارك عن نافع سمع رجلًا من
الأنصار عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، نقل عن أبيه.
قال: وكذلك قال موسى بن عقبة عن نافع وعبيدة بن
%ج 3 ص 326%
حميد عن عبيد الله عن نافع سمع ابن كعب يخبر عبد الله: (كَانَتْ لَنَا جَارِيَةٌ)
لم يذكر أباه.
(1/303)
ومن
كتاب البخاري وقال الليث: حَدَّثَنا نافع سمع رجلًا من الأنصار يخبر عبد الله عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعن إسماعيل بن عبد الله عن مالك، يعني
المذكور.
وفي «الموطأ» عن نافع عن رجل من الأنصار، عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ: أن جارية
لكعب بهذا.
وقال ابن عبد البر: قد روي هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، وليس بشيء، وهو خطأ،
والصواب: رواه مالك ومن تابعه، يعني المذكور قبل.
قال: ورواه موسى بن عقبة وجرير بن حازم ومحمد بن إسحاق والليث، كلهم عن نافع، أنه
سمع رجلًا من الأنصار بحديث ابن عمر: أن جارية أو أمة لكعب، قال: ورواه عبيد الله
بن عمر عن نافع أن كعب بن مالك سأل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن مملوكة
ذبحت شاة بمروة، قال: ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري وصخر بن جويرية جميعًا عن نافع
عن ابن عمر، وهو وَهْمٌ عند أهل الحديث، والحديث لنافع عن رجل من الأنصار، لا عن
ابن عمر.
وقال ابن المنير: ترجم على أن الذبيحة إذا بعث عليها قصد الإصلاح في محل يخاف
عليها الفساد لم يكن الفاعل لذلك متعديًا، ثم أتى بحديث الجارية وما فيه تعرض لحكم
فعلها ابتداء، هل حكم بأنه تعدٍّ أم لا؟ وغايته: أن أباح أكل الشاة لمالكها، لكن
قد ذكر البخاري في موضع آخر: أن من ذبح متعديًا فذبيحته ميتة، فمن ههنا يؤخذ أنها
غير متعدية بذبحها، لأنه حللها، وأما إذا أثبتنا على أن ذبيحة المتعدي لا تجيف،
فما فيه دليل على الترجمة.
وقال ابن التين: اشتمل هذا الحديث على خمس فوائد: جواز ذكاة النساء والإماء،
والذكاة بالحجر، وذكاة ما أشرف على الموت، وذكاة غير المالك بغير وكالة.
قال الداودي: وفيه دليل أن الراعي إذا ذبح لم يضمن، وهو قول ابن القاسم، قال: وهذا
الحديث لا دليل فيه، لأن الجارية ملك لرب
%ج 3 ص 327%
(1/304)
الغنم،
ولو لم يكن ملكًا له ما كان في الحديث دليل، لأنه لم يذكر أنه أراد أن يضمنها، فلم
يمكن من ذلك، وقال أشهب: يضمن، وفيه الإرسال للسؤال والجواب.
قال ابن التين: هو في «البخاري» على الشك: أرسل أو سأل، ولا حجة فيما يشك فيه.
انتهى.
رواية «الموطأ» صريحة في السؤال، وكذا ما روي [1] عن ابن وهب.
وقَالَ المُهَلَّبُ: فيه تصديق الراعي والوكيل على ما اؤتمن عليه حتى يظهر دليل
على الخيانة، وهو قول مالك وجماعة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اختلف قول ابن القاسم وأشهب إذا أنزى على إناث الماشية بغير
أمر أربابها فهلكت، فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه، لأن الإنزاء من صلاح الماشية،
وقال أشهب: عليه الضمان، وقول ابن القاسم أشبه بدليل هذا الحديث، لأن سيدنا محمد
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أجاز ذبح الأمة وأمرهم بأكلها، وقد كان يجوز ألا
تموت لو بقيت، فدلَّ على أن الراعي والوكيل يجوز له الاجتهاد فيما استرعي عليه
ووكل به، وأنه لا ضمان عليه فيما أتلف باجتهاده إذا كان من أهل الصلاح، وممن يعلم
إشفاقه على المال، وأما إن كان بعكس ذلك وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل، لأنه لا
يصدق في قوله لما عرف من فسقه، وإن صدقه لم يضمنه.
وقال ابن عبد البر على إجازة ذبيحة المرأة لغير ضرورة إذا أحسنت الذبح، وكذلك
الصبي إذا أطاقه وأبو حنيفة والشافعي ومالك وأصحابهم والثوري والليث وأحمد بن حنبل
وإسحاق وأبو ثور والحسن بن حي، وروي عن ابن عباس وجابر وعطاء وطاوس ومجاهد
والنخعي، وأما التذكية بالمروة فمجمع عليها أيضًا إذا فرى الأوداج وأنهر الدم،
واستدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على صحة ما ذهب إليه فقهاء الأمصار أبو
حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي والثوري من جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه، وردوا
به على مَنْ أبى مِنْ أكل ذبيحة السارق والغاصب، وهم داود وأصحابه
%ج 3 ص 328%
وإسحاق، وتقدمهم عكرمة، وهو قول شاذ.
(1/305)
وقد
ذكر ابن وهب في «موطئه»: أخبرني أسامة بن زيد عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك عن أبيه: «أَنَّهُ سَأَلَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْهَا
-يعني الشاة- فَلَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا» قال: ومما يؤكد هذا المذهب حديث عاصم بن
كُلَيْبٍ الجِرْمي عن أبيه عن رجل من الأنصار عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أَطْعِمُوهَا الأَسْرَى» وهم ممن يجوز عليهم الصدقة بمثلها، فلو لم تكن ذكية ما
أطعمهم إياها.
وقال ابن الجوزي: هذا الحديث محمول على أن هذه الذبيحة كانت بها حياة مستقرة،
ولولا ذلك لما حَلَّتْ.
(بابٌ وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالغَائِبِ جَائِزَةٌ)
و (َكَتَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ:
أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَهْلِهِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ) هذا التعليق ذكره.
2305 # حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ،
فَقَالَ: «أَعْطُوهُ»، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا سِنًّا
فَوْقَهَا، فَقَالَ: «أَعْطُوهُ»، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللهُ بِكَ،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ
قَضَاءً». [خ¦2305]
وفي لفظ سليمان بن حرب عن شعبة عن سلمة: فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بهِ أصحابه، فقال
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «دَعُوْهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحقِّ مَقَالًا».
وعند مسلم: «اشْتَرُوا لَهُ بَعِيْرًا».
(1/306)
وعن
أبي رافع: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَكْرًا،
فَجَاءَتْهُ إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقُلْتُ:
لاَ أَجِدُ فِي الإِبِلِ إِلاَّ جَمَلًا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: «أَعْطِهِ
إِيَّاهُ، فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» وقال الترمذي لما صححه:
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسًا باسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ
وَالسَّلَفِ فِيهِ [1] وهو الشافعي وأحمد وإسحاق، وكره ذلك بعضهم.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: في أمره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أصحابه أن يقضوا عنه
توكيلٌ منه لهم على ذلك،
%ج 3 ص 329%
ولم يكن صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ غائبًا ولا مريضًا، وعامة الفقهاء يجيزون
توكيل الحاضر الصحيح وإن لم يرض خصمه بذلك على ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول ابن
أبي ليلى والشافعي ومالك، إلا أنه قال: يجوز وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل
عدوًّا للخصم، وقال سائرهم: يجوز ذلك وإن كان عدوًّا له، وعن أبي حنيفة لا يقبل
الوكالة في الخصومة من حاضر في المصر صحيح إلا أن يرضى خصمه، وقالا: التوكيل صحيح
بدون رضى الخصم، وأما المريض الذي لا يقدر على الخصومة والحضور فيجوز توكيله، وكذا
الغائب على مسافة يقصر فيها الصلاة، والمرأة بمنزلة الرجل بكرًا كانت أو ثيبًا،
وبعض شيوخ الحنفية استحسن أنها توكل إذا كانت غير بَرزة.
ويدل هذا الحديث على جواز الأخذ بالدَّين، ولا يختلف العلماء في جوازه عند الحاجة،
ولا نقص على طالبه.
(1/307)
وفيه
دليل على جواز قرض الحيوان، قال الطحاوي: وقال بعضهم: لا يجوز، وقالوا: يحمل هذا
الحديث على أنه كان قبل تحريم الربا، ثم حرم الربا بعد، وحرم كل قرض جر منفعة،
وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها، فلم يجز القرض إلا فيما له مثل، وقد كان
أيضًا قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو قول أبي حنيفة.
وفي «شرح المهذب»: استقراض الحيوان فيه ثلاثة مذاهب:
مذهب الشافعي ومالك وجماهير جوازه إلا الجارية لمن ملك وطأها فإنه لا يجوز، ويجوز
اقتراضها لمن لا يجوز له وطؤها كمحرمها، وللمرأة والخنثى.
الثاني مذهب المزني وابن جرير وداود: يجوز قرض الجارية وسائر الحيوان لكل أحد.
الثالث مذهب أبي حنيفة والكوفيين والثوري والحسن بن صالح، وروي عن ابن مسعود
وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة: منعُه، وادعى بعضهم نسخه بما قضى
[كتاب الصلح]
[باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يَنْمِي خَيْرًا) كذا هو في «فصيح أبي العباس»، من
نَمَى مفتوح العين، أي: زاد وكثر.
وحكى اللِّحْيَاني: ينمو.
وأخذ السَّبْتي على ثَعْلبٍ كون ذر الياء ولم يذكر الواو، قال: وهما لغتان
فصيحتان، [وفيه لغة] [1] ثانية حكاها ابن القَطَّاع [وغيره: نَمُوَ على وزن
شَرُفَ. وعن] [2] الكِسَائي قال: لم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سُلَيمٍ.
قال: [ثم سألت عنه] [3] بني سُلَيم فلم يعرفوه بالواو.
وذكره أبو عُبَيد في «المصنف».
وفي «الصحاح»: وربما قالوا: ينمو.
وفي «المقصور والممدود» لأبي علي القَالي، و «الكتاب الواعي»، وكتاب «الجامع»،
وكتاب وابن [4] دُرُسْتُوَيه في آخرين: يَنْمي أفصح.
وذكر أبو حاتم في «تقويم المفسد»: لا يقال «ينمو».
وعن الأَصْمَعي: العامة يقولون «ينمو» ولا أعرف ذلك يثبت.
(1/308)
وذكر
الكلبي أن بعض اللُّغويين فرق بين «ينمي» و «ينمو»، فقال: «ينمي» بالياء للمال،
وبالواو لغير المال.
وعن الأصمعي: نَميتُ الحديثَ بلَّغتُه على وجهِ الاصلاحِ، وطلب الخير، بالتخفيف؛
فإذا بلغته على وجه الإفساد شددت.
قال الأَزْهَري: لا اختلاف فيه بين أهل اللغة.
قال الحَرْبي: و أكثر النحويين يقولون: «و نَمَى خيرًا» بتخفيف الميم، وهذا لا
يجوز في النحو، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، ومن خفَّف الميمَ
لزمه أن يقول: «خير» بالرفع. انتهى.
لقائل أن يقول: يجوز أن ينتصب «ينمي» كما ينتصب «يقال»، وذكر أنه نقل عن
القَعْنَبي: «يُنمِي»، بضم الياء وكسر الميم، قال: وليس بشيء، ووقع [في رواية:
«ينهي ذلك»] بالهاء، وهو تصحيف، وقد يُخرَّجُ على معنى أن يبلغ به [من: أنهيت
الأمر إلى كذا، أي: أوصلته إليه.
وفي «المحكم»]: أنميته: أذعته على وجه النميمة. .... [7]
لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه مطلقًا، وأخبر أنه مجانب للإيمان،
وإنما أطلق هنا لما فيه من دفع المفاسد، وليس هو هنا كذبًا؛ لأن حقيقة الكذب [1/أ]
%ج 4 ص 1%
الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى يُنجَزَ،
والانجاز مرجو في الاستقبال فلا يصح أن يكون كذبًا، وفي الحرب إنما يجوز فيه
المعاريض.
روي عن النَّخَعِيِّ أنَّ امرأة عاتبته في جارية وفي يده مروحة، فجعل يقول: اشهدوا
أنها لها، فلما قامت امرأته قال: على أي شيء أشهدتكم؟ قالوا: على الجارية أنها
لها، قال: ألم تروني أُشِيرُ إلى المروحة؟
قال ابن بطال: وأما قول حذيفة فإنه خارج عن الكذب المأذون فيه، وإنما هو من جنس
الاضطرار لحياة النفس، وكذلك الحالف ليخلص نفسه ببعض ما حرم الله عليه، ولا حرج
عليه ولا إثم.
قال عياض: فأما المخادعة في منع حقٍّ عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو
حرام بإجماع المسلمين.
والبابان بعده تقدَّما.
(1/309)
وقول
البخاري في: بَاب: إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ
2697 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، فذكر حديث
عائشة: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه [1]، فَهُوَ رَدٌّ» بعد
ذكره حديث: [خ¦2697]
2695 - «واغْدُ يا أُنَيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فإنِ اعْتَرَفَتْ
فَارْجُمْهَا»، الحديث المذكور في الوكالة. [خ¦2695]
قيل: هو يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، وقيل: يعقوب بن ابراهيم بن سعد، وقيل:
يعقوب بن حُمَيد بن كاسب، وقيل: يعقوب بن أحمد بن عيسى الزهري، كذا ذكره ابن
السكن، وأنكره الحاكم، وزعم أبو نعيم أنه يعقوب بن ابراهيم، وذكر كَلابَاذِي [1]
وأبو عبد الله الحاكم أنه يعقوب بن حميد، فالله أعلم.
قال ابن المُنَيِّر: الصلح على الجَوْر قد يكون من الجانبين وقد يكون من أحدهما،
مثاله: في أحدهما أن يدَّعي عليه دينًا فيجحده، ويصالحه على بعض، فهذا يقول الدافع
أنه جور، ولا يرد بل يمضي، وقد يتَّفقان على أنه جور، وذلك بأن يظنَّ الدَّافعُ أن
الدَّعوى لو ثبتت لزمه منها حقٌّ، فيكشف الغيب لهما أن حكم الشرع أن هذه الدعوى لو
اعترف بها أو ثبتت بيِّنته لم يلزم فيها حق، وأنها غير متوجهة إلى مال [1/ب]
%ج 4 ص 2%
الصلح، ولا بعضه، فهذا جور يرد في مثله، وفيه خلاف عند مالك، قيل: يرد اتِّباعًا
للحديث، وقيل: يلزم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون عند شروطهم»، وقد فرط
الدافع فكأنَّه تطوَّع، والتَّطوُّع يلزم على أصله بالشروع فيه.
وقوله: (اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) أي إنك الجدير بأن تقضي به، أو: فإنك
لم تزل تقضي به، أو: فإنك القاضي به، ومثله قوله عزَّ وجلَّ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]. [خ¦2695]
(1/310)
قال
الخطَّابي: وقوله (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) يريد بما فرضه
الله وأوجبه؛ إذ ليس في كتاب الله ذكرُ الرَّجم منصوصًا عليه متلوًّا كذكر الجلد،
وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض؛ كقوله جلَّ وعزَّ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}
[النساء: 24]، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ومعناه:
فُرِضَ عليكم.
ويحتمل أن يكون ذلك قد فُرِضَ أول ما فرض بالكتاب، فنسخت تلاوته وبقي حكمه، روي عن
عمر بن الخطاب أنه قال: «قرأناها فيما أنزل الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة».
وقيل: المراد نقض صلحهما الباطل على الغنم والوليدة، وفي الحديث: «كل صلح خالف
الشرع فهو باطل مردود».
وقوله: (أَفْقَهُ مِنْهُ) يريد في هذه القضية، ويحتمل أن يكون لأدبه واستئذانه في
الكلام، وحذره من الوقوع في النهي في قوله جلَّ وعزَّ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] بخلاف الأول لجفاه.
والعَسِيفُ: الأجير، وجمعه عُسفاء، ذكره الأزهري.
وقال ابن سيده: هو الأجير المستهان به، وقيل: هو المملوك المستهان به، قال:
أَطَعْتُ النَّفْسَ فِي الشَّهَوَاتِ حَتَّى أَعَادَتْنِي عَسِيفًا عَبْدَ عَبْدي
وقيل: كل خادم عَسِيف، والجمع عُسَفَاء على القياس، وعَسَفَةٌ على غير قياس.
وقوله: (أَنْشُدُكَ اللَّهَ) قال ثعلب في «الفصيح»: نشدتك الله وأنا أنشدك الله،
قال القزاز: معناه: سألتك بالله.
وفي «أمالي ثعلب»: ذكَّرتك اللهَ.
زاد ابن طريف: مستحلفًا.
وعند اللحياني: أنشدك بالله.
وقال القرطبي: أقسم عليك رافعًا نشيدي، وهو صوتي، وهو بفتح الهمزة وضم الشين.
وفي الحديث: أن الحدود التي هي محضة لحق الله تعالى لا يصح الصلح [2/أ]
%ج 4 ص 3%
فيها.
(1/311)
واختلف
في حد القذف هل يصح الصلح فيها أم لا؟ ولم يختلف في كراهته؛ لأنه ثمن عرض، ولا
خلاف في جوازه قبل رفعه، وأما حقوق الأبدان من الجراح وحقوق الأموال فلا خلاف في
جوازه مع الإقرار.
واختُلِفَ في الصلح على الإنكار؛ فأجازه مالك، ومنعه الشافعي.
وقوله: (فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ) فيه جواز استفتاء غير سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم في زمنه مع إمكان الوصول إليه.
وقوله: (وعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ) يُحمَلُ على أنَّ الابنَ كان بكرًا، وعلى
أنه اعترف، وإلا فإقرار الأبِ عليه لا يُقبَلُ، أو يكون هذا إفتاء؛ أي إن كان كذا
فكذا.
وقوله: (واغْدُ يَا أُنَيسُ) ليس معناه امض إليها بكرة كما هو موضوع الغداة، وكذلك
قوله: (فَغَدَا إِلَيْهَا) أي مشى إليها.
قال القرطبي: وفيه أنَّ ما كان معلومًا من الشروط والأسباب التي تُرَتَّبُ عليها
الأحكام لا يحتاج إلى السؤال عنها، فإن إحصان المرأة كان معلومًا عندهم، وبما في
نفس الحديث، وعلى هذا يحمل حديث الغامدية؛ إذ لو لم تكن محصنة لم يجز رجمها
إجماعًا.
وفيه: إقامة الحاكم الحدَّ بمجرَّد إقرار المحدود من غير شهادة عليه، وهو أحدُ
قولي الشافعي، وأبي ثور، ولا يجوز ذلك عند مالك إلا بعد الشهادة عليه، والفصل عن
ذلك أنه ليس في الحديث ما ينصُّ على أنه لم يسمع إقرارها إلا أنيس خاصة؛ بل العادة
قاضية بأن مثل هذِه القضية لا تكون في خلوة، ولا ينفرد بها الآحاد؛ بل لا بد من
حضور جمع كثير، ولا بد من إحضار طائفة من المؤمنين لإقامة الحد، كما قال جلَّ
وعزَّ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]،
انتهى.
شهود العذاب غير الشهادة عليها.
(1/312)
قال
القرطبي: هذا كله مبنيٌّ على أن أُنَيسًا كان حاكمًا، ويحتمل أن يكون رسولًا
ليستفصلها، ويعضد هذا التأويل قوله في آخر الحديث في بعض الروايات: «فَاعتَرَفَتْ
فَأَمَرَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ»، فهذا يدلُّ على أنَّ
أُنَيسًا إنَّما سمع إقرارها، وأنَّ تنفيذَ الحكم إنما كان من النبي صلى الله عليه
وسلم.
قال: وحينئذ يتوجه إشكال [2/ب]
%ج 4 ص 4%
آخر وهو أن يقال: فكيف اكتُفِيَ في ذلك بشاهد واحد وقد اختُلِفَ في الشهادة على
الإقرار بالزنا؛ هل يُكتَفَى بشهادة شاهدين أو لا بدَّ من أربعة؟ على قولين
لعلمائنا، ولم يذهب أحدٌ من المسلمين إلى الاكتفاء بشهادةٍ واحدةٍ.
فالجواب: أن هذا اللفظ الذي قال فيه: «فاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا صلى الله عليه
وسلم فَرُجِمَتْ» هو من رواية اللَّيث عن الزهري، ورواه عن الزهري مالكٌ بلفظ:
«فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» لم يذكر: «فَأَمَرَ بِهَا النَّبيُّ صلى الله عليه
وسلم فَرُجِمَتْ»، وعند التعارض فحديث مالك أولى لما يُعلَمُ من حفظ مالك وضبطه،
وخصوصًا في حديثِ الزهري؛ فإنَّه من أعرف الناس به.
والظاهر أنَّ أُنَيسًا كان حاكمًا، فيزول حينئذٍ الإشكال، ولو سلَّمنا أنه كان
رسولًا فليس في الحديث ما ينصُّ على انفرادِه بالشهادة، ويكون غيرُه قد شَهِدَ
عليها عند النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويعضِدُ هذا أن القضية اشتهرت وانتشرت،
فيبعد أن ينفرد بها واحد.
سلمنا، لكنه خبر وليس بشهادة، فلا يشترط العدد فيه، وحينئذ يُستدَلُّ به على قَبول
أخبار الآحاد والعمل بها في الدماء وغيرها.
وقال النووي: بعث أُنَيس عند علماء أصحابنا ليُعلِمَ المرأةَ أنَّ هذا الرجل قذفك،
ولك عنده حقُّ القذف، فتَطلبُ به أو تعفو، إلا أن تعترفَ بالزنا فلا يجب عليه شيء،
فلما ذهب إليها اعترفت، فأمر بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَتْ،
قال: ولابد من هذا التأويل.
(1/313)
قال
القرطبي: فيه أن زنا المرأة لا يَفسخ نكاحَها من زوجها.
قال الخطَّابي: وفيه ثبوتُ نفيِ الزاني وتغريبِه بعد الجلد، خلافًا لأبي حنيفة؛
لأنَّ التغريب ليس مذكورًا في القرآن العزيز، قالوا: الزيادة على النص نسخ، ونسخ
القرآن بخبر الواحد غير جائز.
بَابٌ: كَيْفَ يُكْتَبُ: هَذَا مَا صَالَحَ فُلاَنُ بنُ فُلاَنٍ، وَفُلاَنُ بنُ
فُلاَنٍ،
وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَسَبِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ
2698 - حَدَّثَنَا ابنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، قَالَ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ
اللَّهِ [3/أ]
%ج 4 ص 5%
صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ [عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ]
[1] بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ
المُشْرِكُونَ: لاَ تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ولَوْ كُنْتَ رَسُولًا
لَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: امْحُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَنَا
بِالَّذِي أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ،
وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَامًا قَابِلًا، فيقيمون
بها ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَلاَ يَدْخُلُوهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ،
فَسَأَلُوهُ مَا جُلُبَّانُ السِّلاَحِ؟ فَقَالَ: القِرَابُ بِمَا فِيهِ. [خ¦2698]
2699 - وفي حديث إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم فِي ذِي القَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ
يَدْخُلُ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ... ».
(1/314)
وفيه:
«فقالوا: ولَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا رَسُولُ
اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: امْحُه،
قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم الكِتَابَ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، أن لاَ يُدْخِلَ مَكَّةَ سِلاَحًا إِلَّا فِي القِرَابِ، وَأَنْ لاَ
يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لاَ
يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا
دَخَلَهَا وَمَضَى الأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ
يخْرُجْ عَنَّا، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ
حَمْزَةَ - يعني أمامة، وقيل: عمارة، وأمها سلمة بنت عميس [2]- تقول: يَا عَمِّي
يَا عَمِّي، فَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ:
دُونَكِ بنت عَمِّكِ، احْمِلِيهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ،
وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا هِيَ بنتُ عَمِّي، وَقَالَ
جَعْفَرٌ: بنتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا - يعني: أسماء بنت عميس - تَحْتِي، وَقَالَ
زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا لِخَالَتِهَا،
وَقَالَ: الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي
وَأَنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ
لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا. [خ¦2699]
2700 - وفي حديث سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق: «فَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ
فِي قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم». [خ¦2700]
(1/315)
وذكره
في الشروط [خ: 4178] بنحوه متصلًا من حديث المسور ومروان، يخبران عن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذكره، وهو يرد قول من زعم أن المسور ومروان لم يشهدا
ذلك، خصوصًا مروان، فالحديث مرسل، كذلك قال محمد بن طاهر القدسي، فالحديث [3/ب]
%ج 4 ص 6%
على ذلك معلول.
وقوله: (وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ) ذُكِرَ في سير ابن إسحاق هو بشر بن
سفيان.
و (غَدِيرِ الأَشْطَاطِ) بطاءين مهملتين، وبعضهم يقول بالمعجمتين.
قال أبو عبيد: هو تلقاء الحديبية. وقيل: وراء عُسفَان، وهو جمع شط وهو السنام.
و (الغَمِيم) بفتح الغين المعجمة، وكسر الميم، وبضم الغين أيضًا وفتح الميم، قاله
ابن قُرْقُول. [خ¦2731]
وردَّ ذلك الحِمْيَري في كتابه: «تثقيف اللسان»، بقوله: ويقولون لموضع بقرب مكة
شرفها الله تعالى: الغُمَيم على التصغير، والصواب: الغَمِيم، جاء ذكره في كتاب
البخاري وغيره، وكذا هو أينما وقع في شعر ابن أبي ربيعة والعرجي وغيرهما.
وفي كتاب أبي عبيد عن ابن حبيب معًا: الغميم بجانب المَرَاض، والمَرَاض بين رَابِغ
والجُحْفَة.
قال جرير وصغَّره:
أني تكلفُ بالغميمِ حاجةً نِهْيا حَمامَةَ دُونَها، وَحَفِيرُ
وقال الشماخ وصغره أيضًا:
لليلى بالغميم ضوء نارٍ ... تلوح كأنها الشعرى العبور
وزعم الحازمي في كتاب «البلدان» الذي بضم الغين المعجمة وفتح الميم وادٍ في ديار
حنظلة من بني تميم.
وقَتَرَةُ الجيشِ: غبرة حوافر الدواب.
(ولمَّا بَرَكَتْ ناَقَتُهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ) وهو
زجر للناقة إذا حملها على السير، بسكون اللام، فإذا ثبتتْ قلت: «حلٍ حلْ» بكسر
اللام والتنوين في الأول، وسكونها في الآخر، كقولهم: «بخٍ بخْ»، و «مهٍ مهْ».
ويجوز في الثانية كسر اللام.
قال ابن سيده: هو زجر لإناث الإبل خاصَّة، ويقال: حَلا وحَلِي لا حليتِ، وقد
اشتُقَّ منه اسم فقيل: الحلحال، قال كثير عزة:
(1/316)
ناجٍ
إذا زُجرَ الرّكائبُ خلفهُ فَلَحِقْنَهُ وَثُنِينَ بالحَلْحَالِ
قال الجوهري: وحوبٌ زجرٌ للبعير تراه.
و (ألحَّتْ): بحاء مهملة مشددة؛ أي: لزمت مكانها ولم تنبعث.
وأما خلأت: بالخاء المعجمة، وهو كالحران في الخيل.
وظنوا أن ذلك من خلقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت، ولا ذلك لها
بخلق».
وهو دليل على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان يحكم بها على الطارئ الشاذ.
قال: [4/أ]
%ج 4 ص 7%
(وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ) يريد أن الله جلَّ وعزَّ حبسها عن دخول مكة
- شرَّفها الله تعالى - كما حبس الفيلَ حين جيء به لهدم الكعبة.
قال الخطَّابي: المعنى في ذلك - والله تعالى أعلم -: أنهم لو استباحوا مكَّة لأبى
الفيلُ على قومٍ سبق في علم الله أنهم سيسلمون ويخرج من أصلابهم ذريةٌ يؤمنون،
فهذا موضع التشبيه بحبسها.
قال الداودي: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ القصواء عَلِمَ أن الله جلَّ
وعزَّ أراد صرفَهم عن القتال ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
و (الخُطَّة): بضم الخاء المعجمة والطاء المهملة الحالة.
وقال الداودي: الخصلة.
وقال ابن قُرْقُول: قضية وأمر.
وقوله: (يُعظِّمُونَ فِيهَا حُرُماتِ اللهِ) قال ابن التين: أي يكفون عن القتال
تعظيمًا للحرم.
قال ابن بطال: يريد بذلك موافقةَ الله جلَّ وعزَّ في تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن
الله جلَّ وعزَّ إبلاغَ الأعذار إلى أهل مكَّة، فأبقى عليهم لما سبق في علمه من
دخولهم في دين الله أفواجًا.
والثَّمَدُ: الماء القليل الذي لا مادة له.
وقيل: هو ما يظهر من الماء زمن الشتاء ويذهب في الصيف.
قال بعضهم: لا يكون إلا فيما غلظ من الأرض.
وقوله: (قَلِيلِ المَاءِ) أكده.
وقوله: (يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا) أي يأخذونه قليلًا قليلًا، وأصله
اليسير من العطاء.
قال ابن دريد:
أُرمِّقُ العيشَ على برضٍ فإنْ ... رمتُ ارتشافًا رمتُ صعبَ المنتشى
(1/317)
وزعم
بعضهم في شرح شعر [3]: أنه القليل من ماء السماء.
وقوله: (فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ) بثاء مثلثة. قال ابن التين: أي لم يتركوه،
ولَبِثَ غير متعدٍّ، وعدَّاه هنا لأنه رباعي من أَلْبَثَ يَلبَثُ.
وقوله: (يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ) بجيم بعدها ياء أخت الواو، ثم شين معجمة، إذا
فاضت.
قال ابن سيده: جاشت تجيش جيشًا وجيوشًا وجيشانًا، وكان الأصمعي يقول: جاشت بغير
همز: فارت، وبالهمز: ارتفعت.
و (صَدَرُوا) أي رجعوا رِوَاءً، وهو من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم [4/ب]
%ج 4 ص 8%
وبركته.
ومجيئه من غير أن يستأذن قريشًا وبينه وبينهم ما لا يخفى جريًا على عادة العرب من
أن مكة - شرَّفها الله تعالى - غير ممنوعة ممن أراد الحج إليها.
و (بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ): كان من دهاة العرب.
قال ابن عمر [4]: أسلم يوم الفتح بمرِّ الظَّهران، وشهد حُنينًا والطائف وتبوك،
وكان من كبار مسلمة الفتح، وقيل: أسلم قبل ذلك. وتوفي في حياة سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقال ابن حبان: كان سيد قومه.
والعَيْبَةُ: بعين مهملة مفتوحة، بعدها ياء أخت الواو، ثم باء موحدة، هنا: موضع
سره وأمانته كعيبة الثياب التي يضع فيها الإنسان جيَّد ثيابِه.
وقوله: (نُصْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال ابن التين: ضبط بفتح النون
على أنه مصدر من نصح، وفي بعض الكتب بضمها على الاسم من نصح.
وقوله: (أَعْدَادَ الحُدَيْبِيَةِ) قال الداودي: يعني موضعًا.
وقال الخطَّابي: هو جمع عدد، وهو الماء الدائم الذي لا ينقطع، يقال: ماء عِدٌّ
ومياه أعداد، قال ابن قُرْقُول: مثل ند وأنداد.
(1/318)
و
(العُوذُ المَطَافِيلُ): قال السُّهَيلي: هو جمع عائذ، وهي الناقة التي معها
ولدها، يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يناجزوك
في زعمهم، وإنما قيل للناقة: عائذ، وإن كان الولد هو الذي يعوذها لأنها عاطف عليه،
كما قالوا تجارة رابحة، وإن كانت مربوحًا فيها؛ لأنها في معنى نامية وزاكية.
وقال الخطَّابي: العَوْذُ الحديثات النِّتاج.
قال: والمطافيل الأمهات التي معها أطفالها، يريد أن هذِه القبائل قد أحشدت لحربك
وساقت أموالها.
وقال ابن التين: تجمع أيضًا على عيذان مثل راع ورِعيان.
وقال الداودي: العَوْذُ سراة الرجال. قال: وهو وهل، وقيل: هي الناقة التي لها سبع
ليال منذ ولدت وقيل: عشرة. وقيل: خمسة عشر يومًا، ثم هي تطفل بعد ذلك، وقيل:
النساء مع الأولاد. وقيل: النوق مع فصلانها، هذا هو الظاهر.
قوله: (مَادَدْتُهُمْ) أي: ضربت معهم مدةً للصلح.
وقوله: (فَإِنْ شَاؤوا) قال [5/أ]
%ج 4 ص 9%
ابن التين: وقع في بعض الكتب بالواو.
قوله: (جَمُّوا) بالجيم؛ أي: استراحوا من جهد الحرب، وهم جامون أي: مستريحون،
وأصله الجمع والكثرة، ومنه الجم الغفير.
والسَّالِفَةُ: قال الخطَّابي: أي: بين عنقي، والسالفة مقدم العنق، وقيل: صفحة
العنق.
وفي «المخصص» السوالف: الطلى.
وفي «المحكم»: السالف أعلى العنق.
وقوله: (أو لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ جلَّ وعزَّ أَمْرَهُ) أي: ليظهره على الدين كله
ولو كرهوا.
وقول عروة: (أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟) أي: أصنع ما يصنع
الولد بوالده في النصرة وغيرها.
وقوله: (اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ) أي: دعوتهم إلى نصركم.
وقوله: (فَلَمَّا بَلَّحُوا) بباء موحدة ولام مشددة؛ أي: عجزوا، يقال: بلَّحَ
الفرس إذا أعيا ووقف.
قال ابن قُرْقُول: وتخفيف اللام لغة.
قال الأعشى:
واشْتَكَى الأَوصالَ منه وبَلَحْ
(1/319)
وقال
الخطَّابي: (بَلَّحُوا): امتنعوا. يقال: بَلَّحَ الغريم إذا أقام عليك فلم يؤدِّ
حقَّك، وبلحت البركة إذا انقطع ماؤها.
وقوله (اجْتَاحَ): أي استأصل.
والأَشْوَابُ منَ النَّاسِ: يريد: الأخلاط. قاله الخطَّابي.
قال: والشوب: الخلط، وروي: «أوشابًا» وهو مثله، تقول: هم أوشاب وأوشابات إذا كانوا
من قبائل شتى مختلفين.
وقال الداودي: هم أرذال الناس.
وعن القزاز: مثل الأوباش.
وقوله: (امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ) هو بفتح الصاد المهملة الأولى، كذا قيَّده
الأصيلي، قال ابن قُرْقُول: هو الصواب، من مَصَّ يمص، وهو أصل مطَّرِد في المضاعف
مفتوح الثاني.
وفي رواية أبي الحسن بضمها، والأول أصح.
قال ابن التين: وهي كلمة تقولها العرب عند الذم والمشاتمة، تقول: ليمصص بظر أمه،
واستعار أبو بكر ذلك في اللات لتعظيمهم إياها.
والبَظَرُ: بالباء الموجدة والظاء المعجمة ثم راء.
قال الداودي: فرج المرأة.
وقال ابن التين: هو عند أهل اللغة ما يُخفَضُ من فرج المرأة؛ أي يقطع عند ختانها،
انتهى.
وقال أبو عبيد: البُظَارة ما بين الأَسْكَتِينِ، وهما جانبا الحياء. [5/ب].
%ج 4 ص 10%
وقال أبو زيد: هو البَظْر.
وقال أبو مالك: هو البَيْظَر.
وقال ابن دريد: البنظرة ما تقطعه الختَّانة من الجارية، ذكره في «المخصص».
وفي «المحكم»: البَظْرُ ما بينَ الأَسْكَتَيْنِ، والجمعُ: بُظُورٌ، وهو البَيْظَرُ
والبَظارَةُ والبُظارَةُ، الأولى عن أَبِي غَسَّان، وامرأةٌ بَظْراءُ: طَوِيلَةُ
البَظْرِ.
والاسم: البَظَرُ، ولا فِعْلَ له.
والمُبَظِّرُ: الخاتن كأَنَّه عَلَى السَّلْبِ، ورَجُلٌ أَبْظَرُ: لم يُخْتَتن.
وأنشد المبرد:
فوالله ما أدري وإني لسائل .... أبظرًا أم مختونة أم خالد
فإنْ تَكُن المُوسَى جَرَتْ فوقَ بَظْرِها ... فأقطعت إلا ومَصَّانُ قَاعِدُ
(1/320)
ومسيس
عروةَ لحيةَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جريًا على عادة العرب، يستعملونه
كثيرًا، يريدون بذلك التحية والتواصل، وحُكي عن بعض العجم فعلُ ذلك أيضًا، وأكثر
العرب فعلًا لذلك أهل اليمن، وكان المغيرة يمنعه من ذلك إعظامًا لسيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإكبارًا لقدره؛ إذ كان إنما يَفعلُ ذلك الرجلُ بنظيره دون
الرؤساء، ولا نظير لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من ذلك تألُّفًا له، واستمالة لقلبه وقلب
أصحابه.
ويُستَدلُّ بهذا على جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيف مخافة العدو، وأنَّ
الأمام إذا جفا عليه أحد لزم ذلك القائمَ تغييرُه بما أمكنه.
وقوله (أَيْ غُدَرُ): يريد المبالغة في وصفه بالغدر.
قال ابن بطال: وفي لين عروة وبديل لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء وميل إلى
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول عروة: (أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمكَ) فيه: دلالة أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يومئذٍ معه جمع يَخافُ منه عروةُ على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم،
وخوف عروة إن دارت الدائرة -والعياذ بالله- على سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يفر [6/أ]
%ج 4 ص 11%
عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأنَّ القبائل إذا كانت متميزة لم يفرَّ بعضها من
بعض، وإذا كانوا أخلاطًا فرَّ كلُّ واحدٍ عن الآخر، ولم يرَ على نفسه عارًا،
والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذي عقده اللهُ عزَّ وجلَّ
بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم، فلذلك ردَّ
عليه أبو بكر قوله.
(1/321)
وقول
عروة للمغيرة: (أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟): كان المغيرة خرج مع نفرٍ من
بني مالك إلى المقوقس، ومع القوم هدايا قَبِلَها منهم المقوقس، ووصلهم بجوائز
وقصَّرَ بالمغيرة لأنه ليس من القوم، فجلسوا في بعض الطريق يشربون، فلما سكروا
وناموا قتلهم المغيرة جميعًا وأخذ ما كان معهم، وقَدِمَ على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأسلم، فقال له أبو بكر: ما فعل المالكيُّون الذين كانوا معك؟ قال:
قتلتهم وجئت بأسلابهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليخمِّس أو ليرى فيها رأيه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما المال فلست منه في شيء، يريد في حل؛ لأنه علم
أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها عند الأمن،
وإذا كانَ الإنسان مُصاحبًا لهم فقد آمن كلُّ واحد منهم صاحبه بسفك الدماء، وأخذ
الأموال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور، فلما بلغ ثَقِيفًا فعل
المغيرة، تداعوا للقتال، ثم اصطلحوا على أن يحمل عنه عروة بن مسعود عم المغيرة
ثلاثة عشر دية.
وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ) كانت بنو كنانة ممن يُمالِئُ قريشًا
على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في عهد قريش، كما أن خزاعة دخلت
في عهد المسلمين، وكان في بعض المدَّة عدا رجل من كنانة على آخر من خزاعة، فعلمت
قريش أن العهد انتقض، فأرسلوا أبا سفيان ليجدد العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم،
وظنُّوا أنه لم يعلم بقتل الخزاعي، وكان الوحي جاءه بذلك، [6/ب]
%ج 4 ص 12%
فلم يُفصح لأبي سفيان بنقض العهد، ولا أن يجدد؛ بل قال له: «يكفي العهد الأول»،
وهذا من المعاريض.
(1/322)
فمشى
أبو سفيان إلى عمر فأجابه بغلظ، وإلى فاطمة وابنيها فأبوا، فأتى الناسَ والنبي صلى
الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، فقال: إني أجرت بين الناس، فقال سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «ما يقول أبو سفيان؟»، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما فعل، فعلموا
أنه لم يُفِد شيئًا.
وقوله: (سهل، لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) تفاءل صلى الله عليه وسلم
باسم سُهيل، لأنه كان يحب الفأل.
وفي إنكار سهيل كتب البسملة، ومن المسلمين: (وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُ إِلَّا بِسْمِ
اللَّهِ) قال ابن بطال: فيه أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره، وترك النبي
صلى الله عليه وسلم إبرارَ قسمهم، وقد أمر به أمر ندب فيما يحسن ويجمل.
فإذا كان الحلف في أمرٍ يؤدي إلى انخرام المقاضاة والصلح كهذا فلا يندب إلى بره،
مع أن ما دعا إليه سهيل لم يكن إلحادًا في أسمائه جلَّ وعزَّ، وكذا ما أباه من
كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه إلحاد في الرسالة، فلذلك أجابه صلى
الله عليه وسلم إلى ما دعاه، ولم يأنف سهيل من هذا لأنه كان يتكلم عن أهل مكة، لا
سيما وفي بعض طرقه: «هذا ما قاضى عليه أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم».
فخشي سهيل أن ينعقد في مقالهم الإقرار برسالته، وليس في انتمائه صلى الله عليه
وسلم إلى أبيه ما ينفي رسالته.
وقوله: (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ
مُحَمَّدٌ بن عبد الله لسهيل) كتب على ذلك نسختين، أحدهما مع سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، والأخرى مع سهيل، وشهد فيهما: أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف،
وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، ومكرز بن حفص، وهو يومئذ
مشرك، وخويلد بن عبد العزى، وسيأتي لهذا الحديث زيادة في كتابته صلى الله عليه
وسلم.
قال السهيلي: وفي قول سهيل: (لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ [7/أ]
%ج 4 ص 13%
(1/323)
كَانَ
عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ) منسوخ عند أبي حنيفة بحديث سرية خالد حين وجهه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى خثعم، وفيهم ناس مسلمون، فاعتصموا بالسجود فقتلهم
خالد، فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم نصف الدية، وقال: «أنا بريء من كل مسلم بين
مشركين».
وقال فقهاء الحجاز: ذلك جائز، ولكن للخليفة الأكبر لا لمن دونه.
وفيه: نسخ السنة بالقرآن على أحد القولين، فإن هذا العهد كان يقتضي أن لا يأتيه
مسلم إلا رده، فنسخ الله جلَّ وعزَّ ذلك في النساء خاصة، على أن لفظ المقاضاة: (لا
يأتيك رجل) وهو إخراج النساء.
قال طائفة: إنما جاز رد المسلمين إليهم في الصلح لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
تدعوني قريش إلى خطةٍ يعظمون بها الحرم إلا أجبتهم».
وفي ردِّ المسلم إلى مكة عمارةُ البيت، وزيادة خيرٍ من صلاته بالمسجد الحرام،
وطوافه بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله جلَّ وعزَّ، فعلى هذا يكون حُكْمًا
مخصوصًا بمكة وسيدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وغير جائز لمن بعده كما قال
العراقيون.
وقيل: إنما ردَّ أبا جندل واسمه العاص؛ لأنه كان يأمن عليه القتل لحرمة أبيه سهيل
بن عمرو، وقول ابن سهيل.
(إذ أتاه أبو جندل: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ) يقتضي أن من صالح أو
عاقد على شيءٍ بالكلام أنه بالخيار في النقض في المجلس.
وقوله: (فَأَجِرهُ لِي) قال ابن الجوزي: كذا ضبطه الحميدي بالراء، وبالزاي أليق.
وقوله: (الدَّنِيَّةَ) يعني: الدون.
وقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ) تنبيهًا لعمر. أي: إنما أفعل
[7] هذا من أجل ما أطلعني الله عليه من حبس الناقة، وإني لست أفعل ذلك برأيي،
وإنما هو بوحي.
وفيه: أنَّ الكلام محمول على العموم حتى يقوم دليل على الخصوص، ألا ترى أن عمر حمل
كلامَه في دخول البيت على عمومه، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنه لم يعده بذلك في
هذا العام؛ بل وعدًا مطلقًا.
(1/324)
ويؤخذ
منه: أن من حلف على فعلٍ [7/ب]
%ج 4 ص 14%
ولم يعيِّن وقتًا أنَّ وقته أيامَ حياته.
وانظر إلى فضلِ أبي بكر على عمر في جوابه بما أجابه به سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم سواء.
وقوله: (وَمُطَّوِّفٌ بِهِ) بتشديد الطاء والواو.
وقوله: (فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ) الغرز للرجل بمنزلة الركاب للسرج، فكأنه استعار
ذلك، أي: تمسك بركابه.
قال الداودي: وفي بعض الروايات: «تمسك بعروة الله».
قال ابن الجوزي: وقول عمر: «فعملت كذلك أعمالًا» يشير إلى الاستغفار والاعتذار.
و (أبو بَصِيرٍ): بباء موحدة مفتوحة بعدها صاد مهملة مكسورة، اسمه عتبة بن أسيد بن
حارثة بن أسيد، وقيل اسمه: عبيد بن أسيد، حالف [8] بني زهرة.
وقوله (مِسْعَرَ حَرْبٍ) هي كلمة تعجب يصفه بالإقدام في الحرب والانقياد لنارها،
واشتقاقه من سعرة النار إذا أوقدتها.
وقتل أبي بَصِير أحدَ الرسل بعد أن أرسله النبي صلى الله عليه وسلم معه، فليس عليه
صلى الله عليه وسلم حراسة المشركين ممن يدفعه إليهم، ولا عليه في ذلك دية؛ لأنَّ
هذا لم يكن في شرطه، ولا طالب أولياءُ القتيل النبي صلى الله عليه وسلم بالقَود من
أبي بَصِير.
قال السهيلي: وظاهر الحديث رفع الحرج عن أبي بصير؛ لأن سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يثرب؛ بل مدحه فقال: «ويل أمه مسعر»، وفي رواية: «محش حرب» لأن أبا
بصير دفع عن نفسه ودينه، ومن قتل دون واحد منهما فهو شهيد.
قال: ولم يزل أصحابه يكثرون [9] حتى بلغوا ثلاث مئة، وكان كثيرًا ما يقول:
هنا لك الله العلي الأكبر ... من ينصر الله فسوف ينصر
(1/325)
فلما
جاءهم الفرج من الله، وكلمت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُؤيَهم إليه
لمَّا ضيَّقوا عليهم، وَرَدَ كتاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بصير
يجود بنفسه، فلمَّا قرأ الكتاب سُرَّ به ثم قبض والكتاب على صدره، فبُنِيَ على
قبره مسجدٌ رضي الله عنه، ولما فَهِمَ أبو بصير من قول النبي صلى الله عليه وسلم:
لو كان أحد خرج [8/أ]
%ج 4 ص 15%
مني إلى سِيفِ البحر بكسر السين المهملة.
وقوله: (وامتَعَضوا) بضاد معجمة، أي: كرهوا، وروي بتشديد الميم والعين المهملة
وصاد معجمة.
وقول البخاري:
2733 - وَقَالَ عُقَيْلٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ عُرْوَةُ: فحدثتني عَائِشَةُ:
«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ» الحديث.
[خ¦2733]
ذكره مسندًا في أول الشروط، فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن
ابن سفيان به، حديث جرير.
بَابُ الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ
2703 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي
حُمَيْدٌ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ - وَهِيَ ابْنَةُ
النَّضْرِ - كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا
العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ
بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا،
فَقَالَ: «يَا أَنَسُ في كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ»، فَرَضِيَ القَوْمُ
وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ».
زَادَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا
الأَرْشَ. [خ¦2703]
(1/326)
هذا
التعليق أسندَه البخاريُّ في تفسير سورة المائدة [خ: 4611]، وقال: حدثنا محمد بن
سلام، عن مروان بن معاوية الفزاري فذكره، والحديث الأول أحد ثلاثيات البخاري، وفي
رواية [خ:4500] ابن منير عن عبد الله بن بكر عن حميد عن أنس: «أن الرُّبَيِّعَ
عَمَّتُهُ».
وفي صحيح مسلم [م: 1675] من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: «أَنَّ أُخْتَ
الرُّبَيِّعِ، أُمَّ حَارِثَةَ، جَرَحَتْ إِنْسَانًا»، وفيه: «فَقَالَتْ أُمُّ
الرَّبِيعِ: وَاللهِ لَا تكسر ثنيتها».
وكذا هو أيضًا في «سنن النسائي»، فرجح جماعة من العلماء رواية البخاري, وتوسَّط
النووي فجعلهما قصتين فينظر؛ لأن الأول رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه
وابن أبي شيبة في آخرين.
وقوله في بعض الروايات: (كتاب الله القصاص) يعني فرضَ اللهِ وحكمَه, كأنَّه أراد
قوله جلَّ وعزَّ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] , أو قوله جلَّ وعزَّ:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ,
وفيه وجوب القصاص في السنِّ.
قال النووي: وهو مجمع عليه إذا [8/ب]
%ج 4 ص 16%
قلعها كلها, فإن كسر بعضها ففيها وفي كسر العظام خلاف مشهور للعلماء, والأكثرون
على أنه لا قِصاص.
قال القرطبي: وذهب مالك إلى أن القصاص في ذلك كله إن أمكنت المماثلة، وما لم يكن
مجوفًا كعظم الفخذ والصلب, أخذًا بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] , وبقوله جلَّ وعزَّ:
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].
وذهب الكوفيون والليثُ والشافعي إلى أنه لا قود في كسر العظام، ما خلا السنَّ لعدم
الثقة بالمماثلة.
قال أبو داود: قيل لأحمد: كيف يُقتَصُّ من السن؟ قال: يُبرَدُ.
وذكر ابن رشد في «القواعد»: أنَّ ابن عباس رُوي عنه: أن لا قصاص في عظم، وكذا عن
عمر.
(1/327)
قال:
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدْ من العظم المقطوع في غير المفصل،
إلا أنه ليس بالقويَّ.
وعن مالك أن أبا بكرِ بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ.
وفي «شرح الهداية»: وروي مثل الأول عن ابن مسعود.
قال في «الشرح»: ولا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس، ولا بين الحرِّ
والعبد.
قال النووي: وقوله: (والله لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا) ليس ردًّا لقول سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ بل المراد الرغبة إلى مستحقِّ القصاص أن يعفو, وإلى
النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو, وإنَّما حَلَفَ ثقةً بهم ألا
يحنثوه, أو ثقةً بفضل الله جلَّ وعزَّ ولطفه أنه لا يحنثه؛ بل يلهمهم العفو.
وقوله: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لَأَبَرَّهُ) يريد لا يحنثه لكرامته عليه.
وفيه: جواز الحلف فيما يظنه الإنسان, وجواز الثناء على من لا يخاف عليه الفتنة
بذلك.
وفيه دلالة على كرامات الأولياء, واستحباب العفو عن القصاص والشفاعة فيه.
باب قَوْل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للحَسَنِ:
«إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ
فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ»
2704 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
أَبِي مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ، يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ
[9/أ]
%ج 4 ص 17%
العَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا،
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ عَمْرُو! إِنْ
قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ، وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟
مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟ [خ¦2704]
(1/328)
فَبَعَثَ
إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا
إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولاَ لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ،
فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالاَ لَهُ، فَطَلَبَا
إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَدْ
أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي
دِمَائِهَا، قَالاَ: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ
إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ، قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ،
فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ.
قَالَ الحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى
جَانِبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى،
وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ
بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ».
قَالَ البخاري: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا
سَمَاعُ الحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ.
قال البزار: حديث إسرائيل عن أبي موسى لا نعلم رواه عنه إلا ابن عيينة، انتهى.
قد رواه البخاري في علامات النبوة [خ: 3629] عن عبد الله بن محمد، حدثنا يحيى بن
آدم، حدثنا حسين الجعفي، عن أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرة، الحديث.
قال البزار أيضًا: وهذا الحديث روي عن جابر وأبي بكرة، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن
إسنادًا، وحديث جابر أغرب، انتهى.
(1/329)
ذكره
ابن بطال أيضًا من حديث المغيرة بن شعبة، وزعم الدارقطني أن الحسن رواه أيضًا عن
أمِّ سلمة، قال: وهذِه الرواية وهم، ورواه داود بن رشيد، وعوف الأعرابي عن الحسن
مرسلًا.
قال: ورواه أحمد بن عبد الله النَّهْرَوَاني، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن،
ووهم فيه.
وأما قول الداودي وغيره: «القائل قال الحسن حدثني أبو بكرة، هو ابن علي» فغير
صحيح، لمساق الحديث [9/ب]
%ج 4 ص 18%
ولِفَهْم هذين الإمامين.
وفي الحديث التَّصالح على الخلافة والعهدُ بها على أخذِ مالٍ، إذا كان كلُّ واحدٍ
منهما له سبب من الخلافة يستند إليه، وعقد من الإمارة يعود عليه.
وقوله: (بينَ فِئتيَنِ منَ المُسْلمين) فيه دَلالة أنَّ قتال المسلم للمسلم لا
يخرجه من الإسلام، إذا كان على تأويل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا التَقَى المُسْلِمانِ بسَيفِهِما فالقَاتِلُ
والمَقتولُ فِي النَّار) يريد: إن أنفذ الله عليهما الوعيد.
و (السَّيِّد): الرَّئيس، قال كراع: وجمعه سادة، وعندي أنَّ «سادة» جمع سائد، وهو
من السُّودَدِ وهو الشَّرف.
قال ابن سيده: وقد تُهمَزُ وتُضمُّ الدَّال، طائيَّة، وقد سادهم سُوْدًا
وسُؤْدُدًا وسيادَةً وسَيْدُودَةً، واستَدَادَهُم كسادهم، وسوَّدَه هو.
وذكر الزَّبيدي في كتابه «طبقات النَّحويين»: أنَّ أبا محمدٍ الأعرابيَّ العُذريَ
قال لإبراهيم بن الحجاج الثائر بإشبيلية: تالله أيها الأمير ما سيَّدتك العرب إلا
بحقك. يقولها بالياء، فلما أُنْكِرَ عليه قال: السواد: السُّخام. وأصرَّ على أنَّ
الصَّواب معه، ومالأه على ذلك الأمير لعظم منزلته في العلم.
وقيل: اشتقاق السَّيِّد من السَّواد؛ أي: الذي يلي السَّوادَ العظيم من الناس.
قال المهلب: يدلُّ هذا الحديثُ أنَّ السِّيادة إنَّما يستحقُّها من ينتفع به
النَّاس؛ لأنَّ سيِّدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلمعلَّق السِّيادة بالإصلاح
بين الناس ونفعِهم، هذا معنى السيادة.
(1/330)
و
(الكَتِيْبَة): جمعها كتائب، وهي الجماعة من الخيل، سُمِّيت بذلك لاجتماع بعضٍ إلى
بعضٍ، وقال الدَّاودي: سُمِّيت بذلك لأنَّه يُكتَبُ اسم كلِّ طائفة في كتاب،
فلزمها هذا الاسم.
بَابٌ: هَلْ يُشِيرُ الإِمَامُ بِالصُّلْحِ
ذكر فيه حديث عائشة:
2705 - «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمصَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ،
وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَقُولُ لَمَّا اسْتَوْضَعُه الآخَرُ: وَاللَّهِ لاَ
أَفْعَلُ، فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى
اللَّهِ، لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟» الحديث. [خ¦2705]
وقد سبق رواية عن ابن أبي أويس، حدثني أخي، عن سليمان، عن يحيى بن سَعِيدٍ، عَنْ
أَبِي الرِّجَالِ، عن أُمِّه عَمْرَةَ عنها.
وهو أحد الأحاديث المقطوعة [11/ب]
في «صحيح مسلم»؛ لأنَّه لم يذكر من حدَّثه به، إنَّما قال: حدَّثنا غيرُ واحد من
أصحابنا قالوا: حدَّثنا إسماعيل بن أبي أويس.
وزعم عياض أنَّ قول الرَّاوي: «حدَّثنا غيرُ واحد» أو «حدَّثنا الثِّقة» أو «بعض
أصحابنا» ليس من المقطوع ولا من المرسل ولا المعضل عند أهل هذا الفن؛ بل هو من باب
الرِّواية عن المجهول، قال: ولعلَّ مسلمًا أراد بقوله: «غير واحد» البخاري وغيرَه.
وقد روى مسلم أيضًا عن أحمد بن يوسف الأزدي، عن إسماعيل بن أبي أويس، في كتاب
اللعان والفضائل. انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إنَّ أبا داود ذكر هذا النَّوع في كتاب الرسائل وعدَّه مرسلًا،
وعند أبي عمر والخطيب وغيرهما: هو منقطع.
وقول البخاري في:
بابِ فَضْلِ الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالعَدْلِ بَيْنَهُمْ
2707 - حدَّثنا إِسْحَاق، فذكر حديث أبي هريرة يرفعه: [خ¦2707]
«كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ يطْلُعُ [1] فِيهِ
الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ».
(1/331)
ذكره
أبو نُعَيم في «المستخرج» من حديث إسحاق بن إبراهيم، وزعم أنَّ محمدًا رواه عنه،
وفي «مختصر البخاري» للمهلَّب بن أبي صُفرة: باب فضل الإصلاح بين النَّاس: قال
البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرزَّاق.
وقال ابن المُنيِّرِ: ترجم على الإصلاح والعدل، وليس في الحديث إلا العدل، ولكن
لما [2] خاطبَ سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ كلَّهم بالعدل بين
النَّاس، وقد عُلم أنَّ في النَّاس الحكَّامُ وغيرهم، فكان عدلُ الحاكم إذا حكم
كعدل غيره إذا أصلح.
وعند مسلم عن أبي ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ
سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ» الحديث المذكور
في صلاة الضُّحى.
(السُّلَامَىْ) قال ابن الأعرابي: هي عظام الأصابعِ؛ اليدِ والقدمِ، وسُلامى
البعير: عظامُ فِرسِنه.
قال: وهي عظامٌ صغارٌ على طول الإصبع أو قريب منها، في كلِّ يد ورجلٍ أربعُ
سُلاميَّات أو ثلاث.
وفي «الجامع»: هي عظام الأصابع، والأشاجع، والأكارع، كأنَّها كعاب [12/أ]
%ج 4 ص 20%
والجمع السُّلاميَّات، يُقال: آخر ما يبقى المخُّ في السُّلامى والعين.
قال الرَّاجز:
لا تشْتكينَ عَمَلًا ما أَنْقَين ما دامَ مُخٌّ في سُلامَى أَوْ عَين
وقيل: السُّلاميَّات فصوص على القدمين، وهي من الإبل في داخل الأخفاف، ومن الخيل
في الحوافر، وفي «الصَّحاح»: واحدهُ وجمعهُ سواء.
قال ابن الجوزي: وربَّما شدَّده أحداثُ طلبة الحديث لقلَّة علمهم.
ومعنى هذا الحديث: أنَّ عظام الإنسان هي من أصل وجوده، وبها حصول منافعه، إذ لا
تأتي الحركة والسُّكون إلَّا بها، فهي من أعظم نعم الله جلَّ وعزَّ على الإنسان،
وحق المُنْعَمِ عليه أن يقابل كلَّ نعمةٍ منها بشكر يخصُّها، فيُعطِيَ صدقةً كما
أُعطِيَ منفعةً؛ لكنَّ الله جلَّ وعزَّ، لطف وخفَّف بأن جعل العدل بين النَّاس
وشِبهَه صدقة.
(1/332)
وفي
مسلم: «السُّلامى» مفاصل الإنسان، وهي ثلاثمئة وستون مفصلًا.
قال القرطبي: ظاهر هذا يقتضي الوجوب، لكن خفَّفه الله جلَّ وعزَّ، حيث جعل ما خفي
من المقدورات مسقطًا له.
وذكر البخاري في:
بابِ إِذَا أَشَارَ الإِمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى، حَكَمَ عَلَيْهِ بِالحُكْمِ
البَيِّنِ
2708 - حديث: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الجَدْرَ» الحديثَ المذكورَ في
الشُّرب. [خ¦2708]
وزعم الدَّاودي أنَّه ليس فيه ما بوَّب عليه، إنَّما فيه حضُّ الزُّبير على فعل
المعروف.
قال المهلب: التَّرجمة صحيحة لأنَّه حضَّ أوَّلًا الزُّبير على فعل المعروف،
فلمَّا بدا من الأنصاري ما بدا استوعى للزُّبير حقَّه.
والبابان بعده تقدَّما.
كِتَابُ الشُّروُط
حديثه تقدَّم قريبًا، وكذا الأبواب التي بعده.
بَابُ الشُّرُوطِ فِي المَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: «إِنَّ مَقَاطِعَ الحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَلَكَ مَا
شَرَطْتَ».
هذا التَّعليق ذكره ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن
إسماعيل بن عبد الله، عن عبد الرحمن [بن] [1] غُنْم، عنه.
والذي علَّقه عن المِسْوَر تقدَّم في باب: من أمر بإنجاز الوعد. [12/ب]
2721 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ
مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ». [خ¦2721]
قال التِّرمذي: العمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصَّحابة، منهم عمر بن
الخطاب، قال: إذا تزوَّج الرَّجل امرأةً وشرط لها أن لا يُخرِجها من مصرها فليس له
أن يخرجها، وبه يقول الإمام الشَّافعي وأحمد وإسحاق. انتهى.
ذكر الثَّوري أن الشَّافعي لا يقوله، بهذا نظر.
(1/333)
قال
التِّرمذي: وروي عن علي أنَّه قال: شرط الله قبل شرطها، كأنَّه يرى: للزوج أن
يخرجها وإن كانت اشترطت أن لا يخرجها.
وذهب بعض أهل العلم إلى هذا، وهو قول الثَّوري، وبعض أهل الكوفة.
وعن ابن التين: يريد الشروط الجائزة لا الفاسدة.
وفي «السِّراج» لابن العربي: إذا وقع الشَّرط وجب به الوفاء، سواء كان معلَّقًا
بيمين عليه أو لم يُعلَّق بيمين.
واحتُجَّ بهذا لابن شهاب في قوله: من شرط لزوجته ألا يتزوج عليها ولا يتسرَّى ولا
يخرجها من بلدها، أنه يوفي لها وإن لم يكن فيه عهد.
قال: ولم يزل العلماء يقضون بكل شرطٍ قارنَ النِّكاح، ومالك يقول: لا يُقضى لها
بذلك إلا أن يكون فيه شرط طلاق أو عتق فيُقضَى.
وقال الطَّحاوي: المراد ما أوجبه الله عزَّ وجلَّ للزوجات على أزواجهنَّ من الصَّدقات،
وحسنِ المعاشرة، والنَّفقة، والكِسوة، وما أشبه ذلك من حقوقها.
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، يعني المخرَّج عند أبي داود والنَّسائي أنَّ
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أُنكِحَتْ عَلَى صَدَاقٍ
أَوْ حِبَاءٍ أَوْ عِدَةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ
بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أعصمه [1]».
قال: أراد انَّ المرأةَ المخطوبةَ يأتي الخاطب إلى وليِّها، قد يحبي وليَّها أو
يوعد بشيء ليكون عونًا للخاطب على تزوُّجه فلا يطيب له شيء من ذلك؛ إذ كان إنَّما
قصده إليه بذلك التَّزويج الملتمس منه، فكانت المرأة أولى بذلك منه؛ لأنَّ الذي
يُمْلك بتلك الخِطبة بضعها لا ما سواه، فالغرض من ذلك البُضع، والأسباب التي
يُلتمس بها الوصول إليه يملكه [13/أ]
%ج 4 ص 22%
(1/334)
من
يملك ذلك البُضع، وهي المرأة دونَ من سواها، فجَعَلَه للمرأة دون الوليِّ المخطوب
إليه، وما كان من بعد عصمة النِّكاح فهو لمن أعصمه؛ لأنَّه قد صار له سبب يجب أن
يكرم عليه، فكان له ما أكرم به لذلك، ولم يكن له قبل النكاح سبب يستحق به الإكرام،
فلم تطب له ما أكرم به، وكان أولى به مَن أُكرم به مِن أجله.
وذهب الثَّوريُّ ومالك إلى أنَّ الرجل إذا نكح المرأة على أنَّ لأبيها شيئًا
اتَّفقا عليه سوى المهر أنَّ ذلك كلَّه للمرأة دون الأب، وروي عن طاووس، وعطاء.
وقال أحمد: هو للأب، ولا يكون لغيره من الأولياء.
وروي عن علي بن حسين أنه زوج ابنته، واشترط لنفسه عشرةَ آلاف درهم يجعلها في الحج
والمساكين.
وقال الإمام الشافعي: إذا فعل ذلك فلها مهرُ مثلِها، ولا شيء للولي.
وذكر البخاري في: بَاب مَا لَا يَجُوزُ مِن الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
2723 - حديثَ أبي هريرة: «وَلاَ تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا» الحديث. وقد تقدَّم في البيوع. [خ¦2723]
وعند الطَّبراني: حدَّثنا محمود بن غيلان، حدَّثنا مؤمِّل، عن سفيان، عن أبي
إسحاق، عن أبي سلمة، [عن أمِّ سلمة] [1] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لَا تَسْألُ المَرْأةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكتَفِئ مَا فِي صَحْفَتِهاممم
فِإنَّما رِزْقُهَا عَلَى اللهِ جلَّ وعزَّ».
قال ابن المنذر: النهي في هذا الحديث نهيُ تحريمٍ، لا نهي تأدب، واستدلَّ بما رواه
عقبة بن عامر من غير مسلم مرفوعًا: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى
بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ».
قال النَّووي: أجمعوا على تحريمها إذا كان قد صُرِّحَ للخاطبِ بالإجابة، ولم يأذن،
ولم يترك، فلو خطب على خِطبته وتزوَّج والحالة هذه عصى وصحَّ النكاح ولم يُفسَخ.
قال: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
وقال داود: يُفسَخ.
وعن مالك روايتان كالمذهبين.
(1/335)
وقال
جماعة من أصحابه: يُفسَخُ قبل الدُّخول لا بعده.
أمَّا إذا عُرِّضَ له بالإجابة ولم يُصرَّح، ففيها قولان للشَّافعيِّ؛ أصحُّهما:
لا يحرم.
وقال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضوا بالزوج ويُسمَّى المهر، واستدلوا بقول فاطمة
[13/ب]
%ج 4 ص 23%
بنتِ قيس: «خطبني أبو جهم ومعاوية»، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بل
خطبها لأسامة.
قال: وقد يُعترض على هذا فيُقال: لعلَّ الثَّاني لم يعلم بخطبة الأوَّل، وأمَّا
النَبيُّ صلى الله عليه وسلم فأشار بأسامة لا أنَّه خطب، ولم تُعلمه بأنها رضيت
بواحدٍ منهما، ولو أخبرته لم يُشر عليها.
قال القرطبي: اختلف أصحابنا في التَّراكن؛ فقيل: هو مجرَّد الرِّضى بالزَّوج
والميل إليه، وقيل: تسمية الصَّداق. قال: وهذا عند أصحابنا محمول على ما إذا كانا
شكلين.
قال الخطَّابي: ظاهره اختصاص التَّحريم بما إذا كان الخاطب مسلمًا، فإن كان كافرًا
فلا تحريم.
قال النووي: وبه قال الأوزاعي، وقال جمهور العلماء: تحرم الخطبة على خطبة الكافر.
ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأنَّ التقييد فيه بـ «أخيه» خرج مخرج الغالب، فلا يكون
له مفهوم يُعمل به كما في قوله جلَّ وعزَّ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ} [الْإِسْرَاءِ: 31]
وزعم الطبري أنَّ النَّهي في هذا الحديث منسوخ بخطبته صلى الله عليه وسلم فاطمة
لأسامة.
قال أبو سليمان: قوله: (ولَا تَسْألُ المَرْأةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا): معنى الكراهة
فيه منصرف إلى السبب الجالب للطلاق، وهو سوء العشرة وقلة الموافقة، لا إلى نفس
الطلاق، فقد أباح الله تعالى الطلاق.
وقيل: معناه أن تسأل الأجنبيَّةُ طلاق زوجةِ الرجل، وأن ينكحها ويصير إليها ما كان
من نفقتِه ومعروفه ونحو ذلك.
وقال القرطبي: قيل: الإكفاء هنا كناية عن الجماع والرغبة في كثرة الولد، والأولى
أنَّه مَثَلٌ لإمالة الضرة حقَّ صاحبتها من زوجها إلى نفسها.
(1/336)
والمراد
بـ (أُخْتِهَا) غيرَها؛ سواء كانت من النسب أو الإسلام.
قال النووي: أو كانت كافرة.
قال ابن التين: قول البخاري في تبويبه: (مَا لَا يَجُوزُ مِن الشُّرُوطِ فِي
النِّكَاحِ) أراد: ما لا يجوز فعلُه، وأمَّا لو ترك هذا للزم ذلك، وكان الأمر كما
فعلاه، إمَّا أن يرد أمرها إليها أو يجعلها طالقًا بنفس نكاح الثانية، وكل ذلك
يلزم.
وفي «المدونة»: فأيُّ شيء من الشروط يفسد النكاح؟ قال: ليس لها حدٌّ. قال بعضهم:
أي ليس لها حدٌّ يعدد، ولكن حَصْرها:
كلُّ شرط يترك فعلًا لو لم يشترط لكان في الحكم [14/أ]
%ج 4 ص 24%
واجبًا مثل: أن يشترط أن لا نفقة لها، ولا يطأها، فهذا يفسد النكاح، وكلُّ شرط
يترك فعلًا لو لم يُشترطْ لكان في الحكم مباحًا فلا يفسد النكاح، مثل شرط أن لا
يتزوج عليها أو لا يخرجها عن بلدها.
ثم ذكر البخاري في: بَابِ الشُّرُوطِ فِي الطَّلاَقِ
ثم قال:
2727 - تابعه - يعني تابع ابنَ عرعرة - مُعَاذٌ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ، عَنْ
شُعْبَةَ، وَقَالَ غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: نُهِيَ، وَقَالَ آدَمُ:
نُهِينَا، وَقَالَ النَّضْرُ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: نَهَى. [خ¦2727]
هذه المتابعات ذكر النَّسائي منها حديث حجاج فقال: حدَّثنا عبد الله بن محمد، عن
حجَّاج. وحديث آدم رواه [1].
قال البخاري:
وَقَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ، وَالحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَأ بِالطَّلاَقِ، أَوْ
أَخَّرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ.
قال ابن أبي شيبة: حدَّثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ في الرَّجلِ يحلفُ
بالطَّلاقِ فيبدأ به، قَالَا: «لَهُ ثُنْيَاهُ قَدَّمَ الطَّلَاقَ، أَوْ أَخَّرَ».
(1/337)
وحدَّثنا
هُشَيْمٌ، حدَّثنا يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «إِذَا قَدَّمَ الطَّلَاقَ، أَوْ أَخَّرَهُ فَهُوَ سَوَاءٌ،
إِذَا وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ».
قال ابن بطَّال: معناه أن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار، أو: إن دخلت الدَّار فأنت
طالق، فالطلاق يلزمه عند جماعة من الفقهاء، وإنَّما يُروَى الخلاف في ذلك عن شريح
وإبراهيم قالا: إذا بدأ بالطلاق قبل يمينه فإنه يلزمه الطلاق وإن برت يمينه، وإن
بدأ باليمين قبل الطلاق فإنَّه لا يلزمه الطلاق إذا برَّ.
وأمَّا الشروط في الطَّلاق فهي عندهم كالشروط في النِّكاح؛ فمنهم من كرهها، ومنهم
من أجازها إذا وقعت بيمين.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَشْتَرِطُ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُختِهَا)
حُجَّة لمن أجاز الشُّروط المكروهة؛ لأنَّها لو لم تكن عاملة، لم يكن لنهيه عن
اشتراط المرأة طلاق أختها معنىً، ولكان كُلًّا اشتراط، فكذلك [14/ب]
ما شابهه من الشُّروط، وإن كانت مكروهة فهي لازمة لقوله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ
الفُرُوجَ».
بَابُ الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالقَوْلِ
(1/338)
2728
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ
جُرَيْجٍ، أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، - يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ -
وَغَيْرُهُمَا، قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ، عَن ابنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: إِنَّا
لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ إذ قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مُوسَى رَسُولُ اللَّهِصلى الله عليه وسلم» فَذَكَرَ
الحَدِيثَ، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}
[الكهف: 72]، كَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا، وَالوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ
عَمْدًا، {قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي
عُسْرًا} [الكهف: 73]، {لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74]، فَانْطَلَقَا،
فَوَجَدَا {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] قَرَأَهَا
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ. [خ¦2728]
عند الإسماعيلي من حديث هشام، عن ابن جريج: «إنَّا لعند ابن عبَّاس إذ قال: سلوني،
قال ابن جبير: قلت: جعلني الله فداك، بالكوفة قاضٍ يقال له نَوفٌ، يزعم أنه ليس
بموسى بني إسرائيل، أما عمرو فقال: كذب عدوُّ الله، وأما يعلى فقال: حدثني أُبي بن
كعب».
(1/339)
قال
ابن بطال: أراد البخاري بهذا الباب - والله أعلم - ما يدلُّ على ما يقع بين الناس
في محاوراتهم فيما يكثر بينهم، فإنَّ الشَّرط بالقول يغني في ذلك عن لشرط بالكتاب
والإشهاد عليه، ألا ترى أنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم لم يُشهِد أحدًا على نفسه
حين قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 67]، وكذلك الخَضِر
صلى الله عليه وسلم حين شرط على موسى أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا،
لم يكتب بذلك كتابًا، ولا أشهد شهودًا، وإنما يجب الكتاب والإشهاد في الشُّروط
التي يَعُمُّ المسلمينَ نفعُها، ويخاف أن يكون في انتقاصها [15/أ]
%ج 4 ص 26%
والرُّجوع فيها خَرْم وفساد، وكذا ما في معناها مما يخص بعض الناس، واحتيج فيها
إلى الكتاب والإشهاد خوف ذلك.
ألا ترى أنَّ سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلمكتب الصلح مع سهيل وأهل مكة
ليكون حاجزًا للمشركين عن النَّقض والرجوع في شيء من الصُّلح، وشاهدًا عليهم بذلك.
قال المهلَّب: وفيه أنَّ النِّسيان عذرٌ لا مؤاخذة فيه.
وفيه: أنَّ الرِّفق بالعلماء أولى من الهجوم عليهم بالسُّؤال عن معاني أقوالهم في
كلِّ وقت؛ إلَّا عند انبساط نفوسهم، لا سيَّما إذا اشترط ذلك العالم على
المتعلِّم.
وفيه: جواز سؤال العالم عن معاني أقواله وأفعاله.
قال ابن التِّين: وقوله: كانت الوسطى شرطًا: يريد قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ
شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76]، وقوله: {وَلَا تُرْهِقْنِي}
[الكهف: 73] أي: لا تُلحق بي عُسرًا. وقال الفراء: لا تُعجلني، وقيل: لا تضيِّق
عليَّ.
وقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قُرِئ (ينقاص) بصاد غير معجمة،
وقرأه ابن عبَّاس موافقة لقراءة الجماعة، وقيل: هو بمعنى خلف على بابه، كأنه قال:
على طريقهم إذا رجعوا، والأول أولى لتفسيره في قراءة ابن عبَّاس، واللغة تجوِّزه
لأنَّ ما توارى عنك فهو وراء، وإن كان أمامك.
(1/340)
وقد
اختلف فيه: هل هو من الأضداد؟
فزعم أبو عبيدة وقطرب والأزهري في آخرين أنَّه منها، وقال الفراء وثعلب: «أمام» ضد
«وراء»، وإنما يصلح أن يكون من الأضداد في الأماكن والأوقات، يقول الرجل إذا وعد
وعدًا فيرجب لرمضان، ثم قال: «من ورائك شعبان» يجوز وإن كان أمامه؛ لأنه يخلفه إلى
وقت وعده، وكذلك: {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] يجوز؛ لأنه يكون أمامهم،
وطلبتهم خلفه، فهو من وراء طلبتهم.
بَابُ إِذَا اشْتَرَطَ فِي المُزَارَعَةِ: إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ
2730 - حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو
غَسَّانَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا
فُدِع عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ،
وَقَالَ [15/ب]:
%ج 4 ص 27%
(1/341)
«نُقِرُّكُمْ
مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ»، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى
مَالِهِ هُنَاكَ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَفُدِعَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلاَهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا
وَتُهْمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى
ذَلِكَ أَتَى أَحَدُ بَنِي أَبِي الحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،
أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ
وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَه صلى
الله عليه وسلم: «كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ
لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ»، فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي
القَاسِمِ، قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ،
وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ، مَالًا وَإِبِلًا،
وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [خ¦2730]
ورَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَحْسِبُهُ عَنْ
نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
اخْتَصَرَهُ.
عند أبي داود: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمعَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ
عَلَى أَنَّا نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ
بِهِ، فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ».
(1/342)
وفي
«الموطأ»: قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ خَيبَر وفَدَكَ، وأَمَّا
يَهُودُ خَيْبَرَ، فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ، وَلاَ مِنَ
الأََرْضِ شَيْءٌ، وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ، فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ،
وَنِصْفُ الأََرْضِ؛ لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمكَانَ صَالَحَهُمْ
عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ، وَنِصْفِ الأََرْضِ، فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ بنُ
الخَطَّاب نِصْفَ الأََرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَوَرِقٍ، وَأَقْتَابٍ، ثُمَّ
أَعْطَاهُمُ الْقِيمَةَ وَأَجْلاَهُمْ مِنْهَا.
وفي كتب السِّير: لما اتصل بأهل فدك ما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأهل خيبرَ بعثوا إليه ليؤمِّنهم، ويتركوا الأموال، فأجابهم إلى ذلك، فكانت مما لم
يوجف عليه الخيل ولا ركاب فلم تقسم لذلك، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
أمره ربه جلَّ وعزَّ.
وحديث حماد بن سلمة ذكره الحُميدي بلفظ: قال حماد: أحسبه عن نافع، عن ابن عمر قال:
«أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهلَ خَيبَر، فَقَاتَلَهُم حَتَّى
أَلْجَأهُم إِلَى قُصُورِهِم [16/أ]،
%ج 4 ص 28%
وَغَلَبَهُم عَلَى الأَرضِ» الحديث.
وفيه: «فَلَمَّا كَان زَمَانُ عُمَرَ غَشُّوا المُسْلِمِينَ، وَأَلقَوْا ابنَ
عُمَرَ مِن فَوقِ بَيتٍ فَفَدَعُوا يَدَيهِ» الحديث.
وكذا ذكره المِزِّي، والذي في البخاري ما تقدَّم فَيُنظر، وهو الذي ذُكر في
المستَخْرَجَيْن.
واختلف في (أبي أحمد) شيخ البخاري:
فذكر البيهقي في كتاب «الدلائل»، وأبو [1] مسعود، وابن نُعيم الأصبهاني أنَّه:
المرَّارُ بن حمُّويه، وكذا سمَّاه ابن السَّكن في روايته، وأبو ذر الهروي.
وقال الحاكم: أهل بُخارَى يزعمون أنَّ أبا أحمد هذا هو محمد بن يوسف البيكندي.
قال أبو عبد الله: وقد حدَّثونا بهذا الحديث عن موسى بن هارون، قال: حدَّثنا أبو
أحمد مرَّارُ بن حمُّويه، حدَّثنا ابن غسَّان.
(1/343)
قال
الحاكم: وقرأت هذا الحديث أيضًا بخطِّ شيخنا أبي عمرو المستملي، عن أبي أحمد محمد
بن عبد الوهاب بن حبيب العبدي الفراء النيسابوري، عن أبي غسان.
وذكره ابن حزم من رواية محمد بن يحيى الكناني، عن أبي غسان.
وزعم الهروي وعبد الغافر في «مجمع الغرائب»: أنَّ ابن عمر أرسله عمر إلى أهل خيبر
ليقاسمهم الثمر فَفُدِع.
والفَدْعُ: بالدَّال المهملة والفاء المفتوحة ثم عين مهملة.
قال الأزهري في «التهذيب»: قال اللَّيث: هو ميل في المفاصل كلِّها، كأنَّ المفاصل
قد زالت عن مواضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ، قال: وكل ظليم أفدع؛ لأنَّ في
أصابعه اعوجاجًا.
وقال النضر بن شميل: الفَدع في اليد أن تراه -يعني البعير -يطأ على أم قِردَانِهِ،
فأشخص شخصَ خُفِّه، ولا يكون إلا في الرسغ.
وقال غيره: الفدع أن يصطك كعباه، وتتباعد قدماه يمينًا وشمالًا.
وقال ابن الأعرابي: الأفدع الذي يمشي على ظهر قدمه.
وعن الأصمعي: هو الذي ارتفع أخمص رجله ارتفاعًا لو وطئ صاحبها على عصفور ما آذاه.
[16/ب]
%ج 4 ص 29%
وفي كتاب «خلق الإنسان» لثابت: إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فذلك
الفدع، رجل أفدعٌ وامرأة فدعاءُ، وقد فُدِع فدعًا.
وفي «المخصص»: هو عوج في المفاصل أو داء، وأكثر ما يكون في الرسغ فلا يستطاع بسطه.
وعن ابن السكيت: الفَدْعَةُ موضع الفَدْعِ.
وفي «المجمل» و «الجامع» للقزاز و «جمهرة» ابن دريد، و «المنتهى» لأبي المعالي: هو
انقلاب الكف إلى إِنْسيِّها.
زاد القزاز: وقيل: هو التواء رسغ الفرس من قبل الوَحْشيِّ [2]، وإقبال مركب
الشَّظاة في الجهة من وحشيِّها على ما يليها من رأس الشَّظاة من اليد الأخرى،
وَوَطِءَ منه على وَحْشي يديه جميعًا.
وقال الخطَّابي: اتَّهم عمرُ أهلَ خيبر بأنهم سحروا عبد الله.
وقال الصَّغاني: رموه من فوق بيت ففدعت قدمه.
وقال ابن قُرْقُول: في بعض تعاليق البخاري: فُدِع يعني: كسر. والمعروف ما قاله أهل
اللغة.
(1/344)
وقال
ابن بطال: إخراج عمر اليهود لِنَصْبِهم العداوةَ للمسلمين، كما فعل سيِّدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم ببني النَّضير حين أرادوا أن يُلقوا عليه حجرًا، أو لِمَا
بلغه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال عند موته: «لا يبقى دينان بأرض العرب»
ذكرها مالك في «موطأه» بأسانيد منقطعة.
وفي «صحيح مسلم»: عن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لأُخْرجنَّ
اليهودَ والنَّصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا [مسلمًا] [3]».
قال ابن بطال: قال المهلب: فيه دليل أنَّ العداوة توجب المطالبة بالجنايات كما
طالبهم عمر بفدع ابنه، ورشح ذلك بقوله: ليس لنا عدو غيرهم، فعلَّق المطالبة بشاهد
العداوة، وإنما ترك مطالبتهم بالقصاص؛ لأنه فدع ليلًا وهو نائم، فلم يعرف عبدُ
الله أشخاصَ من فدعه، فأشكل الأمر كما أشكلت قضية عبد الله بن سهل حين وداه النبي
صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، وكان إقرار يهود على أن تسلم لهم أنفسهم، ولا
حقَّ لهم في الأرض، واستئجارهم على المساقاة، ولهم شطر الثَّمرة، فلذلك أعطاهم
عمرُ قيمة شطر الثمرة إذ لم يكن لهم في رقبة الأرض شيء.
وقد استدلَّ بعض النَّاس من هذا أنَّ المزارع إذا كرهه [17/أ]
%ج 4 ص 30%
ربُّ الأرض بجناية بدت منه أنَّ له أن يخرجه بعد أن يبتدئ في العمل ويعطيه قيمة
عمله ونصيبه كما فعل عمر.
وزعم غيره: أنَّه لا يجوز إخراجه إلا عند رأس العام وتمام الحصاد والجذاذ.
وقال مالك: كانت خيبر صلحًا.
قال الدَّاودي: الصَّحيح أنها كانت عنوة. انتهى.
الذي ذكره أبو عمر وغيره عن مالك أنَّها كانت عنوة، وهو قول جماعة من المؤرخين
البخاري ومسلم، وحكاه ابن سعد عن بشير بن يسار، وقاله غير واحد أيضًا.
وقال بعضهم: فُتح بعضها عنوة وبعضها صلحًا.
قال ابن الجوزي: في قوله: «نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ» يريد: إذا أُمرنا
في حقِّكم بغير ذلك فعلناه.
(1/345)
وفيه:
جواز العقد مشاهرة، ومساناة، وموايمة، خلافًا للشَّافعي.
واختلف أصحاب مالك: هل يلزمه واحد مما سمى أولا يلزمه شيء، ويكون كل واحد منهما
بالخيار، كذا في «المدونة»، والأول قول عبد الملك.
قال: و (التُّهَمَةُ): أصلها الواو لأنها من الوهَم، وهي محرَكة الهاء، وضبطت في
بعض النُّسخ بالسكون.
و (القَلُوصُ): الأنثى من الأنعام والإبل، وقيل: هي النَّاقة الطويلة القوائم.
و (أَجْمَعَ عمرُ أمرَه) أي: جعله جميعًا بعدما كان متفرِّقًا.
و (الإِجْلَاءُ): الإخراج من الوطن والمال على وجه الإزعاج والكراهة.
قال ابن المنيِّر: إن قيل: التَرجمة على جواز اشتراط الخيار من المالك إلى غير
أمدٍ، والحديث لا يدل على ذلك.
قال: والصحيح أنَّ الخيار لا بد من تقييده بمدةٍ يجوز بمثلها الخيار، وإن أُطْلِق
نزل في كل عقد على ما يليق به من المدة التي في مثلها يقع الخيار.
والحديث غير متناول للترجمة؛ لاحتمال أن يريد: نقركم ما لم يَشَأ الله جلَّ وعزَّ
إجلاءكم منها؛ لأنَّ المقدور كائن، ولا ينافي وجود استرسال الأحكام الشرعية، وقد
تنفسخ العقود اللازمة بأسباب طارئة، وقد لا تنفسخ، ولكن يمتنع [17/أ]
%ج 4 ص 31%
مباشرة أحد المتعاقدين لاستيفاء المنفعة كما لو ظهر فساد العامل على المساقاة
وجنايته.
مذهب مالك إخراجه، وكذلك مستأجر الدار إذا أفسد، فهذا -والله أعلم- مراد الحديث؛
أي تستقرون فيها ما لم تجاهروا بفساد، فإذا شاء الله جلَّ وعزَّ إجلاءكم، تعاطيتم
السبب المقتضي للإخراج فأُخرِجتم.
وليس في الحديث أنه ساقاهم مدة معينة، إمَّا لأنَّهم كانوا عبيدًا للمسلمين،
ومعاملة السيد لعبده لا يشترط فيها ما يشترط في الأجنبي؛ لأنَّ العبدَ مالُ
السَّيِّد، وله على ماله سلطنة الانتزاع، فكان الجميع ماله، وإمَّا لأن المدة لم
تنتقل حينئذٍ مع تجردها حينئذٍ.
الأبواب التي بعده تقدَّم ذكرها.
بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الِاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِقْرَارِ،
(1/346)
وَالشُّرُوطِ
الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ،
وَإِذَا قَالَ: مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
قال ابن بطال: وقع في بعض النسخ: «باب ما لا يجوز في الاشتراط والثنيا [1]» وهو
خطأ، والصواب: «ما يجوز»، والحديث الذي ذكره البخاري بعدُ يدلُّ على صحَّته.
قال البخاري:
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَدْخِل
[2] رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِئَةُ
دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ
طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ.
وقال ابن بطال: هذا الشَّرط لا يجوز في السنَّة عند العلماء، وإنَّما قضى به شريح
للعادة، وأنَّه من قبيل التَّطوُّع، ومن تطوَّع بشيء استُحِبَّ له إنفاذه.
قال البخاري:
وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا، وَقَالَ:
إِنْ لَمْ آتِكَ الأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ، فَلَمْ
يَجِئْ، فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في جوازه:
فقال ابن الماجشون: البيع والشرط جميعًا جائزان، وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت
مُسمًّى، فإذا جازَ الوقت فلا خيار له ويبطل البيع.
وممن أجاز البيع والشرط في هذه المسألة: الثوري وأحمد وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: إن كان الأجل ثلاثة أيام فالبيع جائز.
وقال محمد بن الحسن: الأجل أربعة أيام وعشرة أيام.
2736 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا [18/أ]
%ج 4 ص 32%
مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ». [خ¦2736]
(1/347)
رواه
ابن ماجه عن هِشَامِ بنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ زُهَيْرُ بنُ مُحَمَّدٍ
التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي الْأَعْرَجُ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ
لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، إِنَّهُ وِتْرٌ،
يُحِبُّ الْوِتْرَ، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
فذكرها مفصَّلة اسمًا بعد اسم، وقال في آخره: قَالَ زُهَيْرٌ: فَبَلَغَنَا عنْ
غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ أَوَّلَهَا يُفْتَتَحُ بِقَوْلِ:
«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى».
ولما رواه الترمذي مُفَصَّلًا: عن إِبْرَاهِيمَ بنِ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنا صَفْوَانُ
بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ
أَبِي حَمْزَةَ.
قال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ صَفْوَانَ، وَلاَ
نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ.
وقد رُوي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
يُعلم في كثير شيء من الرِّوايات ذكرُ الأسماء إلا في هذا الحديث، وقد روى آدم بن
أبي إياس هذا الحديثَ بإسنادٍ غير هذا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح.
ولمَّا خرَّجه الحاكم في «مستدركه» عن أَبِي زَكَرِيَّا، حدثنا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ [1]، حدثنا مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ
النَّصَيبِيُّ [2]، الحديث.
(1/348)
حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ، قال: حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ الْكَرَابِيسِيُّ، قال: حدثنا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ،
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا شُعَيْبُ.
قال: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ
دُونَ ذِكْرِ الْأَسَامِيَ فِيهِ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ عِنْدَهُمَا أَنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ تَفَرَّدَ بِسِيَاقَتِهِ بِطُولِهِ، وَذَكَرَ
الْأَسَامِيَ فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِعِلَّةٍ
فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ خلَافًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ
مُسْلِمٍ أَوْثَقُ وَأَحْفَظُ وَأَعْلَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَبِي الْيَمَانِ [18/ب]
%ج 4 ص 33%
وَبِشْرِ بنِ شُعَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ وَأَقْرَانِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ
شُعَيْبٍ، ثُمَّ نَظَرْنَا فَوَجَدْنَا الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ
بنُ حُصَيْنِ، عَنْ أَيُّوبَ بنِ أَبِي تَمِيمَةَ وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ
جَمِيعًا، عَن ابنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلمبِطُولِهِ، فذكره ثم قال:
هذا حديث محفوظ من حديث أيوب وهشام عن محمد عن أبي هريرة مختصرًا دون ذكر الأسامي
الزائدة فيه، وكلُّها في القرآن العزيز.
وعبد العزيز بن الحصين بن الترجمان ثقة، وإنما جعله شاهدًا للحديث الأوَّل،
وخرَّجه ابن حبان أيضًا في «صحيحه» عن الحسن بن سفيان، وابن قتيبة، ومحمد بن أحمد
بن فياض، قالوا: حدثنا صفوان بن صالح، فذكره.
وروينا من طريق ابن طَبرزذ جمع السمرقندي إلى عمارة بن زيد قال: أخبرني سفيان بن
عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا بعدد الأسماء.
(1/349)
وروينا
عن البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» أنَّه قال: ليس في قول سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «لله تسعة وتسعون اسمًا» نفيُ غيرها، وإنَّما وقع التخصيص بذكرها
لأنَّها أشهر الأسماء، وأبينُها معانٍ.
وذكر قوله: (مَنْ أَحْصَاهَا) أي: من عدَّها، وقيل: يريد من أطاقها بحسن المراعاة
لها، والمحافظة على حدودها في معاملة الرَّبِّ بها.
وقيل معناه: من عرفها وعقل معانيها وآمن بها.
ويدلُّ على أنها ليست للحصر حديث ابن مسعود يرفعه: «أَسأَلُكَ بِكُلِّ اسمٍ هُو
لَك، سَمَّيتَ بِهِ نَفسَكَ، أَو أَنزَلتَه فِي كُتُبِكَ، أَو عَلَّمْتَه أَحَدًا
مِن خَلْقِكَ، أَو استَأْثَرتَ بِهِ فِي عِلمِ الغَيبِ عِندَك» الحديث.
وبحديث عائشة وقالت: «اللهمَّ إنِّي أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلِّها ما علمنا
منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر الذي من دعاك به
أجبته»، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَصَبتِيه، أَصَبتِيه».
أخبرنا به الإمام أبو الحسن الحجازي بقراءتي عليه، أخبرنا علي بن محمد بن حجر
الأزدي، أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفشلي، أخبرني أبو الفرج
الحصري، أخبرني أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف، أخبرني أبو عبد الله
الصَّاعدي، أنبأنا البيهقي. [19/أ]
%ج 4 ص 34%
وأنبأنا به عاليًا جماعة من شيوخنا عن آخرين؛ منهم ابن مسلمة وصالح المُدْلَجي عن
أبي القاسم ابن عساكر، أنبأنا الفُرَاوي الصَّاعدي، أنبأنا البيهقي قال: أنبأنا
أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن قتادة، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي؛ قالا:
حدثنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا إبراهيم بن علي الذُّهلي، حدَّثنا يحيى بن يحيى،
أنبأنا صالح المري، عن جعفر بن زيد العبدي، عن عائشة.
(1/350)
ولمَّا
ذكر حديث ابن الترجمان قال: تفرَّد به، وهو ضعيف الحديث عند أهل النَّقل، ويحتمل
أن يكون التَّفسير وقع من بعض الرُّواة، وذلك في حديث الوليد بن مسلم، ولهذا
الاحتمال ترك الشيخان إخراج حديث الوليد، وإن كان محفوظًا عن النبي صلى الله عليه
وسلم فكأنَّه قصد أنَّ من أحصى من أسماء الله جلَّ وعزَّ تسعة وتسعين اسمًا دخل
الجنة؛ سواء أحصاها مما نقلنا في حديث الوليد، أو مما نقلنا في حديث عبد العزيز،
أو من سائر ما دلَّ عليه الكتاب والسنة.
وذكر الحاكم أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحَلِيمي أنَّ أسماء الله تعالى جدُّه
التي ورد بها الكتاب والسنة وأجمع العلماء على تسميته بها منقسمة بين عقائد خمس:
الأول: إثبات الباري جلَّ وعزَّ ليقع به مفارقة التعطيل.
الثاني: إثبات وحدانيته، ليقع به البراءة من الشرك.
الثالث: إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض، ليقع به البراءة من التشبيه.
الرابع: إثبات وجود [3] كل ما سواه كان من قبل إبداعه واختراعه إياه، ليقع البراءة
من قول من يقول بالعلة والمعلول.
الخامس: إثبات أنه مدبِّرُ ما أبدع ومصرِّفُه على ما يشاء، ليقع به البراءة من قول
القائلين بالطبائع، أو بتدبير الكواكب، أو بتدبير الملائكة صلوات الله عليهم
وسلامه.
وزعم ابن حزم أنَّ من زاد شيئًا في الأسماء على التسعة والتسعين من عند نفسه فقد
ألحدَ في أسمائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «مئةً إلا واحدًا» فلو جاز أن يكون
له اسم زائد لكانت مئة.
قال الخطَّابي: هذا بمنزلة قولك: إن لزيد مئة درهم أَعَدَّها للصدقة، فلا يدلُّ
ذلك على أن ليس عنده من الدراهم أكثر من ذلك، وإنما يدلُّ [19/ب]
%ج 4 ص 35%
على أن الذي أعدَّه للصدقة هذا المقدار، وتمام الفائدة في قوله: «مَنْ أَحْصَاهَا
دَخَلَ الجَنَّة»، لا في قوله: «إنَّ لِله تسعةً وتسعينَ اسْمًا».
(1/351)
قال
القرطبي: (مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا) تأكيد للجملة الأولى، ليدفع به وهم متوهم في
النطق أو الكتابة.
و (مِئَة) منصوبة بدلٌ من (تِسْعَة).
وقوله: (مَن أَحْصَاهَا) هذه الجملة خبر، وهي الفائدة المقصودة لعينها، والجملة
الأولى مقصودة لها؛ لأنَّ مقصودَها حصرُ الأسماء فيما ذكر.
ودلَّ على أن لله أسماءً أُخرَ حديث: «فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لا أَقْدِرُ
عَلَيْها إلا أنَ يُلْهِمَنِيها اللهُ».
وذكر بعض المتصوفة أنَّ لله جلَّ وعزَّ ألف اسم كما أنَّ لسيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم مثلَها.
قال ابن الجوزي: لعله يكون المراد بقوله: (مَنْ أَحْصَاهَا) من قرأ القرآن حتى
يختمَه، فيستوفي أن من حفظ القرآنَ العزيز دخل الجنة؛ لأنَّ جميعَ الأسماء فيه.
وقال ابن بطال: الاستثناء على ضربين:
استثناء القليل من الكثير، وهذا ما لا خلاف في جوازه من أهل الفقه واللغة.
والضَّرب الثاني: استثناء الكثير من القليل، وهو جائز عند أصحاب الشافعي وأبي
حنيفة وأصحاب مالك وغيرهم، وهو مذهب اللغويين الكوفيين، أنشد الفراء في ذلك:
أدُّوا الذي نقضت تسعينَ من مئةٍ ثم ابعثوا حكمًا بالعدل حكَّامًا
فاستثنى تسعين من مئة، وكذلك إذا أقر الرجل فقال: لفلان عليَّ ألفٌ إلا تسعمئة
وخمسين، لزمه خمسون، أو قال: له عندي مئة إلا تسعين، فهو كذلك، ويكون الاستثناء
متصلًا بالإقرار.
وخالف في ذلك ابن الماجشون، وإليه ذهب البصريون من أهل اللغة، والبخاري، ولذلك
أدخل: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا»
فاستثنى القليل من الكثير.
ولأن الذي قد ينقص نقصانًا يسيرًا ولا يزول عنه اسم الشيء بنقصان القليل، فإذا نقص
أكثره زال عنه الاسم، فيجوز لك أن تقول: صمت الشهر كلَّه إلا يومًا واحدًا، ولا
يجوز: صمت الشهر كلَّه إلا تسعة وعشرين يومًا. [20/أ]
%ج 4 ص 36%
(1/352)
ويمكن
أن يُستدلَّ لكلٍّ من القولين بقوله جلَّ وعزَّ: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، وبقوله: {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغَاوِينَ} [الحِجْر: 42]. فإن جعلت المخلصين الأكثر فقد استثناهم، وإن جعلت
الغاوين الأكثر فقد استثناهم.
والباب الذي بعده تقدَّم.
كِتَابُ الوَصَايَا
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ
عِنْدَهُ» وقول الله جلَّ وعزَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [الْبَقَرَةِ: 180]
إلى قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:
182] جنفًا: ميلًا، متجانف: مائل.
هذا اللفظ ذكره الطَّبري عن عطاء، وقال أبو عُبيد: جورًا عن الحقِّ وعُدولًا، وقال
طاووس: هو الرَّجل يُوصي لولد ابنته.
قال ابن بطَّال: يحتمل قول طاووس: قد أوصيت لولد ابنتي بكذا ومعناه: أن يُريد بذلك
ابنتَه، فذلك مردود بإجماع، فإن لم يُرِد فوصيَّتُه له من الثُّلث.
2738 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَنبأ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ
مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ
ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [خ¦2738]
ذكر ابن حزم أنَّ عبد الله بن نُمير وعَبدة بن سليمان روياه عن عبيد الله بن عمر،
عن نافع كما رواه مالك. قال: ورواه يونس بن يزيد عن نافع أيضًا كذلك، وكذا رواه
ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه.
(1/353)
وعند
مسلم من حديث أيوب، عن نافع: «مَا حَقُّ امْرِئٍ يُوصِي بالوَصِيَّةِ ولَهُ مَالٌ
يُوْصِي فِيهِ يأتي عليه لَيْلَتَانِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ
عِنْدَهُ».
ومن حديث يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الله، عن نافع: «لَهُ شَيْءٌ يُرِيْدُ أَنْ
يُوصِي فِيه» الحديث.
وفي لفظ: «يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ».
وقال القرطبي: روى أيوب، عن نافع: «يريد الوصية». وروى ابن عون، عن نافع: «لَا
يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلمٍ لَه مَالٌ».
قال أبو عمر: لم يُتابع ابنُ عون على هذه اللفظة، ورواه سليمان بن موسى، عن نافع
وعبد الله بن نمير، عن عبيد الله، [20/ب]
%ج 4 ص 37%
عن نافع: «وَعِندَهُ مَالٌ».
قال أبو عمر: وهذا أولى عندي من قول من قال: «شَيءٌ»؛ لأنَّ الشَّيء يتناول قليل
المال وكثيره، وقد أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا الشَّيء اليسير
التَّافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية. انتهى.
ذكر ابن بطَّال أنَّ الزُّهري قال: جعل الله الوصية حقًّا فيما قلَّ أو كثُر. وذكر
ابن مسعود في تعليقه أنَّ مسلمًا عنده: «يَبِيتُ لَيلَةً».
قال ابن الجوزي: لم نجد هذا في كتاب مسلم، وعنده: قال ابن عمر: ما مرَّت عليَّ
ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلمقال ذلك إلا وعندي وصيتي.
تعلَّق ابن حزم بفرضية الوصية على كل من ترك مالًا بحديث مالك، ثم قال: روينا من
طريق عبد الرزاق، عن الحسن بن عبيد الله، قال: كان طلحة بن عبيد الله والزبير
يُشدِّدان في الوصية، وهو قول عبد الله بن أبي أوفى، وطلحة بن مصرف، والشعبي،
وطاووس، وغيرهم. وهو قول أبي سليمان، وجميع أصحابنا.
(1/354)
وقال
قوم: ليست فرضًا، واحتجوا برواية يحيى بن سعيد التي فيها: «يُرِيدُ أَن يُوصِي
فِيه» قالوا: فردَّ الأمر إلى إرادته، وقالوا: إنَّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يوصِ، ورَوَوْا أنَّ ابن عمر وهو راوي الخبر لم يوصِ، وأنَّ حاطب بن أبي
بَلْتَعة بحضرة عمر لم يوصِ، وأنَّ ابن عباس قال فيمن ترك ثمان مئة درهم: ليس فيها
وصية، وأنَّ علي بن أبي طالب نهى مَن لم يترك إلا من السبعمئة إلى التسعمئة عن
الوصية، وأنَّ عائشة قالت فيمن ترك أربعمئة دينار: ما في هذا فضل عن ولده.
وعن النَّخعي: ليست الوصية فرضًا، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، ومالك.
ثم قال: وكلُّ هذا لا حجة لهم في شيء منه؛ أمَّا من زاد: «يُرِيْدُ» فإنَّ مالكًا
وما أسلفناه رَوَوْهُ بغير هذا اللفظ، لكن بلفظ الإيجاب فقط.
وأمَّا قولهم: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوصِ. فقد كانت تقدمت وصيته
بقوله الثابت يقينًا: «إنَّا مَعْشَرَ الَأنبِيَاءِ لَا نُورثُ، مَا تَرَكنَا
صَدَقةٌ»، وهذه وصيَّة صحيحة بلا شك؛ لأنَّه أوصى بصدقة كلِّ ما يترك إذا مات،
وإنَّما صحَّ الأثر بنفي الوصيَّة التي يدَّعيها الرافضة إلى علي فقط.
وأمَّا ما رَوَوا: أنَّ ابن عمر لم يوصِ. فباطل؛ لأنَّ هذا إنَّما رُوي من طريق
أشهل بن حاتم [21/أ]
%ج 4 ص 38%
وهو ضعيف، ومن طريق ابن لهيعة، وهو لا شيء، والثَّابت عنه ما أسلفناه.
وأما خبر حاطب وعمر فمن رواية ابن لهيعة، وأما خبر ابن عباس ففيه ليث بن أبي سليم،
وهو ضعيف.
وأما حديث علي فإنَّه حدُّ القليل ما بين السبعمئة إلى التسعمئة، وهم لا يقولون
بهذا، وليس في حديث أم المؤمنين بيان ما ادَّعَوا، بل لو صحَّ كل ذلك ما كانت فيه
حجة؛ لأنَّه قد عارضهم صحابة كما أوردنا، وإذا وقع التنازع لم يكن قول طائفة أولى
من أخرى، والفرض حينئذ هو الرُّجوع إلى القرآن والسُّنَّة، وكلاهما يوجب فرض
الوصية. انتهى.
(1/355)
قال
أبو بكر بن العربي: أمَّا السلف الأول فلا نعلم أحدًا قال بوجوب الوصيَّة، وأما
الحسن بن عبيد الله فلم يسمع مِن أحدٍ من الصحابة، لا سيما هذين القديمين الوفاة.
وأظنه استنبط من حديث ابن أبي أوفى المذكور عند البخاري في هذا الباب.
وقول طلحة له: - هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال ابن أبي أوفى: لا.
قال طلحة: فقلت: كيف كتب على الناس الوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله. - إنَّ هذا
مذهبهما.
ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون أراد بكتب الوصية الندبَ إليها لا الوجوب، فإذا
احتمل واحتمل سقط الاحتجاج حتى يأتي بيان مذهبهما من خارج بنقل صريح، وما أظنه
موجودًا، إذ لو وُجِد لبيَّنه وصرَّح به، وكأنَّ ابن أبي أوفى غَفَلَ رضي الله عنه
عن وصايا عدة أوصى صلى الله عليه وسلم بها، منها ما تقدَّم.
ومنها: «لَا يَبقَى دِيْنَانِ بِجَزِيرةِ العَرَبِ».
و: «أَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحوِ مَا كنتُ أُجِيزُهًم».
و: «الصَّلاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُم».
وعند البخاري من حديث عمرو بن الحارث أخي جويرية: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلمعِندَ مَوتِهِ دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلاَ
أَمَةً، وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ [1]، وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً».
وعن ابن إسحاق: وأَوصَى عِند موتهِ لجماعةٍ من قبائلِ العربِ بِجِدَاد أَوْسَاقٍ
مِن تَمرِ سَهْمهِ بِخَيبرَ، وأَوصَى بالأنصارِ خَيرًا.
وقد يُحملُ كلام ابن أبي أوفى على أنَّه لم يوصِ وصية مالية؛ لأنَّه مات ودرعه
مرهونة، ليس عنده ما يفكُّه به.
وأما ما ذكره عن طاووس، فذكر سعيد بن منصور في سننه بسند في غاية الصحة: حدَّثنا
ابن عيينة، عن ابن طاووس، عن [21/ب]
%ج 4 ص 39%
أبيه، أنه كان يقول: إنَّ الوصيَّة كانت قبل الميراث فلما نزل الميراثُ نَسخَ من
يرث، وبقي الوصية لمن لا يرث، فهي ثابتة، فمن أوصى لغير ذي قرابة لم تجز وصيته.
انتهى.
(1/356)
فهذا
كما ترى قال: ثابتة، ولم يقل: واجبة، وبينهما بون، وقد قال الإمام الشافعي رحمه
الله تعالى: فلما احتملت الآية ما ذهب إليه طاووس وجب عندنا على أهل العلم طلب
الدلالة على خلاف قوله أو موافقته، فوجدنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم
في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم، فجزَّأهم النبي صلى الله عليه
وسلمثلاثة اجزاء، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة، فكانت دلالة السنة في هذا بينة بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلمأنزل عتقهم في المرض وصية، والذي أعتقها [2] رجل من
العرب، والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم، فأجاز النبي صلى الله
عليه وسلم الوصية، فدلَّ ذلك على أنَّ الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد
المعتقين.
وقوله: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) يعني: ما الحزم، أو: ما المعروف في الأخلاق
إلا هذا.
وقد أنبأنا المسند المُعَمَّرُ نور الدين بن الصَّلاح الصُّوفي قراءة عليه: أنبأكم
الشيخان أبو محمد عبد الوهاب وأبو القاسم عبد الرحمن، قالا: أنبأ أبو طاهر
الاسكندري قراءة عليه، أنبأ أبو بكر الطرثيثي بقراءة عليه غير مرَّة، أنبأ ابو علي
بن شاذان قراءة عليه، أنبأ أبو بكر النجَّاد قراءةً عليه، قال: حدَّثنا أبو داود
بجميع كتاب «الناسخ والمنسوخ» تأليفه، قال: حدثنا أحمد بن محمَّد، حدثنا علي بن
حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النَّحوي، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس في قوله جلَّ
وعزَّ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
[البقرة: 180]، وكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
وقال أبو جَزْءٍ محمد بن محمد العدوي البصري في كتابه «الناسخ والمنسوخ» الذي رواه
القاضي أبو القاسم علي بن الحسن التَّنوخي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد
الطَّبري، عن أبي جعفر محمد بن محمد المقرئ، عنه: قال بعض أهل العلم: نُسخَ
الوالدان وثبت الأقربون.
(1/357)
وهو
قول الحسن، ومسلم بن يسار، وإياس بن معاوية، والعلاء بن زياد، وطاووس، [22/أ]
%ج 4 ص 40%
وقتادة، والعمل ليس عليه. وقال بعضهم: والعمل به، نَسَخَها: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} [النِّسَاءِ: 7] الآية، وهو قول ابن عباس، وعكرمة،
والضحَّاك بن مزاحم، ومجاهد.
وروينا في كتاب «الناسخ والمنسوخ» للنحاس: في هذه الآية خمسة أقوال:
فمن قال: إنَّ القرآن يجوز أن يُنسخ بالسُّنَّة، قال: نسخها: «لا وصية لوارث».
ومن قال من الفقهاء: لا يجوز أن يُنسخ القرآن إلَّا بالقرآن قال: نسختها الفرائض،
كما روينا من حديث عثمان بن عطاء، عن ابن عباس: نسختها: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}.
وقال مجاهد: نسخها: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}.
الثالث: قال الحسن: نُسخت الوصية للوالدين، وثَبتت للأقربين الذين لا يرثون. وكذا
روى ابن أبي طلحة عن ابن عبَّاس. وقال النَّخَعي والشَّعبي: الوصيَّة للوالدين
والأقربين على النَّدب لا على الحَتْم.
والخامس: أنَّ الوصيَّة للوالدين والأقربين واجبة بنصِّ القرآن، إذا كانوا لا
يرثون. وهو قول الضَّحَّاك وطاووس، قال طاووس: من أوصى للأجنبيِّين وله أقرباء
انتُزعت الوصيَّة فرُّدَّت إلى الأقرباء. وقال الضَّحَّاك: من مات وله شيء ولم
يُوصِ لأقربائه فقد مات عن معصية لله جلَّ وعزَّ.
وقال الحسن، وجابر بن زيد، وعبد الملك بن يعلى فيما ذكره الطبري: إذا أوصى رجل
لقوم غرباء بثلثه، وله أقرباء أُعطي الغرباء ثلثَ الثلث ورُدَّ الباقي على
الأقرباء.
قال الطبري: وحُكي عن طاووس أنَّ جميع ذلك يُنتزع من المُوصى لهم ويُدفع لقرابته؛
لأنَّ آية البقرة عندهم محكمة.
(1/358)
قال
أبو جعفر النَّحَّاس: فالواجب أن لا يقال أَنها منسوخة؛ لأنَّ حكمها ليس منافٍ
حكمَ ما فرض الله جلَّ وعزَّ من الفرائض، فوجب أن يكون: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: [البقرة: 180]، كقوله جلَّ وعزَّ: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
وقال أبو إسحاق الزجَّاج في قوله جلَّ وعزَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} هذا الفرض بإجماع نسخته آيات المواريث التي في النساء، وهذا
مُجمع عليه.
وقال قوم: إنَّ المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث، وأمَّا الوصية في الثلث باقٍ،
وهذا القول ليس بشيء؛ لأنَّ [22/ب]
%ج 4 ص 41%
إجماع المسلمين أنَّ ثلث الرَّجل له، إن شاء أن يوصي فيه بشيء فله، وإن ترك ذلك
فجائز، والآية في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} {الْوَصِيَّةُ} منسوخة بإجماع كما
وصفنا.
وقال الطبري: حدَّثنا محمد بن بشار، حدَّثنا ابن مهدي، حدَّثنا سفيان، عن جَهْضَم،
عن عبد الله بن بدر، قال: سمعت ابن عمر يقول في قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ} قال: نسختها آية المواريث. قال ابن بشار: قال ابن مهدي: فسألت
جهضمًا عنه فلم يحفظه. انتهى.
هذا إسناد صحيح، وعدم حفظ جَهْضَم له بعد تحديث سفيان به عنه لا يؤثِّر في صحَّته،
إذا كان الرَّاوي حَفِظَ، لا سيَّما مثل سفيان.
ولما ذكر أبو الحسن ابن الحصَّار حديث ابن عبَّاس وابن عمر في كتابه «النَّاسخ
والمنسوخ» قال: هذا إنَّما هو نقل وتصريح بالنَّسخ، وليس برأي ولا اجتهاد.
وكأنَّ ابن حزم أضرب عما رواه ابن ماجه، عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «مَن مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ وَتُقًى
وَشَهَادَةٍ، وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ»، ومن روايةِ دُرُستِ بن زياد، عن يزيد
الرَّقاشي، عن أنس، يرفعه: «الْمَحْرُوْمُ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ» لضعفهما.
(1/359)
وقال
أبو ثور: ليست الوصيَّة واجبة إلا على رجل عليه دين، أو عنده مال لقوم؛ لأنَّ الله
جلَّ وعزَّ فرض أداء الأمانة، فمن لا حق عليه ولا أمانة فليس بواجب عليه أن يوصي.
وقوله: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) الحقُّ في اللُّغة هو الثَّابت مطلقًا، وإذا
أُطلق في الشَّرع فالمراد به ثبوت الحق فيه، ثمَّ الحكم الثَّابت في الشَّرع قد
يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون مباحًا، إذ كلُّ واحد منها ثابت وموجود
فيه، لكنَّ إطلاق الحقِّ على المباح قلَّما يقع في الشريعة، وإنَّما يُؤخذ منه
بمعنى الواجب والنَّدب.
قال القرطبي: فإن اقترن به (على) أو ما في معناها ظهر فيه قصد الوجوب، وإن لم
يقترن به ذلك كان محتملًا للأمرين، كما جاء في هذا الحديث، وعلى هذا فلا حجَّة
لداود في التَّمسُّك به على وجوب الوصيَّة؛ لأنَّه لم يقترن به قرينة تُزيلُ
إجمالَه، فإن أبى إلا دعوى ظهوره قابلناه بما قاله بعض أصحابنا في هذا الحقِّ،
أنَّه قد اقترن به ما يدل على النَّدب، وهو تعليقها [23/أ]
%ج 4 ص 42%
على الإرادة، فإقرار مثل هذا يقوي إرادة النَّدب، ولو أنَّا سلمنا أنَّ ظاهره
للوجوب، نقول بموجبه فيمن كان عليه حقوق يخاف ضياعها، أو له حقوق كما قال أبو ثور.
وقال العلامة القشيري: والتَّرخيص في اللَّيلتين أو الثَّلاث رفعٌ للحرج والعُسر.
وقال ابن الجوزي: أراد ان الموصي يتأمَّل ويقدِّم في هذه الليالي ما يريد الوصاة
به.
وفي قوله: (إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوْبَةٌ عِنْدَهُ) قال به محمد بن نصر
المَرْوزي، فإنَّ الكتاب يكفي من غير إشهاد، على ظاهر الحديث من غير زيادة، ولولا
أنَّ ذلك كان لما كان لذكره فائدة.
قال النَّووي: يريد: أشهدَ عليه بها، لا أنه يقتصر على مجرَّد الكتابة، بل لا
يُعمل بها ولا يُنتفع إلا إذا كانت بإشهاد، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
(1/360)
قال
القرطبي: ذَكرَ الكتاب مبالغةً في زيادة الاستيثاق، فلو كتبها ولم يُشهد بها فلم
يختلف قول مالك: أنه لا يُعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق - لمن لا
يُتَّهم عليه - يلزمه تنفيذه.
قال ابن المنيِّر: ودخول حديث عمرو بن الحارث: «مَا تَرَكَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِيْنَارًا
وَلَا دِرْهَمًا إِلَّا أَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» في الباب؛ لاحتمال أن تكون
الصدقة موصى بها، فلهذا أدخلها البخاري في هذه التَّرجمة.
وقال ابن التين: تصدَّق بها في صحَّته، وأَخْبَر بالحكم بعد وفاته، وهي فدك، والتي
بخيبر.
وقوله: (أَوْصَىْ بِكِتَابِ اللهِ) أي بالعمل به. وقول عائشة: (انْخَنَثَ) يعني:
انثنى.
وقد أكثر الشِّيعة من الأحاديث الباطلة المكذوبة على وصية النبي صلى الله عليه
وسلم لعلي بالخلافة، وقد أكذَبَهُم عليٌّ بقوله: والذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسمة
ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصَّحيفة.
بَابٌ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
هذا اللفظ حديث رواه الترمذي من حديث إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حدَّثنا
شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الخَوْلاَنِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلميَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ
حَجَّةِ الوَدَاعِ: «إِنَّ اللَّهَ جلَّ وعزَّ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ
حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وقال: هذا حديث حسن، وفي نسخة: صحيح. فإن
صحَّت فكأنه اعتمد رواية إسماعيل بن عيَّاش عن الشَّاميِّين [23/ب]
%ج 4 ص 43%
وصحَّحها.
ومن حديث شَهر بن حَوشَب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمر بن خارجة مثله، وقال: حسن
صحيح.
وعند ابن ماجه: حدَّثنا هِشَامُ بْنِ عَمَّارٍ، عَن مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ، عن
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ،
عَنْ أَنَسٍ. مثله. وعند الدَّارقطني عن جابر مثله، وقال: الصواب مرسل.
(1/361)
ومن
حديث حجَّاج، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ». زاد
ابن حزم من طريق مرسلة: «فَإِنْ أَجَازُوْا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوْا».
وعن عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، يرفعه: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ لِكُلِّ
إِنْسَانٍ نَصِيْبَهُ مِن المِيْرَاثِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ إِلَّا مِنَ
الثُّلِثَ، وَذَلِكَ بِمِنىً»
ومن حديث أَبَان بن تَغلب، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَا إِقْرَارَ بِدَيْنٍ». وعند ابن أبي
شَيبة من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: «لَيْسَ لِوَارِثٍ وَصِيَّة».
2747 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ المَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ
الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ
لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ أَوَ الرُّبُعَ،
وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ أَوَ الرُّبُعَ». [خ¦2747]
محمد بن يوسف هذا هو الفِرْيابي، بيَّنه أبو نعيم الحافظ.
في «الباهر» لابن عُديس: الوصيَّة والوَصاة والوَصاية والوِصايةُ، بالفتح والكسر،
الاسم من: أوصى الرجل وصاة.
وقال ابن بطَّال: أجمع العلماء على أنَّ الوصيَّة لوارث لا تجوز.
(1/362)
وقال
المُنذري: إنَّما تبطل الوصيَّة للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر
الورثة، فإذا أجازوها جازت، كما إذا أجازوا الزَّيادة على الثُّلث، وذهب بعضهم إلى
أنَّ الوصيَّة للوارث لا تجوز بحالٍ، وإن أجازها سائر الورثة؛ لأنَّ المنع فيها
إنَّما هو حقُّ الشَّرع، قالوا: فلو جوَّزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ،
وذلك غير جائز، وهذا قول أهل الظَّاهر.
قال أبو عمر: وهو قول عبد الرحمن بن كيسان والمزني. قال ابن حزم: إلا أن يبتدِئ
الورثة [24/أ]
%ج 4 ص 44%
هبة لذلك من عند أنفسهم.
وقال أبو حنيفة: لهم أن يرجعوا بعد موته، وعن مالك: لا رجوع لهم، إلَّا أن يكونوا
في كفالته فيرجعوا.
حديث الصَّدقة عند الموت تقدَّم في الزَّكاة، وسفيان المذكور فيه زعم أبو نعيم
أنَّه الثَّوري، وحديث المنافق تقدَّم في الإيمان.
بَابُ تَأوِيلُ قَولِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ}: [النساء: 12]
وَيُذْكَرُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلمقَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ
الوَصِيَّةِ».
هذا التعليق رواه الترمذي من حديث أَبي إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ: «قضى محمد
صلى الله عليه وسلم أنَّ الدَّينَ قَبلَ الوَصيَّة، وأنتم تقرؤون الوصيةَ قبل
الدَّيْن». الحديث. وقال: لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، وقد تكلم
بعض أهل العلم في الحارث.
قال البخاري: وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاءِ: 58] وأَدَاءُ [1] الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ
تَطَوُّعِ الوَصِيَّةِ.
نزلت هذه الآية الكريمة في عثمان بن طلحة، قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح
الكعبة، فدخل الكعبة يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدفع إليه المفتاح، ذكره
الواحدي في «الأسباب» عن مجاهد.
قال البخاري: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لاَ يُوصِي العَبْدُ إِلَّا بِإِذْنِ
أَهْلِهِ».
(1/363)
هذا
التعليق رواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص، عن شبيب بن غَرْقَدَة، عن جندب، قال:
سأل طهمانُ ابنَ عباس: أيوصي العبدُ؟ قال: لا، إلا بإذن أهله.
قال البخاري: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ
سَيِّدِهِ».
هذا التعليق تقدم عنده مسندًا في كتاب الصلاة من حديث ابن عمر، وحديثُ حكيمٍ
تقدَّم في الزكاة ودخوله هنا _ قال ابن المنير _ من وجهين:
الأول: زهَّده في قبول العطية وجعل يدَ آخذها السُّفلى تنفيرًا عن قبولها، ولم
يَرِد مثل هذا فِي تعاطي الدَّين. فالحاصل أَنَّ قابضَ الوصِيَّة يدُه السُّفْلى.
وقابضَ الدَّيْن اسْتِيفَاء لحقه، إِمَّا أَن تكون يَده الْعليا؛ لِأَنَّهُ
المتفضِّل، وَإِمَّا أَن تكون يَده السُّفْلى. هَذَا أقلُّ حَالَتَيْه، فتحقق
تَقْدِيم الدَّيْن على الْوَصِيَّة بذلك.
والآخرُ ذكره الْمُهلب، وَهُوَ أَنَّ عمر اجْتهد أَن يُوفيَه حَقَّه فِي [24/ب]
%ج 4 ص 45%
بَيت المَال، وَبَالغ فِي خلاصه من عُهدته. وهذا ليس دَيْنًا، ولكن فيه شَبَهٌ
بالدَّيْن لكونه حَقًّا في الجُملة.
قال ابن المنيِّر: والوَجْه الأول أقوى في مَقصُود البُخارِي.
قال المهلب: وأما حديث: «العَبْدُ رَاعٍ» فوجه دخوله هنا أنَّه لمَّا كان العبد
مسترعىً في مال سيِّده صحَّ أنَّ المال للسَّيِّد، وأنَّ العبد لا ملك له فيه، فلم
تجز وصيةُ العبدِ بغير إذن سيِّده، كقول ابن عبَّاس، وأشبه في هذا المعنى المُوصِي
الذي عليه الدَّين، فلم تنفذ وصيَّتُه إلا بعد قضاء دينه؛ لأنَّ المال الذي بيده
إنَّما هو لصاحب الدَّيْن، ومسترعىً فيه، ومسؤولٌ عن رعيَّته، فلم يَجُز له تفويته
على ربِّه بوصيَّة أو غيرها، إلَّا أن يبقى منه بعد أداء الدَّيْن بقية، كما أنَّ
العبد مسترعىً في مال سيِّده، ولا يجوز له تفويته إلَّا بإذنه، فاتَّفقا في الحكم؛
لاتِّفاقهما في المعنى.
(1/364)
قال
ابن المنيِّر: حديث العبد أصل يندرج تحته مقصود التَّرجمة؛ لأنه لما تعارض في ماله
حقُّه وحقُّ السَّيِّد قُدِّم الأقوى وهو حقُّ السَّيِّد، وجُعل العبد مسؤولًا عنه
مؤاخذًا بحفظه، وكذلك حقُّ الدَّين لمَّا عارضه حقُّ الوصيَّة، والدَّين واجب
والوصيَّة تطوُّع، وجب تقديمه.
وقال البخاري في:
بَابِ إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ. وَمَنِ الأَقَارِبُ؟
2758 - وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بنُ جعفَرَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، قال: لاَ أَعْلَمُهُ إِلَّا
عَنْ أَنَسٍ. [خ¦2758]
فذكر حديث بئر حَا المتقدِّم في كتاب الزَّكاة، فزعم أبو العباس أحمد بن ثابت الطَّرْقي
في كتاب «اللوامع في الجمع بين الصحاح والجوامع» أنَّه أخرجه محمد - يعني البخاري
- عن الحسن بن شَوكر، عن إسماعيل بن جعفر.
وأخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» عن همَّام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله.
وقول البخاري:
وقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
[الشعراء: 214]
خرَّجه مسندًا في كتاب الفضائل والتفسير.
وعند مسلم: «صَعَدَ عَلَى الصَّفَا».
وفي لفظ: «خَرَجَ إِلى البَطْحَاءِ، وَصَعَدَ الجَبَلَ فَنَادَى: يَا صَبَاحَاه».
وعن التِّرمِذي: «وَضعَ اصْبَعَه فِي أُذِنَيْهِ، وَرَفَعَ صَوتَه فَقَالَ: يَا
بَنِي عَبدِ مَنَاف، يَا صَبَاحَاهُ».
ثم ذكر البخاري في:
بَابِ: هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالوَلَدُ فِي الأَقَارِبِ؟
(1/365)
2753
- [25/أ] حديث أبي هريرة: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ
أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
[الشُّعَرَاءْ: 214]، فقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا -
اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ
بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا
صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا،
وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي
عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا». [خ¦2753]
قال الإسماعيلي: حديث أبي هريرةَ وابنِ عباس مرسلان؛ لأنَّ الآية نزلت بمكة
شرَّفها الله تعالى، وابن عبَّاس كان صغيرًا، وأبو هريرة إنَّما أسلم بالمدينة.
انتهى.
يمكن أن يكونا سمعا ذلك من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من صحابي آخر،
والله أعلم.
ذهب أبو حنيفة إلى أنَّه إذا وقف أو أوصى لأقاربه فإنَّ ذلك يكون للأقرب فالأقرب
من كلِّ ذي محرمٍ منه، ويكون للاثنين فصاعدًا، قال: لأنَّ أبا طلحة أعطى حسان
وأبيًّا لقربهما إليه، ولم يعط لأنس شيئًا.
والوصيَّة عنده: تمليك يتعلَّق بالموت، فإذا استُحِقَّ بالقرب كان الأقرب فالأقرب
أولى، كالميراث، ولأنَّا لو سوَّينا فيه بين القريب والبعيد أدَّى إلى إبطال
الوصيَّة؛ لأنَّ المقصود بها الآدمي، فإذا اشترك فيها من لا يُحصى دخل الغنيُّ
والفقير إلى آدم صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنَّه ليس أب يُنسب إليه بالقرابة بأولى
من أب.
(1/366)
والوصيَّة
والوقف سواء، ودليله من قوله: من كل ذي رحم محرم منه، بأنَّ في بعض طرق حديث أبي
طلحة «فَجَعَلَهَا أَبُوْ طَلْحَةَ عَلَىْ ذَوِيْ رَحِمِه»، قال: لأنَّ المقصود
بها الصِّلة، فاختصَّ بذي الرَّحم المحرَّم كالنَّفقة، وإيجاب العتق، وذو الرَّحم
المحرَّم أولى بالصِّلة من ذي الرَّحم غير المحرَّم.
والاستدلال من حديث أبي طلحة على الاثنين لأنَّه لو اكتُفي بالواحد لأعطى حسان
وحده دون أُبي؛ لأنَّه أقرب إليه من أُبي، فلمَّا كان المعتبر في ذَلِكَ الاثنين
أعطاهما، وإن كانا ليسا متساويين في الدَّرجة، مع قول السُّهيلي: كان أُبي ابن
عمةِ أبي طلحة، أمُّه سُهيلة بنت الأسود ابن حرام، واستدلَّ بقوله صلى الله عليه
وسلم في «الْأَقْرَبِيْن»، وفي رواية: «أَقَارِبِك» بلفظ الجمع، وأقلُّ الجمع في
المواريث اثنان.
وعند أبي يوسف ومحمَّد: لو وقف أو أوصى لأقاربه، يكون [25/ب]
ذلك لكلِّ من ينتسب إليه، إلى أقصى أب في الإسلام، ولا يدخل في ذلك الولد ولا
الوالدان.
بَابٌ: هَلْ يَنْتَفِعُ الوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟
وَقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ: «لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ» وَقَدْ
يَلِي الوَاقِفُ وَغَيْرُهُ.
هذا الذي ذكره تقدَّم من عنده مسندًا.
قال البخاري:
(وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ).
وذكر حديث أبي هريرة المتقدم في كتاب الحج.
2754 - وكذا حديث أنس [1]: رَأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَسُوقُ
بَدَنَةً، فَقَالَ: «ارْكَبْهَا»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا
بَدَنَةٌ، فقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ: «ارْكَبْهَا وَيْلَكَ».
[خ¦2754]
(1/367)
قال
ابن بطال: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله جلَّ وعزَّ، وقطعه عن
ملكه، وانتفاعُه بشيءٍ منه رجوعٌ في صدقته، وقد نهى سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك، وإنَّما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك في الوقف، أو أن يفتقر
المُحبِسُ أو ورثتُه فيجوز لهم الأكل منه.
قال ابن القَصَّار: من حبس دارًا أو سلاحًا أو عبدًا في سبيل الله جلَّ وعزَّ
فأنفذ ذلك في وجوهه زمانًا، ثمَّ أراد أن ينتفع به مع النَّاس، فإن كان من حاجة
فلا بأس.
وعن مالك: من حبس أصلا تجري غلته على المساكين، فإنَّ ولده يُعطون منه إذا
افتَقَروا، وكانوا يوم مات أغنياء، غير أنَّهم لا يُعطون جميع الغلَّة مخافة أن
يندرس الحبس، ويكتب على الوِلْد كتاب أنَّهم إنَما يُعطون منه ما أُعطوا على
المسكنة، وليس على حق لهم فيه دون المساكين.
واختلفوا إذا أوصى بشيء للمساكين، فقال مطرف: أرى أن يُعطوا من ذلك على المسكنة
وهم أولى من الأباعد.
وقال ابن الماجشون: إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أُعطُوا منه، وإن كانوا
مساكين لم يُعطوا منه؛ لأنَّه أوصى وهو يعرف حاجتهم، فكأنه أزاحهم عنه.
وقال ابن القاسم: لا يعطوا منه شيئًا، مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى. قال: وقول
مطرف أشبه.
وقال الدَّاودي: ذِكْر البخاري [26/أ]
%ج 4 ص 48%
لاشتراط عمر لا حجَّة له فيه؛ لأنَّ عمر أخرجها عن يده ووليها غيرُه، فجعل لمن
وليها أن يأكل على شرطه، ولو اعتبر هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي
هِبَتِهِ» فإذا انتفع ببعض صدقته فقد عاد فيها، وإن اشترط في أصل عطيته أن ينتفع
به فلم تخرج عطيته عن يده.
(1/368)
وقال
ابن المنير: وجه المطابقة فيه أنَّ المخاطب يدخل في خطابه، وهو أصل مختلف فيه،
ومالك في مثل هذا يحكم بالعرف حتَّى يخرج غير المخاطب أيضًا من العموم لقرينة
عرفيَّة، كما إذا أوصى بمال للمساكين وله أولاد، فلم يقسم حتَّى افتقروا، ففيه قول
ابن القاسم ومطرف -يعني: المَذْكُورَيْنِ قبلُ.
وقال ابن المنيِّر: يحتمل أنَّه لما ترك رخصة سائغة له في الشَّرع وأمر بذلك مرات
خاف أن يقع فيما يستحقه من مكروه.
قال الدَّاودي: وليس فيها أيضًا حجَّة لما بوَّب له؛ لأنَّ مهديها إنما جعلها لله
جلَّ وعزَّ إذا بلغت مَحِلَّها، وأبقى مِلكه عليها، مع ما عليه فيها من الخدمة من
السَّوْق والعَلف، ألا ترى أنَّها إذا كانت واجبة أنَّ عليه بدلها إن عُطبت قبل
مَحِلِّها؟ وإنَّما أمره صلى الله عليه وسلم بركوبها لمشقَّة السَّفر، ولأنَّه لم
ير له مركبًا غيرها.
قال ابن بطَّال: ذكر ابن الموَّاز عن مالك أنَّه إن اشترط في حبسه أن يليه هو لم
يَجُز.
وعن ابن عبد الحكم: قال مالك: إن جعل الواقفُ الوقفَ بيد غيره، يحوزه، ويجمع
غلَّته ويدفعها إلى الذي حبسه يلي تفريقه، وعلى ذلك حبس، أنَّ ذلك جائز.
وقال ابن كنانة: من حبس ناقته في سبيل الله فلا ينتفع بشيءٍ منها، وله أن ينتفع
بلبنها لقيامه عليها.
فمن أجاز للواقف أن يليه فإنَّما يجوِّز له الأكل منه بسبب ولايته عليه، كما يأكل
الوصيُّ من مال يتيمه بالمعروف من أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البخاري
في هذا الباب، ولم يُجِز مالك للواقف أن يلي وقفه؛ قطعًا للذَّريعة إلى الانفراد
بغلَّته، فيكون ذلك رجوعًا فيه.
واختلف في الوقف إذا لم يُخرجه الواقف من يده إلى أن مات:
فقالت طائفة: يصحُّ الوقف ولا يفتقر إلى قبض، وهو قول أبي يوسف والإمام الشَّافعي.
وقالت طائفة: لا يصحُّ الوقف حتى يخرجَه عن يده ويقبضَه غيرُه، وهذا قول ابن أبي
ليلى، ومالك، ومحمد بن الحسن.
قال: وحجة الأوَّلين: بأنَّ [26/ب]
(1/369)
%ج 4
ص 49%
عمر وعليًا وفاطمة رضي الله عنهم أوقفوا أوقافًا، وأمسكوها بأيديهم، وكانوا يصرفون
الانتفاع منها في وجوه الصدقة، فلم يبطل.
واحتج الطَّحاوي أيضًا بقوله: وأيضًا أفعال العبادات على ضروب؛ فمنها العِتاق، ينفذ
بالقول؛ لأنَّ العبد إنَّما يزول ملك مولاه عنه إلى الله جلَّ وعلا، ومنها الهبات
والصَّدقات، ولا تنفذ بالقول حَتَّى يكون معها القبض من الذي مَلَكَها.
فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيِّها هي أشبهُ فنعطفَه عليها، فرأينا الرَّجل إذا
وقف أرضه أو داره، فإنَّما ملك الذي أوقفها عليه منافعها، ولم يملك من رقبتها
شيئًا، إنَّما أخرجها من ملك نفسه إلى الله جلَّ وعزَّ، فثبت أنَّ نظير ذلك ما
أخرجه من ملكه إلى الله جلَّ وعزَّ، فكما كان ذلك لا يُحتاج فيه إلى قبض مع القول،
كذلك الوقف لا يُحتاج فيه إلى قبض مع القول، وأيضًا فإنَّ القبض لو أوجبناه
فإنَّما كان القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضُه إيَّاه وغيرُ قبضه سواء، فثبت
قول أبي يوسف. انتهى.
وإلى هذا ذهب البخاري، مستدلًّا من قوله: «فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ فِي
أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ». وأنَّ الوقف لم يخرج من يد أبي طلحة، وحجَّةُ من
جعل القبض شرطًا في صحة الوقف إجماع أئمَّة الفتوى على أنَّه لا تنفذ الهبات
والصَّدقات بالقول حتَّى يقبضها الذي ملكها.
ألا ترى أنَّ أبا بكر قال في مرضه لابنته عائشة رضي الله عنها: «وَلَوْ كُنْتِ
حُزْتِيْهِ لَكَانَ لَكِ»، وقد تقدَّم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: (أَرَىْ أَنْ تَجْعَلَهَا فِي
الأَقْرَبِيْنَ) لا حجَّة فيه لمن أجاز الوقف، وإن لم يخرج عن يد الذي أوقفه؛
لأنَّه ليس في الحديث أنَّ أبا طلحة لم يُخرج الوقفَ عن يده، ولو استدل:
(فَقَسَمَهَا أَبُوْ طَلْحَةَ فِيْ أَقَارِبِه) لساغ ذلك، ولم يكن من استدلَّ بأنه
لم يُخرجها عن يده أولى منه بالتَّأويل.
(1/370)
واختلفوا
إذا قال: هذه الدار، أو هذه الضَّيعة وقف، ولم يذكر وجهًا تُصرفُ فيه، فعند مالك
أنَّه يصحُّ الوقف، وكذلك لو قال: على أولادي وأولادهم، ولم يذكر بعدهم الفقراء،
أو بني تميم ممن لم ينقطع نسلهم، فإنَّه يصحُّ الوقف، ويرجع ذلك إلى الفقراء
عَصَبَةً، فإن لم يكونوا فقراء فإلى المسلمين، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو أحد
قولي الشافعي، والقول [27/أ]
%ج 4 ص 50%
الثَّاني: أنَّه لا يصحُّ الوقف.
قال المُهلَّب: ولا حاجة بنا إلى أن يذكرَ على من يكون الوقف؛ لأنَّ الله تعالى قد
بيَّن أصناف الَّذين تجب لهم الصَّدقات في كتابه العزيز.
وذكر البخاري في:
بَابِ إِذَا قَالَ: أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ [1] عَنْ أُمِّي فَهُوَ
جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ
2756 - عن مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَنبأ ابْنُ
جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى، سَمِعَ عِكْرِمَةَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ
إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ
أَنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا. [خ¦2756]
وأعاد ذكره في باب الإشهاد في الوقف، وزعم الدَّاوديُّ أنَّ قول البخاريِّ هذا
حَمْلٌ للشَّيء على ضدِّه وتمثيلُه بغير جنسه؛ لأنَّه هو يروي أنَّ عمر ولَّاها
ابنه، وأنَّ أبا طلحة دفعها إلى حسان، ويقول [1]: هذا تحكُّم، ودفع الظاهر [2] عن
وجهه.
قال ابن المنيِّر: قال بعضهم: أراد البخاريُّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
أخرج عن أبي طلحة ملكَه بنفس قوله: (هِيَ صَدَقَةٌ). وهذا كقول مالك: إنَّ
الصَّدقة تلزم بالقول، وتتمُّ بالقبض.
(1/371)
وأمَّا
(يَعْلَى) فذكر الإسماعيلي، وابن نعيم، والحُميديُّ أنَّه يَعْلَى بنُ مُسْلِم،
وزعم الطَّرْقي أنَّه ابن حكيم، وكأنه غير جيِّد.
و (مُحَمَّدٌ) قال الجيَّاني: نسبه شيوخنا إلى ابن سلام.
وذكر البخاري في:
بَابِ إِذَا تَصَدَّقَ، أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ، أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ،
أَوْ دَوَابِّهِ، فَهُوَ جَائِزٌ
2757 - حديث كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ في تخلُّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ جلَّ
وعزَّ، وَإِلَى رَسُولِهِ. قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكَ». [خ¦2757]
وذكر شيخنا العلامة القشيري في «شرح العمدة» أنَّه ورد في بعض الأخبار أنَّ
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ ثُلُثَ مَالِكْ».
قال ابن بطَّال: اتَّفق مالك، والشَّافعي، والكوفيُّون، وأكثر العلماء أنَّه يجوز
للصَّحيح أن يتصدَّق بماله كلِّه في صحَّته، إلا أنَّهم استحبُّوا أن يُبقيَ لنفسه
ما يعيش به؛ خوفًا من الحاجة، وما يُتَّقى من آفات الفقر؛ لقوله: «فَهُوَ خَيْرٌ
لَكْ» فحضَّه صلى الله عليه وسلم على الأفضل. واستدلَّ البخاريُّ أنَّه لما جازت
[27/ب]
%ج 4 ص 51%
الصَّدقة بالعقار وَوَقْفِ غلَّاتها للمساكين جاز ذلك في الرَّقيق، والدَّوابِّ؛
إذ المعنى واحد في انتفاع المساكين بغلَّاتها، وبقاء أصولها.
قال الدَّاودي: مذهب مالك أنَّ من تصدَّق بجميع ماله يجوز له ذلك، إذا كانت له
صناعة أو حِرفة يعود بها على نفسه وعياله، وإلا فلا ينبغي له ذلك.
أنشد ابن عبدِ ربِّه في «الْعِقْد»:
اسْعَد بمالِكَ في الحياةِ فإنَّما يبقَى خِلافَك مُصلحٌ أو مُفْسِدٌ
فإذا جَمعتَ لمُفْسِدٍ لم تُغْنِه وأَخُو الصَّلَاحِ قَلِيْلُه يَتَزَيَّدُ
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ:
(1/372)
{وَإِذَا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]
2759 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّ نَاسًا
يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلاَ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ،
وَلَكِنَّهَا مِمَّا يتَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ، وَالٍ يَرِثُ وَذَلكَ
الَّذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ [1] لاَ يَرِثُ، فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ
بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ». [خ¦2759]
هذا الأثر مما تفرَّد به البخاري، وذكره في التَّفسير من حديث عكرمة، تابعه سعيد،
عن ابن عباس. يعني: هذا بزيادة، قال: هي محكمة وليست بمنسوخة.
في تفسير أبي محمد بن أبي حاتم: وممن قال بذلك وأنَّها محكمة: عبد الرحمن بن أبي
بكر، وأبو العالية، والحسن، ومحمد بن سيرين، والشَّعْبي، وسعيد بن جبير، ومجاهد،
ومكحول، والزُّهري، والنَّخَعي، وعطاء، ويحيى بن يَعْمر
قال: وفد حدَّثنا محمَّد بن الصَّبَّاح، حدَّثنا حجَّاجُ، عن ابن جُريج وعثمانَ
بنِ عَطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاس في قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ}
الآية. نسختها آية المواريث، فجعل لكلِّ إنسان نصيبه مما ترك، مما قلَّ منه أو
كثر.
وروينا في كتاب «النَّاسخ» لأبي داود، فتبين أنَّ حجَّاجًا هذا هو ابن محمد، وذكر
نسخها أيضًا عن سعيد بن المسيب، والضَّحَّاك.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة، وأبي الشعثاء، وأبي صالح، والقاسم بن محمد، وأبي
مالك، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وربيعة، ومقاتل نحو ذاك.
وقال أبو مسعود في «الأطراف» هذا الحديث عند الناس مرسل. انتهى.
كأنه يريد: مرسل صحابي، وليس بجيِّد، إنَّما هو موقوف على صحابي، لا مرسل؛ لأنَّ
الإرسال لا بد فيه من ذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/373)
وزعم
النَّحَّاس أنَّ الذين قالوا: إنها محكمة - وَتُؤُوِّلَ قوله على الندب -: عُبيدة،
وعُروة، وسَعيد بن جُبير، ومجاهد، وعطاء، والزُّهري، والحسن، والشَّعْبي، ويحيى بن
يَعْمر، وهو مروي عن ابن عبَّاس.
قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل
الخير، وزعم بعض [28/أ]
%ج 4 ص 52%
أهل النَّظر أنَّه لا يجوز أن يكون هنا نسخ؛ لأنَّ الذي يقول أنَّها منسوخة لا
يخلو أمره من إحدى جهتين:
إمَّا أن تكون كانت ندبًا ثم نُسخت، وهذا محال؛ لأنَّ النَّدب إلى الخير لا يُنسخ؛
لأنَّ نسخه: لا تفعلوا الخير، وهذا محال.
وإمَّا أن تكون كانت واجبة فنُسخت، وهذا أيضًا لا يكون؛ لأنَّ قائله يقول: إنَّه
كان إذا حضر أولوا القُربى واليتامى والمساكين، ولم يُعطوا [2] العصبة، فنُسخ ذلك
بالفرض، وهذا لم يُعرف قطُّ في جاهلية ولا إسلام، وأيضًا فإنَّ الآية إذا أثبتت
فلا يقال فيها إنَّها منسوخة، إلا أن يبقى حكمها، على أنه قد رُوي عن ابن عباس أنه
قال: هذا مخاطبة للموصي نفسه، وكذا قال ابن زيد: قيل للموصي: أوصِ لذوي القربى
واليتامى والمساكين، واسْتَدلَّ على هذا بأنَّ بعده: {وَقُولُوْا لَهُمْ قَوْلًا
مَعْرُوْفًا} [النِّسَاء: 5]، أي: إن لم توصوا لهم فقولوا لهم خيرًا.
وهذا القول اختيار محمد بن جرير.
(1/374)
وفي
«المُحَلَّى»: فرض على الورثة البالغين، وعلى وصيِّ الصِّغار، ووكيل الغائب: أن
يُعْطُوا حين القسمة ما طابت به أنفسهم مما لا يُجحف بالورثة، ويجبرهم الحاكم على
ذلك إن أَبَوا. وتلا الآية الكريمة، وذكر ما روي عن ابن عباس وأبي موسى: وقسم
لحِطَّان بقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قال: وصحَّ أيضًا عن عُروة، وابن
مسعود، وابن سِيرين، وحميد بن عبد الرَّحمن الحِميري، ويحيى بن يَعْمر،
والشَّعْبي، والنَّخَعي، والزُّهري، والحسن، وأبي العَالية، والعلاء بن بدر، وسعيد
بن جُبير، ومُجاهد، ورُوي عن عطاء، وهو قول أبي سليمان.
قال: وروي أنها ليست بواجبة عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وأبي مالك، وزيد بن
أَسْلم، وبه يقول أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
قال ابن حزم: ولا نعلم لأهل هذا القول حجة أصلًا. انتهى.
إن أراد أصحابَ المذاهب فغير جيِّد؛ لأنَّه هو ذكر حجَّتهم، وإن كان أراد ابن
عبَّاس، ومن بعده من التابعين، فليس بقول العاقلين.
وذكر ابن الجوزي: أكثر المفسرين، قالوا: المراد بأُولي القربى هنا: من لا يرث،
وفسَّروا قوله: {فَارزُقُوْهُم} فقال قوم: أعطوهم من المال، وقال آخرون: أطعموهم،
وذلك على سبيل الاستحباب، وذهب قوم إلى أنَّ ذلك واجب في المال، فإن كان الورثة
كبارًا تولَّوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارًا تولى ذلك وليهم.
قال الطَّبري: قال بعضهم: ليس لوليِّ المال أن يقسم لهم من ماله، لأنه لا يملك من
[28/ب]
%ج 4 ص 53%
المال شيئًا، ولكنَّه يقول لهم قولًا معروفًا، قاله ابن جبير، والحسن، وابن عباس.
وقول عائشة:
2760 - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أُمِّيْ
افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ
عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ تَصَدَّق عَنْهَا». [خ¦2760]
(افتُلِتَتْ): أي ماتت فجأة، وكلُّ شيءٍ عُوجِل مبادرةً فهو فلتة.
(1/375)
قال
ابن قُرْقُول: كذا ضبطناه (نَفْسَها) بالفتح على المفعول به الثَّاني، وبضمِّها
على الأوَّل، والنَّفْس مؤنَّثة وهي هنا: الرُّوح، وقد تكون النَّفس بمعنى الذات.
و (أُرَاهَا) بضمِّ الهمزة: أي أظنُّها.
وفيه جواز صدقة التَّطوُّع عن الموتى، ومثله حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة،
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الِإنْسَانُ انْقَطَعَ
عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ؛ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه،
أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُوْ لَهْ».
قال ابن المُنذر: وأما العِتق - يعني عن الميِّت - فلا أعلم فيه خبرًا يثبت عن
سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن عائشة أنَّها أعتقت عبدًا عن
أخيها عبد الرحمن، وكان مات ولم يوصِ، وأجاز ذلك الشَّافعي، قال بعض أصحابه: لما
جاز أن يُتَطوَّع بالصَّدقة، وهي مال، جاز أن يُتطوَّع بالعتق؛ لأنَّه مال.
وفرَّق غيره بينهما، وقال: إنَّما أجزنا الصَّدقة بالمال بالأخبار الثَّابتة،
والعِتْق لا خبر فيه، بل في قوله صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَق»
دليل على منعه؛ لأنَّ الحيَّ هو المُعْتِق بغير أمر الميِّت، فله الولاء، فإذا ثبت
له الولاء، فليس للميت فيه شيء. انتهى.
قد ثبت في حديث سعد بن عبادة: «فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ».
وقد اختلفت الآثار في النَّذر الذي كان على أم سعد؛ فقيل: إنَّه كان عتقًا، وذكره
البخاري في مواضع منها: «باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز وكذلك
الصَّدقة».
قال
المهلب: إذا لم يبيِّن الحدود في الوقف، إنما يجوز إذا كانت الأرض معلومة يقع
عليها، ويتعين به، كما كان بئر حَا وكالمِخْراف معيَّنًا عند من أشهده، وعلى هذا
الوجه تصحُّ التَّرجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معيَّنًا، وكانت له مخاريف وأموال
كثيرة فلا يجوز الوقف إلا بالتَّحديد والتَّعيين، ولا خلاف في هذا.
وقال ابن المنيِّر: الوقف لازم بالنية واللفظ المُشار به إلى المقصود، فقد
يَتَلفَّظ باسمه العلم وتحديدِه، وقد يَتَلفَّظ باسمه المتواطئ خاصة، وقد يَذكر
العَلَم ولا يَذكر المحدوديَّة.
و (المِخْرَافُ): [29/أ]
%ج 4 ص 54%
الحائط. وقد ذكره منكَّرًا متواطئًا، لكنه قصد مكانًا أشار إليه بلفظه مطابقا
لنيَّته، وكلاهما لازم، وترجمة البخاري مطابقة، ووهم المهلَّب في قوله: لا خلاف في
هذا، بل لا خلاف فيما إذا أورده البخاري؛ لأنَّه إنَّما تعرَّض لجواز الوقف. وقد
ثبت أنَّ الوقف على هذه الصُّورة لازم له.
قال ابن بطَّال: فيه أنَّ لفظ الصَّدقة يُخرج الشيء المتصَّدق به عن ملك الذي
يملكه قبل أن يتصدَّق به، ولا رجوع له فيه، وهو حجَّة لمالك في إجازته للموقوف له
فيه، وللمُتَصَدَّقِ عليه المطالبة بالصَّدقة وإن لم يحُزها حتى يحوزَها، وتصحُّ
له ما دام المُتصدِّق والواهب حيًّا، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيُّون والشَّافعي:
أنَّ اللَّفظ بالصَّدقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعيَّن وغيره حتى تُقبض.
وفي الحديث: أنَّ من تصدَّق بشيء من ماله بعينه، أنَّ ذلك يلزمه، وإن كان أكثر من
ثلث ماله.
قال ابن المنذر: وفي ترك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار فعل المرأة
التي افتُلتَت نفسُها ولم توصِ، دليل أنَّ تارك الوصيَّة غير عاص؛ إذ لو كان فرضًا
لكان عِصيانًا، ولكان صلى الله عليه وسلم يخبر به، وأمَّا قضاء الدَّيْن على [1]
الميِّت فلا خلاف في قضائه، وإنَّما الخلاف في قضاء النَّذْر عنه.
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(1/377)
{وَابْتَلُوا
اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}
[النساء: 7] وقال: {حَسِيْبًا} [النساء: 6] أي: كَافِيًا، وَمَا لِلْوَصِيِّ أَنْ
يَعْمَلَ فِي مَالِ اليَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ.
ثم ذكر حديث ابن عمر:
2764 - أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ: ثَمْغٌ. الحديث.
[خ¦2764]
وقد تقدم.
قال المهلَّب: وجه دخول حديث عمر في هذا الباب لأنَّ عمر حبس ماله على أصناف،
وجعله إلى من يليه وينظر فيه، كما جعل مال اليتيم إلى من يليه وينظر فيه، فالنَّظر
لهؤلاء الأصناف كالنَّظر لليتامى؛ لأنَّهم من جملة الأصناف.
وقال ابن المنيِّر: حديث ابن عمر غير مطابق للتَّرجمة؛ لأنَّ عمر هو المالك لمنافع
وقفه، ولا كذلك الوصيُّ على أولاده، فإنَّهم إنما يملكون المال بقسمة الله جلَّ
وعزَّ وتمليكه، ولا حقَّ لمالكه فيه بعد موته، فكذلك كان المختار أنَّ وصيَّ
اليتيم ليس له الأكل من ماله، إلَّا أن يكون فقيرًا فيأكل. واختلف في قضائه إذا
أيسر.
قال ابن بطَّال: وفي قول عمر: (لَا جُنَاحَ عَلَىْ [29/ب]
%ج 4 ص 55%
مَنْ وَلِيَهُ) يدخل فيه الغنيُّ والفقير، وفي قوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا،
فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النِّساء: 6] أنَّه على النَّدب، فإن أكل بالمعروف لم يكن عليه
جُناح.
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
ذكر الطَّبري في تفسيره عن السُّدِّي: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
اليَتَامَى ظُلْمًا} يبعثون يوم القيامة ولهب النار يخرج من أفواههم، ومن مسامعهم،
ومن آذانهم، وآنافهم، وأعينهم، يعرفهم كل من رآهم بأكله [1] مال اليتيم.
(1/378)
ومن
حديث أبي هارون العَبْدي، عن أبي سعيد، قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن
ليلة أُسريَ به قال: «فَنَظَرْتُ فَإِذَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ
الْإِبِلِ، وَلَقَدْ وُكِّلَ لَهُمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ، ثُمَّ
يَجْعَلُ فِيْ أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ،
قُلْتُ: يَا جِبْرِيْلُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ
يَأَكُلُوْنَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىْ».
وعن زيد بن أسلم، قال: «قال لي: هَذِهِ لِأَهل الشِّرْكِ حِينَ كَانُوا لَا
يُوَرِّثُونهُم، وَيَأكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ».
وقوله: (وَسَيُصْلَوْنَ) مأخوذ من الصِّلا والاصطلاء بالنار، وذلك التَّسَخُن بها،
ثم استُعمل في كلِّ من باشر شدََّة أمر من الأمور؛ من حرب، أو قتال، أو غير ذلك.
واختلفت القِراءة في ذلك، فقراءة عامَّة أهل المدينة والعراق: (وَسَيَصْلَوْنَ)
بفتح الياء على التَّأويل الذي قلناه، وقرأ بعض الكوفيِّين وبعض المكيِّين:
(وَسَيُصْلَوْنَ) بضمِّ الياء، يعني: يحرقون، من قولهم: شاة مصليَّة، يعني:
مشويَّة، والفتح في ذلك أولى من الضمِّ.
والسَّعِيْرُ: شدَّة حرِّ جهنَّم، ومنه قيل: (استعرت) الحرب، إذا اشتدت، و إنما هو
(مسعورة). أي: موقودة مُشعِلة شديد حرُّها، ثم صُرِّف إلى سعير، فتأويل الكلام:
وسيصلون نارًا مسعورة.
وفي «الكشاف» لجار الله: لمَّا أكلوا ما يجرُّ إلى النَّار صار كأنَّه نار في
الحقيقة، يقال: أكل في بطنه، وهو في بعض بطنه. و (سَعِيْرًا) نار من النِّيران
مبهمة الوصف نعوذ بالله منها.
(1/379)
2766
- حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ
بِلاَلٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ
المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ
بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، [30/أ]
%ج 4 ص 56%
وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ
المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ». [خ¦2766]
من الكبائر المذكورة في الصَّحيح أيضًا عقوق الوالدين، وشهادة الزُّور،
والنَّميمة، وعدم الاستبراء من البول، واليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام.
وقال العلَّامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام في كتاب «القواعد»: إذا أردت
معرفة الفرق بين الصَّغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص
عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصَّغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد
الكبائر أو أَرْبَتْ عليه فهي من الكبائر.
فمن شتم الرَّبَّ جلَّ وعلا، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو استهان بالرُّسل، أو
كذَّب واحدًا منهم صلوات الله عليهم وسلامه، أو ضمَّخ الكعبة المشرَّفة بالعذرة،
أو ألقى المصحف في القاذورات فهي من أكبر الكبائر، ولم يُصرِّح الشَّرع بذكرها.
قال شيخنا القُشَيري: هذا الذي قاله عندي داخلٌ فيما نصَّ عليه الشَّرع بالكفر، إن
جعلنا المراد بالإشراك بالله مطلق الكفر.
(1/380)
قال
ابن عبد السَّلام: وكذا لو أمسك امرأة محصنة ليزني بها، أو أمسك مسلمًا لمن يقتله،
فلا شكَّ أنَّ مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذا
لو دلَّ الكفار على عورات المسلمين، مع علمه أنهم يُستأصلون بدلالته، ويُسبون
ويُغنمون، فإنَّ نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولِّيه يوم الزَّحف بغير عذر مع
أنه من الكبائر. وكذلك لو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه يقتل بسببه.
قال: وقد نصَّ الشَّارع على أنَّ شهادة الزُّور، وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن
وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في حقير فيجوز أن يُجعلا من الكبائر، فطامًا
عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر وإن لم تتحقَّق المفسدة،
ويجوز أن يُضبط ذلك بنصاب السَّرقة.
قال: والحكم بغير الحقِّ كبيرة؛ فإن شاهد الزُّور متسبِّب، والحاكم مباشر، فإذا
جعل السَّبب كبيرة فالمباشر أولى.
قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها: كلُّ ذنب قُرن به وعيدٌ، أو حدٌّ، أو
لعنٌ.
فعلى هذا: كل ذنب علم أنَّ مفسدته كمفسدة ما قُرن به الوعيدُ، أو الحدُّ، أو
اللعنُ، أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة.
ثم قال: والأولى أن تضبط الكبيرة [30/ب]
%ج 4 ص 57%
بما يُشعر بتهاون مرتكِبِها في دينه؛ إشعارًا مُصَغِّرًا لكبائر المنصوص عليها.
وقال العلماء: إنَّ الإصرار على الصَّغيرة يجعلها كبيرة، والإصرار هو أن تتكرَّر
منه الصغيرة تكرارًا يشعر بغلبة حبٍّ لا يدفعه إشعارُ ارتكاب الكبيرة بذلك، وكذلك
إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع، بحيث يُشعر مجموعها ما يُشعر به أصغر الكبائر.
وقيل: الإصرار استمرار العزم على المعاودة، أو باستدامة الفعل، بحيث يدخل فيه ذنبه
في حيِّز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا عظيمًا.
قال ابن الصَّلاح: وليس لزمان ذلك وعدَدِه حصرٌ، وقد سمعت بعض العلماء يقول:
الإصرار هو أن يمضي عليه وقت الصلاة وما استغفر من ذلك الذنب.
(1/381)
قال
القرطبي: (المُوْبِقَات)، أي المهلكات، جمع مُوبِقة، من أوبق، ووابقة اسم فاعل من
وَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا: إذا هلَكَ، والمَوْبِقُ: مَفْعِلٌ منه، كالمَوْعِد، وفيه
لغة ثانية: وَبِقَ، بكسر الباء، يَوْبَقُ بفتحها، وَبَقًا وفيه لغة ثالثة: وَبِقَ
يَبِقُ بالكسر فيهما.
قال: وقوله: (اجْتَنِبُوْا السَّبْعَ) ليس فيها ما يدل على عدم اجتناب غيرها،
ويحتمل أن يكون سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ بها في ذلك الوقت،
ثم أُوحِي إليه بعد ذلك غيرُها، أو تكون (السَّبْع) هي التي دعت إليها الحاجة ذلك
الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر.
واختلف العلماء في الفرق بينها وبين الصَّغائر، وعن ابن مسعود: الكبائر جميع ما
نهى الله جلَّ وعزَّ عنه من أول سورة النساء إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النِّسَاء: 31].
وعن الحسن: هي كلُّ ذنب ختمه الله تعالى بنارٍ، أو لعنةٍ، أو غضبٍ. وعن ابن
عبَّاس: كلُّ ما نهى الله عنه فهي كبيرة، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني
وغيره.
وعن عِياض: هذا مذهب المحقِّقين؛ لأنَّ كلَّ مخالفة فهي بالنِّسبة إلى جلال الله
جلَّ وعزَّ كبيرة. قال القرطبي: وما أظنه صحيحًا عنه _ يعني ابن عبَّاس من عدم
التَّفرقة بين المنهيَّات _ فإنَّه قد فَرَّق بينهما في قوله جلَّ وعزَّ: {إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}
[النساء: 31]، وقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم: 32]، فجعل من المنهيَّات كبائر وصغائر، وفرَّق بينهما
في الحكم لَمَّا جعل [31/أ]
%ج 4 ص 58%
(1/382)
تكفير
السَّيِّئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللَّمَم من الكبائر
والفواحش، فكيف يخفى مثل هذا الفرق على حَبْر القرآن؟ فدلَّ أنَّ الرواية عنه بذلك
لا تصح، أو هي ضعيفة، وكذلك أكثر ما رُوي عنه، فقد كُذب عليه كثيرًا.
والصَّحيح إن شاء الله أنَّ كلَّ ذنب أَطلق الشَّرع عليه كبيرًا أو عظيمًا، أو
أخبر بشدَّة العقاب عليه، أو علَّق عليه حدًّا، أو شدَّد النَّكير عليه وغلَّظه،
وشهد بذلك كتابُ الله، أو سنَّةٌ، أو إجماعٌ، فهو كبيرة.
وفي كتاب «البسيط» للغزالي: إنكار الفرق بين الصَّغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه.
والسِّحْرُ: فعلُه، أو تعلُّمه، أو تعليمه من الكبائر، وقال بعض أصحاب الشَّافعي:
تعلُّمُه ليس بحرام، بل يجوز؛ ليُعرفَ ويُردَّ على فاعله، ويُميَّزَ عن الكرامة
للأولياء. وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السِّحْر.
وفي «الموطَّأ»: مالك، عن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة، أنَّه بلغه أنَّ حفصةَ
زوجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دَبَّرَتها،
فأمرت بها فقُتِلت.
قال مالك: السَّاحر الذي يعمل السَّحر، ولم يعمل ذلك له غيرُه، هو مثل الذي قال
الله جلَّ وعزَّ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ
مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 102] فأرى أن يُقتلَ إذا عمل ذلك هو نفسه.
قال أبو عمر: قد روي هذا الحديث عن نافع، عن حفصة، وعن نافع، عن ابن عمر. قال ابن
عيينة: أخبرني من سمع نافعًا يحدثه عن حفصة: أنَّها قتلت جارية لها سحرتها.
(1/383)
وذكر
عبد الرزَّاق قال: أنبأ عبد الله أو عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: «أنَّ
جَارِيةً لحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا، واعْتَرَفَت بِذَلكَ، فَأَمَرَتْ بِهَا عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ الخَطَّابِ فَقَتَلَهَا، فَأْنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهَا عُثْمَان» فَقَالَتْ: «أَتُنْكِرُ عَلَىْ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ مِن
امْرَأَةٍ سَحَرَتْهَا وَاعْتَرَفَتْ» فَسَكَت.
وعند مالك: عن أبي الرِّجال، عن أمِّه عَمْرة، عن عائشة: أنَّها أَعْتَقَتْ
جَارِيَةً لَهَا عَنْ دُبُرٍ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ مَرِضَت بَعْدَ
ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا سَيِّدِي، فَقَلَ: إِنَّكِ
مَطبُوبَةٌ، فقَالَتْ: ومَنْ طَبَّنِي؟ فقَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ نَعْتِهَا كَذَا
وَكَذَا، فِي حِجْرِهَا صَبِيٌّ قَدْ بَالَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ادْعُ لِي
فُلانَةً، لِجَارِيَةً لَهَا تَخْدُمُهَا، فَوَجَدُوهَا فِي بَيْتِ جِيرَانٍ
لَهَا، فِي حِجْرِهَا صَبِيٌّ قَدْ بَالَ، فَقَالَتْ: حَتَّى أَغْسِلَ بَوْلَ
الصَّبِيِّ، فَغَسَلَتْهُ، ثُمَّ جَاءَتْ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ:
سَحَرْتِينِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَتْ: أَحْبَبْتُ الْعِتْقَ،
فقَالَتْ عَائِشَةُ: فَوَاللَّهِ لا [31/ب]
%ج 4 ص 59%
تُعْتَقِينَ أَبَدًا، فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ ابْنَ أُخْتِهَا أَنْ يَبِيعَهَا
مِمَّنْ يُسِيءُ مَلْكَتَهَا مِنَ الأَعْرَابِ.
قال أبو عمر: هذا الحديث رواه مالك في موطَّأه، فليس عند يحيى وطائفة معه من رواة
الموطأ، وأثبت حديث حفصة؛ لأنَّه هو الذي يذهب إليه من قَتْل السَّاحر، وهو مذهب
عمر ابن الخطاب، وابنه عبد الله، وقيس بن سعد، وجندب رجل من الصحابة.
وفي «الأقضية» لابن الطَّلَّاع: قتلت عائشة مُدَبَّرة تسحرها فيما يذكر، ولم يثبت،
وإنَّما ثبت أنها باعتها.
(1/384)
قال
أبو عمر: روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن أبي الجعد، أن قيس بن سعد
إذ كان على مصر كان سره يفشو، فشقَّ ذلك عليه. فقيل له: إنَّ هنا رجلًا ساحرًا
فبعث إليه، فسأله، فقال: إنَّا لا نعلم ما في الكتاب حتى يفتح، فإذا فُتح علمنا ما
فيه، فأمر به قيس فقُتِل.
وعن سفيان، عن عمَّار الدُّهْنِي: أنَّ ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة، يمشي على
الحَبْل، ويدخل في أَسْتِ حمارٍ، ويخرج من فمه، فاشتمل جندبُ على سيفه فقتله.
وروي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَربَةٌ
بِالسَّيفِ». رواه التِّرمذي بسند فيه إسماعيل بن مسلم المكي، وفيه ضعف، ولمَّا
سأل محمدًا عنه قال: هذا لا شيء، وقال ابن المنذر: وفي سنده مقال.
قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي، عن الحسن بن محمد الزَّعفراني، حدَّثنا سفيان، عن
عمرو ابن دينار، سمع بَجَالة قال: كنت كاتبا لجَزْء بن معاوية، عمِّ الأحنف،
فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا
ثلاث سَواحر.
وعند أبي نعيم، عن عبد الله بن عصام الأشعري يرفعه: لعن عشرة، العاضهة
والمُعتَضِهة، _ يعني الساحرة_ والواشِرة والموتَشِرة. الحديث.
وقال ابن قتيبة في كتاب «المختلف»: قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثات في عقد المعاضه المعضه
قال أبو عمر: قد قال جماعة من فقهاء الأمصار: يقتل الساحر اتِّباعًا _ والله أعلم
_ لمن ذكرنا من الصَّحابة، وبنحو ما نزع به مالك، وأثبت [1] ذلك طائفة منهم
الشافعي وداود فقالا: يقتل الساحر إذا تبيَّن أنَّه من عمله مات المسحور، فإن كان
هلك قتل به قَوْدًا
قال الشَّافعي: وإن قال: إنَّ عملي هذا قد أخطئ به القتل وأصيب، وقد مات من عملي
قوم، كانت عليه الدِّية في ماله، فإن قال: مرض من سحري ولم يمت، فأقسم أولياؤه إذا
مات [2]، وكانت فيه الدِّية.
(1/385)
وقال
داود: لو قال الساحر أنا أتكلم بكلام أَقتُل به، لم يجب قتله؛ لأنَّ الكلام لا
يَقتُل به أحدٌ أحدًا، وقد جاء بمحال خارج عن العادات.
وقد قيل: إن السِّحر لا حقيقة في شيء منه [32/أ]
%ج 4 ص 60%
وإنَّما هو تخيُّل، يُتخيَّل للإنسان الشَّيء على غير ما هو به، احتجاجًا بقوله
جلَّ وعزَّ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]
وبقول عائشة لما سُحر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ يُخيَّلُ إِلَيهِ
أَنَّه يَأِتي النِّسَاء».
قال أبو عمر: والقول الأوَّل أعلى من جهة الاتِّباع، وأنَّه لا مخالف فيه عن
الصَّحابة، إلا عن عائشة، ومن زعم أنَّ السَّاحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة،
ويقدر على نقل الأجسام، وهلاكها، وتبديلها، كما حكى الطَّبري في تفسيره من حديث
ابن أبي الزِّناد، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: أَنَّ امْرَأَةً ذَكَرَت
لَهَا أَنَّهَا جَاءَت إِلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهَا زَرَعَت، وَطَلَعَ،
وَيَبِسَ، وطَحَنَتهُ، وَعَجَنَتهُ، وخَبَزَتهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
قال أبو [3] عمر: فهذا يرى قتل السَّاحر؛ لأنه كَفَرَ بالأنبياء صلوات الله عليهم
وسلامه؛ لادعائه مثل آياتهم ومعجزاتهم، وأما من زعم أنَّ السَّحر مخاريق،
وتمويهات، وتخيُّلات، فلا يجب على أصله، إلا أن يَقتل بفعله أحدًا فيُقتل به.
وذكر ابن القصَّار أنَّ مالكًا، وأبا حنيفة، والشَّافعي، ذهبوا إلى أنَّ للسِّحر
حقيقة.
وفي «المبسوط» عن مالك في المرأة تُقِرُّ أنَّها عَقَدَت زوجها عن نفسها، أو غيرها
من النِّساء، قال: تُنَكَّل ولا تُقتل. قال: ولو سَحَرَ نفسه لم يقتل كذلك.
(1/386)
وقال
الباجي في «المنتقى»: قال القاضي أبو بكر، والقاضي أبو محمد في «المعونة»: إنَّ
للسِّحر حقيقة، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] فجعلهم كفَّارًا بتعليمه، فتبيَّن أنَّ له
حقيقة.
وقال الماوَردي: جمهور أهل السُّنَّة وعلماء الأمَّة على إثبات السِّحر، وأنَّ له
حقيقة كحقيقة غيره. وقال أصبغ: لا يُقتل حتَّى يتبيَّن أنَّ ما فعله من السِّحر
كفرٌ، يَكشف عن ذلك مَن يعرف حقيقته، ويُثبِت ذلك عند الإمام؛ لأنَّه معنى يجب به
القتل، فلا يحكم به إلا بعد ثبوته وتحقيقه، كسائر ما يجب به القتل.
وقال هو وابن عبد الحكم: إن كان لسحره مُظهرًا، وقُتل، لم يصلَّ عليه، وماله في
بيت المال، وإن كان مستترًا فماله بعد القتل لورثته من المسلمين، ولا نأمرهم
بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم.
وإن كان الساحر ذميًّا، فقال مالك: لا يقتل إلا أن يُدخِل بسحره ضررًا على
المسلمين، فيكون ناقضًا للعهد فيُقتل، ولا يُقبل منه توبة غير الإسلام، وأمَّا إن
كان لا يسحر [32/ب]
%ج 4 ص 61%
إلا أهل ملَّته فلا يقتل، إلا إذا قتل أحدًا منهم.
قال ابن بطَّال: وعن مالك: لا يُقتل ساحر أهل الكتاب، لقول ابن شهاب، ولكن يُعاقب،
إلا أن يَقتُلَ فيُقْتَلَ، وهو قول أبي حنيفة، والشَّافعي.
وقال القرطبي: هو عند مالك كالزِّنديق؛ لأنَّ العمل بالسِّحر عنده كفر.
وقال الثَّوري: عمله حرام بالإجماع، وأنَّه قد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا،
وتعلُّمُه وتعليمه حرام، فإن تضمَّن ما يقتضي الكفر كفر، وإلا عُزِّر واستتيب، ولا
يُقتل.
قال عِياض: وبقول مالك قال أحمد، وهو مروي عن جماعة من الصَّحابة والتَّابعين.
(1/387)
قال:
وقال أصحابنا: إذا قَتَل بسحره، واعترف أنَّه مات بسحره، وأنَّه يقتل غالبًا
لَزِمه القصاص، وإن قال: مات، ولكنه قد يقتل وقد لا، فلا قصاص، وتجب الدِّية
والكفَّارة في ماله، لا على عاقلته؛ ولا يُتَصَوَّرُ القتلُ بالبيِّنة، إنَّما
يكون باعتراف السَّاحر.
وفي «المُحلَّى»: وبقتل السَّاحر قال أبو حنيفة، وفي «الفتاوى الصُّغرى» لأبي
يعقوب يوسف الخاني [4]: السَّاحر لا يُستتاب في قول أبي حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي
يوسف، والزِّنديق يُستتاب عند أبي يوسف ومحمد، وعن أبي حنيفة روايتان.
قال ابن حزم: ورأى سالم صبيًا قطع خيطًا، ثم تفل فيه، فإذا هو صحيح.
قال العطاف بن خالد المخزومي: سمعت سالمًا يقول: لو كان لي من الأمر شيء لصلبته.
وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنَّ خالد بنَ المهاجر بنِ خالد بنِ الوليد قتل
قِبطيًّا سَحَرَ.
وعن يحيى بن أبي كثير قال: إنَّ غلامًا لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة، فألقاها في
الماء، فَطَفَت، فكتب إليه عمر: إنَّ الله لم يأمر أن تلقيها في الماء، إن اعترفت
فاقتلها.
وعن ابن شهاب قال: يُقتل ساحرُ المسلمين، ولا يُقتل ساحرُ أهل الكتاب؛ لأن
لَبِيدًا لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: وقال به عبد الله بن عمر، وعثمان، وخالد بن المهاجر، وعبد الرحمن
[بن] زيد بن الخطاب.
وعن عبد الرزاق، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صفوان بن سليم، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ قَلِيلًا أَو كَثِيرًا كَان آخِرَ
عَهدِهِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ».
قال عبد الرزاق: حدثنا عبد الرحمن، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد
بن المسيب: أَنَّ عُمرَ أَخَذَ ساحرًا فَدَفَنَه إِلَى صَدرِهِ، ثُمَّ تَرَكَه
حَتَّى مَاتَ.
قال ابن حزم: وفي حديث أبي هريرة بيان أنَّ السِّحر ليس [33/أ]
%ج 4 ص 62%
من الشِّرك، ولكنَّه معصية موبقة كقتل النَّفس.
(1/388)
وفي
«مختلف الحديث» لابن قتيبة: عن ابن عبَّاس، أنَّ سليمان صلى الله عليه وسلم كانت
الشياطين دفنت في خزانته ومواضع مصلاه سحرًا ونيرنجات، فلمَّا مات جاءت الشَّياطين
إلى النَّاس، فقالوا: ألا ندلُّكم على الأمر الذي سُخِّرت لسليمان به الجنُّ
والرِّيح؟ فاستخرجوه لهم، فقال علماء بني إسرائيل: ما هذا دين الله جلَّ وعزَّ،
وقال السَّفِلة: سليمان كان أعلم بها [7]، فنعمل بهذا كما عمله، فقال الله تعالى:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية
[البقرة: 102].
وفي «تفسير محمد بن حزم»: قال قائلون: إنَّ الله جلَّ وعزَّ أنزل السِّحر على
هاروت وماروت، قالوا: فإن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يُنزل الله تعالى السَّحر؟ أم
هل يجوز للملائكة أن تعلِّمه النَّاس؟ قالوا: قلنا: إنَّ الله جلَّ وعلا قد أنزل
الخير والشرَّ كلَّه، وبيَّن جميع ذلك لعباده ونهاهم، وأوحاه إلى رسله، وأمرهم
بتعليم خلقه، ما يحلُّ لهم، وما يحرم عليهم، كسائر المعاصي؛ من زنا، وسرقة، وشبههما،
عرَّفهم إياها، ونهاهم عن ركوبها، فالسِّحر أحد تلك المعاني التي أخبرهم بها،
ونهاهم عن العمل بها.
قالوا: وليس في العلم بالسِّحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة نحت الطنابير
والملاعب وشِبههما، وإنَّما الإثم في العمل به، أو أن يضرَّ به من لا يحل ضَرُّه.
قالوا: وليس في تعليم الملكين من علَّماه من الناس إثم، إذ كان تعليمهما من علَّما
ذلك بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه أنَّها فتنة، وينهياه عن السحر والعمل
به والكفر، وإنَّما الإثم شرعًا لمن يتعلَّمُه منهما ويعمل به؛ إذ كان الله جلَّ
وعزَّ ذِكْرُهُ قد نهى عن تعلُّمه والعمل به.
قيل لهم: لو كان الله قد أباح أن يتعلموا ذلك لم يكن من تعلمه منهما حَرِجًا، كما
لم يكونا حَرِجين يعلِّمانه، إذا كان علمهما بذلك من تنزيل الله إليهما.
(1/389)
وفي
«المعاني» للزَّجَّاج: وزعم أنَّه أشبه بالتَّأويل، أن يكون الله جلَّ وعزَّ امتحن
بالملكين النَّاسَ في ذلك الوقت، فجعل المحنة في الكفر والإيمان، بعلم السِّحر
وتركه، فتاركُه مؤمن ومتعلِّمُه كافر.
قال المازِري: قال بعضهم: لا يزيد تأثير السَّاحر على قدر التَّفرقة بين المرء
وزوجه، ومذهب الأشعريَّة أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهو الصَّحيح
عقلًا، فإن قيل: إذا جوَّزت الأشعريَّة خرق العادة [33/ب]
%ج 4 ص 63%
على يد السَّاحر، فبماذا يتميَّز عن النَّبيِّ؟
فالجواب: أنَّ العادة تنخرق على يد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والوليِّ،
والسَّاحر، لكنَّ النَّبيَّ يتحدَّى بها للخلق ويستعجزهم عن مثلها، ويخبر عن الله
بخرق العادة، فلو كان كاذبًا لم تخرق له العادة على يديه، ولو خرقها على يد كاذب
لخرقها على يد المعارضين للأنبياء، وأما الوليُّ والسَّاحر فلا يتحديَّان الخلق،
ولا يستدلَّان على نبوة، ولو ادَّعيا شيئًا من ذلك لم تنخرق العادة لهما.
وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين:
أحدهما: وهو المشهور، الإجماع على أنّ السِّحر لا يُعْلَمُ إلا على ما سبق، بخلاف
الكرامة، وهذا تحرير إمام الحرمين والمتولي وغيرُهما.
الثاني: أنَّ السَّحر قد يكون بأشياء يفعلها، ويمزجها، ومعاناة [8]، وعلاج بخلاف
الكرامة. ذكر [9] النووي.
وقال القرطبي: إن أراد أنَّ الذي وقع في الوجود خارق للعادة فباطل، وسيأتي طرف من
هذا في تفسير المعوَّذتين [10].
وأمَّا التَّولِّي يوم الزَّحف فمذهب العلماء أنَّه كبيرة، وحُكي عن الحسن بن أبي
الحسن أنَّه ليس من الكبائر، قال: والآية الكريمة الواردة في ذلك إنَّما وردت في
أهل بدر خاصَّة.
قال القرطبي: وأصل الزَّحف: المشي المتثاقل، كالصبي يزحف قبل أن يمشي، وسُمِّي
الجيش زحفًا؛ لأنَّه يزحف فيه، وإنَّما يكون الفرار كبيرة إذا فرَّ إلى غير فئة،
وإذا كان العدوُّ ضِعْفي المسلمين.
(1/390)
و
(المُحْصَنَات) بكسر الصَّاد وفتحها، العفيفات الغافلات عن الفواحش، وقد ورد
الإحصان في الشَّرع على خمسة أقسام؛ الإسلام، والعفَّة، والتَّزويج، والحرِّيَّة،
والنِّكاح.
وقال أصحاب الشَّافعي: أكبر الكبائر بعد الإشراك القتل.
بَابُ الوَقْفِ لِلْغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَالضَّيْفِ
2773 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ وَجَدَ مَالًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا»،
فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَذِي القُرْبَى وَالضَّيْفِ
[1]. [خ¦2773]
قال ابن بطال: هذا أصل في إجازة الحبس والوقف، وهو قول أهل المدينة، ومكة،
والبصرة، والشَّام، والشَّعْبي من أهل العراق، وبه قال أبو يوسف، ومحمَّد،
والشَّافعي.
وقال أبو حنيفة وزُفَر: الحبس باطل، ولا يخرج عن ملك الذي وقفه، ويرثه ورثته، ولا
يلزمه [34/أ]
%ج 4 ص 64%
الوقف، إلا أن يحكم به الحاكم، أو ينفذه، أو يوصي به بعد موته.
احتج بما رواه عطاء، عن ابن المسيب، قال: سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على
الآخِرِ، والآخِرُ من ولده. فقال: لا حبس على فرائض الله.
وبما رواه العُقيلي، قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة عن أخيه عثمان
_عيسى هو الصحيح_ عن عكرمة، عن ابن عباس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
بعدما أنزلت سورة النساء وأنزل الله جلَّ وعزَّ فيها الفرائض: «نَهَى عَن الحَبْس»
وفي لفظ: «لَا حَبْسَ بَعْدَ سُوْرَةِ النِّسِاء».
قال الطَّحاوي: تُرك هذا على ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة، والسَّائبة،
والوصِيلة، والحَام، فلما نزلت آية الميراث، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا
حَبَسَ».
(1/391)
قال:
وهذا مروي عن مالك، قال: وتأوَّله بعضهم على ما كان من الأحباس ينقطع بانقطاع ما
حُبس عليه، وبموت من حُبس عليه، فيرجع خاليًا من الحبس.
وقال محمد بن الحسن: إنَّما كان قول شريح جوابًا لعطاء بن السَّائب إذ سأله عن رجل
جعل داره للآخر، والآخر من ولده؛ لأنَّه لم يذكر الرُّجوع في أجره إلى الله عزَّ
وجلَّ.
وقال الإسماعيلي: إذا كان أصل الوقف ما ذكره البخاري من أرض عمر، وأنَّها لا
تُباع، ولا تُورث، فكيف جاز أن تُباع فرسُ عمر الموقوف في سبيل الله؟ وكيف لا ينهى
بائعه منه، أو يمنع من بيعه؟ فلعلَّ معناه: أنَّ عمر كان جعله صدقة يعطيها مَن يرى
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأعطاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلًا
فباعها.
قال: وما ذكره في وقف الصَّامت خلاف ما رواه في أصل الوقف؛ لأنَّ الوقف الذي أذن
فيه سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلمما حُبِس أصلُه، ولا يُنتفع بالصَّامت
إلا بأن يخرج الصَّامت الموقوف بعينه إلى شيء غيره، فليس هذا بحبس الأصل، وإنما
يقع الحبس على ما يعود النفع من فضله، من ثمر أو غلة أو ما يُرتفق به، والعين
قائمة محبوسة على أصلها، لا على ما يُنتفع به إلا بإفادة عينه. والله أعلم.
وقال ابن بطَّال: اختلف العلماء في وقف الحيوان، والعروض، والدَّنانير،
والدَّراهم، فأجاز ذلك مالك، إلا أنه كره وقف الحيوان، أن يكون على العَقِب، فإن
وقع أمضاه.
وأجاز ابن القاسم وأشهب وقف الثِّياب، وقال محمد بن الحسن والشَّافعي: يجوز وقف
الحيوان، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز وقف الحيوان، ولا العُروض، ولا
الدَّنانير، ولا الدَّراهم، قال: هذه أعيان لا تبقى على حالها أبدَ الدَّهر، فلا
يجوز وقفها أيضًا، فإنَّ الوقف يكون وقفًا مؤقتًا يومًا، أو شهرًا، أو سنةً،
[34/ب]
%ج 4 ص 65%
وهذا لا يجوز.
وقال ابن حزم: أبطلت طائفة الحبس جملة، وهو قول شريح، وروي عن أبي حنيفة. انتهى.
(1/392)
ذكر
الطَّحاوي في كتاب «اختلاف العلماء» أنَّ هذا قول أبي حنيفة، وزفر، والحسن بن
زياد، قال: وعلى هذا عامة علماء أهل الكوفة، وذكر عيسى بن أبان أنَّ أبا يوسف لما
قَدِمَ بغداد من الكوفة كان على رأي أبي حنيفة في منع الأوقاف، فلما أُخْبِرَ
بحديث ابن عون، عن نافع، حديث عمر، قال: هذا لا يسع أحدًا خلافُه، ولو تناهى إلى
أبي حنيفة لقال به، ولَمَا خالَفَه.
وسمعت بكارًا أيضًا يقول: قدم أبو يوسف البصرة، وهو على مذهب أبي حنيفة في منع
الوقف، فجعل لا يرى أرضًا نفيسة إلا وجدها وقفًا عن الصحابة، ثم صار إلى المدينة،
فرأى بها أوقافًا كثيرة عن الصَّحابة، وعن سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
مثل [2] كلام أبي حنيفة.
قال ابن حزم: وطائفة قالت: لا حبس إلا في سلاح أو كراع، روي ذلك عن علي، وابن
مسعود، وابن عباس، ولم يصحَّ عن واحد منهم، قال: أما من أبطل الحبس جملة، فإنَّ
عبد الملك بن حبيب روى عن الواقدي أنَّه قال: ما من أحد من الصَّحابة إلَّا وقد
وقف وحبس أرضًا، إلَّا عبد الرحمن بن عوف فإنَّه كان يكره الحبس.
وذكر حديث ابن لهيعة وشريح المَذْكُورَيْن قبل، فذكر حديث شريح من طريق ابن عيينة،
عن عطاء بن السَّائب، عنه. وردَّه بالانقطاع، وما أسلفناه متَّصلٌ، على أنَّ في
كتاب «الاختلاف» للطَّحاوي: قال عطاء: سألت شريحًا، وهو يردُّ قوله. وقال حديث ابن
لهيعة موضوع؛ لأنَّ ابن لهيعة لا خير فيه، وأخوه مثله.
وبيان وضعه أنَّ سورة النساء نزلت أو بعضها بعد أُحد، وحَبْس الصحابة أذن فيه
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، تواتر ذلك عنه، ولو صحَّ خبر ابن لهيعة
لكان منسوخًا.
واحتجوا
أيضًا بما روينا من طريق ابن وهب، حدَّثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار ومحمد وعبد
الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كلُّهم عن أبي بكر بن محمَّد، قال:
إنَّ عبدالله بن زيد قال: يا رسول الله، إنَّ حائطي هذا صدقة -وفي لفظ: موقوفة-
وهو إلى الله ورسوله فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله، كان قوام عيشه منه. فرَدَّه
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
قال: وهذا حديث منقطع؛ لأنَّ أبا بكر لم يلق عبد الله بن زيد قط، وأيضًا: فليس
لأحد أن يتصدَّق بقوام عيشه؛ بل هو منسوخ إن فعله، قال: ولفظ: موقوفة. انفرد بها
من لا خير فيه.
قال: وقالوا: لما كانت الصَّدقات لا تجوز إلا حين تُحاز، وكان الحبس لا مالك له
وجب أن تبطل.
قال: ثم تناقضوا فأجازوا [35/أ]
%ج 4 ص 66%
تحبيس المسجد والمقبرة وإخراجهما إلى غير مالك، وأجازوا الحبس بعد الموت في أشهر
أقوالهم.
قال: ومن العجائب احتجاجهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق الهدي بالحديبية
وقلَّدها، وهذا يقتضي إيجابه لها، ثم صرفها عما أوجبها له، وجعلها للإحصار، وكذلك
أبدلها عامًا ثانيًا.
قال ابن حزم: ما اقتضى ذلك إيجابه قط؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم ينصَّ على
أنَّه صار التَّطوُّع بذلك واجبًا؛ بل أباح ركوب البَدَنَة المُقَلَّدة.
وقولهم: إنَّه صلى الله عليه وسلم أبدله من قابل. فهذا لم يصحَّ قط، ويُترك لهم
أنهم يقولون: أنتم تقولون: له أن يحبس ثم يفسخ، وقِسْتموه على الهدي المذكور، فهل
له الرُّجوع في الهدي بعد أن يوجبه فيبيعه؟
قال أبو محمد: وجائز أن يحبس المرء على نفسه، وعلى من شاء؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: «اِبْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا». وهو قول أبي يوسف.
بَابُ نَفَقَةِ القَيِّمِ لِلْوَقْفِ==
ج6. ج6. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
2776 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا
مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ: «لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا
وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمَئُونَةِ عَامِلِي
فَهُوَ صَدَقَةٌ». [خ¦2776]
قال ابن عبد البر: (لَا يَقْتَسِمُ) برفع الميم على الخبر، أي ليس بقسم، وفي رواية
يحيى بن يحيى الأندلسي: «دَنَانِيْرَ» وتابعه ابن كنانة، وأما سائر الرواية [1]
فيقولون: (دِيْنَارًا) وهو الصَّواب؛ لأنَّ الواحد في هذا الموضع أعمُّ عند أهل
اللُّغة.
وكذا رواه ورقاء، عن أبي الزناد. وقال ابن عيينة: عن أبي الزناد: «لَا يَقْتَسِمُ
وَرَثَتِيْ بَعْدِيْ مِيْرَاثِيْ». قال: وأراد بعامله: خادمه في حوائطه، وفيه: «وَكِيْلُه
أَوْ أَجِيْرُه».
وفي حواشي السُّنن: قيل: أراد حافرَ قبرِه، واستُبعد؛ لأنَّهم لم يكونوا يحفرون
بأجرة، فكيف له صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد الخليفةَ بعده.
وفي «التَّهذيب» للطَّبري: «يَقْتَسِمُ وَرَثَتِيْ» ليس بمعنى النَّهي؛ لأنَّه لم
يترك دينارًا ولا درهمًا، فلا يجوز النَّهي عمَّا لا سبيل إلى فعله، ويعني الخبر:
ليس يقتسم ورثتي.
قال الخطَّابي: بلغني عن ابن عيينة أنَّه كان يقول: أزواج سيِّدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم في معنى المعتدَّات؛ لأنَّهنَّ لا يجوز أن ينكحن أبدًا، فجرت لهنَّ
النفقة، وتُرِكت حُجُرُهنَّ لهنَّ يسكنَّها.
قال ابن التِّين: قال القاضي أبو بكر: إن قال الشَّيعة: كيف [35/ب]
%ج 4 ص 67%
صحَّ هذا الخبر أن لا يقتسم ورثته بعده دينارًا ولا درهمًا، وفي حديث عائشة: «لَمْ
يَترُك دِينَارًا وَلَا دِرهَمًا» وكيف نهى أهله عن قسمة ما يعلم أنَّه لم يخلِّفْهُ؟
قال:
فعنه جوابان: أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن غير قطع بأنَّه لا يخلف
عينًا؛ بل يجوز أن يملك ذلك قبل موته، فنهاهم عن قسمته.
الثَّاني: أنَّه علم ذلك، وقال: (لَا يَقْتَسِمُ) على الخبر برفع الميم، أي: ليس
يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا؛ لأنِّي لست أخلفهما بعدي.
وقال الشَّيعة: وهذا الخبر أيضًا مردود بقوله جلَّ وعزَّ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] قال القاضي أبو بكر: هذه الآية وإن كانت عامَّة،
فإنَّما توجب أن يورِّثَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما يملكه، ولم يكن ثمَّ ملك،
ولو سلمنا ملكه لم يكن فيها دليل؛ لأنَّها ليست عندنا وعند منكري العموم لاستغراق
المالكين، وإنما تنبئ عن أقلِّ الجمع وما فوقه، فيحتمل نَوْعَا الوقف فيه.
وعند كثير من القائلين بالعموم أنَّ هذا الخطاب، وسائر العموم لا يدخل فيها النبي
صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ شرعه ورد بالتَّفرقة بينه وبين أمَّته، ولو ثبت العموم
لوجب تخصيصه، وقد روى أبو بكر، وعمر، وحذيفة، وعائشة، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه
وسلم قال: «نَحْنٌ مَعَاشِرَ الأَنبِيَاء لَا نُورَثُ، مَا تَرَكنَاهُ صَدَقَةٌ»
فوجب تخصيص الآية بهذه الأخبار، ولو كانت خبر آحاد، كيف وقد خرجت عن هذا الحدِّ،
وصار [2] من سبيل ما يُقطع بصحَّته.
وقال ابن بطَّال: أراد البخاري بتبويبه أَنْ يُبيِّن أنَّ المراد بقوله: «مُؤْنَةِ
عَامِلِيْ» أنَّه عامل أرضه التي أفاءها الله عليه من بني النَّضير، وفدك، وسهمه
من خيبر.
قال: واستشهد البخاري عن ذلك بحديث قتيبة، حدَّثنا حمَّاد، عن أيُّوب، عن نافع، عن
ابن عمر، أنَّ عمر شرط في وقفه أن يأكل مَن وليه. الحديث. وقد تقدَّم.
قال الإسماعيلي: الَّذي عندنا: عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، أنَّ عمر. ليس
فيه ابن عمر. أخبرنا بذلك يوسف القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حمَّاد بن زيد،
عن أيُّوب، عن نافع، أنَّ عمر.
(1/396)
وأنبأ
أبو يعلى، حدَّثنا أبو الرَّبيع، حدَّثنا حمَّاد، حدَّثنا أيوب، أنَّ عمر. لم يذكر
نافعًا، ولا ابن عمر.
وأنبأ إبراهيم بن هشام، حدثنا أحمد الموصلي، حدثنا حمَّاد، عن أيُّوب، عن نافع،
أنَّ عمر. الحديث.
ثم قال: وصله [36/أ]
%ج 4 ص 68%
يزيد بن زريع، وابن علية، حدثنا ابن صاعد، حدثنا الحسين بن الحسن المَرْوِزي،
حدثنا ابن زريع، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أصاب عمر أرضًا.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد، حدثنا المنيعي، حدثنا القواريري، حدثنا حماد، سمعت
أيوب يذكر عن نافع، قال: أوصى عمر، واشترط في وقفه.
وقال البيهقي: أنبأ أبو محمد عبد الله بن يوسف، أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن
زياد، حدثنا الهيثم بن سهل التستري، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن
ابن عمر، فذكره.
قال: وكذا ذكره يونس بن محمد، عن حماد.
وفي قول الدارقطني: «أما حديث أيوب فلا أعلم حدَّث به عن حماد، عن يونس» نظر؛ لما
أسلفنا.
وقول الحُمَيدي: «وزعم أبو سعيد أنَّ البخاري ذكره في كتاب الوصايا عن قتيبة، عن
حماد، ولم أجده»، غير جيِّد؛ لثبوته في سائر نسخ البخاري كما أسلفناه.
بَابُ إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا، وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاَءِ
المُسْلِمِينَ
وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا.
هذا التعليق رواه البيهقي عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَمي، أنبأ أبو الحسن محمد بن
محمود المَرْوِزي، حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، حدَّثنا محمد ابن
المثنى، حدَّثنا الأنصاري، حدثني أبي، عن ثمامة، عن أنس، أنَّه وقف دارًا
بالمدينة، فكان إذا حجَّ مرَّ بالمدينة فنزل داره.
البخاري:
وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِدُورِهِ.
(1/397)
هذا
التعليق رواه [1] أيضًا عن السُّلَمي، أنبأ أبو الحسن الكارِزِي، حدثنا علي بن عبد
العزيز، حدثنا أبو عبيد، حدثنا أبو يوسف، عن هشام، [عن أبيه] [2]: أنَّ الزُّبير
جعل دوره صدقة، قال: «ولِلمَرْدُودَةِ من بناته أن تسكن غير مُضِرَّة ولا مُضَر
بها، فإن استغنت بزوج فلا شيء لها» قال الأصمعي: المردودة: المطلَّقة.
وحديث عثمان المذكور عنده: (مِثْلَ دِلاَءِ المُسْلِمِينَ) وبيَّنَّا هناك أنَّ في
بعض طرق حديثه: (يُسَاوُونَ لَهُ) فطابَقَ.
وقال: وليس في الباب بجملته ما يوافق التَّرجمة إلَّا وقف أنس خاصَّة، ووقف ابن
عمر بالطَّريقة المتقدِّمة من دخول المخاطِب في خطابه.
قال: [36/ب]
%ج 4 ص 69%
وقد ظهر لي مقصودُ البخاري من بقيَّة حديث الباب فطابق الترجمة، ووجهه: أنَّ
الزبير قصدَ مَنْ تلزمه نفقته من بناته، كالتي لم تزوَّج لصِغرٍ مثلًا، والتي
تزوَّجت ثم طُلِّقت قبل الدخول؛ لأنَّ تناول هاتين أو إحداهما من الوقف إنَّما
يَحمل عنه الإنفاق الواجب، فقد دخل في الوقف الذي أوقفه هذا الاعتبار، والله تعالى
أعلم. انتهى الذي ذكرناه من ... [3].
وبهذه التخريجات كلها قال أيضًا: ووجه مطابقة الترجمة من قوله: (وَجَعَلَ ابْنُ
عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِ
اللَّهِ) فقال:
كيف يدخل ابن عمر في وقفه؟ فنقول: نعم. يدخل لأنَّ الآل يُطلق على الرجل نفسه، كان
الحسن بن أبي الحسن يقول في الصلاة على سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اللهم صل على آل محمد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ صَلِّ على آلِ أبي أوفى».
وقال جلَّ وعزَّ: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46].
بَابُ قَوْلِ الله جلَّ وعزَّ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
المَوْتُ}
إلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [المائدة:106 - 108].
(1/398)
2780
- وَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ،
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي القَاسِمِ، عَنْ
عَبْدِ المَلِكِ [بنِ] [1] سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ،
وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ،
فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بذَهَبٍ،
فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وُجِدَ الجَامُ
بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلاَنِ
مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا،
وَإِنَّ الجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]. [خ¦2780]
كذا ذكره عن ابن المديني من غير سماع، فإمَّا أن يكون أخبره عنه مذاكرة، أو
عَرْضًا، أو يكون محمد بن أبي القاسم ليس بمرضي عنده، وكأنه أشبه؛ لأنَّ محمد بن
بحر ذكر عنه أنَّه قال: ابن أبي القاسم لا أعرفه كما أشتهي، قيل له: فرواه غيره؟
قال: لا. قال: وكان ابن المديني يستحسن هذا الحديث، حديثَ محمد بن أبي القاسم.
قال: وقد رَوى عنه [37/أ]
%ج 4 ص 70%
أبو أسامة إلا أنه غير مشهور.
ورواه أبو داود عن الحسن بن علي، عن يحيى بن آدم.
والترمذي عن سفيان بن وكيع، عن يحيى بن آدم. وقال: حديث حسن غريب، وهو حديث ابن
أبي زائدة.
وروينا من كتاب الواحدي قال: حدثنا سعيد بن أبي بكر الغازي، حدثنا أبو بكر بن
حمدان، حدثنا أبو يعلى، حدثنا الحارث بن شريح، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة،
عن محمد بن أبي القاسم، الحديث، وفيه: «فأوصى لهما بتركة، فدفعاها إلى أهله، وكتما
جَامًا».
(1/399)
وفيه:
«فأحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم ما كتما، ولا اطَّلعا، فخلَّى سبيلهما».
وعند التِّرمذي: من حديث ابن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان مولى أمِّ هانئ، عن
ابن عباس، عن تميم في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ
بَيْنِكُم} [المائدة: 106] قال: «برئ النَّاس منها غيري وغير عدي، وكانا نصرانيين
يختلفان إلى الشام، وقدم عليهما مولى لبني [هاشم] [2]، يقال له: بديل بن أبي مريم
بتجارة، ومعه جام من فضة، يريده الملك، وهو عُظْم تجارته».
وفيه: «فلما مات أخذنا الجام، فبعناه بألف درهم، قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر،
وأدَّيت إليهم خمس مئة درهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم
البيِّنة، فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يَعْظُمُ به على أهل دينه، فحلف،
فنزلت، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر، فحلفا، فنزعت الخمس مئة من عدي».
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر هو عندي محمد بن
السائب الكلبي، صاحب التفسير، وقد تركه أهل الحديث.
وقال: محمد بن السائب يكنى أبا النضر، ولا يعرف لسالم بن أبي النضر رواية عن أبي
صالح مولى أمِّ هانئ.
وفي «تفسير مقاتل»: خرج بديل بن أبي مارية - وفي «كتاب النحاس» نسخة: قيل فوثب
عليه بريد، وفي أخرى ... بالزاي، وفي «كتاب ابن ماكولا»: يزيد [3]- مولى العاص بن
وائل، مسافرًا في البحر إلى النجاشي، فمات بُدَيلٌ في السفينة، وكان كتب وصيَّتَه
وجعلها في متاعه، ثم دفعه إلى تميمٍ وصاحبِه عَدِيٍّ، فأخذا منه ما أعجبهما، وكان
في [ما] [4] أخذا إناء من فضَّة فيه ثلاثمئة مثقال، منقوش مموَّه بالذَّهب، فلما ردَّا
بقيَّة المتاع إلى ورثته نظروا [37/ب]
%ج 4 ص 71%
في الوصيَّة، فقدوا بعض متاعه، فكلموا تميمًا وعَدِيًا، فقالا: ما لنا به علم.
(1/400)
وفيه:
فقام عمرو بن العاص والمُطَّلِبُ بن أبي وَدَاعَة السَّهميَّان فحلفا، واعترف تميم
بالخيانة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَكَ يَا تَمِيمُ، أَسْلِم
يَتَجَاوَزِ اللهُ عَنْكَ مَا كَانَ فِي شِركِكَ»، فأسلم وحسن إسلامه، ومات عدي بن
بَدَّاء نصرانيًا.
وفي تفسير «الثَّعلبي»: كان بُديل ابن أبي ماوية - وقيل: ابن أبي مارية، وقيل: ابن
أبي مريم - مولى عمرو بن العاص، وكان بديل مسلمًا، ومات بالشام.
ومعناه: أن يشهد اثنان ذوا عدل؛ أمانة وعقل، منكم يا معشر المؤمنين، من أهل دينكم.
قاله جميع المفسرين إلا عكرمة وعبيدة فإنهما قالا: معناه: من حيِّ الموصي.
وقيل: معناه: من غير ملَّتكم. قاله ابن المسيب، وابن جبير، والنخعي، ومجاهد، وعبيدة،
ويحيى بن يعمر، وأبو مجلز. قالوا: إذا لم نجد مسلِمَيْن فلنُشهد كافرَيْن، إذا كان
في سفر.
واختلف في الصَّلاة: فقال النَّخَعي، والشَّعْبي، وابن جبير، وقتادة: من بعد صلاة
العصر.
وقال السُّدِّي: قال البخاري: وروي عن ابن عباس: من بعد صلاة أهل دينهما. قال: فدعا
النبيصلى الله عليه وسلم تميمًا وعديًّا بعد العصر، فاستحلفهما عند المنبر.
ولمَّا ذكر الطحاوي حديث أبي داود: أنَّ رجلًا من المسلمين توفي بدَقُوْقَاء، ولم
يجد أحدًا من المسلمين يُشهده على وصيَّته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب نصرانيين،
فقدما الكوفة على أبي موسى، فقال: هذا أمر [لن] يكن بعد الذي كان في عهد النبيصلى
الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر: ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا. فأمضى
شهادتهما.
قال الطَّحاوي: فهذا يدلُّ على أنَّ الآية محكمة عند أبي موسى وابن عباس، ولا أعلم
لهما مخالفًا من الصحابة في ذلك، وعلى ذلك أكثر التابعين.
(1/401)
وذكر
النَّحَّاس أنَّ القائلين بأنَّ الآية الكريمة منسوخة، وأنَّه لا تجوز شهادة كافر
بحال، كما لا تجوز شهادة فاسق: زيد بن أسلم، والشَّافعي، ومالك، والنَّخَعي، غير
أنه أجاز شهادة الكفَّار بعضهم على بعض.
وأما الزُّهري والحسن فزعما أنَّ الآية كلَّها في المسلمين، وذهب غيرهما إلى أنَّ
الشَّهادة بمعنى الحضور.
وقال آخرون [38/أ]:
الشهادة بمعنى اليمين، وتكلموا في معنى استحلاف الشَّاهدين هنا، فمنهم من قال:
لأنَّهما ادَّعيا وصيَّة من الموت، وهذا قول يحيى بن يعمر، قال البخاري: وهذا لا
يعرف في حكم الإسلام؛ أن يدَّعي رجل وصيَّة فيحلف ويأخذها.
ومنهم من قال: يحلفان إذا شهدا أن الميت أوصى بما لا يجوز، أو بماله كله.
قال: وهذا أيضًا لا يعرف في الأحكام.
ومنهم من قال: يحلفان إذا اتُّهما، ثم ينقل اليمين عنهما إذا اطُّلِع على الخيانة.
وزعم ابن زيد أنَّ ذلك كان في أوَّل الإسلام، كان النَّاس يتوارثون بالوصيَّة، ثم
نُسخت الوصية وفُرضت الفرائض.
وقال الخطَّابي: ذهبت عائشة إلى أنَّ هذه الآية ثابتة غير منسوخة، ورُوي ذلك عن
الحسن والنَّخَعي، وهو قول الأوزاعي، قال: وكان تميم وعدي وصيَّين لا شاهدين،
والشُّهود لا يحلفون، وإنَّما عبَّر بالشَّهادة عن الأمانة التي تحمَّلاها في قبول
الوصيَّة.
وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ} قال ابن التِّين: انتزع ابن شريح من هذه الآية الكريمة
الشَّاهد واليمين، قال: قوله: {فَإِنْ عُثِرَ} لا يخلو من ثلاثة أوجه؛ إما أن
يُقرأ: أو يَشهد عليهما شهيدان، أو شاهد وامرآتان، أو شاهد واحد، قال: وأجمعنا
أنَّ الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينًا على الطَّالِبين، وكذلك مع الشَّاهدين،
والشَّاهد والمرأتين، فلم يبق إلا شاهد واحد، قال: ويستحلف الطَّالِبين. انتهى.
(1/402)
يمكن
أن يستدلَّ بأنَّ في هذه القصة دلالة أنه لا يُكتفى بشاهد ويمين، وذلك لأنَّ
تميمًا شهد على عدي بخمس مئة درهم، فأنكر، فسألهم البينة، فلم يجدوا، فلو كان
يُكتفى باليمين مع الشَّاهد كانوا يقولون: هذا تميم مسلم وقد شهد، ولم يكن المعتمد
حين ذاك إلا على أيمانهما، لا على شهادة تميم.
وقوله: (مُخَوَّص) قال ابن الجوزي: صِيغت فيه صفائحُ مثل الخُوص من الذهب، وزعم
المنذري أنَّ بعضهم رواه بضاد معجمة. قال: والأول بخاء معجمة وصاد مبهمة، هو
المشهور، وقيل: إنَّ الرَّجلَيْن الذين حلفا: عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب.
وأما قول ابن بطَّال: فمذهب ابن عباس قبولُ شهادةِ الكفَّار على المسلمين في
الوصيَّة في السفر أخذًا من هذا الحديث [38/ب]
فردَّه عليه ابن المنيِّر بأنَّ الشَّهادة كانت عبارة عن اليمين. قال: ولا خلاف
أنَّ يمينه مقبولة إذا ادُّعي عليه فأنكر ولا بينة، ولعل تميمًا اعترف أنَّ الجام
كان ملَكَه من الميت بشراء أو غيره، فكان ولي الميت الكافر يدعي عليه، فحلف
واستحق. وفي بعض الحديث التصريح بهذا، ولو لم يكن لكان الاحتمال كافيًا في إسقاط
الاستدلال؛ لأنها واقعة عين. انتهى.
أولياء الميت ليسوا كفارًا، إنما كانوا مؤمنين كما بيناه، والله تعالى أعلم.
(1/403)
كِتَابُ
الجِهَادِ
بَابُ فَضْلِ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ
العَظِيْم} [التوبة: 111] إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [التوبة:
112] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الحُدُودُ الطَّاعَةُ».
هذا التَّعليق عن ابن عباس ذكره إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عنه. وذكر
أبو عبد الله الحاكم في «الإكليل» أنَّ هذه الآية الكريمة هي أول آية نزلت في
الإذن بالقتال.
وفي «المستدرك» عن ابن عباس على شرطهما: أول آية نزلت فيه: {أُذِنَ لِلَّذِيْنَ
يُقَاتَلُوْنَ} [الحج: 39] الآية. وأحاديث الباب كلها تقدَّمت.
وحديث أبي سعيد: «يا رسول الله! أيُّ النَّاس أفضل؟» خرَّجه الستة.
قال المهلَّب: ليس على عمومه في الفضل؛ ولا أنَّه أفضل النَّاس قاطبة؛ لأنَّ أفضل
منه من أُوتي منازل الصِّدِّيقين، وحَمَلَ النَّاس على شرائع الله، وسننِ نبيه صلى
الله عليه وسلم، وكأنَّه يريد والله أعلم: أفضل أحوال عامَّة النَّاس؛ لأنَّه قد
يكون في عامَّتهم من أهل الدِّين، والعلم، والفضل، والضبط للنفس من هو أفضل منه.
وقوله: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَن يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ) يريد: بعقد نيَّته، إن
كانت خالصة لله جلَّ وعزَّ، وأعلى كلمته.
وفي «المستدرك» على شرطهما: «أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيْمَانًا؟ قَالَ:
الَّذِي يُجَاهِد فِي سَبِيلِ اللهِ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ».
وقوله صلى الله عليه وسلم: (كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ) فيه دلالة أنَّ حركات
[39/أ]
%ج 4 ص 74%
(1/1)
المجاهد،
ونومه، ويقظته، حسنات، وإنَّما مثَّله بالصَّائم؛ لأنَّ الصائم ممسكٌ نفسَه عن
الملَّذات، وكذلك المجاهد ممسكٌ نفسَه على محاربة العدو، وحابس نفسه على مراعاته.
وقوله: (مَعَ مَا نَالَ مِن أَجرٍ أَو غَنِيمَةٍ) إنَّما أدخل (أو) هنا لأنَّه قد
يرجع مرَّة بالأجر، ومرة بهما جميعًا، فأُدخلت (أو) ليدل على اختلاف الحالين، لا
أنَّه يرجع بغنيمة دون أجر؛ بل أبدًا يرجع بالأجر، كانت غنيمة أو لم تكن.
قال ابن التِّين: (أو) هنا بمعنى الواو، وقاله أيضًا القرطبي، قال: هي الواو الجامعة
على مذهب الكوفيِّين، يؤيد هذا ما رواه أبو داود: «مَعَ مَا نَالَ مِن أَجْرٍ
وَغَنِيمَةٍ» بالواو الجامعة، وكذا هو في بعض روايات مسلم.
قال: وذهب بعض العلماء إلى أنَّ (أو) على بابها، وليست بمعنى الواو، قالوا: حاصله
لمن يستشهد في الجهاد أحد الأمرين، إمَّا الأجر إن لم يغنم، وإمَّا الغنيمة
والأجر.
قال: وهذا ليس بصحيح؛ لحديث عبد الله بن عمر من عند مسلم، وقال صلى الله عليه
وسلم: «مَا مِن غَازِيَةٍ تَغْزُوا فَيُصِيبُوا وَيَغنَمُوا إِلَّا تَعَجَّلُوا
ثُلُثَي أَجرَهُم مِنَ الآخِرَةِ، وَيَبقَى الثُّلُثُ وِإِن لَم يُصِيبُوا
غَنِيمَةً، ثُمَّ لَهُم أَجرُهُم» وهذا نصٌّ في أنَّه يحصل لهم مجموع الأجر
والغنيمة بالوجه الأول.
وقال أبو عبد الله بن أبي صفرة: تفاضلهم في الأجر، وتساويهم في الغنيمة، دليل قاطع
أنَّ الأجر يستحقُّونه بقتالهم، فيكون أجر كل واحد على قدر عنائه، وأنَّ الغنيمة
لا يستحقُّونها بذلك، لكن بتفضل الله عليهم ورحمته لهم بما رأى من ضعفهم، فلم يكن
لأحد فضل على غيره، إلا أن يُفَضِّلَه قاسمُ الغنيمة، فينفله من رأسها، كما فعل
أبو قتادة، أو من الخمس، كما في حديث ابن عمر، والله يؤتي فضله من يشاء.
(1/2)
قال
ابن التِّين: وقوله (أَنْ يُدْخِلَه الله الجَنَّةْ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن
يدخله الجنة بإثر وفاته تخصيصًا للشهيد. أو يحتمل: أن يدخلها بعد البعث، وتكون
فائدة تخصيصه أنَّ ذلك كفارة لجميع خطايا المجاهد، ولا يوزن مع حسناته.
وذكر العلامة أبو عبد الله محمد بن عيسى بن أَصْبغ الأزدي - المعروف بابن المناصف
- في كتاب الإيمان في أبواب [39/ب]
%ج 4 ص 75%
الجهاد: في اللُّغة أصله الجُهد، وهو المشقَّة، يقال: جَهدُتُ الرَّجل بلغتُ
مشقَّته، وكذلك الجهاد في الله تعالى، إنَّما هو بذل الجهد في أعمال النفس،
وتذليلها في سبيل الشَّرع، والحمل عليها بمخالفة النَّفس، من الرُّكون إلى
الدَّعة، واللَّذَّات، واتِّباع الشَّهوات، وفي حديث سَبرة بن أبي فاكه من عند
النَّسائي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلميقول، فذكر حديثًا فيه: «ثُمَّ قَعَدَ
لَهُ - يعني الشيطان - بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ
النَّفْسِ وَالْمَالِ».
والجهاد في الشَّرع يقع على ثلاثة أنحاء؛ جهاد بالقلب، وجهاد باللسان، وجهاد
باليد، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى، وسيأتي لحديث أبي سعيد تكملة إن شاء
الله تعالى في كتاب الرِّقاق.
بَابُ الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: «ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم».
هذا التَّعليق رواه البخاري مسندًا في آخر كتاب الحج، ولفظ ابن سعد في «الطبقات
الكبير» عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن
أبيه، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها سمعت أباها يقول: «اللَّهُمَ
ارزُقنِي قَتلًا فِي سَبِيلِكَ، وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ، قَالَت: قُلتُ:
وَأنَّى ذَلِك؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ يَأتِي بِأَمرِه أنَّى شَاءَ».
(1/3)
وأنبأ
معن بن عيسى، حدَّثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم؛ أنَّ عمر كان يقول في دعائه:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَوَفَاةً بِبَلدِ
رَسُولِكَصلى الله عليه وسلم.
وأخبرنا عبد الله بن جعفر الرَّقِّي، حدَّثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن
عمير، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: رأى عوفُ بن مالك منامًا، فقصَّه على عمر
بالشَّام، فيها: وإنَّ عمر شهيد مستشهد، فقال عمر: أنَّى لي الشَّهادة وأنا بين
ظهراني جزيرة العرب، ولست أغزو، والنَّاس حولي؟ ثم قال: بلى، ويلي، يأتي الله جلَّ
وعزَّ بها إن شاء الله تعالى.
زاد أبو في كتابه: على يد عدوك.
2788 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ،
عَنْ أَنَسِ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ
حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ - وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ - فَدَخَلَ عَلَيْهَا يومًا، فجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ:
فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي
عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ
مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ: مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» شَكَّ
إِسْحَاقُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهمْ. [40/أ] [خ 2788]
%ج 4 ص 76%
(1/4)
فَدَعَا
لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: َمَا
يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ» -
كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ - فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ،
قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ»، فَرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ،
فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَتْ.
وفي لفظ: «يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأَخْضَرَ»، وفيه: «فَخَرَجَتْ مَعَ
زَوْجِهَا غَازِيةً أَوَّلَ مَا رَكِبَ المُسْلِمُونَ البَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ،
فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غزاتهم قُرِّبَتْ لها دابتها».
وفي «الموطأ»: «اللهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَتْلِي بِيَدِ رَجُلٍ صَلَّى لَكَ سَجْدَةً
وَاحِدَةً، يُحَاجُّنِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَكَ».
قال ابن العربي: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الشهداء من قتله أهل
مِلَّتِه فيأخذ من حسناته».
وذكره أيضًا في باب ركوب البحر من كتاب الجهاد عن أبي النعمان، عن خالد، عن محمد
بن يحيى بن حبان، عن أنس قال: حدثتني أم حرام، فذكره، جعله من مسند أم حرام.
وفي حديث عُمَير بن الأسود العَنسي أنه أتى عُبادةَ بن الصَّامت، وهو نازل في ساحل
حمص في بناءٍ له، ومعه أم حرام، قال عُمَير: فحدثتنا أم حرام عن النبي صلى الله
عليه وسلم بنحوه.
وفي باب: غزو المرأة في البحر، حدثنا عبد الله بن محمد، حدَّثَنَا معاوية بن عمرو،
حَدَّثَنَا أبو إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أنس به.
قال الجَيَّاني: كذا رويناه من جميع طرق البخاري.
وقال أبو مسعود: سقط بين أبي إسحاق الفَزَاري وبين أبي طُوَالَة - عبد الله بن عبد
الرحمن - زائدةُ بن قدامة.
قال الجياني: فقابلته في «مسند أبي إسحاق الفزاري» فوجدته كما عند البخاري، وكذا
رواه ابن وضاح عن أبي مروان المصيصي، عن أبي إسحاق.
(1/5)
قال
الجياني: ومع هذا فالحديث محفوظ لزائدة، عن أبي طوالة، رواه عنه حسين بن علي
الجعفي، ومعاوية بن عمرو، ورواه الإسماعيلي عن أبي يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة،
حدثنا حسين بن علي، عن زائدة.
وقال الدارقطني: روى بشر بن عمر الزهراني هذا عن مالك، عن إسحاق عن أنس، عن أم
حرام.
وعن ابن حبان: قبرها بجزيرة في بحر الروم، يقال لها: قبرس، من المسلمين إليها
ثلاثة أيام.
وعند الدارقطني رواه عنها أيضًا عطاء بن يسار.
قال أبو عمر بن عبد البر: أم حَرَام خالة أنس، ولا أقف لها على اسم صحيح، وأظنها
أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأم سُلَيم أرضعته أيضًا؛ إذ لا يشك مسلم أنها
كانت منه بمحرم، وقد حدثنا غير واحد من شيوخنا، عن أبي محمد بن فُطَيس، عن يحيى بن
إبراهيم بن مُزين قال: إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفلي أم حرام
رأسه؛ لأنها كانت منه ذات [39/أ]
%ج 4 ص 77%
محرم من قبل خالاته؛ لأنَّ أمَّ عبد المطلب كانت من بني النجار، وقال يونس بن عبد
الأعلى: قال لنا ابن وهب: أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من
الرضاعة.
قال أبو عمر: فأي ذَلِكَ كان فأمُّ حرام مَحْرَم منه.
وقال ابن الحذَّاء: قال لنا أبو القاسم بن الجوهري: أمُّ حَرَام هي إحدى خالاته
صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وكذا قاله المهلب.
قال ابن بطال: وقال غيره: إنها كانت خالة لأبيه أو لجده.
وذكر القاضي أبو بكر بن العربي عن بعض العلماء: أنَّ هذا مخصوصٌ بسيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أو يحمل على أنه كان قبل الحجاب إلا أن: (تَفْلِي رَأْسَهُ)
يضعف هذا.
(1/6)
وزعم
ابن الجوزي أنه سمع بعض الحفاظ يقول: كانت أم سُلَيم أخت آمنة من الرضاعة، وقد
تقدم كلام شيخنا أبي محمد الدمياطي في دخوله على أم سليم، وقوله: ليس في الحديث ما
يدل على الخلوة بها. فلعل ذاك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع، والعادة تقتضي
المخالطة بين المخدوم وأهل الخادم، سيما إذا كنَّ مُسنَّات مع ما ثبت له صلى الله
عليه وسلم من العصمة.
ولعل هذا كان قبل الحجاب؛ لأنَّه كان في سنة خمس، وقَتْلُ أخيها حَرَام الذي كان
يرحمها لأجله كان سنة أربع.
وقوله: (فيَطْعَمُ عِنْدَها) قال ابن بطال: فيه دلالة على إباحة ما قدمته المرأة
إلى ضيفها من مال زوجها؛ لأنَّ الغالب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل.
قال ابن العربي: ومن المعلوم أن عبادة وكل المسلمين يسرُّهم أن سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأكل في بيته.
قال القرطبي: حين دخول النبي صلى الله عليه وسلم على أم حرام لم تكن زوجًا لعبادة،
كما يقتضيه ظاهر اللفظ، إنما تزوَّجته بعد ذَلِكَ بمدة كما جاء في رواية عند مسلم:
«فتزوجها عبادة بعد» انتهى.
كأن الراوي أخبر بصيرورتها إلى عبادة.
و (تَفْلِي): بفتح التاء وسكون الفاء، قال العلماء: قتل القمل وغيره من المؤذيات
مستحب.
ونوم القائلة: أصله في معونة البدن لقيام الليل، وفرحه صلى الله عليه وسلم لما
عاين من ظهور أمته، واتساع ملكهم. [39/ب]
%ج 4 ص 78%
قال أبو عمر: أراد أنه رأى الغزاة في البحر على الأسرة في الجنة، ورؤيا الأنبياء
وحي، يشهد له قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56].
قال القرطبي: ويحتمل أن يكون خبرًا عن حالهم في غزوهم أيضًا.
وفيه دليل على ركوب البحر، روى أبو داود عن ابن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «لا يركب البحر إلا حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا، فإن تحت البحر نارًا، وتحت
النار بحرًا».
(1/7)
وفي
«علل الخلال» من حديث ليث، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر يرفعه: «لا يركب البحر
إلا ... » فذكر مثله.
قال ابن معين: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر.
وقال ابن المسيب: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجرون في البحر، منهم طلحة،
وسعيد بن زيد، وهو قول جمهور العلماء إلا عمر بن الخطاب وعبد العزيز؛ فإنهما منعا
من ركوبه مطلقًا، وقيل: يحمل كلامهما على الركوب لطلب الدنيا لا الآخرة.
وما مالك فكره ركوبه للنساء مطلقًا لما يخاف عليهن من أن يطلع منهم أو يطلعن على
عورة.
قال بعضهم: هذا فيما صغر من السفن، فأما الكبار فلا بأس، وهذا الحديث يخدش في
قوله.
(ثَبَجَ البَحْرِ): بثاء مثلثة، بعدها باء موحدة مفتوحتان، ثم جيم.
قال الخطَّابي: وسطه ومعظمه، وثبج كل شيء، وقيل: ثبج البحر: ظهره، يوضحه ما في بعض
الروايات: «يركبون ظهر هذا البحر».
والثبج: ما بين الكتفين.
وفي «أمالي القالي»: ثبج البحر: معظمه، وقيل: هوله.
وقولها: (ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ) فيه تمني الغزو والشهادة، وهو
موضع تبويب البخاري.
قال ابن المنير: حاصل الدعاء بالشهادة أن يدعو الله أن يمكن منه كافرًا يعصي الله
فيقتله، وهذا مشكل على القواعد؛ إذ مقتضاها ألا يتمنى معصية الله لا له ولا لغيره.
ووُجِّهَ تخريجُه أنَّ الدعاء قصدًا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء،
وأما قتل الكافر فليس مقصود الداعي، وإنما هو من ضرورات الوجود؛ لأن الله جلَّ
وعزَّ أجرى حكمه ألا ينال تلك الدرجة إلا شهيد، انتهى.
قدمنا أن عمر تمنَّى الشهادة على يد كافر.
قال ابن المنير والقرطبي وغيرهما: قيل: إنَّ رؤياه صلى الله عليه وسلم الثانية
كانت في شهداء البر، فوصف حال البريين والبحريين بأنهم ملوكٌ على الأسرَّة.
وفي هذا الحديث أعلام [40/أ]
%ج 4 ص 79%
من أعلام نبوته، منها: جهاد أمته في البحر.
ومنها: الإخبار بصفة أحوالهم.
(1/8)
ومنها:
قوله لأم حرام: (أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ).
ومنها: الإخبار ببقاء أمته من بعده، وأن تكون لهم شوكة، وأن أم حرام تبقى إلى ذاك
الوقت، زمن عثمان، وهو أغزى معاوية الروم سنة ثمان وعشرين، وقال ابن زيد: سنة سبع
وعشرين، وقيل: بل كان ذلك في خلافة معاوية على ظاهره، والأول أشهر.
وفيه دلالة على أن من مات في طريق الجهاد من غير مباشرة ومشاهدة، له من الأجر مثل
ما للمباشر.
وقال أبو عمر: في هذا الحديث الموت في سَبيل الله والقتل سواء، أو قريبًا من
السواء في الفضل، انتهى.
كن النساء إذا غزون يسقين الماء، ويداوين الكلمى، ويصنعن لهم طعامهم، وما يصلحهم،
فهذه مباشرة.
قال أبو عمر: وإنما قلتُ: قريبًا من السواء لاختلاف الناس في ذَلِكَ، فمن أهل
العلم من جعل الميت في سبيل الله والمقتول سواء، واحتج بقوله جلَّ وعزَّ:
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} [الحج: 58] الاثنين جميعًا.
وبقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ} [النساء: 100].
وبقوله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عتيك: «من خرج
مجاهدًا في سَبيل الله فخرَّ عن دابَّته فمات، أو لدغته حيَّة فمات، أو مات حتف
أنفه فقد وقع أجره على الله».
وفي مسلم عن أبي هريرة يرفعه: «من قتل في سَبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل
الله فهو شهيد».
وعن عقبة بن عامر يرفعه: «من صُرِعَ عن دابَّته في سَبيل الله فمات فهو شهيد».
وعن أبي داود من حديث بقية، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول،
عن ابن غُنْم، عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من وقصه فرسه أو
بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله فهو شهيد».
(1/9)
ولما
خرجه الحاكم قال: صحيح على شرط مسلم.
قال أبو عمر: وقد ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أي الجهاد
أفضل؟ فقال: «من أهريق دمه وعقر جواده».
فإذا كان هذا أفضل الشهداء؛ علم أن من ليس كذلك أنه مفضول، انتهى.
ذكر الحلواني ما يرشح هذا في كتاب «المعرفة» فقال: حدثنا أبو علي الحنفي [40/ب]،
%ج 4 ص 80%
حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عُمَير، قال علي بن أبي
طالب: من حبسه السلطان وهو ظالم له فمات في محبسه ذَلِكَ فهو شهيد، ومن ضربه
السلطان ظالمًا فمات من ضربه ذلكَ فهو شهيد، وكل موت يموت بها المسلمون فهو شهيد،
غير أن الشهادة تتفاضل».
وعند الحاكم صحيح الإسناد من حديث كعب بن عجرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر
يوم بدرٍ ورأى قتيلًا: «يا عمر إنَّ للشهداءِ سادةً وأشرافًا وملوكًا، وإن هذا
منهم».
وكان عمر بن الخطاب يضرب من يسمعه يقول: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ويقول لهم:
قولوا: في الجنة.
قال أبو عمر: وذَلِكَ أنَّ شرط الشهادة شديد، فمن ذَلِكَ ألا يغلَّ ولا يجبن، وأن
يُقتل مقبلًا غير مدبر، وينفق الكريمة، وألا يؤذي جارًا ولا رفيقًا ولا ذميًّا،
ولا يخفي غلولًا، ولا يسبَّ إمامًا، ولا يفر من الزحف».
كلام عمر هذا الذي ذكره عنه أبو عمر ذكر الحاكم مرفوعًا، بلفظه: لعله أن يكون قد
أوقر دابته ذهبًا، أو وَرِقًا يلتمس التجارة، فلا تقولوا ذاكم، ولكن قولوا كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «[من قتل في سبيل الله] أو مات فهو في الجنة»، وقال:
صحيح ولم يخرجاه.
وعن أبي عبيدة، عن أبيه: «إياكم وهذِه الشهادات أن يقول الرجل: قتل فلان شهيدًا،
فإن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل في طلب الدنيا، ويقاتل وهو جريء الصدر».
قال: واختلفوا في شهيد البحر أهو أفضل أم شهيد البر؟ فقال قوم: شهيد البر، وقال
قوم: شهيد البحر.
(1/10)
قال:
ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في
حين ارتجاجه.
والذين رجحوا شهيد البحر؛ احتجوا بما رواه ابن أبي عاصم في كتاب «الجهاد» عن الحسن
بن الصباح، حدَّثَنَا يحيى بن عباد، حدَّثَنَا يحيى بن عبد العزيز، عن عبد العزيز
بن يحيى، حدَّثَنَا سعيد بن صفوان، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن أبي
بردة، سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهادة
تكفر كلَّ شيءٍ إلا الدين، والغزو في البحر يكفر ذلك كله».
ومن حديث عبد الله بن صالح، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عمرو مرفوعًا: «غزوةٌ في البحر خيرٌ من عشرِ غزوات في البَرِّ».
ومن حديث هلال بن ميمون، عن أبي ثابت يعلى بن شداد بن أوس، عن أم حرام قالت: ذكر
رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة البحر فقال: [41/أ]
%ج 4 ص 81%
«إنَّ للمائدِ فيه أجرَ شهيد، وإنَّ للغريقِ أجرَ شهيدين»، حسنه ابن العربي.
وعند ابن ماجَهْ بسنده إلى أبي أمامة يرفعه: «لشهيد البحر مثل شهيد البَرِّ،
والمائد في البحر كالمتشحِّطِ في دمِه في البَرِّ، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا
في طاعة الله جلَّ وعزَّ، وإن الله تعالى وكَّل ملكَ الموت بقبض الأرواح إلا شهيد
البحر فإنه يتولى قبض روحه، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلّها إلا الدَّين، ولِشَهيدِ
البحر الذنوب كلها والدين».
بَابُ دَرَجَاتِ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى.
يُقَالُ: هَذِهِ سَبِيلِي، وَهَذَا سَبِيلِي.
قال ابن سيده: السبيل الطريق، وما وضح منه، وسبيل الله: الهدى الذي دعا إليه،
واستعمل السبيل في الجهاد أكثر لأنه السبيل الذي يقاس به على عقد الدين والجمع
سُبُل.
(1/11)
2790
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ
عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، وَصَامَ
رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا»، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ
دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ
الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ،
فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وفَوْقَهُ
عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ». [خ 2790]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ.
هذا التعليق خرجه البخاري في التوحيد عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح، عن
أبيه.
قال الجياني: وفي نسخة أبي الحسن القابسي: قال البخاري: كحدَّثَنَا محمد بن فليح،
وهو وَهَم؛ لأن البخاري لم يدرك محمدًا، هذا إنما يروي عن ابن المنذر، ومحمد بن
بشار، عنه، والصواب: وقال محمد بن فليح معلقًا كما روته الجماعة.
وحديث سمرة تقدم ذكره.
قال المهلب: تُستحق الجنة بالإيمان بالله ورسوله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: تستحق الجنة بلا إله إلا الله، وبالشهادة، والأعمال الصالحة تستحق
بها الدرجات والمنازل في الجنة.
و (الفِرْدَوْس): قيل: هو البستان الذي يجمع ما في البساتين [41/ب]
%ج 4 ص 82%
كلها؛ من شجر وزهر ونبات.
وقيل: هو متنزه أهل الجنة الذي فيه العنب، يقال: كرم مُفرْدَس، أَي: مُعرَّش.
(1/12)
وقيل:
أصله الْبُسْتَان بالرومية، فَنقل إِلَى لفظ العَرَبيَّة.
قال الجَوَالِيقي: قال أهل اللُّغَة: هو مذكر، وإنما أنث في قوله جلَّ وعزَّ:
{يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11].
وقال الزَّجَّاج: الفردوس الأودية الَّتِي تنْبت ضروبًا من النَّبَات، قال: وكذا
لفظه بالسريانية: فردوسي.
وقال السدي: أَصله بالنبطية فرداسًا.
وفي الترمذي: «هو ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها».
وقوله: (وَأَعْلَى الجَنَّةِ) يريد: أرفعها؛ لأن الله تعالى مدح الجنات إذا كانت
في علو، فقال: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265].
قوله: (وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ) يريد أنها عالية في الارتفاع.
قال ابن بطال: هذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج. فلذلك لم يذكرا فيه، انتهى
كلامه. وفيه نظر من حيث ن الزكاة – على ما تقدم – فرضت قبل خيبر، وهذا رواه أبو
هريرة، ولم يأت للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بخيبر.
وقوله: (أَوْ جَلَسَ فِي بيته) فيه تأنيس لمن حرم الجهاد في سبيل الله تعالى،
فإنَّ له من الإيمان بالله تعالى والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة؛ لأنه هي
غاية الطالبين، ومن أجلها تُبذَلُ النفوس في الجهاد؛ خلافًا لما يقوله بعض جهلة
الصوفية.
وفي «صحيح مسلم» من حديث أنس يرفعه: «من طلبَ الشهادة صادقًا أُعطِيَها ولو لم
تصبه».
وعند الحاكم: «من سأل القتل في سبيل الله صادقًا ثم مَات أعطاه الله أجرَ شهيد».
وعند النسائي بسند جيد عن معاذ يرفعه: «من سألَ الله القتلَ من عند نفسه صادقًا،
ثم مات أو قتل فله أجر شهيد».
ومن حديث ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل
الشهداء، وإن مات على فراشه»، وقال صحيح على شرطهما.
(1/13)
وحديث
أبي هريرة يدل عليه أيضًا؛ لأنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى»،
وهو خطاب لجميع الأمة، يدخل فيه المجاهد وغيره؛ فدلَّ ذلك على أنه قد يعطي الله
لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة
فوقه، وقد أمر صلى الله عليه وسلم جميع أمته بطلبه من الله عزَّ وجلَّ، فدَّل أن
من بوَّأَهُ الفردوس [42/أ]
%ج 4 ص 83%
وإن لم يجاهد فقد تقاربت درجته من درجات المجاهدين في العلو، وإن اختلفت الدرجات
في الكثرة، والله يؤتي فضله من يشاء.
بَابُ الغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَاب قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ
2792 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَغَدْوَةٌ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». [خ
2792]
2793 - وفي حديث أبي هريرة: «لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكم فِي الجَنَّةِ، خَيْرٌ
مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ، ولَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ». [خ
2793]
2794 - وفي حديث سهل: «الرَّوْحَةُ وَالغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ
مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». [خ 2794]
وعند الترمذي من حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: «غزوة في سبيل الله أو روحة
خير من الدنيا وما فيها»، وقال: حديث حسن غريب.
وعند أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعبد الله بن رواحة حين تخلف عن غزوة
مؤتة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَّفَكَ؟ قال: أُجَمِّعُ مَعَ
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: .. » الحديث.
وفي لفظ: «لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت غزوة ولا روحة».
وعند مسلم عن أبي أيوب.
وعمر بن الخطاب عند ابن عساكر، وقال: حديث غريب.
(1/14)
وعبد
الله بن بسر من حديث ابن سعيد.
أبي أحمد من حديث علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة.
وعند ابن أبي عاصم عن أبي الدرداء.
وعند عبد الجبار، عن عروة بن عبد الله، عنه.
وعند أبي يعلى الموصلي، عن الزبير بن العوام، بسند صالح.
وعن معاوية بن خديج، رويناه من المحاملي، حدثنا أَخُو كَرْخُوَيْهِ، أخبرنا وَهْبُ
بن جَرير، أخبرنَا أَبِي، قال: سَمِعْتُ يَحيى بن أيُّوب يُحَدِّثُ، عن يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية، وعبد الله بن عباس، كلهم: «غدوة في سبيل
الله أو روحة» الحديث.
وعند أحمد من حديث ابن لهيعة، عن زبان، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، أنه تأخر عن
بَعْثٍ بُعِثَ فيه حتى صلى الظهر، فقال له سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري
بكم سبقك أصحابك؟» قال: نعم، سبقوني بغدوتهم. فقال: «والذي نفسي بيده لقد سبقوك
بأبعد ما بين المشرقين والمغربين في الفضيلة». [42/ب]
%ج 4 ص 84%
الغدوة: من طلوع الشمس إلى الزوال، من الغدو بضم الغين.
والروحة: من الزوال إلى الليل.
وقوله: (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا) قال المهلب: يريد: زمن الدنيا، لأن الغدوة
والروحة في زمن، فيقال: إن ثواب هذا الزمن القليل في الجنة خير من زمن الدنيا
كلها.
وكذا قوله: (لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكم) أو (مَوضِعُ سَوْط في الجنَّة) يريد: أن ما
صغر في الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر في هذا الحديث أن قصير
الزمان وصغر المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيدًا
وتصغيرًا لها، وترغيبًا في الجهاد، إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من
الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه وأنفق ماله؟
قال صاحب «العين»: قاب القوس: قدر طولها.
وقال الخطَّابي: هو ما بين السيَّة والمقبض.
وعن مجاهد: قدر ذراع.
والقوس: الذراع بلغة أزد شنوءة.
وقيل: القوس: ذراع يقاس به.
وقال الداودي: قاب القوس ما بين الوتر والقوس.
(1/15)
وفي
«المخصص»: القوس أنثى، وتصغيرها بغير هاء، والجمع: أقواس، وقياس، وقِسِي، وقِسْي.
قال القرطبي: قوله: (خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا) يعني أن الثواب الحاصل على مشية
واحدة في الجهاد خير لصاحبه من الدنيا كلها لو جمعت له بحذافيرها، وهذا منه صلى
الله عليه وسلم إنما على ما استقر في النفوس من تعظيم ملك الدنيا، وأما على التحقيق
فلا تدخل الجنة مع الدنيا تحت أفعل، إلا كما يقال: العسل أحلى من الخل.
وقيل: إن معنى ذلك أن ثواب الغدوة والروحة أفضل من الدنيا وما فيها لو ملكها مالك
فأنفقها في وجوه البر والطاعة غير الجهاد.
و (أو): هنا للتقسيم لا للشك، معناه: أن الغدوة تحصل بها هذا الثواب، وكذا الروحة،
والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدوة أو الرواح من بلدته، بل يحصل هذا حتى بكل غدوة أو
روحة في طريقه إلى العدو.
وقال النووي: وكذا غدوة ورواحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في
سبيل [43/أ]
%ج 4 ص 85%
الله.
ومعنى الحديث: إن فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابها خير من نعم الدنيا كلها
لو ملكها، وتصور تنعمه بها كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخر باق.
بَابُ الحُورِ العِينِ، وَصِفَتِهِنَّ يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ، شَدِيدَةُ
سَوَادِ العَيْنِ، شَدِيدَةُ بَيَاضِ العَيْنِ
قال ابن التين: (يُحَارُ) أي يتحير فيهن البصر لحسنهن، يقال: حار يحار، وأصله:
حير، وليس اشتقاقه من اشتقاق الحور كما ظنه البخاري؛ لأن الحور من حَوَر، والحيرة:
من حَيَر، انتهى.
وكذا ذكره أهل اللغة.
وفي «المحكم»: الحور أن يشتدَّ بياضُ بياضِ العين، وسوادُ سوادِها، ويستدير حدقها،
وترقَّ جفونها، ويبيض ما حواليها.
وقيل: الحور: أن تسودَّ العين كلُّها مثل الظباء والبقر، وليس في بني آدم حور،
وإنما قيل للنساء حور العين؛ لأنهن يشبهن بالظباء والبقر.
وقال كراع: الحور أن يكون البياض محدقًا بالسواد كله، وإنما يكون هذا في البقر
والظباء ثم يستعار للناس.
(1/16)
وهذا
إنما حكاه أبو عبيد في «البرج» غير أنه لم يقل: إنما يكون في الظباء والبقر.
وقال الأصمعي: لا أدري ما الحور في العين؟ وقد حَوِر حَوَرًا واحْور، وهو أَحْور،
وامرأة حَوْراء، وعين حوراء، والجمع حُور.
فأما قوله:
عيناء حوراء من العين الحير
فعلى الاتِّباع لعين.
والحوراء: البيضاء، لا يقصد بذلك حور عينها، والأعرابُ تُسَمَّي نساء الأمصار
حواريات؛ لبياضهن وتباعدهن عن قشف الأعرابيات بنظافتهن.
ويحتمل أن البخاري أراد أن الطرف يحار فيهنَّ ولا يهتدي سبيلًا لفرط حسنهن، لا أنه
أراد الاشتقاق، فلئن كان كذلك فلا فهو كلام جيد.
و (العِين): قال الضَّحَّاك: هي الواسعة العَيْن، واحدها: عيناء.
2795 - 2796 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ
بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ
يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا،
وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ
[43/ب]
%ج 4 ص 86%
الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ
مَرَّةً أُخْرَى». [خ 2795 - 2796]
قَالَ: «وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ
الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ لمَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا
عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
ذكر العلماء أن الحور على أصناف مصنفة، صغار وكبار، وعلى ما اشتهت نفس أهل الجنة.
وذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: والذي لا إله إلا هو لو أنَّ امرأة
من الحور اطلعت سوارًا لها لأطفأ نورُ سوارها نورَ الشمس والقمر، فكيف المسوَّرة؟
وإن خلق الله شيئًا تلبسه؛ إلا عليه مثل ما عليها من ثياب وحلي.
(1/17)
وقال
أبو هريرة: إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف
وصيفة عن يمينها، وعن يسارها كذلك، وهي تقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن
المنكر؟
وقال ابن عباس: إن في الجنة حوراء يقال لها العينة، لو بزقت في البحر لعذب ماؤه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة الإسراء حوراء جبينها كالهلال، في رأسها مئة
ضفيرة، ما بين الضفيرة والضفيرة سبعون ألف ذؤابة، والذوائب أَضْوَءُ من البدر،
وخلخالها مكلَّلٌ بالدر، وصفوف الجواهر، على جبينها سطران مكتوب بالدر والجوهر في
الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، وفي الثاني: من أراد مثلي فليعمل بطاعة ربي - جلَّ
وعزَّ -؛ فقال لي جبريل: هذِه وأمثالها لأمتك».
وقال ابن مسعود: إن الحوراء ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحته سبعون حُلَّة
كما يرى الشراب في الزجاج الأبيض.
وروي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الحور: من أي شيء خلقن؟ فقال:
«من ثلاثة أشياء؛ أسفلهن من المسك، وأوسطهن من العنبر، وأعلاهن من الكافور،
وحواجبهن سواد خط في نور».
وفي لفظ: «سألت جبريل - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية خلقهن، فقال: يخلقهن رب
العالمين من قضبان العنبر والزعفران، مضروبات عليهن الخيام، أول ما يُخلق منهن نهد
من مسك أَذْفَر أبيض عليه يلتئم البدن».
وقال ابن عباس: خلقت الحوراء من أصابع رجليها إلى ركبتيها [44/أ]
%ج 4 ص 87%
من الزعفران، ومن ركبها إلى ثدييها من المسك الأَذْفر، ومن ثديها إلى عنقها من
العنبر الأشهب، ومن عنقها وثم من الكافور الأبيض، تُلبَسُ سبعون ألف حُلَّة مثل
شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها ساطعًا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا
أقبلت ترى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، وفي رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك، لكل
ذؤابة منها وصيفة ترفع [ذيلها].
في «التهذيب» لأبي منصور: قال النضر بن شميل: الشهيد الحي.
(1/18)
وقال
ابن الأنباري: سُمِّي شهيدًا لأن الله جلَّ وعزَّ وملائكته شهود له بالجنة.
وقال قوم: لأنهم ممن يستشهد يوم القيامة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الأمم الخالية، قال جلَّ وعزَّ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
[البقرة: 143].
وعن الكسائي: أُشهِدَ الرجل: إذا استشهد في سبيل الله فهو مُشهَد بفتح الهاء،
وأنشد:
أنا أقول سأموت شُهدا
وقيل: لأن أزواجهم أحضرت دار السلام وأزواج غيرهم لا تشهدها إلى يوم القيامة.
وفي «الجامع»: والعرب تقول: شِهيد بكسر الشين، وذلك إذا كان يأتي فعيل حرف حلق،
ومن العرب من يكسر كل فعيل كان فيه حرف حلق أو لم يكن.
وفي «المغيث»: سُمِّيَ شهيدًا لسقوطه بالأرض وهي الشهادة.
وقيل: سمي شهيدًا لأنه يُبَيِّن إيمانه وإخلاصه ببذله روحه في طاعة الله جلَّ
وعزَّ من قوله: {شَهِدَ الله} أي: بَين وأخبر وأعلم.
وقيل: لأنه يشهد عند ربه؛ أي: يحضر.
وقيل: لأنه يشهد ملكوت الله جلَّ وعزَّ، شهيد بمعنى مشهود، فعيل بتأويل مفعول.
والنَّصِيفُ: الخمار. قال النابغة:
سقط النصيف ولم تُرِدْ إسقاطه ... فناولته واتقتنا باليد
بَابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ
2797 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ
أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ
تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي
[44/ب]
%ج 4 ص 88%
أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا». [خ
2797]
(1/19)
في
«المستدرك» على شرط مسلم من حديث أنس: «أسألك يا ربّ أن تردني إلى الدنيا فأقتل في
سَبيلك عشر مرات، لما رأى من فضل الشهادة».
وعن جابر - صحيح السند -: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أصحاب أحد قال:
«والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بنُحص الجبل».
قال ابن عبد البر: في هذا إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء، مما يحتاج
فيه إلى يمين وما لا يحتاج إليها، ليس بذلك بأس على كل حال؛ لأن في اليمين بالله
توحيدًا وتعظيمًا، وإنما يكره الحنث والاستخفاف.
وفيه إباحة تمني الخير والفضل مما يمكن وما لا يمكن.
وفيه: الجهاد ليس بفرض عين؛ إذ لو كان كذلك لما تخلف سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولا أباح التخلف لغيره، ولو شق عليهم، هذا إذا كان العدو لم يفجأ
المسلمين في دارهم، ولا ظهر عليهم.
وقوله: (ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا) قال ابن التين: يحتمل أنه قال هذا قبل
نزول قوله جلَّ وعزَّ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
وذكر بعضهم - ولا أدري الآن من هو - أن هذه اللفظة - أعني لوددت أن أقتل في سبيل
الله - من كلام أبي هريرة، والله أعلم.
وعلى تقدير وجوده يعلم عليه ما ذكرنا من كتاب الحاكم.
وحديث قتل زيد وجعفر يأتي إن شاء الله في الغزوات.
وقوله في: بَابُ مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2802 - «هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا
لَقِيتِ». [خ 2802]
قال النووي: الرواية المعروفة: كسر التاء، وسكنها بعضهم، ووقع في مسلم: «كان النبي
صلى الله عليه وسلمفي غار فنكبت إصبعه»، قال عياض: لعله «غازيًا» فتصحف على
الكاتب.
قال: ويحتمل أن يريد بالغار هنا الجيش لا الكهف.
وأما ابن العربي فجعلهما واقعتين: واحدة في غزوة، وأخرى في كهف.
(1/20)
ورأيت
بخط الفاضل بن علي: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الوليد بن الوليد باع مالًا
له بالطائف، وهاجر على رجليه إلى المدينة، فقدمها وقد تقطعت [45/أ]
رجلاه وأصابعه، فقال: هل أنتِ إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت، يا نفس إلا
تقتلي تموتي، ومات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا دعاؤه على رعل تقدم، ويأتي طرف منه في الغزوات.
وقول البخاري:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى
الحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] وَالحَرْبُ سِجَالٌ
وذكر حديث ابن عباس:
2804 - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ
كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ فَزَعَمْتَ «أَنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ» الحديث.
[خ 2804]
وقد تقدم في أول الكتاب.
قال ابن بطال: فإن قيل: أغفل البخاري أن يذكر تفسير الآية المذكورة في الباب، وذكر
حديث ابن عباس: «الحرب سجال» فما تعلقه بالآية التي ترجم بها؟
قيل: تعلق صحيح، والآية مصدِّقة للحديث، والحديث مبيِّن للآية، وإذا كانت الحرب
سجالًا فذلك إحدى الحسنيين؛ فأنها إن كانت علينا فهي الشهادة، وهي أكبر الحسنيين،
وإن كانت لنا فهي الغنيمة، وهي أصغر الحسنيين؛ فالحديث مطابق لمعنى الآية.
وقال ابن المنير: التحقيق أن البخاري ساق الحديث لقوله: «وكذلك الرسل تبتلى، ثم
تكون لهم العاقبة»، فبهذا يتحقق أنهم على إحدى الحسنين، ففي تمام حديث هرقل تظهر
المطابقة.
(ودُوَلًا): جمع دولة، يقال: دَولة ودُولة، ومعناه: رجوع الشيء إليك مَرةً وإلى
صاحبك أخرى تتداولانه.
وقال أبو عمر: وهي بالفتح: الظفر في الحرب، وبالضم: ما يتداوله الناس من المال.
وعن الكسائي بالضم: مثل العارية، يقال: اتخذوه دولة يتداولونه، وبالفتح: المصدر.
وقال القزاز: العربُ تقول الأيام دَول، ودُول، ودِول؛ ثلاث لغات.
وفي «الباهر» لابن عديس عن الأحمر: جاء بالدؤلة والدولة تهمز ولا تهمز.
(1/21)
وفي
«البارع» عن أبي زيد: دَولة بفتح الدال وسكون الواو، ودَوَل بفتح الدال والواو،
وبعض العرب يقول: دُولة.
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ [45/ب]
%ج 4 ص 90%
جلَّ وعزَّ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]
ذكر الواحدي من حديث إسماعيل بن يحيى البغدادي، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن النزال
بن سبرة، عن علي قال: قالوا له: حَدِّثَنا عن طلحة، فقال: ذَاكَ امرؤ نزلت فيه آية
من كتاب الله جلَّ وعزَّ: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] طلحة ممن قضى نحبه، لا حساب عليه فيما يستقبل.
ومن حديث عيسى بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه طلحةُ فقال: «هذا
ممن قضى نحبه».
وقال مقاتل في «تفسيره»: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} ليلة
العقبة بمكة.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني: أجله فمات على الوفاء؛ يعني: حمزة وأصحابه
المقتولين بأحد.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}: يعني: المؤمنين، من ينتظر أجله على الوفاء بالعهد.
{وَمَا بَدَّلُوا} كما بدَّلَ المنافقون.
(1/22)
2805
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى،
عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا، وحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ،
حَدَّثَنَا زِيَادٌ، حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ
بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ
أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ فيه، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ
المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ»، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ،
وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا
صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ
هَؤُلاَءِ، - يَعْنِي المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ
بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ
رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا صَنَعَ. [خ 2805]
قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ
طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ
مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ.
قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ
وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
ولما خرجه الترمذي قال: حديث حسن مشهور عن حميد.
ثم ذكر البخاري حديث زيد:
2807 - «فَقَدْتُ آيَةً مِن الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ النبي صلى الله عليه وسلم
يَقرَؤُها، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ صلى
الله عليه وسلم [46/أ]
%ج 4 ص 91%
(1/23)
شَهَادَتَهُ
كشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ»، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا}
[الأحزاب: 23]. [خ 2807]
قال المهلب: في حديث أنس الأخذ بالشدة، واستهلاك الإنسان نفسه في طاعة الله جلَّ
وعزَّ.
وفيه: الوفاء بالعهد بإهلاك النفس، ولا يعارض قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]؛ لأن هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من
العناء في المشركين، وأخذوا بالشدة بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنة، ألا ترى قول
سعد: فما استطعت ما صنع، يريد ما قدرت أن أصف ما صنع من كثرة ما أبلى في المشركين.
وقوله: (لَيَرَيَنَّ الله مَا أَصْنَعُ) وقال في غزوة أحد: «ليرين الله ما أجد»
بفتح الهمزة وضمها وتشديد الدال المهملة، ومعناه: أجتهد، وضبطه بعضهم بضم الهمز
وتشديد الدال، وروي بفتح الهمزة وتخفيف الدال، ومعناه: ما أفعله.
ووقع في مسلم: «ليراني الله» بالألف.
قال النووي: وهو صحيح، ويكون (مَا أَصْنَعُ) بدلًا من الضمير في (أراني)، ووقع في
بعض نسخه: «ليرين» بياء مثناة من تحت مفتوحة بعد الراء ونون مشددة، كما في
البخاري؛ أي: يراه الله واقعًا بارزًا.
وضُبِط أيضًا: بضم الياء وكسر الراء، ومعناه: ليُرِيَنَّ اللهُ الناسَ ما أصنع
ويُبرزه لهم.
قال القرطبي: كأنه ألزم نفسه إلزامًا مؤكدًا ولم يظهره مخافة ما يتوقع من التقصير
في ذلك، يؤيده ما في مسلم: «فهاب أن يقول غيره»؛ ولذلك سماه الله عهدًا بقوله:
{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}.
وقوله: (أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ) وفي مسلم: «واهًا لريح الجنة أجده دون
أحد»، يعني بقوله: «واهًا» إما تعجبًا وإما تلهفًا وتحننًا.
قال ابن بطال: يمكن أن يكون قوله (دُونِ أُحُدٍ) حقيقة؛ لأن ريحها توجد من مسيرة
خمس مئة عام، فيجوز أن يشم رائحة طيبة تشهيه الجنة وتحببها إليه.
(1/24)
قال:
ويمكن أن يكون مجازًا؛ أي: إني لأعلم أن الجنة في هذا الموضع الذي يقاتل فيه؛ لأن
الجنة في هذا الموضع تُكْتَسب وتُشْتَرى.
وأخته التي عرفت بنانه- أي: الأصابع، وقيل: أطراف الأصابع -هي: الرُّبَيِّع
المذكورة في الإصلاح من هذا الكتاب.
وحديث خزيمة يأتي إن شاء الله في تفسير سورة براءة.
بَابٌ: عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ القِتَالِ
قال [46/ب]
%ج 4 ص 92%
أَبُو الدَّرْدَاءِ: «إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ».
هذا التعليق ذكره.
قال البخاري:
وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 3]
قال مقاتل في «تفسيره»: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لاَ تَفْعَلُونَ} يعظهم بذلك، وذلك أن المؤمنين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب
إلى الله جلَّ وعزَّ لفعلناه، فأنزل الله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} يعني: في طاعته، {صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فأخبر الله تعالى بأحبِّ الأعمال إليه بعد الإيمان، فكرهوا
القتال، فوعظهم الله وأدَّبهم فقال: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} نزلت
هذِه الآية في الأنصار: عبد الله بن رواحة وغيره.
قال ابن التين: وقيل نزلت في المنافقين.
(1/25)
2808
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ
سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ البَرَاءَ
يَقُولُ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالحَدِيدِ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: «أَسْلِمْ، ثُمَّ
قَاتِلْ»، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا». [خ 2808]
في «سنن النسائي»: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ قَبِيلة مِنَ الْأَنْصَارِ،
فَقال: يا رسول الله، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ.
وفي لفظ: «يا رسول الله، أرأيت لو أني أسلمت كان خيرًا لي؟ قال: نعم، فأسلم ثم
قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت لو أني حملت على القوم فقاتلت حتى
أقتل، أكان خيرا لي ولم أصلي صلاة؟ قال نعم».
في هذا الحديث: أن الله تعالى يعطي الثواب الجزيل على العمل اليسير؛ لأنه اعتقد لو
عاش لكان مؤمنًا طول حياته، فنفعته نيته، وإن كان قد تقدَّمها قليل من العمل،
وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد في النار؛ لأنه انْضَافَ إلى
كفره اعتقادُه أنه يكون كافرًا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات.
قال ابن التين: أما عمله فقليل وأما ما بذله فكثير.
قال ابن المنيِّر: المطابقة بين الترجمة وبين ما تلاه أن الله عاتب من قال: إنه
يفعل الخير ولم يفعله، ثم أعقب ذَلِكَ بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} وهو ثناء على من وفى وثبت.
ثم قال: وفي الآية [47/أ]
بالمفهوم: الثناء على من قال وفعل، بقوله المتقدم وتأهبه للجهاد قبل، عمل صالح
قدمه على الجهاد.
بَابُ مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
(1/26)
2809
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ البَرَاءِ - وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ
سُرَاقَةَ - أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلمفَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
أَلاَ تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ
سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
ذَلِكَ، اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي البُكَاءِ، قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ
إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ
الأَعْلَى». [خ 2809]
قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث أنس.
وقوله: (أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ البَرَاءِ) غير جيد، إنما هي أم حارثة
الرُّبَيِّعُ بنت أخت أنس بن النضر، التي كَسَرَت ثنيَّةَ امرأة، بيَّنَ ذلك
الترمذي والإسماعيلي في «مستخرجه»، وقاله أيضًا أبو عمر وغيره.
وحارثة هذا هو الذي قال له سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أصبحت يا
حارثة؟ فقال: أصبحت مؤمنا بالله حقًّا» الحديث.
وفيه: «يا رسول الله، ادعُ لي بالشهادة، فجاء يوم بدر ليشرب من الحوض، فرماه
حِبَّان بن العَرِقَة بسهم فأصاب حنجرته فقتله».
قال أبو موسى المديني: وكان خرج نظارًا وهو غلام؛ ولما قال صلى الله عليه وسلم
لأمه ما قال رجعت وهي تضحك وتقول: بخ بخ لك يا حارثة، وهو أول قتيل من الأنصار
ببدر.
وأما قول ابن منده: إنه شهد بدرًا واستشهد بأحد، فغير جيد.
وعند أبي نعيم: كان كثير البِرِّ بأمِّهِ، قال صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة
فرأيت حارثةَ كذلكم للبر»، هو غير جيد؛ لأن المقول فيه هذا هو حارثة بن النعمان،
بينه ذلك [أحمد] في «مسنده» وغيره.
(1/27)
وقوله:
(سَهْمٌ غَرْبٌ): قال ابن الجوزي: روي لنا (سَهْمٌ) بالتنوين، و (غَرْبٌ) بتسكين الراء،
مع الرفع والتنوين.
قال ابن قتيبة: كذا تقوله العامة، والأجود: (سَهْمُ غَربٍ) بفتح الراء، وإضافة
الغرب إلى السهم.
قال ابن السِّكِّيت: يقال: أصابه سهم غربٍ، إذا لم يدرِ من أي جهة رُمِيَ به.
وقد روي عن أبي زيد: إن جاء من حيث لا [47/ب]
%ج 4 ص 94%
يعرف فهو (غَرْبٌ) بسكون الراء، فإن رمي به إنسان بعينه فأصاب غيره فهو (غَرْبٌ)
بفتح الراء.
وذكره الأزهري بفتح الراء لا غيره.
وأما ابن سيدَهْ فقال: أصابه سهم غرْب وغرَب؛ إذا كان لا يدري من رماه. وقيل: إذا
أتاه من حيث لا يدري، وقيل: إذا تعمَّد غيرَه فأصابَه، وقد يوصف به.
وفي «المنتهى»: سهم غرْب وغرَب بتسكين الراء وفتحها، يضاف ولا يضاف؛ إذا أصابه سهم
لا يعرف من رماه، ومثله سهم عرَض، فإن عُرِفَ فليسَ بغرب ولا عرض.
وبنحوه ذكره القزاز وابن دريد وغيره، فعلى هذا لا يقال في السهم الذي أصاب حارثة:
غَرْب؛ لأن راميه قد عرف، والله تعالى أعلم.
وقولها: (اجْتَهَدْتُ فِي البُكَاءِ) قال الخطَّابي: لم يعنفها صلى الله عليه وسلم
عن البكاء، انتهى.
أرادت رضي الله عنها البكاء المقصود، وهو الذي لا تعنيف عليه ولا حرج على فاعله،
فقول أبي سليمان: «لم يعنفها» غير جيد؛ لأنه لا يعنفها على مباح؛ بل وصفه صلى الله
عليه وسلم بأنه رحمة.
أو يحمل البكاء هنا على الدعاء والرقة، يؤَيِّدُه ما في الترمذي: «اجتهدت في
الدعاء». وهو نص قاطع على انتفاع الميت بدعاء الحي، ولهذا – والله أعلم – شرعت
الصلاة عليه.
بَابُ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى
وَقَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ}
[التوبة: 120] إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ}
[التوبة: 120]
(1/28)
قال
مقاتل بن سليمان في «تفسيره»: ذكر الله -جلَّ وعزَّ- الذين لم يتخلَّفوا عن غزوة
تبوك فقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله} صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك.
وفي «تفسير الثعلبي»: ظاهره قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} خبر ومعناه:
أمر.
و (الأَعْرَاب) سُكَّان البوادي: مُزينة وجُهينة وأَشْجع وأَسْلم وغِفَار.
{أَن يتًخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللهِ} إذ غزا.
قال ابن عباس: يكتب لهم بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة.
قال قتادة: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه، فليس لأحدٍ أن
يتخلَّفَ عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فمن شاء أن يتخلف تخلف.
وقال الوليد بن [48/أ]
%ج 4 ص 95%
مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز
يقُولُونَ فِي هَذِه الآيَة: إِنَّهَا لأوَّل هَذِه الأمة وَآخِرهَا.
وقال ابن زيد: كان هذا وَأهل الإِسْلَام قَلِيل، فَلَمَّا كَثُرُوا نسخهَا الله
جلَّ وعزَّ، وأباح التَّخَلُّف لمن شَاءَ، فَقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122].
قال النَّحَّاس: ذهب غيره أَنه لَيْسَ هُنَا ناسخ ولا مَنْسُوخ، وأن الآيَة الأولى
توجب إِذا نفر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو احْتِيجَ إِلَى الْمُسلمين
واستُنفِرُوا لم يسع أحدًا التَّخَلُّفُ، وَإِذا بعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم
سَرِيَّة خُلِّفَتْ طَائِفَة.
(1/29)
وهذا
مذهب ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ولما ذكر ابن الحصار قول ابن زيد قال: هذا نسخ
بالتأويل الفاسد، إنما قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 120]
تعريض لمن تخلَّف منهم عن تبوك، فهذا النهي يتوجَّهُ على كل من استُنفِرَ فلم ينفر
خاصًّا وعامًّا، ومن لم يُستَنْفَرُ لم يدخل تحته، والآية التي زعمها ناسخة إنما
نزلت في التحضيض على طلب العلم والرِّحْلة فيه، فلا معارضة بين الاثنين.
وحديث:
2811 - : «مَا اغْبَرَّت». [خ 2811]
تقدم يوم الجمعة، ورواه هنا عن إسحاق، حدثنا محمد بن المبارك، قال الجياني: نسبه
الأَصِيلِيُّ في نسخةٍ فقال: ابن منصور، وكذا قاله الكَلَاباذي، انتهى.
يحتمل أن يكون إسحاق هذا إسحاق بن زيد الخطَّابي، ساكن حران، فإن الإسماعيلي روى
هذا الحديث عن عبد الله بن أبي زياد الموصلي، قال حدثنا إسحاق بن زيد الخطَّابي،
وكان يسكن حرَّان، حدثنا محمد بن المبارك الصوري، فذكر هذا الحديث كما ذكره
البخاري وبسنده.
والمطابقة بين الآية الكريمة والترجمة عند قوله: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا
يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] فأثابهم الله جلَّ وعزَّ بخطواتهم وإن لم
يلقوا قتالًا.
بَابُ مَسْحِ الغُبَارِ عَنِ الناس في السبيل
2812 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ،
حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ [48/ب]
%ج 4 ص 96%
(1/30)
عِكْرِمَةَ،
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ائْتِيَا أَبَا
سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَياهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ
لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ، فَاحْتَبَى وَجَلَسَ، فَقَالَ:
كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ المَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ
لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَسَحَ
عَنْ رَأْسِهِ الغُبَارَ، وَقَالَ: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ،
عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ». [خ 2812]
وقد تقدم قريبًا في بناء المسجد أنه كان ينقل لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: تقتلك الفئة الباغية.
قال الحافظ أبو محمد الدمياطي: لم يكن لأبي سعيد أخ بالنسب إلا قتادة بن النعمان
الظَّفْري، فإنه كان أخاه لأمه، وقتادة مات زمن عمر، وكان عُمُرُ أبي سعيد أيامَ
بناء المسجد عشر سنين أو دونها.
قال ابن بطال: وقوله: (يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ): يريد -والله أعلم- أهل مكة
شرفها الله تعالى الذين أخرجوا عمارًا من دياره، وعذبوه في ذات الله.
قال: ولا يمكن أن يُتأوَّل على المسلمين؛ لأنهم أجابوا دعوة الله جلَّ وعزَّ،
وإنَّما يدعى إلى الله جلَّ وعزَّ من كان خارجًا عن الإسلام.
وقوله: (وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) تأكيد للأول؛ لأن المشركين إذ ذاك طالبوه بالرجوع
عن دينه.
قال: فإن قيل: إن قضية عمار كانت أول الإسلام، وهنا قال صلى الله عليه وسلم:
(يَدْعُوهُمْ) بلفظ المستقبل وما قبله لفظ الماضي؟
(1/31)
قيل
له: العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضي إذا عرف المعنى، كما يخبرنا بالماضي
عن المستقبل، فمعنى يدعوهم: دعاهم إلى الله، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذكر هذا
لما تطابقت شدته في نقله لبنتين شدته في صبره بمكة على العذاب؛ تنبيهًا على
فضيلته، وثباته في أمر الله جلَّ وعزَّ.
حديث عائشة المذكور هنا في: بَابُ الغَسْلِ بَعْدَ الحَرْبِ وَالغُبَارِ تقدم.
وقوله فيه هنا: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ) ذكر الجياني أن
محمدًا هو ابن سلام.
وقوله: (فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبي: كذا وقع في
الرواية، والصواب: [49/أ]
%ج 4 ص 97%
وطرحها فإنه جواب لما, ولا تدخل الفاء في جوابها، وكأنها زائدة كما زيدت الواو في
جوابها في قول امرئ القيس:
~فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حتف ذي رُكَام عَقَنْقَل
وإنما هو انتحى فزاد الواو.
قال المهلب: وإنما اغتسل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للتنظيف، وإن كان
الغبار في سبيل الله شاهدًا من شواهد الجهاد، ألا ترى أن جبريل لم يغسلْه عن نفسه
تبركًّا به في سبيل الله جلَّ وعزَّ.
قال ابن بطال: وفيه دلالة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلى حرب
إلا بإذن.
قوله: (وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الغُبَارُ) قال ابن التين: أي أحاط به كالعصابة.
وقيل: معناه ركب رأسه الغبار وعلق به، وفيه قتال الملائكة بسلاح.
وفيه دليل أن الملائكة صلوات الله عليهم وسلامه تصحب المجاهدين في سبيل الله جلَّ
وعزَّ، وأنها في عونهم ما استقاموا، فإن خانوا وغلُّوا فارقتهم، يدل على ذَلِكَ
قوله صلى الله عليه وسلم: «مع كل قاضٍ ملكانِ يسدِّدَانِه ما أقام الحقَّ فإذا
جارَ تركاه»، والمجاهد فحاكم بأمر الله جلَّ وعزَّ.
(1/32)
وقال
ابن المنير: إنَّما بوَّبَ البخاري على هذا الحديث هنا؛ لئلا يتوهَّم كراهيَّة
غسلِ الغبار؛ لأنه من حميد الآثار كما كره بعضهم مسح ماء الوضوء بالمنديل، وبيَّن
جوازه بالعمل المذكور.
بَابُ فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ،
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 170]
ذكر الحاكم صحيحًا عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب
إخوانك بأُحُدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضْرٍ، ترد من أنهار الجنة، وتأكل
من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظلِّ العرش، فلما وجدوا طيبَ مأكلِهم
ومشربِهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنَّا أنَّا أحياء في الجنة [49/ب]
%ج 4 ص 98%
نرزق؟ لئلا يزهدوا في الجهاد، ويتَّكلوا عن الحرب، فقال الله جلَّ وعزَّ: أنَّا
أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية.
وذكره أيضًا الطبري عن ابن مسعود مرفوعًا مسندًا.
وفي «الأسباب» للواحدي من حديث طلحة بن خِرَاش، عن جابر قال: قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ألا أخبرك؟ ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجابٍ، وإنَّه
كلَّم أباك كفاحًا، فقال: عبدي سلني أعطيك. قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل
فيك ثانية. فقال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب، فأبلغ من ورائي،
فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {وَلا تَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 169] الآية.
(1/33)
وقال
سعيد بن جُبَير: لما أُصِيبَ حمزةُ ومصعب بن عمير ومن أُصِيبَ في أُحُد، ورأوا ما
رُزِقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصبنا من الخير، فقال الله: أنا
مبلغهم عنكم، فأنزل: {وَلا تَحْسَبَنَّ}.
وقال أبو الضُّحى: نزلت في أهل أُحُدٍ خاصَّة.
وقال جماعة من أهل التفسير: نزلت في شهداء بئر معونة.
وقال آخرون: إنَّ أولياء الشهداء كانوا إذا أصابهم نعمةٌ أو سرور تحسَّروا،
وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا في القبور، فنزلت هذه الآيةُ
تنفيسًا عنهم وإخبارًا عن حال قتلاهم.
وقال مقاتل: نزلت في قَتْلَى بدرٍ، وكانوا أربعة عشر شهيدًا.
2814 - حدَّثنا إسماعيل بن عبد الله، حدَّثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس
قال: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا
أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاَثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ،
وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، قَالَ أَنَسٌ: «أُنْزِلَت فِي الَّذِينَ
قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا
قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ». [خ
2814]
وفي لفظ: «أَنَّ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَبَنِي لَحْيَانَ،
اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ
بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِم القُرَّاءَ حَتَّى إذا كَانُوا
بِبِئْرِ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وقَتَلُوهُمْ».
وقد تقدم طرفٌ منه في القنوت.
وعند الدارقطني في «الغرائب» من حديث عبد الله بن نافع عن مالك بسنده، وفيه يقول
في دعائه: «اللَّهُمَّ اشددْ وطأتَك على مضر الفدادين أهل الوَبَر، اللَّهُمَّ
سنين كسني يوسف صلى الله عليه وسلم».
قال أبو الحسن: تفرد به أحمد بن صالح، عن ابن نافع، عن مالك بهذا الإسناد.
(1/34)
وعند
الطبري: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا عمر بن يونس، عن عكرمة قال: حدثنا إسحاق بن
أبي طلحة، عن أنس في أصحاب النبي صلى
%ج 4 ص 99%
الله عليه وسلم [50/أ] الذين أرسلهم إلى بئر معونة قال: لا أدري أربعين أو سبعين،
وعلى ذَلِكَ الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من الصحابة حتى أتو
غارًا مشرفًا على الماء، فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض، أيكم يبلغ رسالة رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان الأنصاري: أنا أبلغ.
فخرج حتى أتى حيًّا منهم، فاحتبى أمام البيوت ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسولُ
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول
الله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه حتى
خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزتُ وربِّ الكعبة! فاتَّبعوا أثره حتى أتوا
أصحابه في الغار، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل.
قال إسحاق: فحدثني أنس: إنَّ الله أنزل فيهم قرآنًا: (بلغوا عنا قومنا) ثم نسخت
فرفعت بعد ما قرأناه زمانًا. وأنزل الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 169]
الآية.
(1/35)
وفي
«سير ابن إسحاق»: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا
الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، وكان
أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنَّة قَدِمَ على سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالمدينة يعرض عليه الإسلام فلم يسلِّمْ، ولم يُبعِد، وقال: يا محمد، لو بعثت
رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلى
الله عليه وسلم: أخشى عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم المنذرَ بن عمرو في أربعين رجلًا من خيار المسلمين؛ منهم
الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء، ونافع بن ورقاء، وعامر بن
فهيرة، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي من أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا
البلدين منها قريب، فلما نزلوها بعثوا حَرَام بن مِلْحان بكتاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، حتى عدا على
الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لن نخفر أبا
براء، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم وعصيَّة ورِعْلًا وذَكْوانَ والقَارة، فأجابوه،
فخرجوا حتى غَشَوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا أسيافهم [50/ب]
%ج 4 ص 100%
ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رَمَق، فعاش حتى
قتل يوم الخندق.
(1/36)
وكان
في سرح القوم: عمرو بن أمية، ورجل من الأنصار، فلم يُنبِئْهما بمصاب القوم إلا
الطير تحوم على العسكر، فأقبلا فنظرا فإذا القوم في دمائهم، فقال الأنصاري لعمرو
بن أمية: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر،
فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطنٍ قُتِلَ فيه المنذر، فقاتل حتى
قُتِلَ، وأُخِذَ عمرو أسيرًا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر، وجزَّ ناصيته،
وأعتقه عن رقبة كانت على أمِّه فيما زعم.
فلما أخبر عمرٌو النبيَّ صلى الله عليه وسلم الخبرَ قال: «هذا عمل أبي بَرَاء، قد
كنت لهذا كارهًا».
وفي «مغازي ابن عقبة» فقال: كان أمير السرية مَرْثَد بن أبي مَرْثَد.
وعند مسلم: «أنَّ ناسًا جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا
رجالًا يعلِّمونا القرآنَ والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم:
القُرَّاء، قال أنس: منهم خالي حرام، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان».
وفي «الدلائل» للبيهقي عن أنس: لما أُصِيبَ خُبَيبٌ بعثَهم رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم فأتَوا على بيت من بني سُلَيم قال: فقال خالي حَرَام لأميرهم: دعني
فلأخبر هؤلاء أنَّا ليس إيَّاهم نريد، فيُخلُون وجوهنا، قال: فأتاهم، فاستقبله
رجلٌ منهم برمح فأنفذه به ثم انطووا عليهم، فما بقي منهم مخبرٌ.
قال السُّهَيليُّ: هذا المذكور ليس عليه رونقُ الإعجاز، قال: ويقال إنه لم ينزل
بهذا النظم، ولكن بنظم معجز كنظم القرآن.
قال: فإن قيل: إنه خبر والخبر لا ينسخ؟ قلنا: لم ينسخ منه الخبر، وإنما نسخ الحكم،
فإن حكم القرآن أن يُتلَى في الصلاة، وأن لا يمسَّه إلا طاهر، وأن يكتب بين
الدَّفتين، وأن يكون تعلمه من فروض الكفاية، فكل ما نُسِخَ ورُفِعَتْ منه هذه
الأحكام، وإن بقي محفوظًا فهو منسوخ، فإنْ تضمَّن حكمًا جاز أن يبقى ذلك الحكم
معمولًا به.
(1/37)
وأنكرت
ذلك المعتزلة، وأن يُضمَّنَ خبرًا مع ذلك الخبر مصدَّقًا به، وأحكام التلاوة
منسوخة منه، كما نزل: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب)، فهذا خبر حق، والخبر لا
ينسخ، لكن نسخ منه أحكام التلاوة له. وكان قوله: «لو أن لابن آدم» في سورة [يونس]
صلى الله عليه وسلم بعد قوله: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، كذلك قال ابن سلام.
وقال المهلَّبُ: فيه دلالة على أنَّ كلَّ من قُتِلَ غدرًا شهيد، واختلف الناس في
كيفية حياة
%ج 4 ص 101%
الشهيد، وأولى ما قيل فيها: أن تكون الأرواح تُرزَقُ، وكذا جاء الخبر في «صحيح ابن
حبان»: «إنما نسمةُ المؤمن طائرٌ تَعلُقُ في شجر الجنة»، قال أهل اللُّغة: يعني
تأكل منها.
وقال ابن قُرْقُول: بضمِّ اللام، أي: تتناوله، وقيل: تَشمه، وبالفتح أيضًا،
ومعناه: تتعلَّق وتلزم ثمارها وتأوي إليها، وقيل: هما سواء.
وقد روي: «تسرح»، وهو يشهد لضم اللام، ومن رواه بالتاء عنى النسمة.
ويحتمل أن يرجع إلى الطير على أن يكون جمعًا، ويكون ذكر النَّسمة لأنه أراد الجنسَ
لا الواحد، وقد يكون التأنيث للروح؛ لأنها تُذكَّر وتُؤنَّث، وحديث «تعلق» عام،
وقد خصصه القرآن العزيز باشتراط الشهداء.
قال ابن التين: وقول الدَّاودي: «إنها في حواصل طيرٍ» لا يصح في النقل، ولا الاعتبار؛
لأنها إن كانت هي أرواح الطير، فكيف تكون في الحواصل دون سائر الجسد؟
وإن كان لها أرواحٌ غيرها فكيف تكون في جسد؟ وكيف تصل لهم الأرزاق التي ذكر الله
جلَّ وعزَّ؟ انتهى كلامه.
(1/38)
وفيه
نظر من حيث إن الحديث الذي أنكره خرَّجه مسلم في «صحيحه»، وعند الحاكم وعلى شرط
مسلم من حديث ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير - زاد ابن أبي عاصم:
وسعيد بن جبير - عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أُصِيبَ
إخوانكم بأُحُدٍ جَعَل الله أرواحَهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنهارَ الجنَّة
وتأكل من ثمارها» الحديث.
ومن حديث الحسين بن واقد عند ابن أبي عاصم، عن الأعمش، عن شَقِيق، عن ابن مسعود
حدَّثَ: «أن الثمانيةَ عشرَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلَ الله
أرواحهم في الجنةِ في طيرِ خُضْرٍ».
وفي لفظ: «أرواح الشهداء عند الله كطائرٍ خُضر في قناديل تحت العرش».
ومن حديث عطية، عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرواح الشهداء في
طيرٍ خُضْرٍ تَرعَى في رياض الجنة، ثم يكون مأواها قناديل معلَّقة بالعرش».
ومن حديث موسى بن عبيدة الرَّبَذَي عن عبيد الله بن يزيد، عن أم فلانة -أظنها: أم
مبشر -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرواحَ المؤمنين طيرٌ خُضْر في
حُجَرٍ من الجنة يأكلون من الجنة، ويشربون من الجنة».
وبسند صحيح إلى كعب بن مالك يرفعه: «أرواحُ الشهداءِ في طيرٍ خُضْرٍ».
وعند مالك في «الموطأ»: «نَسَمَةُ المؤمن طائرٌ».
وتأَوَّلَ بعض العلماء [51/ب]
%ج 4 ص 102%
أن «في» في قوله «جوف طير» بمعنى «على»، فيكون المعنى: أرواحهم على جوف طير خضر،
كما قال جلَّ وعزَّ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي:
على جذوع.
قيل: وجائز أن يُسمَّى الطير جوفًا لهم؛ أي هو محيط به ومشتمل عليه كالحامل والجنين،
قاله عبد الحق.
و (مَعُونَةَ): بفتح الميم وضم العين المهملة وبعد الواو نون، بين مكَّة – شرَّفها
الله تعالى – وعُسْفَان، أرض لهُذَيل.
وعن الكندي: هي بين جبال يقال لها: أَبلى، في طريق المصعد من المدينة إلى مكة، وهي
لبني سُلَيم.
(1/39)
وقال
أبو عبيدة في «كتاب المقاتل»: هي ماء لبني عامر بن صَعْصَعة.
وقال الواقدي: هي أرض في بني سُلَيم وأرض بني كلاب.
و (رِعْلٍ): بكسر الراء والعين المهملة ثم لام؛ هو ابن مالك بن عوف بن امرئ القيس
بن بُهثَة بن سُلَيم بن منصور.
و (ذَكْوَانَ): هو ابن ثَعْلَبة بن سُلَيم بن منصور.
قال ابن دريد: اشتقاقه من شيئين: إما من الذكاء ممدود، وهو تمام السنِّ، أو من ذكا
النار مقصور.
واشتقاق (رِعل) من الرِّعْلة، وهي النخلة الطويلة، والجمع رعال، والرِّعْلَة:
القطعة من الخيل، والرَّاعل: نخل من النخل معروف بالمدينة، وناقة رعلاء: إذا
قُطِعَتْ أُذنُها فتُرِكَتْ منها قطعةٌ متعلِّقة.
و (عُصَيَّةَ): قال الهجري: هو ابن خُفَاف بنُ امرئ القيس بن بُهْثَة بن سُلَيم بن
منصور.
ثم ذكر البخاري حديث جابر:
2815 - «اصْطَبَحَ نَاسٌ الخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ.
فَقِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ اليَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هذا فِيهِ». [خ
2815]
وهي من المعلوم أن ذلك كان قبل تحريمها، فلم يمنعهم ما كان في علم الله من
شُرْبِها، ولا كونها في بطونهم من حُكم الشَّهادة وفضلها؛ لأنَّ التحريم إنما يلزم
بالنهي، وما كان قبل النهي فمعفوٌّ عنه.
بَابٌ: الجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم
عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: «مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الجَنَّةِ».
هذا التعليق رواه البخاري في الجزية عن الفضل بن يعقوب، عن عبد الله بن جعفر
الرَّقِّي، عن المعتمر بن سليمان، عن سعيد بن عبيد الله الثَّقَفي، عن بكر بن عبد
الله المُزَني وزياد بن جُبَير، كلاهما عن جُبَير بن حيَّة الثقفي عنه مطوَّلًا،
يذكر إسلام المَرْزُبَان ومشاورة عمر له في أمر القتال.
(1/40)
وقد
اختُلِفَ في المعتمر بن سليمان هذا، فزعم أصحابُ الأطرافِ والمستخرجات والمترجمون
أنه ابن سليمان بن طَرْخَان التَّيمي.
وزعم شيخنا العلَّامة أبو محمد الدِّمْيَاطيُّ أنه وَهَم، وصوابه: المُعَمَّرُ بنُ
سليمان الرَّقِّي؛ لأن عبد الله بن جعفر الرقي لا يروي عن التيمي.
ولم أر هذا لغيره؛ [52/أ]
%ج 4 ص 103%
فينظر.
ومعمر لم أر أحدًا ذكره في رجال البخاري، ولما ذكروا ابن جعفر قالوا: روى عن
المعتمر التيمي، والله أعلم.
قال البخاري:
وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي
الجَنَّةِ، وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَى».
هذا التعليق خرجه أيضًا عن أحمد بن إسحاق، عن يعلى بن عُبَيد، حَدَّثَنَا عبد
العزيز بن سِيَاه، عن حَبِيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن سهل بن حنيف قال: قَال
عمر، فذكره.
2818 - حدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ
أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَكَانَ كَاتِبَهُ -
قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ
السُّيُوفِ». [خ 2818]
تَابَعَهُ الأُوَيْسِيُّ، عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ.
وفي لفظ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ
فِيهَا العدوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فقال:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ
العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا»، ثُمَّ قال: «اللَّهُمَّ
مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ
وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ».
(1/41)
وهذا
الحديث ليس من الكتاب في شيء؛ لأنه لم يكتب لسالم، إنما الكتاب لعمر بن عبيد الله،
فأخبر بالواقع، فصار وكأنَّه فيها شوب من الاتصال.
قال ابن المنير: كأنَّ البخاريَّ أراد بالترجمة أن السيوف لما كانت لها بارقةُ
شُعاع، كان لها أيضًا ظلٌّ تحتَها.
قال الخطَّابي: يقال: أَبرَقَ الرَّجلُ بسيفه إذا لَمعَ به، ويُسمَّى السيف
إبريقًا، وهو أفعل من البريق.
وقال المهلَّبُ: يجوز أن يُقطع لقتلى المسلمين كلُّهم بالجنة؛ لقول عمر من غير أن
يُشخص من هذِه الجملة واحد، فيقال: إنَّ هذا في الجنة أو يخبر فيه عن نفسه؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم: «والله أعلم من يجاهد في سبيله»، فنحن نقطع بظاهر الحديث في
الجملة، ونكل التفصيل والغائب من البيان لله جلَّ وعزَّ؛ لئلا يُقْطَعَ في علم
الله بغير خبر، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سُئل فقيل له: من يقاتل
للمغنم، وليُرى مكانه، وللدنيا، فلما فصل له تَبرأ من القطع على الغيب فقال: «من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في الجنة».
وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ) أي ثواب الله،
والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله تعالى، ومشي المجاهدين في
سبيل الله [52/ب]
%ج 4 ص 104%
فأحضروا فيه بصدق وأثيبوا.
وعن القرطبي: هذا من الكلام البديع النَّفيس الذي جمع ضروبَ البلاغة من جزالة
اللفظ وعذوبته، فإنَّه استفيد منه - مع وجازته - الحضُّ على الجهاد، والإخبارُ
بالثواب عليه، والحضُّ على مقارنة العدو، واستعمال السيوف والاعتماد عليها،
واجتماع المقاتلين حين الزَّحف حَتَّى تكون سيوفهم بعضُها يقع على العدو، وبعضُها
يرتفع عنهم حَتَّى كأنَّ السيوفَ أظلَّت الضَّاربين بها.
قال ابن الجوزي: المراد أن دخوله الجنة يكون بالجهاد، والظِّلال: جمع ظل، فإذا دنا
الشخص من الشخص صار تحتَ ظلِّ سيفه.
(1/42)
وقال
في موضع آخر: وإذا تدانى الخصمانِ صارَ كلُّ واحدٍ منهما تحتَ ظلِّ سيفِ الآخر،
فالجنة تُنالُ بهذا.
بَابُ مَنْ طَلَبَ الوَلَدَ لِلْجِهَادِ
2819 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا
وسلَّمَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مئة امْرَأَةٍ - أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
- كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ
صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ
يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ،
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ». [خ 2819]
كذا خرجه البخاري معلَّقًا، وأسنده في مواضع ستَّة؛ منها في الأيمان والنذور عن
أبي اليمان شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج.
وفي لفظ: «ستين امرأة»، وفي رواية: «سبعين»، وفي رواية: «مئة» من غير شك، وفي
أخرى: «تسعة وتسعين» من غير شك.
وفي رواية: «فقال الملك: قُلْ إن شاء الله، فلم يَقُلْ ونَسِيَ».
وطريقُ الليث رواها أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير عن الليث، وكذلك مسلم في
«صحيحه» من حديثه.
قال المهلَّب: فيه حضٌّ على طلبِ الولد بنيَّة الجهاد، وقد يكون الولد بخلاف ما
أمله به، ولكن قد تمَّ الأجر للوالد في النية.
(1/43)
وفيه
أن من قال: إن شاء الله وتبرَّأَ من المشيئة، ولم يعطِ الحصر لنفسه في أعماله؛ فهو
حري أن يبلغ أمله ويُعطي أُمنيَّته، وليس كل من قال قولًا ولم يستثنِ فيه المشيئةَ
فواجبٌ ألا يبلغ أمله؛ بل منهم من يشاء الله إتمام أمله، ومنهم من يشاء [أن] لا
يتمَّه بما سبق في علمه، لكن هذِه التي أخبر عنها سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنَّها ممَّا لو [53/أ]
%ج 4 ص 105%
استثنى لتمَّ له أمله، فدلَّ هذا على أن الأقدارَ في علم الله جلَّ وعزَّ على
ضروب، فقد يُقدَّرُ للإنسان الرِّزقُ والولدُ والمنزلةُ إن فعل كذا، أو قال أو
دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يُعْطَ ذَلِكَ الشيء.
وأصل هذا في قصة يونس صلى الله عليه وسلم {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ في بَطْنِهِ} [الصافات: 143 - 144] فبان بهذِه
الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرَج منه.
وفيه: أن الاستثناءَ يكون بإثر القول، وإن كان فيه سكوت يسيرٌ لم تنقطع به دونه
الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين.
ووقع في رواية: «لأَطِيفَنَّ» قال المبرد: كلاهما صحيح.
قال القرطبي: وأصله الدوران حول الشيء، وهو هنا كناية عن الجماع، وهذا يدلُّ على
ما كان الله جلَّ وعزَّ خصَّ به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه من صحة البِنية،
وكمال الرجولية، مع ما كانوا عليه من المجاهدات في العبادة، والعادة في مثل هذا
لغيرهم الضعف عن الجماع، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم
في معجزاتهم وأحوالهم.
واقتضى هذا الخبر أيضًا: أنَّ سليمان صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على وطء مئة
امرأة، ينزل في كل امرأة ماءه في ليلة واحدة، ولسنا نحفظ في هذا خبرًا صحيحًا غير
هذا إلا ما ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعطي قوة ثلاثين رجلًا
في الجماع، وفي «الطبقات»: «أربعين».
(1/44)
وهي
قوة أكثر من قوة سليمان، وكان إذا صلَّى العصرَ دخل على نسائه فطاف على جميعهنَّ
بغُسلٍ واحد، ثم يَبِيتُ عند التي هي ليلتها، وذلك لأنَّه كان قادرًا على توفية
حقوق الأزواج، وكان هذا زيادة، وليس يقدر على ذلك غيره، مع قلة الأكل.
وأما حديث عائشة: «يَدخُلُ على كلِّ نسائه فيدنو من كلِّ امرأة منهن يقبل ويلمس من
غير مسيس ولا مباشرة، ثم يبيت عند التي هو نوبتها»، رواه الدارقطني من حديث ابن
أبي الزناد عن هشام عن أبيه. وهو ضعيف.
وقوله: «لأطيفن» هذا الكلام قَسَم؛ لأنَّ اللام هي التي تدخل على جواب القسم،
وكثيرًا ما تحذف معها العرب المقسم به اكتفاءً بدلالتها على المقسم به، لكنها لا
تدل على مقسم به معين.
وقوله: (كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ) وفي رواية: «بغلام» ظاهره الجزم على أنَّ
الله تعالى يفعل ذلك، لصدق رجائه في حصول الخير، وظهور الدين والجهاد، ولا يُظَنُّ
به أنه قَطَعَ بذلك على الله تعالى إلا مَن جَمِيلِ حال الأنبياء صلوات الله
[53/ب]
%ج 4 ص 106%
وسلامه عليهم في معرفتهم بالله جلَّ وعزَّ وتأدُّبهم معه.
ويريد بقوله: (صَاحِبُهُ) مَنْ يُؤيِّدُهُ من الإنس والجن، وإن كان الملك فهو الذي
بالوحي، وقد أَبْعَدَ من قال: هو خاطره.
والمقصود: أنه ما استثنى بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه؛
لأنَّ ذلك بعيد عن الأنبياء، وإنما هذا كما اتَّفق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما سُئِلَ عن الروح فوعدهم الجواب غدًا، جازمًا بما عنده من معرفته بالله
تعالى، وصدق وعده في تصديقه وإظهار كلمته، لكنه غفل عن النطق بها لا عن التفويض
إلى الله بقلبه، فكان بعد ذلك يستعمل لفظ الاستثناء حتى في الواجب، وهذا لعلوِّ
مناصب الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وكمالِ معرفتهم بالله تعالى، يعاتبون على
ما لا يعاتب عليه غيرهم.
(1/45)
وفي
قوله: (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لم يَحْنَثْ) دليل على أنه أقسم على شيئين:
الوطء والولادة، لأنه فعل الوطء حقيقة، والاستيلاد لم يتم، فلو تمَّ لم يقل فيه ثم
يخيب.
ودليلٌ على جواز قول «لو» و «لولا» بعد وقوع المقدور، كقوله جلَّ وعزَّ: {لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80]، وقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ}
[الفتح: 25].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم لو، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان»
فمحمول على من يقول ذلك معتمدًا على الأسباب معرضًا عن المقدور، أو متضجرًا منه.
قال ابن الجوزي: إن قال قائل: من أين لسليمان صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى
يخلق من مائِهِ في تلك الليلة مئة غلام، لا يجوز أن يكون بوحي لأنه ما وقع، ولا
يجوز أن يكون الأمر في ذَلِكَ إليه؛ لأنه لا يكون إلا ما يريد الله جلَّ وعزَّ؟
قال: فالجواب أنه من جنس التمني على الله، والسؤالِ له جلَّ وعزَّ أن يفعل والقسم
عليه، كقول أنس بن النضر: والله لا تكسر ثَنيَّة الرُّبيِّع. انتهى.
قول أنس ليس بتمنٍّ، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو
أقسم على الله لأبرَّه»، فسماه قسمًا، ولم يسمه تمنيًا.
قال: وأما البخل فهو أن يضنَّ الإنسان بماله أن يبذله في المكارم أو اللَّوازم.
والجبن: ضدُّ الشجاعة، وإنما يكون من ضعفِ القلب وخشيةِ النفس.
وأرذلُ العمر: أردؤه، وهي حالة الهرم.
والغمُّ: لما يتوقع، والحزن: لما وقع.
والعجز: أن لا يمكنه الفعل.
والكسل: أن يقدر عليه [54/أ]
%ج 4 ص 107%
ويتوانى عنه.
وضلع الدين: ثقله.
وقال المهلب: الجبن يؤدي إلى عذاب الآخرة، لأن الجبان يفر من الزحف، فيدخل تحت
قوله جلَّ وعزَّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]، وربما
يُفتَتنُ في دينه فيرتدّ لجبن أدركه وخوف على مهجتِه من الأسر والعبودية.
(1/46)
وأرذلُ
العمر: الضعفُ عن أداء الفرائض، وعن خدمة نفسه في التنظُّف وشبهه.
والعجز عند أهل الكلام: هو ما لا استطاعة لأحد على ما يعجز عنه؛ لأن الاستطاعة
عندهم مع الفعل.
وأما أهل الفقه: فيقولون هو ما يستطيع أن يعمله إذا أراد، لأنهم يقولون: إن الحج
ليس على الفور، ولو كان على المهلة عند أهل الكلام لم يصح معناه؛ لأن الاستطاعة لا
تكون إلا مع الفعل، والذين يقولون بالمهلة يجعلون الاستطاعة قبل الفعل.
وأما الكسل: فهو ضعف الهمة، وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما استعيذ منه؛
لأنه يبعد عن الأفعال الصالحة.
وقول البخاري في:
بَابُ مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الحَرْبِ
(قالَهُ أبو عثمانَ عن سَعْدٍ) يعني معلَّقًا، ذكره مسندًا في «صحيحه» عن محمد بن
أبي بكر، وحامد بن عمر، ومحمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان.
وأما امتناع طلحة وسعد والمقداد عن الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلخشية زيادةٍ أو نقصٍ، فيدخلوا في معنى قوله: «من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ
مقعدَه من النار»، فاحتاطوا لأنفسهم أخذًا بقول عمر ?: «أقلُّوا الحديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم».
وحديثهم عن يوم أحد: يدلُّ على أن للرجل أن يحدث عما تقدم له من العناء في إظهار
الإسلام وإعلاء كلمته، ليتأسَّى بذلك مُتَأسٍّ، فلا يدخل ذَلِكَ في باب الرياء؛
لأن إظهار الفرائض أفضل من سترها، وكان عليهم نصرُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرضًا.
و (النَّفِيرُ): زعم المهلب أنه هو والجهاد يجب وجوبَ فرضٍ، ووجوبَ سنةٍ؛ فأمَّا
من استُنفِرَ لعدوٍّ ظاهر فالنفير فرض عليه، ومن استُنفِرَ لعدوٍّ غير غالب ولا
قويٍّ فيجب وجوب سنة، من أجل طاعة الإمام المستنفر؛ لأن المستَنفِرَ للعدو الغالب
قد لزم الجهادُ فيه كلَّ أحد بعينه، وأما العدو المقاوم أو المغلوب فلم يلزم
الجهاد فيه لزومَ [54/ب]
%ج 4 ص 108%
(1/47)
الأول،
وإنما لزم الجماعة، فمن انتدب له قام به، ومن قعد أرجو أن يكون في سعة.
ومن ذلك معنى قوله:
وقول البخاري في:
بَابُ مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الحَرْبِ
(قالَهُ أبو عثمانَ عن سَعْدٍ) يعني معلَّقًا، ذكره مسندًا في «صحيحه» عن محمد بن
أبي بكر، وحامد بن عمر، ومحمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان.
وأما امتناع طلحة وسعد والمقداد عن الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلخشية زيادةٍ أو نقصٍ، فيدخلوا في معنى قوله: «من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ
مقعدَه من النار»، فاحتاطوا لأنفسهم أخذًا بقول عمر ?: «أقلُّوا الحديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم».
وحديثهم عن يوم أحد: يدلُّ على أن للرجل أن يحدث عما تقدم له من العناء في إظهار
الإسلام وإعلاء كلمته، ليتأسَّى بذلك مُتَأسٍّ، فلا يدخل ذَلِكَ في باب الرياء؛
لأن إظهار الفرائض أفضل من سترها، وكان عليهم نصرُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرضًا.
و (النَّفِيرُ): زعم المهلب أنه هو والجهاد يجب وجوبَ فرضٍ، ووجوبَ سنةٍ؛ فأمَّا
من استُنفِرَ لعدوٍّ ظاهر فالنفير فرض عليه، ومن استُنفِرَ لعدوٍّ غير غالب ولا
قويٍّ فيجب وجوب سنة، من أجل طاعة الإمام المستنفر؛ لأن المستَنفِرَ للعدو الغالب
قد لزم الجهادُ فيه كلَّ أحد بعينه، وأما العدو المقاوم أو المغلوب فلم يلزم
الجهاد فيه لزومَ [54/ب]
%ج 4 ص 108%
الأول، وإنما لزم الجماعة، فمن انتدب له قام به، ومن قعد أرجو أن يكون في سعة.
ومن ذلك معنى قوله:
بَابُ الكَافِرِ يَقْتُلُ المُسْلِمَ، ثُمَّ يُسْلِمُ، فَيُسَدِّدُ بَعْدُ
وَيُقْتَلُ
(1/48)
2826
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ
يَدْخُلاَنِ الجَنَّةَ: يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلُ، ثُمَّ
يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى القَاتِلِ، فَيُسْتَشْهَدُ». [خ 2826]
عند النسائي: «تعجب من رجلين».
وعند الإسماعيلي: «يضحك الله عزَّ وجلَّ»، قال: وفي رواية التنيسي: «يضحك الرب
عزَّ وجلَّ».
قال ابن الجوزي: أكثر السلف كانوا يمتنعون من تفسير مثل هذا ويمرونه كما جاء.
قال: وينبغي أن تُرَاعَى قاعدة في هذا قبل الإمرار وهي: أنه لا يجوز أن يحدث لله
صفة، ولا تشبه صفاته الخلق، فيكون والعياذ بالله معنى إمرار الحديث الجهل بتفسيره.
قال الخطَّابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح، أو يستفزهم الطرب غير
جائز على الله جلَّ وعزَّ، وإنما هذا مثل مضروب لهذا الصنيع الذي يحل محل التعجب
عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعنى الضحك في صفة الله تعالى: الإخبار عن الرضى
بفعل أحد هذين، والقبول [من] الآخر، ومجازاتُهما على صنيعهما [55/أ]
%ج 4 ص 109%
الجنةَ مع تباين مقاصدهما.
وقال ابن حبان في كتاب «التقاسيم والأنواع»: يريد: أضحكَ اللهُ جلَّ وعزَّ
ملائكتَه صلى الله عليهم، وعجبهم من وجود ما قضى.
وقال ابن قُرْقُول: أن يُبْدِي الله جلَّ وعزَّ من فضله ونعمه توفيقًا لهذين
الرجلين، كما تقول العرب: ضحكت الأرض بالنبات إذا ظهر فيها، وكذلك قالوا للطلع إذا
انفتق عنه كافوره أنه الضحك؛ لأجل أن ذَلِكَ يبدو فيه البياض الظاهر كبياض الثغر.
وقال الداودي: أراد قبول أعمالهما ورحمتهما، والرِّضا عنهما.
(1/49)
2827
- حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ،
أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْهِمْ لِي، فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ
العَاصِ: لاَ تُسْهِمْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
«هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ»، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ: وَاعَجَبًا
لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ، يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجُلٍ
مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ، وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَهِ، فَلاَ
أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. [خ 2827]
قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ.
حديث عمرو هذا خرجه البخاري في المغازي عاليًا عن موسى، عن عمرو بن يحيى بن سعيد،
عن جده.
وعند أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبانَ بن سعيد بن العاص على
سرية من المدينة، قِبَلَ نجد، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخيبر بعد أن فتحها، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة: فقلت: لا
تقسم لهم يا رسول الله! فقال أبان: أنت هنا يا وَبْرُ، تَحدَّرَ علينا من رأسِ
ضالٍ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجلس يا أبان» ولم يقسم لهم.
وفي لفظ: «فقال سعيد بن العاص: يا عجبًا لوَبْر؟».
قال أبو بكر الخطيب: كذا عند أبي داود «فقال سعيد» وإنما هو: ابن سعيد، واسمه
أبان. [55/ب]
%ج 4 ص 110%
قال: والصحيح أن أبا هريرة هو السائل، كما تقدم عند البخاري. انتهى.
(1/50)
على
تقدير صحة حديث أبي داود ومقاومته لحديث البخاري يحتمل أنهما سألا جميعًا، وأن
أحدهما جازى الآخر بما أسلفه من قوله: «لا تقسم له» والله أعلم.
قال ابن الجوزي: قوله: (قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ) بقافين لا أدري من يعني، فإنَّ
العباس بن عبادةَ والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وهو ابن قوقل، قتلهما صفوان بن أمية،
انتهى.
وفيه نظر من حيث إن ثعلبة الذي قال هو قوقل ليس كذلك، وأما قوقل اسمه: غَنمُ بن
عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، كذا ذكره الكلبي وأبو عبيد وابن دريد في آخرين.
والوَبْر: قال ابن قُرْقُول: كذا لأكثر الرواة بسكون الباء الموحدة، وهي دُوَيبة
غبراء، ويقال: بيضاء على قدر السِّنَّور، حسنة العينين، من دواب الجبال، وإنما قال
له ذلك احتقارًا.
وضبطها بعضهم بفتح الباء، وتأوله: جمع وبرة وهو شعر الإبل؛ أي: إن شأنه كشأن
الوبرة؛ لأنه لم يكن لأبي هريرة عشيرة.
وعن الخطَّابي: أحسب أنها تؤكل؛ لأني وجدتُ بعض السلف يوجب فيها الفدية.
وقال القزَّاز: هي ساكنة الباء: دويبة أصغر من السِّنَّور، طحلاء اللون، يعني:
تشبه الطحال لا ذنب لها، وهي من دواب الغور، والجمع: وَبَار.
وفي «المحكم»: على قدر السِّنَّور، والأنثى وَبْرَة، والجمع: وَبْرٌ، ووُبُورٌ،
ووِبارٌ، ووِبارَةٌ، وإِبارَةٌ.
وفي «الصحاح»: ترجُنُ في البيوت: أي: تقيم بها وتألفها.
وقال أبو موسى المديني في «الكتاب المغيث»: يجب على المحرم في قتلها شاة؛ لأنها
تجترُّ كالشاة، وقيل: لأنَّ لها كرشًا كالشَّاة.
وفي «مجمع الغرائب» عن مجاهد: في الوبر شاة، فذكر مثله.
وفي «البارع» لأبي علي عن أبي حاتم: الطَّائيون يقولون لما يكون في الجبال من
الحشرات: الوَبرُ، وجمعها: الوِبَارَةُ، ولغة أخرى: الوَبَارَةُ، ولغة أخرى
الإبارة بالكسر والهمز.
(1/51)
وذكر
ابن دحية في كتابه «مرج البحرين»: وكَلْب بن وَبْرة بن تَغْلب بن حلوان- بسكون
الباء؛ وهي دويبة كالسِّنَّور، ووهم الجواليقي حيث قال: كلب بن وَبَرَة بفتح
الباء، انتهى.
لكن الجواليقي لم يقل هذا إلا تبعًا للنَّسَّابين واللغويِّين، فينظر.
قال ابن بطال: وإنما سكت أبو هريرة ? عن أبان في [56/أ]
%ج 4 ص 111%
قوله له هذا لأنه لم ير فيه شيء يَنقُصُ دينَه، إنما تنقَّصه بقلة العشيرة والعدد
أو بضعف المنة.
وقوله: (تَدَلَّى عَلَيْنَا) أي: انحدر، ولا يُخبَر بهذا إلا عمَّن جاء من مكان
عالٍ، قال الطبري: هذا هو المشهور عند العرب.
وقوله: (قَدُومِ) قال ابن قُرْقُول: هو بفتح القاف وتخفيف الدال اسم موضع، وضم
المروزي القافَ، والأول أكثر، وتأوله بعضهم: قدوم ضأن؛ أي: المتقدم فيها، وهي
رؤوسها، وهووَهَمٌ بَيِّنٌ.
وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون جمع قادم؛ مثل: ركوع وراكع، وسجود وساجد، ويكون
المعنى: تدلَّى علينا من جملة القادمين، أقام الصفة مقام الموصوف، ويكون (مِنْ) في
قوله: (مِنْ قَدُومِ) تبيينًا للجنس، كما لو قال: تدلَّى علينا من ساكني ضأن، ولا
تكون (مِنْ) مرتبطة بـ (تَدَلَّى) كما هي مرتبطة بالفعل في قولك: تَدَلَّيْتُ من
الجبل؛ لاستحالة تدلِّيه من قوم، لأنه لا يقال: تدليت من بني فلان.
قال: ويحتمل أن يكون (قَدُومِ) مصدرًا وصف به الفاعلون، ويكون في الكلام حذف
وتقديره: تدلَّى علينا من ذوي قدوم، فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما قالوا:
رجل صوم، أي ذو صوم، و (مِنْ) على هذا التقدير أيضًا تبيين للجنس كما كانت في
الوجه الأول.
قال: ويحتمل أن يكون معناه: تدلَّى علينا من مكان قدوم ضأن، ثم حذف المكان وأقام
القدوم مكانه، كما قالت العرب: ذهب به مذهب، وسلك به مسلك، يريد المكان الذي يسلك
فيه ويذهب، ويشهد لهذا رواية من روى: «من رأس ضأن».
(1/52)
ويحتمل
أن يكون اسم المكان «قَدُوم» بفتح القاف دون الضم؛ لقلة الضم في هذا البناء في
الأسماء وكثرة الفتح.
ويحتمل أن يكون «قَدُّوم ضأنٍ» بتشديد الدال، وفتح القاف لو ساعدته رواية؛ لأنه من
بناء أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشام، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إن الحازميَّ ذكر القرية التي اختتن بها إبراهيم صلى الله عليه
وسلم، والجبل الذي قرب المدينة بتخفيف الدال، ثم ذكر عن ثعلب أنه قال: القدُّوم
بتشديد الدال اسم موضع.
قال: قلت: إن أراد أحد هذين الموضعين فلا يتابع على ذلك؛ لاتفاق [56/ب]
%ج 4 ص 112%
أئمة النقل على خلاف ذلك، وإن أراد موضعًا ثالثًا فالله أعلم.
وقال أبو موسى في «المغيث» عن ابن دريد: «قدوم» ثنية بسراة أرض دَوْس.
وقال أبو عبيد: رواه الناس عن البخاري «ضأن» بالنون إلا الهَمْدَاني فإنه رواه:
«من قدوم ضأل» باللام، وهو الصواب إن شاء الله، والضأل: السدر البري.
وأما إضافة هذِه الثنية إلى الضأن فلا أعلم لها معنى، وقد قدمنا من عند أبي داود
أنه باللام.
وقال ابن الجوزي: كذا هو في أكثر الروايات، وزعم أبو ذر الهروي أن «ضأن» بالنون
جبل بأرض دَوْس، بلد أبي هريرة، وقيل: ثنية.
قال ابن قُرْقُول: وتأوَّله بعضهم على أنه الضأن من الغنم، وجعل قدومها؛ أي:
رؤوسها -يعني: المتقدم منها-، والوَبَر بفتح الباء: شعر رؤوسها.
قال: وهذا تكلف وتحريف.
قال ابن بطال: وفيه حجة على الكوفيين في قولهم في المدد يلحق بالجيش في أرض الحرب
بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم في الغنيمة، وسائر العلماء إنما تجب عندهم الغنيمة لمن
شهد الوقعة، واحتجوا بحديث أبي داود عن أبي هريرة؛ وأن سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يسهم لهم، انتهى.
(1/53)
أبو
حنيفة إنما يسهمُ لمن غاب عن الوقعة لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين، كما
فعل بعثمان حين قسم له من غنائم بدر بسهمه ولم يحضرها؛ لأنه كان غائبًا في حاجة
الله ورسوله؛ فكان كمن حضرها، أو مثل أن يبعثه الإمام لقتال قوم آخرين فتصيب
الإمامَ غنيمةٌ بعد مفارقة ذَلِكَ الرجل إياه، أو يبعث رجلًا ممن معه في دار الحرب
إلى دار الإسلام؛ ليمدَّه بسلاح ورجال فلا يعود ذَلِكَ الرجل إلى الإمام حَتَّى
يغتنم غنيمة فهو شريك فيها، وهو كمن حضرها، وكذلك من أراد الغزو فردَّه الإمام،
وشغله شيء من أمور المسلمين فهو كمن حضرها.
قال الطحاوي: وأما حديث أبي هريرة فإنما ذَلِكَ - والله أعلم- لأنه وجَّه أبانَ
إلى نجدٍ قبل أن يتهيَّأ خروجه إلى خيبر، فتوجه أبان ثم حدث خروجه صلى الله عليه
وسلم [إلى] خيبر فكان ما غاب فيه أبان ليس هو شُغْلٌ شُغِلَ به عن حضورها بغير
إرادته إياها، فيكون كمن حضرها.
قال ابن بطال: وقد ورد حديث يدل على سبب منع القسمة [57/أ]
%ج 4 ص 113%
لأبي هريرة من خيبر، رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن [أبي عمار، عن]
أبي هريرة قال: ما شهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مغنمًا إلا قسم لي، إلا
خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصَّة، شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأنَّ الله جلَّ
وعزَّ قد كان وعدهم بها بقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}
[الفتح: 21].
ولما ذكر الطحاوي ما رواه أبو أسامة، عن بُرَيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى
قال: «قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم مع جعفرٍ من أرض الحبشة بعد فتح خيبرَ
بثلاثٍ، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهدها غيرنا» قال: هذا يحتمل أن يكون لأنهم
كانوا من أهل المدينة، أو يكون استطاب لهم أنفسَ أهل الغنيمة، انتهى كلامه.
(1/54)
وفيه
نظر في قوله «كانوا من أهل المدينة»، إن أراد أهلها الأصليين فغير مسلم، لأن أولئك
هم الأنصار، وهؤلاء ليسوا أنصارًا، وإن أراد أنهم قطنوها فلا فرق بينهم وبين أبان
ومن معه لأنهم أيضًا قطنوها، وأشد من ذلك أن سرية أبان كان فيها أخلاطٌ من الأنصار
وغيرهم، فهم أولى بأن ينالهم من أهل المدينة من القادمين مع أبي موسى.
بَابُ مَنِ اخْتَارَ الغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
2828 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ البُنَانِيُّ،
عن أَنَسٍ: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لاَ يَصُومُ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله
عليه وسلم مِنْ أَجْلِ الغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ صلى الله عليه وسلم لَمْ أَرَهُ
مُفْطِرًا إِلَّا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى». [خ 2828]
هذا ما تفرد به البخاري عن بقية الجماعة، وكأن أبا طلحة اعتمد على قوله صلى الله
عليه وسلم: «تقوَّوا على عدوِّكم بالإفطار».
وأيضًا فالمجاهد يكتب له أجر الصائم القائم، وقد مثله صلى الله عليه وسلم بالصائم
لا يفطر والقائم لا يفتر، فلما مات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثر
الإسلام واشتدت وطأة أهله على عدوهم، ورأى أنه في سَعَةٍ عمَّا كان عليه من
الجهاد، رأى أن يأخذ بحظه من الصوم ليجتمع له هاتان الطاعتان العظيمتان.
قال ابن التين: يؤخذ من قول أنس: (لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلَّا يَوْمَ فِطْرٍ
أَوْ أَضْحَى) أنه كان يرى صيام الأيام المعدودات، وهو خلاف ما عليه الفقهاء، وقد
تقدم.
بَابٌ: الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى القَتْلِ
2829 - 2830 - حَدَّثَنَا [57/ب]
%ج 4 ص 114%
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالغَرِقُ، وَالمَبْطُونُ، وَصَاحِبُ
الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». [خ 2829 - 2830]
(1/55)
حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ، عَنْ
حَفْصَةَ، عَنْ أَنَسِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الطَّاعُونُ
شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
وفي رواية قالت حفصة: «سألني أَنَسٌ: بِمَ كانت شهادة يحيى؟ قُلْتُ: بالطَّاعُونِ»
الحديث.
وقال البخاري في «تاريخه الأوسط»: حدثنا علي بن نصر، حدثنا سليمان بن حرب، [عن]
حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق، قال: سمعت يحيى بن سيرين ومحمد بن سيرين يتذاكران
الساعة التي في الجمعة. لعله بعد موت أنس بن مالك، قال البخاري: وإنما أراد علي أن
يحيى مات بعد أنس، وأن حديث حفصة خطأ. انتهى.
فكأن البخاري اطلع على هذا بعد ثبوت حديث حفصة في كتابه، فعسر عليه نزعه، أو يكون
ما اعتمد على قول عليٍّ في هذا.
على أن جماعة ذكروا وفاة يحيى قبل أخيه محمد المتوفى سنة عشر ومئة.
ولما ذكر ابن بطال الترجمة (سَبْعٌ) والحديثين: خمس، قال: هذا يدل على أن البخاري
مات ولم يهذب كتابه.
وقال الإسماعيلي: الترجمة مخالفة للحديث.
قال ابن المنير: يحتمل عندي أن يكون أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في
القتل؛ بل لها أسباب أُخَر، وتلك الأسباب أيضًا اختلفت الأحاديث فيها، ففي بعضها
خمسة، وهي الذي صح عند البخاري ووافق شرطه، وفي بعضها سبع لكن لم يوافق شرطه،
فنبَّه عليه في الترجمة إيذانًا بأن الوارد في عددها من الخمسة أو السبعة ليس على
معنى التحديد الذي لا يزيد ولا ينقص؛ بل هو إخبار عن خصوصٍ فيما ذكر، والله أعلم
بحصرها. انتهى.
(1/56)
في
«الموطأ» عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عَتِيك، عن عَتِيك بن الحارث بن
عَتِيك، وهو جدُّ عبد الله بن عبد الله، أبو أمه، أنه أخبره أن جابر بن عَتِيك
أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل
الله: المطعون شهيد، والغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجَنْب شهيد، والمبطون شهيد،
والحَرِقُ شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجَمْعٍ شهيدة».
وفي الصحيح: «ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون
دينه فهو شهيد».
وقد تقدم في باب الدعاء بالجهاد والشهادة [58/أ]:
%ج 4 ص 115%
ومن وقصه فرسه، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله فهو شهيد،
ومن حبسه السلطان ظالمًا له أو ضربه فمات فهو شهيد، وكل موتة يموت بها المسلم فهو
شهيد.
وفي حديث ابن عباس: «المرابط يموت في فراشه في سبيل الله شهيد، والشَّرِقُ شهيد،
والذي يفترسه السبع شهيد».
وعن ابن مسعود وهي عند أبي عمر: «ومن تردَّى من الجبال شهيد».
قال ابن العربي: وصاحب النظرة - هو المعين - والغريب شهيدان، قال: وحديثهما حسن.
ولما ذكر الدارقطني حديث ابن عمر: «الغريب شهيد» صححه.
وعند ابن ماجَه: «من مات مريضًا مات شهيدًا - من حديث أبي هريرة - ووقي فتنة
القبر، وغُدي عليه وريح برزقه من الجنة»، وسنده جيد على رأي الشافعي والحاكم.
وفي البزار - بسند صحيح - عن عبادة بن الصامت: «والنفساء شهادة».
وعنده - بسند جيد - عن ابن مسعود: «وإن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد».
وفي «الاستذكار»: «والشهيد من احتسب نفسه على الله تعالى».
وحديث ابن عباس: «من عشق وعفَّ وكتم ومات مات شهيدًا» سنده صحيح.
وعند النسائي من حديث سويد بن مَقْرِن: «من قتل دون مظلمة فهو شهيد».
(1/57)
وعند
الترمذي عن معقل بن يسار: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العلم من
الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، فإن مات من يومه مات شهيدًا»،
وقال: حديث حسن غريب.
وعند الآجري: «يا أنس، إن استطعت أن تكون أبدًا على وضوء فافعل، فإنَّ ملك الموت
إذا قَبَضَ روح العبد وهو على وضوءٍ كتب له شهادة».
وعند أبي نعيم عن ابن عمر: «من صلَّى الضحى، وصام ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يترك
الوتر كتب له أجر شهيد».
وعن جابر: «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم
القيامة وعليه طابع الشهداء»، قال أبو نعيم: غريب من حديث جابر وابن المنكدر، تفرد
به عمر بن موسى الوجهي - وفيه لين - عن ابن المنكدر.
وعند أبي موسى من حديث عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جدِّه يرفعه،
فذكر حديثًا فيه: «والسلُّ شهيد والغريب شهيد».
وفي كتاب «الأفراد والغرائب» للدارقطني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «المحموم شهيد» وقال: تفرد به المُوْقِرِي.
وفي كتاب «العلم» لأبي عمر عن أبي ذر وأبي هريرة: «إذا جاء الموت طالبَ العلمِ وهو
على حاله مات شهيدًا» انتهى.
رأيت في شهور سنة خمس وسبع مئة إنسانًا كان يقرأ عليَّ شيئًا من الحديث، وتوفي في
الوباء، وسألته عن حاله فأخبرني أنه في الجنة، قلت: جاءك منكر ونكير؟ قال: لا،
قلت: ... قال: نعم، فقال لي ابني وكان توفي أيضًا في الوباء يا سيدي [58/ب]
%ج 4 ص 116%
هم ... يقولون: إن طالب العلم ما يأتيه الملكان، يعني أنه في حكم الشهيد، أو كلامًا
هذا معناه.
وفي «الجهاد» لابن أبي عاصم من حديث أبي سلام، عن ابن معانق الأشعري، عن أبي مالك
الأشعري مرفوعًا: «من خرج به خراج في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء».
(1/58)
وذكر
أبو عمر المنتجالي في «تاريخه» عن ابن سيرين قال: رأيت كثيرَ بن أفلح مولى أبي أيوب
في المنام فقلت: كيف أنت؟ قال: بخير، قلتُ: أنتم الشهداء؟ قال: إن المسلمين إذا
اقتتلوا فيما بينهم لم يكونوا شهداء، ولكنا نُدَبَاء، قال محمد: وأعياني أن أعرف
النُّدَبَاء، وغلبني ذلك.
وعند النسائي - بسند صحيح - عن العِرْبَاضِ بن سارية: يختصم الشهداء والمتوفَّون
على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفَّون زمن الطاعون، فيقول الشهداء: قتلوا كما
قتلنا، ويقول المتوفَّون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما مُتنا، فيقول
ربنا جلَّ وعزَّ: انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا
جراحهم أشبهت جراحهم.
وفي «التمهيد» عن عائشة: «إن فَنَاءَ أمتي بالطعنِ والطاعون»، قالت: يا رسول الله،
أما الطعن فقد عرفناه فما الطاعون؟ قال: «غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط،
من مات منها مات شهيدًا».
وفي «الجهاد» لابن أبي عاصم من حديث كريب بن الحارث، عن أبي بردة بن قيس، أخي أبي
موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ اجعل فَنَاء أمتي قتلًا في
سبيلك بالطعن والطاعون»، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
قال ابن العربي: يريد الذي مات في الطاعون ولم يفرَّ منه، وقيل: هو الذي أصابه
الطعن، وهو الوجع الغالب الذي يطفئ الروح، كالذبحة ونحوها.
روى أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الطاعون رِجزٌ أُرسِلَ على
من كان قبلكم».
وإنما سُمِّي طاعونًا لعموم مصابه وسُرعة قتله، فيدخل فيه مثله مما يصلح اللفظ له.
قال القرطبي: وهو الوباء وهو مرض عام يفسد الأمزجة والأبدان، والمبطون هو الذي
يموت بعلة البطن، كالاستسقاء أو انتفاخ البطن أو الإسهال، وقيل: هو الذي يشتكي
بطنه ويموت بدائه.
وصاحب الجَنْب: هي الشَّوْصَة، وفي بعض الآثار: «المجنوب شهيد»، يريد صاحب ذات
الجَنْب، يقال منه: رجل جَنِب - بكسر النون - إذا كان به ذلك.
(1/59)
وفي
الحديث: «إنها نخسة من الشيطان».
ولهذا إنهم لما ظنوا [59/أ]
%ج 4 ص 117%
أنه صلى الله عليه وسلم به ذات الجَنْب لَدُّوه، فقال: «إن هذا الدَّاءَ لم يكن
الله ليسلطه علي».
فعلى هذا يكون شهيدًا، غير أن المطعون بمنزلة الذي يموت في المعركة، وصاحب ذات
الجنب بمنزلة من رفع عن المعركة فيعيش أيامًا، وسيأتي طرف من هذا في كتاب الطب إن
شاء الله تعالى.
والجمع: بضم الجيم وفتحها وكسرها، قال النوويُّ: والضم أشهر.
وفي «المثلث» لابن عُدَيْس: يقال للمرأة إذا لم تُفتَضَّ: هي بجِمع وجُمع؛ بالكسر
والضم، وكذلك إذا ماتت وفي بطنها ولد، ويقال للمرأة إذا كانت حاملة مثقلة: هي
بجمع، وجمع بالضم والكسر.
وفي «الموعب» لابن التَّيَّاني: يقال للمرأة إذا كانت حُبلى هي بجمع تقال لها وإن
لم تمت، وكذلك إذا كانت بكرًا لم تُزوَّج.
وكذا ذكره ابن سيده في «المحكم» و «المخصص»، وأبو المعافى في «المنتهى»، والجوهري
والفراء في آخرين.
وقالت الدَّهناءُ بنتُ مِسْحِل امرأة العجاج للوالي حين نشزت عليه: أصلحك الله،
أنا منه بجُمع، أي لم يفتضَّني.
وقال الأزهري: وروي في الحديث: «أيما امرأة ماتت بجمع لم تُطْمَثْ دخلت الجنة».
وقال الداودي فيما ذكره ابن التين: هي المرأة تموت بمزدلفة، وقيل: التي تموت في
نفاسها، أو بسبب الولد.
وعن أبي عبد الله القرطبي: وقيل: هي التي تموت قبل أن تحيض وتَطْمُث، وقيل: وولدها
في بطنها قد تمَّ خلقُه.
قال النووي: المراد بشهادة غير المقتول في سبيل الله أن يكون لهم في الآخرة ثواب
الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويُصلَّى عليهم.
قال: والشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة؛ وهو المقتول في حرب الكفار،
وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا؛ وهم المذكورون غيره هنا، وشهيد في الدنيا دُون
الآخرة، وهو من غَلَّ من الغنيمة أو من قَتَل مدبرًا وما في معناه.
وسيأتي في ذكر بني إسرائيل إن شاء الله تعالى طرف من ذكر الطاعون.
(1/60)
بَابُ
قَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ:
{لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
[النساء: 95]
إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23].
2831 - 2832 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ البَرَاءَ قال: لَمَّا نَزَلَتْ: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ
[59/ب]
%ج 4 ص 118%
مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْد
بن ثابت، فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا، وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]. [خ 2831 -
2832]
وفي حديث سهل بن سعد:
حَدَّثَنِي مَرْوَانُ، عن زيد قال: فَأَنْزَلَ اللهُ جلَّ وعزَّ ذلك وَفَخِذُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي.
وفيه لطيفة: صحابي – وهو سهل – روى عن مروان، وهو تابعي.
قال المهلب: فيه دليل أن من جلسه عذرٌ عن الجهاد وغيره من أعمال البرِّ، ونيته فيه
فله أجر المجاهد أو العامل؛ لأن نصَّ الآية على المفاضلة بين المجاهد والقاعد، ثم
استثنى من المفضولين أولي الضرر، وإذا استثنى من المفضولين فقد ألحقهم بالفاضلين.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: «إن بالمدينة أقوامًا ما
سلكنا واديًا ولا شعبًا إلا وهم معنا، حبسهم العذر».
وكذا جاء في كلِّ من كان يعمل شيئًا من الطاعات ثم حبسه مرض أو سفر أو غيره أنه
يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح، وكذا من نام عن حزبه نومًا غالبًا كتب له أجر حزبه،
وكان نومه صدقة عليه وكذا المسافر.
وهذا معنى قوله جلَّ وعزَّ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]، أي: غير مقطوع بزمانةٍ أو كبر أو
ضعف؛ إذ الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذي ينويه.
وفيه: تقييد العلم بالكتاب.
(1/61)
وقرب
الكاتب من مستكتبه حَتَّى تمس ركبتُه ركبتَه.
ولما ذكره البخاري في:
بَابُ مَنْ حَبَسَهُ العُذْرُ عَنِ الغَزْوِ
2839 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدٍ،
عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ:
«إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ
وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ». [خ 2839]
قال: وقال مُوسَى: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
الأَوَّلُ أَصَحُّ.
قال الإسماعيلي: أخبرنا أبو يعلى، أخبرنا أبو خيثمة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن
سلمة، أخبرنا حميد، عن موسى بن أنس، عن أبيه أنس، فذكره ثم قال: وحماد عالم بحديث
حميد، متقدم فيه على غيره.
قال هذا بعد ذكره حديث حميد عن أنس.
ووصله أيضًا أبو نعيم فرواه عن فاروق، عن أبي مسلم، عن حجاج، عن حماد به.
وعند الإسماعيلي: «وهم معكم بالنية».
وعند أبي داود: «ولا أنفقتم نفقة».
وعند مسلم من حديث جابر: [60/أ]
%ج 4 ص 119%
«حبسهم المرض».
وذكر البخاري في:
باب الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللهِ تعالى
2840 - حديث أَبِي سَعِيدٍ يرفعه: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَعَّدَ
الله وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا». [خ 2840]
وعند الترمذي عن أبي هريرة: «أربعين»، وفي لفظ: «سبعين»، وقال: غريب من هذا الوجه.
وفي «العلل»: قال محمد: لا أعلم رواه إلا ابن لهيعة عن أبي الأسود.
وعنده من حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة صُدَيٍّ: «جعل الله بينه وبين
النار كما بين السماء والأرض» وقال: غريب.
وعند ابن عساكر: «بعَّدَه الله من النار مسيرة مئة سنة حُضر الفرس الجواد».
(1/62)
وعنده
أيضًا من حديث أبان عن أنس: «من صام يومًا في سبيل الله تباعدت منه جهنم خمسمئة
عام».
وعنده أيضًا من حديث مِنْدل بن علي، عن عبد الله بن مروان، عن بعجة، عن أبيه، عن
ابن عمر: «من صام يومًا في سبيل الله فهو بسبعمئة يوم».
وعند الطبراني من حديث مكحول، عن عقبة بن عامر: «بعدت منه جهنم مئة سنة».
ولفظ النسائي من حديث القاسم بن عبد الرحمن: «بعدت منه مسيرة مئة سنة».
وعند أبي القاسم الطبراني من حديث عبد العزيز، عن مكحول، عن عمرو بن عبسة: «باعد
الله وجهه عن النار مسيرة مئة عام».
وعند ابن جميع: أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى، حدثنا أبو عتبة، حدثنا بقية، عن
ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: «من صام يومًا في سبيل الله جلَّ وعزَّ جعل
الله بينه وبين النار سبع خنادق، كل خندق كما بين سبع سماوات وسبع أرضين».
أخبرنا به المسند المعمر عبد المحسن الصابوني، أنا جدي أبو حامد، أنبأ ابن
المرستاني، أنبأ ابن المسلم، أنبأ ابن طلاب عنه.
وعند أبي يعلى الموصلي من حديث يحيى بن أيوب، عن زَبَّان بن فَائدِ، عن سهل بن
معاذ، عن أبيه: «من صام يومًا في سبيل الله متطوِّعًا في غير رمضان بعد من النار
مئة عام، سيرَ المُضْمَّرِ المجيد».
وعند ابن أبي عاصم عن عتبة بن عبدٍ السُّلَمي: «من صام في سبيل الله يومًا تطوعًا
باعد الله ما بينه وبين النار مسيرة ما بين السماء والأرض، ومن صام يومًا في سبيل
الله فريضة باعده الله من جهنهم كما بين السماوات السبع وبين الأرضين السبع». في
سنده رجل غير مسمى.
وهذه الأحاديث وإن اختلفت ألفاظها فإن معناها متقارب؛ إذا نظرنا إلى حضر الجواد
وإلى السير من غير [60/ب]
حضر، وإذا فرقنا بين الفرض والتطوع الثابت، والله تعالى أعلم.
وذكر البخاري في:
بَابُ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ
(1/63)
2843
- حديث زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ
غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا». [خ 2843]
وهو حديث خرجه الستة، وفي كتاب ابن أبي عاصم من حديث الوليد بن أبي الوليد، عن
عثمان بن سُرَاقة عن عمر بن الخطاب وفيه: «من أظل رأس غازٍ أظلَّه الله يوم
القيامة، ومن جهز غازيًا حتى يستقل كان له مثل أجره حَتَّى يموت أو يرجع».
ومن حديث ابن عقيل، أن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف حدثه، أن أباه حدثه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «من أعان مجاهدًا في غزوته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله».
ومن حديث عبد الله بن العلاء، قال: حدثني من سمع عبد الملك بن مروان يحدث عن أبي
هريرة مرفوعًا: «من لم يغزُ، أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه
الله جلَّ وعزَّ بقارعة قبل يوم القيامة».
ومن حديث يحيى بن الحارث عن القاسم، عن أبي أمامة مثله سواء.
وعند الحاكم عن أبي سعيد: «من خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر
الخارج»، وقال: صحيح الإسناد.
وقال الطبري فيه: إِنَّ من أعَان مُؤمنًا على عمل برٍّ فللمعين عَلَيْهِ مثل أجر
العَامِل، وَمثله المعونة على معاصي الله جلَّ وعزَّ، للمعين عَلَيْهَا من الْوزر
وَالْإِثْم مثل مَا لعاملها، وَلذَلِك نهى عَن بيع السيوف فِي الْفِتْنَة، وَلعن
عاصر الْخمر.
وقال القُرْطُبِي: ذهب بعض الأَئِمَّة إِلَى أَن الْمثل الْمَذْكُور فِي هذا
الحَدِيث وَشبهه إِنَّمَا هُوَ بِغَيْر تَضْعِيف، قال: لِأَنَّهُ يجْتَمع فِي
تِلْكَ الْأَشْيَاء أَفعَال أُخَر وأعمال من الْبر كَثِيرَة، لَا يَفْعَلهَا
الدَّالُّ الَّذِي لَيْسَ عِنْده إلاَّ مُجَرَّد النِّيَّة الْحَسَنَة.
(1/64)
وقَالَ
صلى الله عليه وسلم: «أَيّكُم خلف الْخَارِج فِي أَهله وَمَاله بِخَير فَلهُ مثل
نصف أجر الْخَارِج».
وَقَالَ: «لينبعث من كلِّ رجلَيْنِ أَحدهمَا، وَالْأَجْر بَينهمَا».
قَالَ الْقُرْطُبِي: وهذا لَا حجَّة فِي الحَدِيث لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنا نقُول بِمُوجبِه، وَذَلِكَ أَنه لم يتَنَاوَل مَحل النزاع، فَإِن
الْمَطْلُوب إِنَّمَا هُوَ أَن النَّاويَ للخير المعوق عَنهُ، هَل [61/أ]
%ج 4 ص 121%
لَهُ مثل أجر الْفَاعِل من غير تَضْعِيف؟ وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا اقْتضى
مُشَاركَة ومشاطرة فِي المضاعف فانفصلا.
وَثَانِيهمَا: أَن الْقَائِم على مَال الْغَازِي وعَلى أَهله نَائِب عَن الْغَازِي
فِي عمل لَا يَتَأَتَّى للغازي غَزْوَة، إلاَّ بِأَن يكفي ذَلِك الْعَمَل، فَصَارَ
كَأَنَّهُ مبَاشر مَعَه الْغَزْو، فَلَيْسَ مُقْتَصرا على النِّيَّة فَقَط؛ بل
هُوَ عَامل فِي الْغَزْو، وَلما كَانَ كَذَلِك كَانَ لَهُ مثل أجر الْغَازِي
كَامِلًا وافرًا مضاعفًا، بِحَيْثُ إِذا أضيف وَنسب إِلَى أجر الْغَازِي كَانَ
نصفا لَهُ، وَبِهَذَا يجْتَمع معنى قَوْله: «من خلف غازيًا فِي أَهله بِخَير فقد
غزا»، وَبَين معنى قَوْله فِي اللَّفْظ الأول: «فَلهُ مثل نصف أجر الْغَازِي»،
وَيبقى للغازي النِّصْف، فَإِن الْغَازِي لم يطْرَأ عَلَيْهِ مَا يُوجب تنقيصًا
لثوابه، وَإِنَّمَا هذا كَمَا قَالَ: «من فطر صَائِمًا كَانَ لَهُ مثل أجر
الصَّائِم، لَا ينقصهُ من أجره شَيْء»، وَالله أعلم.
وعَلى هَذَا: فقد صَارَت كلمة: «نصف»، مقحمة هُنَا بَين: «مثل» و: «أجر»،
وَكَأَنَّهَا زِيَادَة مِمَّن تسامح فِي إِيرَاد اللَّفْظ بِدَلِيل قَوْله:
«وَالْأَجْر بَينهمَا».
(1/65)
وَيشْهد
لَهُ مَا ذَكرْنَاهُ، وَأما من تحقق عَجزه وصدقت نِيَّته فَلَا يَنْبَغِي أَن
يخْتَلف أَن أجره مضَاعف كَأَجر الْعَامِل الْمُبَاشر، لما تقدم، ولما روى النسائي
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى فراشه وهو ينوي أن
يقوم فيصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كان له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه».
وذكر البخاري حديث [2844] دخوله صلى الله عليه وسلم على أم سليم في هذا الباب
لقوله فيه: «قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي».
وأما «أرحمها» فهذا نوع من خلافة الغازي في أهله بخير.
بَابُ التَّحَنُّطِ عِنْدَ القِتَالِ
2845 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ
بْنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: -
وَذَكَرَ يَوْمَ اليَمَامَةِ - قَالَ: أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ
حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبِسُكَ
أَنْ لاَ تَجِيءَ؟ قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ - يَعْنِي
مِنَ الحَنُوطِ - ثُمَّ جَاءَ، فَجَلَسَ، يعني في الصف، فَذَكَرَ فِي الحَدِيثِ:
انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، [61/ب]
%ج 4 ص 122%
فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ القَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا
نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ
أَقْرَانَكُمْ. [خ 2845]
هذا من أفراد البخاري، ثم قال أبو عبد الله:
رَوَاهُ حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ.
(1/66)
هذا
التعليق زعم الحميدي في كتابه «الجمع بين الصحيحين» أن البرقاني وصله عن أبي
العباس بن حمدان، الإسناد عن قبيصة بن عقبة، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس
بلفظ: «انكشفنا يوم اليمامة فجاء ثابت بن قيس بن شماس، فقال: بئس ما عودتم أقرانكم
منذ اليوم، وإني أبرأ إليكم مما جاء به هؤلاء القوم، وأعوذ بك مما صنع هؤلاء،
وخلوا بيننا وبين أقراننا ساعة، وقد كان تكفَّن وتحنَّط فقاتل حَتَّى قتل، قَالَ:
وقتل يومئذ سبعون من الأنصار، فكان أنس يقول: يا رب سبعين من الأنصار يوم أُحُدٍ،
وسبعين يوم مؤتة، وسبعين يوم بئر معونة، وسبعين يوم اليمامة.
ورواه ابن سعد، عن سليمان بن حرب وعفان، عن حماد بن سلمة.
ورواه الطبراني، عن علي بن عبد العزيز، وأبي مسلم الكشي، قَالَ: حدثنا حجاج بن
منهال، ح، وحَدَّثنَا محمد بن العباس المؤدب، حدثَنَا عفان، قال: حدثنا حماد بن
سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ونشر أكفانه
وقال: اللَّهُمَّ أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر عمَّا صنع هؤلاء، فقتل،
وكانت له درع فسرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم فقال: إن درعي في قدر تحت كانون في
مكان كذا وكذا، وأوصاه بوصايا، فطلبوا الدرع فوجدوها، وأنفذوا الوصايا.
وقال الحميدي: كذا فيما عندنا من كتاب البخاري أن موسى بن أنس قَالَ: أتى أنسٌ
ثابتًا، لم يقل: عن أنس، وهو عند البرقاني من حديث موسى بن أنس، عن أبيه قال: أتيت
ثابتًا.
وعند ابن سعد: أخْبرنَا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن أيوب، عن ثمامة بن عبد
الله، عن أنس قَالَ: أتيت على ثابت يوم اليمامة الحديث. وحَدَّثَنَا محمد بن عبد
الله الأنصاري، حدثنا ابن عون، حدثَنَا موسى، عن أنس.
(1/67)
وعند
الترمذي: لما انكشف الناس يوم اليمامة، قلتُ لثابت، فذكر الحديث، وكان عليه درع
نفيسة، فمر به رجل من المسلمين قال: فأخذها، وفيه: لما رؤي في المنام ودلَّ على الدرع
قال: لا تقل هذا منام، فإذا جئت أبا بكر فأعلمه أن عليَّ من الدين كذا، وفلان من
رقيقي عتيق، وفلان، [62/أ]
%ج 4 ص 123%
فأنفذ أبو بكر وصيته، ولا يعلم أحدٌ أجيزت وصيته بعد موته سواه.
وفي كتاب «الردة» للواقدي ما يرد هذا القول، وهو ما رواه عن بلال أنه رأى سالمًا
مولى أبي حذيفة وهو قافل إلى المدينة من غزوة اليمامة: إن درعي مع الرفقة الذين
معهم الفرس الأبلق تحت قدرهم، فإذا أصبحت فخذها من هناك وأدها إلى أهلي، وإن عليَّ
شيئًا من دين فمرهم يقضونه، فأخبرت أبا بكر بذلك فقال: نصدق قولك، ونقضي عنه دينه
الذي ذكرته.
وذكر أن الذي رأى ثابتًا أيضًا بلال، وأن الذي أخذ الدرع رجل من ناحية نجد، وكانت
نفيسة ورثها من آبائه، وفيه: إن عَبْدَيَّ سعدًا وسالمًا حران.
قال المهلب: في هذا الحديث الأخذ بالشدة في استهلاك النفس، وغيرها في ذات الله،
وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها؛ لأنه لا يخلو أن تكون الطائفة من المسلمين التي
غزَت اليمامة أكثر منهم أو أقل، فإن كانوا أكثر فلا يتعين الفرض على أحد بعينه أن
يستهلك فيه نفسه، وإن كانوا أقل وهو المعروف في الأغلب أنه لا يغزو جيش أحدًا في
عقر داره إلا وهم أقل من أهل الدار، فإذا كان هذا فالفرار مباح، وإن تعذَّر معرفة
الأكثر من الفريقين، فإن الفار لا يكون عاصيًا إلا بالتيقن أنَّ عدوهم مثلان فأقل،
وما دام الشك فالفرار مباح للمسلمين، انتهى.
الذي يذكره الإخباريون أن أهل اليمامة كانوا أضعاف المسلمين.
وفيه: أن التطيب للموت سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت.
وقوله: (بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ) يعني: العدو في تركهم اتباعكم
وقتلكم حَتَّى اتخذتم الفرار عادة للنجاة وطلب الراحة من مجالدة الأقران.
(1/68)
بَابٌ:
هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ؟
2847 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: نَدَبَ النَّبِيُّ [62/ب]
%ج 4 ص 124%
صلى الله عليه وسلم النَّاسَ - قَالَ صَدَقَةُ: أَظُنُّهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ -
فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَ،
فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ
حَوَارِيٌّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ». [خ 2847]
وعند النسائي: قَالَ وهب بن كيسان: أشهد لسمعت جابرًا يقول: لما اشتد الأمر يومَ
بني قريظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبرهم؟» فلم يذهب أحد،
فذهب الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من يأتينا بخبرهم؟» فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، ثم اشتد الأمر أيضًا، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي حواريًا، وإن حواري الزبير».
وعند ابن أبي عاصم من حديث وهب بن كيسان عن جابر: ولما كان يوم الخندق واشتد
الأمر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتي بني قريظة فيأتينا بخبرهم؟»
فانطلق الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر، فقال: «ألا رجل ينطلق إلى بني قريظة»
الحديث.
وفي لفظ: ثلاث مرات، فلما رجع جمع له أبويه.
وهذا جمع لما ذكره البخاري من أن ذلك كان بالخندق، وبين ما عند النسائي، والله
أعلم.
وفي الترمذي: الحواري: الناصر.
وقال عبد الرزاق عن معمر: قَالَ قتادة: الحواري: الوزير.
وعند ابن أبي شيبة: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن علي، سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل نبي حواريًا، وإن حواري الزبير».
(1/69)
وذكر
المسعودي في كتابه «التنبيه والإشراف»: أن السرايا ما بين الثلاث إلى الخمسمئة،
والسرية هي التي تخرج بالليل، وأما التي تخرج بالنهار فهي الساربة، قال تعالى:
{وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10].
وما زاد على الخمسمئة دون الثمانمئة فهي المناسر.
وما بلغ ثمانمئة فهو الجيش القليل.
وما زاد إلى أربعة آلاف فهو الجحفل.
وما بلغ اثني عشر ألفًا فهو الجيش الجرار.
وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها؛ فما كان دون الأربعين فهو الجرائد، وما
كان من الأربعين إلى دون الثلاثمئة فهي المقانب، وما كان من الثلاثمئة إلى دون
الخمسمئة فهي الجمرات.
وكانوا يسمون [63/أ]
%ج 4 ص 125%
الأربعين إذا توجهوا: العصبة، ورأى قوم أن المقنب مثل المنسر، وأن كل واحد منهما
ما بين الثلاثين رجلًا إلى الأربعين، واستشهدوا على تفاوتهما بقول الشاعر:
وإذا تواكلت المقانب لم نزل ... بالثغر منا منسر وعظيم
وأن الكتيبة: ما جمع ولم ينتشر.
وأن الحضيرة: يُغزَى بهم دون العشرة فمن دونهم.
والهبطة: جماعة يُغزَى بهم وليسوا بجيش.
وأن الأرعن: الجيش الكبير الذي مثل الجبل.
والخميس: الجيش العظيم.
والجرار: الذي لا يسير إلا زحفًا.
والبحر: أكثر ما يكون من الجيش إذا عظم وثقل.
وللناس في معنى هذا كلام كثير، ذكرنا من ذلك ما حضرنا.
(1/70)
وقال
المهلب: فيه أن الطليعة يستحق اسم النصرة؛ وذلك أن عيسى صلى الله عليه وسلم لما
قال لقومه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
اللهِ} [آل عمران: 52] فلم يجبه غيرهم، فكذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما قال: «من يأتيني بخبر القوم» مرتين لم يجبه غير الزبير، فشبهه بأنصار عيسى،
وسماه باسمهم، وإذا صح من هذا الحديث أن الطليعة ناصر، فأجره أجر المقاتل المدافع؛
قام منه الدليل على صحة قول مالك: إن طليعة اللصوص يقتل مع اللصوص، وغن كان لم
يقتل ولم يسلب، وكذلك قال عمر بن الخطاب: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به.
قال عياض: اختلف ضبطه، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الياء من الثاني، كمصرخي،
وضبطه أكثرهما بكسرها.
قال ابن بطال: زعم بعض المعتزلة أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير ? وحده
معارض لقوله صلى الله عليه وسلم: «الراكب شيطان»، ونهى أيضًا عن أن يسافر الرجل
وحده.
قال المهلب: وليس بينهما تعارض لاختلاف المعني في الحديثين، وذلك أن قوله صلى الله
عليه وسلم: «الراكب شيطان» يعني المخرج عند الترمذي، وعند ابن التين: ذكر الشيخ
أبو محمد في جامع مختصره مرفوعًا: «الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثالث ركب».
وذكر أبو عمر عن أبي هريرة: «إن الشيطان يهم بالواحد والاثنين [63/ب]
%ج 4 ص 126%
فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم».
وسيأتي في حديث ابن عمر: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سافر راكب لميل
وحده» في باب السفر وحده.
وعند الحاكم عن ابن عباس: «خرج رجل من خيبر، فتبعه رجلان، ورجل يتلوهما يقول:
ارجعا، حَتَّى أدركهما فردهما، ثم قال: إن هذين شيطانان، فاقرأ على رسول الله صلى
الله عليه وسلم السلامَ، وأعلمَهُ أنَّا في جمع صدقاتنا لو كانت تصلح له لبعثناها
إليه. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وحدثه نهى عند ذَلِكَ عن الوحدة.
(1/71)
وقَالَ:
صحيح على شرط البخاري، انتهى.
وفيه بيان أن قوله الثالث شيطان كان بعد فتح خيبر، فلا تعارض بين هذا وبين حديث
الزبير، والله أعلم.
وعند الحاكم أيضًا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلًا قدم من سفر، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: «من صحبت؟» فقال: ما صحبت أحدًا، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب»، وقال: صحيح
الإسناد.
قال المهلب: إنما جاء في الراكب وحده لأنه لا يأنس بصاحب، ولا يقطع طريقه بحديث
فيهون عليه مؤنة السفر، كالشيطان الذي لا يأنس بأحد، ويطلب الوحيد ليغويه به، فنبه
صلى الله عليه وسلم على الصحبة والمراقبة؛ لقطع المسافة، وقطع بعيد الأرض بالحكاية
والمعاونة على المؤنة، وقصة الزبير بضد هذا؛ لأنه كان متجسسًا على قريش ما يريدون
من حرب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أمكن أن يتعرف ذَلِكَ منهم بغير
طليعة لكان أسلم وأخف، ولكن أراد أن يبين لنا جوازَ العذر [10] في ذَلِكَ لمن
احتسب نفسه وسخى بها في نفع المسلمين وحماية الدين، ومن خرج في مثل هذا الأمر
الخطير لم يعط الشيطان أذنه ليصغي إلى خُدَعِه؛ بل عليه من الله جلَّ وعزَّ حافظ
ومؤنس.
ألا ترى تثبيتَ الله تعالى له حين نادى أبو سفيان في المشركين: ليعرفْ كلُّ إنسان
منكم جليسه، فقال الزبير لمن هو قريب منه: من أنت؟ فسبق بحضور ذهنه إلى ما لو سبقه
إليه جليسه لكان سبب فضيحته، ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يُعْثَرَ عليهما،
فالوحدة في هذا هي الحكمة البالغة، وفي المسافر هي العورة البينة، ولكل وجه من
الحكمة غير وجه الآخر لتباين [64/أ]
%ج 4 ص 127%
القصص واختلاف المعاني، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إن القائل لمن بجانبه حذيفة حين سار إلى قريش في الأحزاب متجسسًا،
لا ذكر في ذلك للزبير، ذكر ذلك ابن سعد وغيره.
(1/72)
وحمل
الطبري الحديث على جواز السفر للرجل الواحد إذا كان من لا يهوله هول، قال: ألا ترى
أن عمر لما بلغه أن سعدًا بني قصرًا أرسل شخصًا وحده ليهدمه.
وذكر ابن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عبد الله بن أنيس سرية وحده،
وبعث عمرَو بنَ أمية وحدَه عينًا.
وعند ابن سعد: أرسل سالم بن عمير سرية وحده.
قال الطبري: وإن لم يكن الشخص كذلك فممنوع من السفر وحده خشية على عقله أو يموت
فلا يُدري خبره أحد ولا يَشْهده أحد، كما قَالَ عمر: أرأيتم إذا ما سافر وحده
ومات، من أسأل عنه؟
قال: ويحتمل أن يكون النهي عن السفر وحده نهي تأديب وإرشاد إلى ما هو الأولى.
وعند ابن عبد البر: وحمله الشيخ أبو محمد على السفر الذي تقصر فيه الصلاة.
ولما ذكره البخاري في باب: السير وحده، قال الإسماعيلي: لا أعلم هذا الحديث كيف
يدخل في هذا الباب، انتهى.
دخوله فيه ظاهر؛ لأنه لا خلاف أنه سار وحده، فصدق عليه كلام البخاري.
بوب البخاري لحديث مالك بن الحويرث المذكور في الأذان: بَابُ سَفَرِ الِاثْنَيْنِ
وذكر فيه قوله:
2848 - قال لي ولصاحبي: «إذا حضرت الصلاة فأَذِّنَا، وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا
أَكْبَرُكُمَا». [خ 2848]
وهو حديث مطابق لما بوبه، وزعم ابن التين أن الداودي فهم منه سفر يوم الاثنين،
واعترض على البخاري بقوله: ليس في الحديث ذكر سفر يوم الاثنين.
وهذا ليس بشيء؛ لأنه لم يرد إلا باب سفر الرجلين، لأنه قدم ذكر سفر الرجل وحده،
فأتبعه على عادته سفر الرجلين، لا أنه أراد يوم الاثنين، إنما هو مذكور في حديث
الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك، قال كعب: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن
يسافر يوم الاثنين ويوم الخميس».
بَابٌ: الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ
2849 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، [64/ب]
%ج 4 ص 128%
(1/73)
حَدَّثَنَا
مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: «الخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ». [خ 2849]
2850 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ،
وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الجَعْدِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا
الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ». [خ 2850]
قَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، تَابَعَهُ
المُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ أَبِي الجَعْدِ.
هذا التعليق عن سليمان وحصين رواه أبو نعيم الحافظ، عن فاروق، حدثَنَا إبراهيم بن
عبد الله، حدثَنَا سليمان بن حرب، حدثَنَا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر وحصين،
عن الشعبي، عن عروة بن أبي الجعد قال: حدثنا أبو إسحاق بن حمزة، حدثَنَا حامد،
حدثَنَا شريح، عن هشيم. وقال أحمد في سنده: حدثنا هشيم، فذكره، وقال: عروة
البارقي.
وخرج البخاري في الخمس: حَدَّثنَا مسدد، عن خالد، عن حصين، فقال: عروة البارقي.
وكما روى ابن أبي عاصم، عن غندر، حدثنا شعبة، [عن] ابن أبي السفر، عن الشعبي
قَالَ: عن عروة البارقي.
قَالَ الحميدي: زاد البرقاني في حديث الشعبي من رواية عبد الله بن إدريس، عن حصين
يرفعه: «الإبل عزٌّ لأهلها، والغنم بركة»، ورواه الإسماعيلي من حديث ابن مهدي، عن
شعبة، عن أبي إسحاق، عن العَيْزَار بن حُرَيث، عن عروة بن أبي الجعد، قَالَ شعبة:
وحَدَّثَني حصين وعبد الله، سَمِعَا الشعبيَّ يحدث عن عروة بن أبي الجعد.
قَالَ الإسماعيلي: قَالَ ابن أبي عدي وسليمان: عن شعبة بن أبي الجعد.
وقال أبو داود وروح وأبو الوليد عنه: ابن الجعد، وكذلك قَالَ غُنْدَر.
(1/74)
وفي
«مسند أبي داود الطيالسي»: قيل: يا رسول الله، ما الخير؟ قال: «الأجر والمغنم»،
وسنده سند البخاري.
وعند البخاري عن أنس يرفعه: «البركة في نواصل الخيل».
وعند أبي أبو داود عن شيخ من بني سُلَيم، عن عتبة بن عبدٍ السلمي، سمع النبي صلى
الله عليه وسلم يقول: «لا تقصوا نواصي الخيل، ولا معارفها، ولا أذنابها، فإنَّ
أذنابها مذابها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقود فيها الخير».
وعند البزار عن سلمة بن نفيل يرفعه: «الخيل معقود في نواصيها الخير، وأهلها معانون
عليها».
وعند ابن أبي عاصم: «لا يزال الخير معقودًا بنواصي الخيل إلى يوم القيامة».
وعند مسلم عن جرير: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [65/أ]
%ج 4 ص 129%
يلوي ناصية فرسه بإصبعه وهو يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة،
الأجر والغنيمة».
وعند ابن أبي عاصم من حديث زياد بن جبير بن حية، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة.
ومن حديث مجالد عن الشعبي، عن جابر.
ومن حديث زيد بن عبد الله بن عون المليكي، عن أبيه، عن جده.
ومن حديث محمد بن حمران، حدثنا سليم بن عبد الرحمن الجرمي، سمعت سوادة بن الربيع،
وله صحبة.
وعند أبي بكر المقري من حديث خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، عن سهيل، عن أبيه، عن
أبي هريرة.
وعند الإمام أحمد من حديث شهر: حدثتني أسماء ينت يزيد.
وعند محمد بن يحيى بن منده، عن سعيد بن عنبسه، حدثنا منصور بن زاذان العطار، حدثنا
يونس، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
وعند أبي القاسم البغوي من حديث بقية، عن علي بن علي، حدثني يونس، عن الزهري، عن
عبيد الله، عن ابن مسعود.
ومن حديثه عن صالح بن دينار، حدثنا يزيد بن زياد، عن فطر، عن أبي إسحاق، عن
البراء.
وعند ابن عساكر من حديث النعمان بن عبد السلام، عن سفيان، عن الأعمش، عن طلحة، عن
أبي عمار عن حذيفة.
(1/75)
ومن
حديث هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا المظفر بن المقدام الصنعاني، عن
الحسن، عن سهل بن الحنظلية.
وعند أبي طاهر الذهلي من حديث يحيى بن راشد أبي سعيد، عن الجريري، عن لقيط عن أبي
أمامة.
وعند عبد الله بن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، عن الحارث بن يعقوب، عن أبي الأسود
الغفاري، عن أبي ذر، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة».
في الحديث: أن الجهاد باق ما بقيت الدنيا.
واستدل به البخاري على استمراره تحت راية كل بر وفاجر، حيث بوب لحديث عروة أيضًا
في رواية أبي الحسن: «بَابٌ: الجِهَادُ مَاضٍ على البَرِّ وَالفَاجِرِ»، وفي رواية
أبي ذر: «مع البر والفاجر».
وكذا بوبه الإسماعيلي وغيره: «الأجر والمغنم»، وهو بمعنى الذي بوب له البخاري هذا
التبويب؛ لأن الغنيمة إنما تَنْشَأُ غالبًا عن الجهاد.
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخير في نواصي الخيل»، وقد علم من أمته أئمة
جور لا يعدلون، فأوجب لها الحديث الغزو معهم، ويقوي [65/ب]
%ج 4 ص 130%
هذا أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة وراء كل بر وفاجر، وأمره بالسمع والطاعة ولو
لعبد حبشي.
فعلى الرواية الأولى: يجب على كل أحد، وعلى الثانية: يجب مع الإمام العدل وغيره،
وأنه لا يجوز تركه لوجوبه.
وفيه الحثُّ على ارتباط الخيل في سبيل الله تعالى.
وخص النواصي بالذكر؛ لأن العرب تقول غالبًا: فلان مبارك الناصية، فتكني به عن
الإنسان.
وقوله: (الخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ) لفظه عام، والمراد به الخصوص؛ لأنه لم
يرد إلا بعض الخيل، بدليل قوله: «الخيل لثلاثة» فبين أنه أراد الخيل الغازية في
سبيل الله، لا أنها على كل وجوهها، ذكره ابن المنذر.
وقال غيره: الخير هنا المال، قال جلَّ وعزَّ: {إنْ تَرَكَ خَيرًا} [البقرة:180].
(1/76)
وعند
المفسرين في قوله جلَّ وعزَّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيرِ} [ص: 23] أنه أراد
الخيل، وكأنهم لم يذكروا ما ذكرنا من «مسند الطيالسي»، والله تعالى أعلم.
بَابُ مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا
لِقَوْلِهِ: {وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ} [الأنفال: 60]
2853 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ،
أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، سَمِعْتُ سَعِيدًا المَقْبُرِيَّ،
يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا
بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ
يَوْمَ القِيَامَةِ». [خ 2853]
وعند أحمد من حديث شهر عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا: «من ارتبط فرسًا في سبيل الله
فأنفق عليه احتسابًا كان شبعه وجوعه وريه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم
القيامة، ومن ارتبط فرسًا رياء وسمعة كان ذَلِكَ خسرانًا في ميزانه يوم القيامة».
وعند ابن بنت منيع من حديث الحارث عن علي مرفوعًا: «من ارتبط فرسًا في سبيل الله
فعلفه وأثره في موازينه يوم القيامة».
وروينا في «مسند عبد بن حميد» بسند فيه ضعف عن زيد بن ثابت مرفوعًا: «من حبس فرسًا
في سبيل الله كان سترة من النار».
وعند ابن أبي عاصم من حديث المطعم بن المقدام، عن الحسن، عن سهل بن الحنظلية
يرفعه: «من ارتبط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه كالماد يده بصدقه لا
يقبضها».
ومن حديث سواد بن الربيع مرفوعا: «ارتبطوا الخيل».
ومن حديث يزيد بن غريب المليكي عن أبيه عن جده يرفعه مثله.
ومن حديث [66/أ]
%ج 4 ص 131%
محمد بن عقبة القاضي، عن أبيه، عن جده، عن تميم الداري سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «من ارتبط فرسًا في سبيل الله فعالج علفه كان له بكل حبة حسنة».
(1/77)
قال
المهلب: هذا يدل على أن الأحباس جائزة في الخيل والرباع وغيرها؛ لأنه إذا جاز ذلك
في الخيل المدافعة عن المسلمين والدين، والنفع لهم بجر الغنائم والأموال إليهم،
فكذلك تجوز في الرباع المثمرة لهم.
وما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من الروث وغيره إنما يريد ثوابه؛ لا أن الروث هو
الموزون، ولا نقول: إن زنة الأجر زنة الروث، بل أضعافه إلى ما شاء الله.
وفيه: أن النية يترتب عليها الأجر.
وفيه: أن الأمثال تضرب لصحة المعاني.
بَابُ اسْمِ الفَرَسِ وَالحِمَارِ
2855 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى،
حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:
«كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ
اللُّحَيْفُ».
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اللُّخَيْفُ بالخاء. [خ 2855]
هذا الحديث من أفراد البخاري، وذكر:
2854 - حديث أبي قتادة وكيف أن فرسًا له يقال لها: الجَرَادَة، رواه عن محمد بن
أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عنه. [خ 2854]
قال الجياني: في نسخة أبي زيد المروزي: حدثنا محمد بن بكر، بدل: محمد بن أبي بكر،
وهو خطأ، والصواب: محمد بن أبي بكر، وهو المقدمي، وليس في شيوخ البخاري محمد بن
بكر.
وحديث أنس:
2857 - كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ. [خ 2857] وقد تقدما، ثم ذكر حديث معاذ
قال:
(1/78)
2856 - كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ شَيْئًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا». [خ 2856] اختلف في ضبط (اللُّحَيْفُ)، فزعم ابن قُرْقُول أن ضبط عن عامة الشيوخ بضم اللام وفتح الحاء المهملة، سمي بذلك لطول ذنبه، كأنه يلحف الأرض بجريه، يقال: لحفت الرجل باللحاف: إذا طرحته عليه. وعن ابن سراج: بفتح اللام وكسر الحاء على وزن رغيف. [66/ب] %ج 4 ص 132%وقال ابن الجوزي: بنون وحاء مهملة. وفي «المغيث»: بلام مفتوحة وجيم مكسورة. قال أبو موسى: المحفوظ بالحاء، فإن روي بالجيم فيراد به السرعة؛ لأن اللجيف سهم نصله عريض، قاله صاحب «التتمة»، وصح عن البخاري أنه بالخاء المعجمة. قال ابن الأثير: ولم يتحققه، والمعروف الأول. ذكر ابن سعد وغيره: أن ربيعة بن أبي البراء أهداه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثابه عليه فرائض من نَعَم بني كلاب. وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة»: أهداه له فروة بن عمرو الجذامي من أرض البلقاء. وأما (عُفَيْرٌ) فبعين مهملة، هذا هو المشهور، وزعم عياض: أنه بغين معجمة، وَرُدَّ ذَلِكَ عليه. قَالَ ابن عَبْدُوس في أسماء خيله ودوابه صلى الله عليه وسلم: كان أعفر، أُخِذَ من العفر، وهو التراب. وزعم شيخنا أبو محمد التوني أنه شبه في عدوه باليعفور، وهو الظبي، أهداه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المقوقس، وأهدى له فروة بن عمر، وحمار يقال له: يعفور، قال ابن عبدوس: ويقال هما واحد.
(1/79)
وقال الواقدي: نَفَقَ يَعْفُور مُنْصَرفَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. وذكر السهيلي أنه طرح نفسه في بئر يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عساكر عن أبي منصور: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أصاب حمارًا أسود، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك؟» قَالَ: يزيد بن شهاب -وعند السهيلي: زياد بن شهاب- أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا، كلهم لم يركبه إلا نبي، وقد كنت أتوقعك أن تركبني؛ لأنه لم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، فذكر حديثًا طويلًا فيه: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان، فترَدى فيها جَزَعًا على النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت قبره. قال أبو القاسم: هذا حديث غريب، وفي إسناده غير واحد من المجهولين. وقال ابن حبان في «كتاب الضعفاء»: لا أصل لهذا الحديث، وإسناده ليس بشيء. وروينا في كتاب «الإرداف» لأبي زكريا يحيى بن منده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حمار آخر [67/أ] %ج 4 ص 133%أعطاه إياه سعد بن عبادة. وعند ابن سعد: أول فرس ملكه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس ابْتَاعه بالمدينة من رجل من بني فَزَارة بعشرة أواقي، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: السكب، وأول ما غزا عليه أُحدًا، وكان أغر محجلًا طلق اليمين. وفي «الكتاب المنمق» لمحمد بن حبيب البغدادي: كان كميتًا. وعند الطبراني عن ابن عباس: كان أدهم. وعند الواقدي: كان له أيضًا فرس أشقر يسمى: المرتجز، وهو الذي شهد خزيمة فيه، وكان لأعرابي من بني مُرَّة. ولابن أبي عاصم: كان أشقر. وزعم ابن قتيبة أن الذي شهد فيه خزيمة الظرب، وفي رواية: النجيب. و الأعرابي قيل: هو سواء بن الحارث بن ظالم المزني، وقيل: هو سواء بن قيس المحاربي.
(1/80)
وذكر الرشاطي: أن المرتجز أهداه له عصيم بن الحارث بن ظالم المحاربي، فأثابه صلى الله عليه وسلم ناقة تدعى القرعى. وعند الواقدي: كان لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سهل بن سعد ثلاثة أفراس: لزاز، والظرب، واللحيف، أهدى الظرب له فروة بن عمرو الجذامي. وفي «تاريخ ابن عساكر»: أهداه له ربيعة بن أبي البراء. وذكر أبو سعد النيسابوري في كتابه «شرف المصطفى»: أنه كان لجنادة بن المعلى المحاربي. وذكر ابن الجوزي أن لزازًا أهداه له المقوقس. وعند السهيلي: كان معه في المريسيع. وذكر سليمان بن بنين النحوي المصري: أنه من هدايا المقوقس، قال: وكان تحته صلى الله عليه وسلم ببدر. وهو كلام يحتاج إلى تأمل؛ لأن المقوقس لم تأته هديته إلا بعد سنة ست، فينظر. وعند ابن سعد: كان له فرس يقال له: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر، فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع، الحديث. وعنده أيضًا: المرواح، أهداه له الرُّهَاوِيُّون. وعند ابن حبيب: وكان له فرس يقال له: ذو اللّمَّة. وعند ابن خالويه: والمرتجل، والسرحان، والعسوب، ذكره قاسم بن ثابت في «الدلائل».وكذلك اليعسوب والبحر. قَالَ ابن بنين: اشتراه من تجار قدموا به من اليمن. والشَّحَّاء والشجك، قَالَ ابن الأثير: أخاف أن يكون أحدهما تصحيف من الآخر. وملاوح، ذكره في «شرف المصطفى»، وقال: كان لأبي بردة بن نيار. ومندوب، ذكره أبو عبد الله محمد بن علي بن حضر بن عسكر المالقي في «ذيل التعريف».وفي «سنن الدارقطني» عن أنس: كانت له فرس يقال لها: سبخة صلى الله عليه وسلم. وفي كتاب ابن عساكر: وفرس آخر يقال [له]: ذو العقال. وفي [67/ب] %ج 4 ص 134% «الجهاد» لابن أبي عاصم عن ابن عباس: كان للنبي صلى الله عليه وسلم فرس أدهم يسمى: السقب. وفي «المستدرك»: كان له بغلة يقال لها: دُلْدُل. وقال الواقدي: عن موسى بن محمد، عن أبيه: هي أول بغلة رئيت في الإسلام، أهداها له المقوقس، وبقيت إلى زمن معاوية.
(1/81)
وفي
«تاريخ دمشق»: قاتل عليها عليٌّ الخوارج في خلافته الخوارج. وعند ابن إسحاق: كانت
في منزل عبد الله بن جعفر يجش لها الشعير؛ لأن أسنانها ذهبت، وكانت شهباء. وعند
الواقدي: أهداها له فروة الجذامي. وعند المَرْزُبَاني: لما أهداها للنبي صلى الله
عليه وسلم طلبه الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما ظفر به صلبه. وفي مسلم: أهدى ابن
العَلْمَاء -يعني: يحنا بن رؤبة- له في تبوك بغلة بيضاء، فكتب له صلى الله عليه وسلم
يجيرهم وأهدى له بردًا. وعند ابن سعد: وأرسل إليه صاحب دومة بغلة. وفي «تفسير
الثعلبي» بسند فيه ضعف عن ابن عباس: أهدى كسرى بغلةً للنبي صلى الله عليه وسلم
فركبها بجُل من شعر، وأردفه خلفه. يشبه أن يكون هذا فيه نظر، من حيث إن كسرى مزق
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يكون الراوي عبر بكسرى ممن دون الملك
الكبير، والله أعلم. وفي كتاب «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» لأبي الشيخ ابن
حَيَّان: عن ابن عباس أن النجاشي أهدى له صلى الله عليه وسلم بغلة؛ فكان يركبها.
قال في «المخصص»: الخيل جمع لا واحد له، وجمعه: خيول. وكان أبو عبيدة يقول: واحدها
خائل لاختيالها، فهو على هذا اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند أبي الحسن. وفي
«المحكم»: ليس هذا بمعروف، يعني قول أبي عبيدة. قال: وقول أبي ذؤيب: فتنازلا
وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بَطَلُ اللقاءِ مُخدَّعبناء على قولهم: هما لقاحان
أسودان وجمالان. والجمع: أخيال عن ابن الأعرابي، والأول أشهر. وفي «الاحتفال» لأبي
عبد الله بن رضوان: وقد جاء فيه الجمع أيضًا على أخيل، وذلك في شعر الحطيئةفما
نلتنا غدرا ولكن صبحتنا غداة التقينا في المضيق بأخيلوإذا صغرت الخيل دخلت الهاء،
فقلتَ: خُيَيْلَة، ولو صغرت بطرح الهاء لكان وجهًا، والخول -بالفتح-: جماعة الخيل.
بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الفَرَسِ
ذكر حديث:
(1/82)
2858
- شُعَيْب، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن سَالِم، عن ابنِ عُمَرَ، أنه صلى الله عليه وسلم
قال: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي الفَرَسِ، وَالمَرْأَةِ،
وَالدَّارِ». [خ 2858]
وحديث سهل بن سعد:
2859 - «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ، فَفِي المَرْأَةِ، [68/أ]
%ج 4 ص 135%
وَالفَرَسِ، وَالمَسْكَنِ». [خ 2859]
وروى الترمذي الأول من حديث سفيان عن الزهري، عن سالم وحمزة عن أبيهما، قَالَ:
وروى مالك هذا الحديث عن الزهري فقال: عن سالم وعن آخر.
ورواه أبو عمر عن طريق معمر، عن الزهري، فقال: عن سالم أو عن حمزة أو كليهما -شك
معمر- وفي آخره قَالَ: قالت أم سلمة: والسيف.
قال أبو عمر: وقد روى جويرية، عن مالك، عن الزهري أن بعض أهل أم سلمة -زوج النبي
صلى الله عليه وسلم - أخبره أن أم سلمة كانت تزيد: السيف. يعني في حديث الزهري، عن
حمزة وسالم في الشؤم.
وروينا في كتاب «الحلية» من حديث يحيى بن عبيد الله البابلتي، حدثنا أبو بكر بن
أبي مريم، عن حبيب بن عبيد، عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشؤم
سوء الخلق».
قَالَ أبو نعيم: تفرد به عن حبيبٍ ابنُ أبي مريم.
قال أبو عمر: وكانت عائشة تنكر الشؤم، وتقول: إنما حكاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن أهل الجاهلية وأقوالهم.
ثم ذكر من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان أن رجلين دخلا على
عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنما الطيرة
في المرأة والدار والدابة»، فذكرت كلمة معناها أنه غلط، ولكن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يقول: «أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة».
قال: ومن حديث زهير بن معاوية، عن عتبة بن حميد، حدثني عبد الله بن أبي بكر، سمع
أنسًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن
في شيء ففي الدار والمرأة والفرس».
(1/83)
وعن
جابر: «إن كان في شيء ففي الربع والفرس والمرأة»، يعني: الشؤم.
قال القرطبي: الشؤم نقيض اليمن، وهو من باب الطيرة،
قال: وتخيل بعض أهل العلم أن التطير بهذِه الأشياء من قوله: «لا طيرة»، وأنه مخصوص
بها، فكأنه قَالَ: لا طيرة إلا في هذِه الثلاثة، فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما
كره من ذلك، وممن صار إلى هذا القول ابن قتيبة، وعضد هذا ما روي من حديث أبي هريرة
مرفوعًا: «الطيرة على من تطير».
وقال أبو عبد الله: حمل مالك الحديث على ظاهره، ولم يتأوله، فذكر في «العتبيَّة»:
ربَّ دار سكنها قومٌ، فهلكوا، وآخرون بعدهم، فهلكوا.
ويعضده أيضًا [68/ب]
%ج 4 ص 136%
حديث يحيى بن سعيد: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله،
دار سكناها والعدد كثير، والمال وافر، فقلَّ العدد، وذهب المال، فقال صلى الله
عليه وسلم: «دعوها ذميمة».
قال القرطبي: ولا تظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذِه الثلاثة
الأشياء على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها، فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت
به، ولا تفعله بوجه، بناء على أن الطيرة تضر قطعًا، فإن هذا ظن خطأ، وإنما يعني
بذلك أن هذِه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها.
فمن وقع في نفسه شيء من ذَلِكَ فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما
يغلب به نفسه، ويسكن خاطره له، ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو امرأة
يكرهها؛ بل قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله جلَّ وعزَّ هو الفعال
لما يريد، وليس لشيء من هذِه الأشياء أثر في الوجود، وهذا على نحو ما ذكر في
المجذوم.
قال: فإن قيل: هذا يجري في كل متطير به، فما وجه خصوصية هذِه الثلاثة بالذكر؟
فالجواب: ما نبهنا عليه من أن هذه الضرورية في الوجود، لابد للإنسان منها ومن
ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم به، فخصها بالذكر لذلك.
(1/84)
فإن
قيل: ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء الذي منع من الخروج منه؟
والجواب: ما قاله بعض أهل العلم أن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا يقع التأذي به ولا اطردت عادته به خاصة ولا عامة، لا نادرة ولا
متكررة، فهذا لا يصغى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه كتلقي غراب في بعض
الأسفار، أو صراخ بومةٍ في داره، فمثل هذا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا طيرة ولا
تطير» رواه الترمذي من حديث ابن عمر، وصححه، بسند صحيح عند ابن ماجه عن ابن عباس:
«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» كذا رواه أبو قتادة، وجابر، وأبو الدرداء، وأبو
هريرة، والسائب بن يزيد، وبريدة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة
الباهلي، وعبد الله بن زيد، وحابس التميمي، وأم سلمة، وعلي بن أبي طالب، ذكرها أبو
محمد [69/أ]
%ج 4 ص 137%
بن عساكر في كتاب «تحقيق المقال في الطيرة والفال»، الذي أنبأ بجميعه أبو المحاسن
الحسني قراءة عليه، أخبرنا أبو الفتح عبد الحق القُضَاعي سماعًا، وهذا القسم هو
الذي كانت العرب تعتبره وتعمل به، مع أنه ليس في لقاء الغراب، ولا دخول البومة
دارًا ما يُشعر بتأذي ولا مكروه، لا بوجه ندور ولا التكرار.
ثانيها: ما يقع به الضرر ولكنه يعمُّ، ولا يخصُّ، ويندر ولا يتكرَّر، كالوباء،
فهذا لا يُقْدَمُ عليه؛ عملًا بالحزم والاحتياط، ولا يفرُّ منه لإمكان أن يكون قد
وصل الضرر إلى الفارِّ، فيكون سفره زيادة في محنته، وتعجيلًا لهلكته.
وثالثها: سببٌ يخصُّ ولا يعم، ويلحق منه الضرر بطول الملازمة، كالدار والفرس،
والمرأة، ويباح له الاستبدال، والتوكُّل على الله، والإعراض عما يقع في النفوس
منها من أفضل الأعمال.
قال: وقد سلك العلماء في تأويل هذا الحديث أوجهًا، منها:
(1/85)
أن
شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها، أو أن لا يسمع فيها أذان، وشؤم المرأة عدم ولادتها،
وسلاطة لسانها، وتعرضها للريبة، وشؤم الفرس ألا يُغزى عليها، وغلاء ثمنها، وشؤم
الخادم سوء خلقه، وقلة تعهده لما فوض إليه.
قال ابن العربي: وردت الألفاظ في هذا على ثلاثة أنحاء:
الأول: إن كان الشؤم ففي كذا.
الثاني: الشؤم في كذا.
الثالث: إنما الشؤم في كذا.
والمعنى كله واحد؛ أما قوله: «إن كان»، فالمعنى: إن خلقه الله فيما جرى في نقض
العادة به، فإنما يخلقه في الغالب في هذِه الثلاثة.
وقوله: «إنما» فهو حصر للشؤم في هذه الثلاثة، وهو حصر عادة لا خلقة، فإن الشؤم قد
يكون بين الاثنين في الصحبة، وقد يكون في السفر، وقد يكون في الثوب يستجده،
والعبد، ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إذا لبسَ أحدكم ثوبًا جديدًا فليقل:
اللَّهُمَّ إني أسألك خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّهِ وشرِّ ما صُنِعَ
له».
قال الخطابي: المراد إبطال مذهبهم في التطير بالسوانح [69/ب]
%ج 4 ص 138%
والبوارح، ويكون مجْرى الحديث مجْرى استثناء الشيء من غير جنسه، وسبيله سبيل
الخروج من شيء إلى غيره.
قَالَ بعض العلماء: وقد يكون الشؤم هنا على غير المفهوم من معنى التطير، لكن بمعنى
قلة الموافقة وسوء الطباع، كما في الحديث: «من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة
الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوته: المرأة السوء، والمسكن
السوء».
رواه أحمد في «مسنده» من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن
جده.
ومن حديث معاوية بن حكيم، عن عمه حكيم بن معاوية: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا شؤم، وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس».
وروى يوسف بن موسى القطان: حدثَنَا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه يرفعه:
«البركة في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار».
(1/86)
وسُئل
سالم عن معنى هذا الحديث فقال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان
الفرس حرونا فهو مشئوم، وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجًا قبل زوجها فحنت إلى الزوج
الأول فهي مشؤومة، وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع فيها الأذان والإقامة
فهي مشؤومة، وإذا كن بغير هذا الوصف فهن مباركات».
قال أبو عمر: يحتمل أن يكون قوله: «الشؤم في ثلاثة» كان في كان في أول الإسلام ثم
نسخ ذَلِكَ وأبطله قوله جلَّ وعزَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
وسيأتي في كتاب النكاح طرف من هذا، وفي كتاب الطب.
وذكر البخاري في حديث جمل جابر المتقدم في كتاب الصلاة:
(1/87)
2861 - «وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ». [خ 2861] قال أبو عبيد عن الأصمعي: الأرمك لون يخالط حمرته سواد، ويقال: بعير أرمك، وناقة رمكاء. وعن ابن دريد: الرَّمك: كلُّ شيء خالطت غبرته سوادًا كدرًا. وفي كتاب «الكفاية» لأبي إسحاق بلدينا: وقال حُنَيفُ الحَنَاتِم: الحَمْرَاءُ: صُبْرَى، الرَّمْكَاءُ: بُهْيَا، [70/أ] %ج 4 ص 139%والخَوَّارَةُ: غُزْرَى، والصَّهْبَاءُ: سُرْعَى. وقيل: الرمكة الرماد. وقال ابن قُرْقُول: ويقال: أربك بالباء الموحدة أيضًا، والميم أشهر. وقوله: (لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ) أي: لمعة من غير لونه. وعن قتادة في قوله تعالى: {لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71] أي: لا عيب. وقوله: (إِذْ قَامَ عَلَيَّ الجَمَلُ). أي: وقف من الإعياء والكلال، قَالَ الله جلَّ وعزَّ: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] قال المفسرون: معناه: وقفوا. قال ابن المنذر: واختلفوا في المكتري يضرب الدابة فتموت، فقال مالك: إذا ضربها ضربًا لا تضرب مثله، أو حيث لا تضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: إذا ضربها ضربًا يضربها صاحبها مثلَه، ولم يتعدَّ فليس عليه شيء. واستحسن هذا القول أبو يوسف ومحمد. قال الثوري وأبو حنيفة: هو ضامن إلا أن يكون أمره بضربها. ولما ذكر البخاري في: بَاب الرُّكُوبِ عَلَى دَابَّةِ الصَّعْبَةِ وَالفُحُولَةِ مِنَ الخَيْلِ 2862 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا عَبْدُ الله. [خ 2862] قال الحاكم: أحمد هو: أحمد بن محمد بن موسى مردويه. قال الدارقطني: هو أحمد بن محمد بن ثابت شبويه.
(1/88)
وقال
ابن بطال: فيه أن ذكور الفحل أفضل من ركوب الإناث لشدتها وجُرْأَتِها، ومعلوم أن
المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا جملة أصحابه أنهم ركبوا غير الفحول، ولم يكن ذَلِكَ إلا لفضلها، إلا ما ذكر عن
سعد بن أبي وقاص أنه كان له فرس أنثى بَلْقَاء، ذكر سيف في «الفتوح»: أنها التي
ركبها أبو محجن حين كان عند سعد مُقَيَّدًا بالعراق. وذكر الدارقطني في «سننه»: عن
المقداد قَالَ: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر على فرس لي أنثى. بَابُ
سِهَامِ الفَرَسِ 2863 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ
سَهْمًا». [70/ب] [خ 2863]
%ج 4 ص 140%
عند الدارقطني عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، وذكر
فيه: «للفارس سهمين، وللراجل سهمًا».
قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة،
حدثنا أبو أسامة وابن نمير قالا: حدثَنَا عبيد الله، عن نافع: «للفارس سهمين،
وللراجل سمهًا».
قال الرمادي: كذا يقول ابن نمير.
قال الدارقطني: وقال أبو بكر النيسابوري: هذا عندي وَهَمٌ من ابن أبي شيبة أو من
الرمادي؛ لأن أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير بخلاف
هذا. انتهى.
ليس الوهم من ابن أبي شيبة، لأن ابن أبي عاصم رواه عنه، قال: حدثنا أبو أسامة،
وعبد الله بن نمير، عن عبد الله بلفظ: «جعل للفرس سهمين، وللرجل سهمًا».
قال الدارقطني: حدثنا النيسابوري، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا نعيم بن حماد،
حدثَنَا ابن المبارك عن عبيد الله، وفيه: «أسهم للفارس سهمين، وللراجل سهمًا».
قال أحمد: كذا لفظ أبي نعيم عن ابن المبارك، والناس يخالفونه.
(1/89)
قال
النيسابوري: لعل الوَهَمَ من نعيم، ورواه القعنبي عن ابن وهب عن عبيد الله بالشك
في الفارس أو الفرس.
قَالَ ابن حزم: ورواه عبد الله بن عمر عن نافع بلفظ: جعل للفارس سهمين وللراجل
سهمًا.
وعند أبي داود عن محمد بن عيسى، عن مُجمِّع بن يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ، سَمِعْتُ
أَبِي عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ
جَارِيَةَ قَالَ: «شَهِدْت الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِئَةٍ،
فِيهِمْ ثَلاَثُمِئَةِ فَارِسٍ، وقسمت خيبر على أهل الحديبية، فأعطى صلى الله عليه
وسلم الفارس سهمين، والراجل سهمًا».
قَالَ أبو داود: وحديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه.
يعني: أنَّ الوَهَمَ في حديث مجمع في قوله: «ثلاثمئة»، وإنما كانوا مئتين، كما في
حديث أبي معاوية؛ ولهذا قال البيهقي: حديث مجمِّع خولف فيه، ففي حديث جابر أنهم
كانوا ألفًا وأربعمئة، وفي حديث [71/أ]
%ج 4 ص 141%
صالح بن كيسان وبشير بن يسار: كانت الخيل مائتي فرس.
وقال ابن حزم: مجمع بن يعقوب مجهول، وأبو كذلك، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إن مجمعًا روى عنه جماعة؛ منهم قتيبة والقعنبي وإسماعيل بن أبي
أويس، ويحيى بن حسان، وأبو عامر العقدي، وقال فيه ابن سعد: ثقة، وابن معين
والنسائي: ليس به بأس.
وأبوه: روى عنه أيضًا ابن أخيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبد العزيز بن عبيد
الله بن حمزة بن صهيب، وذكره ابن حبان في «الثقات».
وعند أبي داود من حديث عبد الرحمن المسعودي، عن ابن أبي عمرة، عن أبيه قَالَ:
«أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر، فأعطى كلَّ إنسان منا سهمًا،
وأعطى الفرس سهمين».
ورواه الدارقطني من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبيه، عن جده
بشير بن عمرو بن محصن قَالَ: «أسهم لي النبي صلى الله عليه وسلم، لفرسي أربعة
أسهم، ولي سهمًا، فأخذت خمسة».
(1/90)
وعند
النسائي من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن جده قَالَ: ضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير أربعة أسهم: سهم للزبير، وسهم لصفية، وسهمين
للفرس.
ورواه الدارقطني من حديث إسماعيل بن عياش، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن
الزبير، عن الزبير.
وعند أحمد من حديث ياسين بن معاذ، عن الزهري، [عن مالك بن أوس]، عن عمر، وطلحة بن
عبيد الله، والزبير قالوا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْهِمُ
لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ».
وعند الدارقطني من حديث أبي الوليد بن بُرْدٍ الأنطاكي, حدثنا الهيثم بن جميل,
حدثنا قيس, حدثنا محمد بن علي السلمي, عن إسحاق بن عبد الله, عن أبي حازم مولى أبي
رهم, عن أبي رهم, قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ومعنا فرسان،
فأعطانا ستة أسهم، أربعة لفرسينا وسهمين لنا».
وعنده عن أبي كبشة الأنماري، قَالَ: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«إني جعلت للفرس سهمين، وللفارس سهمًا، فمن نقصهما نقصه الله جلَّ وعزَّ».
رواه عن أحمد الأدمي، حدثنا [71/ب]
%ج 4 ص 142%
محمد بن الحسين الحُنَيني: حدثَنَا معلى بن أسد، حدثَنَا محمد بن حمران، عن عبد
الله بن بسر، عنه.
ومن حديث قريبة بنت عبد الله، عن أمها بنت المقداد، عن ضُبَاعة بنت الزبير، عن
المقداد قَالَ: «أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سهمًا، ولفرسي
سهمين».
ومن حديث يحيى بن أيوب قَالَ: قَالَ لي إبراهيم بن سعد: عن كثير مولى بني مخزوم،
عن عطاء، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم لمئتي فرس بخيبر
سهمين سهمين».
ومن حديث محمد بن يزيد بن سنان: حدثَنَا أبي: حدثني هشام بن عروة، عن أبي صالح، عن
جابر قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة فأعطى الفارس منا ثلاثة
أسهم، وأعطى الراجل سهمًا».
(1/91)
ومن
حديث الواقدي: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده: «أنه شهد
حنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأسهم لفرسه سهمين، وله سهمًا».
قَالَ محمد بن عمر: وحَدَّثنَا أبو بكر بن يحيى بن النضر، عن أبيه أنه سمع أبا
هريرة يقول: «أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا».
وعند البيهقي من حديث الزنبري، عن مالك عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت،
عن أبيه قَالَ: «أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير يوم خيبر أربعة أسهم: سهمين
للفرس، وسهمًا له، وسهمًا للقرابة»، وقال: هذا من غرائب الزنبري عن مالك، وإنما
يعرف بإسناد يحيى بن عبد الله بن الزبير يعني المذكور قبل، قال: وفيه كفاية.
وفي «المراسيل» لأبي داود من حديث عبد العزيز بن رفيع، عن رجل من أهل مكة: «أن
النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهمًا، وللدارع سهمين».
لا خلاف بين أحد من العلماء أن للراجل إذا كان وحده سهم واحد، واختلفوا فيمن كان
معه فرس؛ فقال أكثر العلماء، ومنهم الإمام الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف،
ومحمد بن الحسن: له ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له، على ما في هذه الأحاديث.
وقال أبو حنيفة: للفارس [72/أ]
%ج 4 ص 143%
سهم، ولفرسه سهم، مستدلًا بما سبق من حديث ابن عمر، وبأن لك مروي عن علي، وأبي
موسى، ذكره المنذري.
وقال ابن حزم: ومن طريق ليث عن الحكم أن أول من جعل للفرس سهمين عمر بن الخطاب.
وردوا قوله على تقدير ثبوت الحديث: بأن للفارس سهمين، يعني: سهمي فرسه، وسبقت فيه
لفظة ثابتة من حديث آخر، إذ المجمل يرد به إلى المفسر.
قال البخاري:
وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالبَرَاذِينِ، لِقَوْلِهِ تعالى:
{وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، وَلاَ يُسْهَمُ
لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ.
(1/92)
هذا
التعليق رويناه في «موطأ مالك بن أنس» عنه بزيادة: والبراذين والهَجِين من الخيل
إذا أجازها الوالي.
وبقول مالك يقول أبو حنيفة والثوري والإمام الشافعي وأبو ثور.
وقال الليث: للهجين والبراذين سهم دون سهم الفرس، ولا يلحقان بالعراب.
وقال ابن المناصف: أول من أسهم للبِرْذَوْن رجل من هَمْدَان، يقال له: المنذر
الوادِعي، وكتب بذلك إلى عمر فأعجبه، فجرت سنة للخيل والبراذين، وفي ذَلِكَ يقول شاعرهم:
ومِنَّا الذي قَدْ سَنَّ في الخيل سُنَّةً ... وكانت سواءً قبلَ ذاك سهامُها
وعن مكحول فيما ذكره أبو داود في «المراسيل»: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي، للعربي سهمان، وللهجين سهم».
قال الإشبيلي: وروي موصولًا عن مكحول، عن زياد بن حارثة، عن حبيب بن سلمة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، والمرسل أصح.
وعن مكحول: أول من أسهم للبرذون خالد بن الوليد، قسم لها نصف سُهْمان الخيل.
قَالَ ابن المناصف: وروي أيضًا عن الحسن، وبه قال أحمد بن حنبل.
قال مكحول: ولا شيء للبراذين، وهو قول الأوزاعي.
قَالَ ابن حزم: للراجل وراكب البغل والحمار والجمل سهم واحد فقط، وهو قول مالك
والشافعي وأبي سليمان.
وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان؛ له سهم ولفرسه أو لسائر ما ذكرنا سهم.
وهو قول أبي موسى الأشعري.
وقال أحمد: للفارس ثلاثة أسهم، ولراكب البعير سهمان.
وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي ... إلى أنه لا يسهم لأكثر من فرس.
وقال الأوزاعي وأبو يوسف والثوري والليث وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين، وهو قول
[72/ب]
%ج 4 ص 144%
ابن وهب وابن الجهم من المالكية، قال ابن أبي عاصم: وهو قول الحسن، ومكحول، وسعيد
بن عثمان.
قَالَ القرطبي: لم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئًا روي عن سليمان بن
موسى الأشدق، قَالَ: يسهم لمن عنده أفراس، لكل فرس سهمان، وهو شاذ.
(1/93)
وعن
مالك فيما ذكره ابن المناصف: إذا كان المسلمون في سفن فلقوا العدو فغنموا، أنه
يضرب للخيل التي معهم في السفن بسهمهم، وهو قول الشافعي والأوزاعي وأبي ثور.
وقال بعض الفقهاء: القياس أنه لا يسهم لها.
واختلف في الفرس يموت قبل حضور القتال، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا
سهم له إلا إذا حضر القتال.
وقال مالك وابن القاسم وأشهب وعبد الملك بن الماجشون: بالإدراب يستحق الفرس
الإسهام، وإليه ذهب ابن حبيب، قَالَ: ومن حطم فرسه أو كسر بعد الإيجاف أسهم له.
قَالَ مالك: ويسهم للرهيص من الخيل وإن لم يزل رهيصًا من حين دخل إلى حين خرج
بمنزلة الإنسان المريض، وقاله ابن الماجشون وأشهب وأصبغ.
قال اللخمي: وروي عن مالك أنه لا يسهم للمريض من الخيل.
وقال الأوزاعي في رجل دخل دار الحرب راجلًا، وقد غنم المسلمون غنائم قبل شرائه
وبعده أنه يسهم للفرس فما غنموا قبل الشراء للبائع، وما غنموا بعد الشراء فسهمه
للمشتري، فما اشتبه من ذَلِكَ قسم بينهما.
وبه قَالَ أحمد وإسحاق.
قَالَ ابن المنذر: وعلى هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه إلا فيما اشتبه، فمذهبه أن
يوقف الذي أشكل من ذَلِكَ بينهما حَتَّى يصطلحا.
وقال أبو حنيفة: إذا دخل أرض العدو غازيًا راجلًا ثم ابتاع فرسًا يقاتل عليه
وأحرزت الغنيمة وهو فارس، أنه لا يضرب له إلا بسهم راجل.
بَابُ مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الحَرْبِ
ذكر فيه حديث أبي إسحاق قال:
2864 - قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، وَإِنَّا
لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ
المُسْلِمُونَ عَلَى الغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [73/أ]
(1/94)
%ج 4
ص 145%
فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ،
وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ». [خ
2864]
وفي موضع: «فنزل واستنصر».
وفي موضع آخر: قال إسرائيل وزهير: نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته.
وفي رواية: قال للبراء رجل من قيس.
و (حُنَيْن) قال الواقدي: وادٍ بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف.
وقال البكري: بضعة عشر ميلًا، والأغلب فيه التذكير؛ لأنه اسم ماء، وربما أنثته
العرب جعلته اسمًا للبقعة، وهو وراء عرفات، سمي بحنين بن قانية بن مهلائيل.
وقال الزمخشري: هو إلى جَنْبِ ذِي المَجَازِ، ويأتي إن شاء الله تعالى ذكر خروجه
صلى الله عليه وسلم إليها في الغزوات.
وقوله: (لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ) هذا هو المعلوم
من حاله وحال الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه؛ لإقدامهم وشجاعتهم وتيقنهم بوعد
الله جلَّ وعزَّ، في رغبتهم في الشهادة وفي لقاء الله تعالى، ولم يثبت عن واحد
منهم -والعياذ بالله- أنه فر، ومن قال ذلك في نبينا صلى الله عليه وسلم قُتِلَ ولم
يستتب؛ لأنه صار بمنزلة من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان أسودَ أو أعجميًّا؛
لإنكاره ما علم من وصفه قطعًا وذلك كُفْرٌ.
قال القرطبي: وحُكِيَ عن بعض أصحابنا الإجماعُ على قتل من أضاف إليه صلى الله عليه
وسلم نقصًا أو عيبًا، وقيل: يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قال ابن بطال: لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله.
قال النووي: والذين فروا يومئذ إنما فتحه عليهم من كان في قلبه مرض من مسلمة الفتح
المؤلفة ومشركيها، الذين لم يكونوا أسلموا، والذين خرجوا لأجل الغنيمة، وإنما كانت
هزيمتهم فجأة.
(1/95)
وركوبه
صلى الله عليه وسلم يومئذ البغلة هو النهاية في الشجاعة والثبات، لاسيما في نزوله
عنها مما يدل على شجاعته، وتقدمه يركض على البغلة إلى جمع المشركين حين فر الناس،
وليس معه غير اثني عشر نفرًا، وكان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخِذَينِ بلجام
البغلة يكفانها عن الإسراع به في العدو.
واختلف في البغلة التي كانت تحته يومئذ؛ ففي مسلم: «كانت بيضاء، أهداها له فروة
[73/ب]
%ج 4 ص 146%
بن نفاثة»، وفي لفظ: «كانت شهباء».
وعند ابن سعد: «كان راكبًا دُلْدُلَ التي أهداها له المقوقس»، فيحتمل أن يكون
ركبها يومئذ، نزل من واحدة وركب الأخرى كما تقم، والله أعلم.
قوله: (أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ) زعم ابن التين أن أهل العلم كان يرويه: «لا
كذبَ» بنصب الباء ليخرجه عن أن يكون هو رويًا.
وفيه: إثبات لنبوته صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أنا ليس بكاذب فيما أقول، فيجوز
عليَّ الانهزام.
وانتسابه إلى جده لرؤيا كان عبد المطلب رآها دالة على نبوته، مشهورة عند العرب
وعبرها له سيف بن ذي يزن، فيما ذكره ابن ظفر في «إنباء نجباء الأبناء».
وقيل: لأن شهرة جده كانت أكثر من شهرة أبيه، لأنه توفي شابا في حياة أبيه.
أو لأنه كان صلى الله عليه وسلم ينتسب كثيرا إلى عبد المطلب لأن العادة إذا كان في
نسب الإنسان جدٌّ أو جدُّ أبٍ له شهرة، أو اسمه فيه غرابة ينسب إليه، وطرح مَنْ
بينهما مِنَ الآباء، ولهذا إن ضمَّام بن ثعلبة لما وفد عليه قال: أيكم ابن عبد
المطلب؟
وعند ابن إسحاق: «أيها الناس أنا محمد، أنا رسول الله».
(1/96)
وفيه:
جواز الانتماء في الحرب، وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الافتخار في غير الحرب؛
لأنه رخص في الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها، وفي الترمذي عن ابن عمر:
«لقد رأيتنا يوم حنين وإن الفئتين موليتين وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا مئة رجل»، وقال: حسن صحيح غريب من حديث عبد الله بن عمر، لا عرف إلا من هذا
الوجه، انتهى.
لكن هذا كما ذكره ابن إسحاق حين تلاحق به الناس.
وعند الزبير: ممن ثبت يومئذ عتبة ومعتب ابنا أبي لهب.
وعند ابن إسحاق: وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وعمر،
وعلي، والفضل بن عباس، وأسامة، وقثم بن العباس، وأيمن بن أم أيمن -وقتل يومئذ-، وربيعة
بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب فيما ذكره ابن الأثير، وأم سليم أم
أنس بن مالك.
قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
ويروى: سبعة وثامننا.
وفي «الجهاد» لابن أبي عاصم بسند جيد عن العباس: «شهدت [74/أ]
%ج 4 ص 147%
النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وما معه إلا أنا وأبو سفيان».
فإن قيل: الفرار من الزحف كبيرة، فكيف من الهزم هنا؟
قال الطبري: الجواب أن الفرار المتوعد عليه هو أن ينوي أن لا يعود إذا وجد قوة،
وأما من تحيز إلى فئة أو كان فراره لكثرة عدد العدو، أو نوى العود إذا أمكنه فليس
داخلًا في الوعيد، ولقد قال جلَّ وعزَّ في حق هؤلاء: {ثُمَّ أَنْزَلَ الله
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26].
بَابُ إِضْمَارِ الخَيْلِ لِلسَّبْقِ
وذكر فيه حديث ابن عمر المتقدم في كتاب الصلاة:
2869 - «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي لَمْ
تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ»،
وَأَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا. [خ 2869]
(1/97)
وعند
ابن أبي عاصم من حديث عاصم بن عمر، عن نافع، عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم
سابق بين الخيل، وجعل بينهما سبقًا ومحللًا».
وقال أبو موسى، عن نعيم، عن ابن المبارك: ومحللًا.
وعن عبد الله عن نافع عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بين الخيل وراهن».
قال ابن بطال: إن قال قائل: كيف ترجم «باب إضمار الخيل للسبق» وذكر أن النبي صلى
الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر؟
فالجواب: أنه إنما أشار بطرفٍ من الحديث إلى بقيته، وأحال بسائره؛ لأن تمام
الحديث: «سابق بين الخيل التي أضمرت وبين الخيل التي لم تضمر».
وذلك كله موجود في حديث واحد، [فلا] حرج عليه في تبويبه.
قال ابن المنير: إن البخاري يترجم على الشيء من الجهة العامة، فقد يكون ثابتًا وقد
يكون منفيًا، فمعنى قوله: «باب إضمار الخيل للسبق» أي: هل هو شرط أم لا؟ فبيَّنَ
أنه ليس بشرط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سابق بها مضمرة وغير مضمرة، وهذا أقعد
بمقاصد البخاري.
بَابُ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ عَلَى
القَصْوَاءِ».
هذا التعليق رويناه في كتاب «الإرداف» لأبي زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده، من
طريق عاصم بن عبد الله، عن سالم، عن أبيه، فذكره من غير ذكر القصواء.
قال البخاري:
وَقَالَ المِسْوَرُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتِ
القَصْوَاءُ».
هذا التعليق تقدم [74/ب]
%ج 4 ص 148%
مسندًا عنده في كتاب الشروط.
قال ابن التين: ضُبِطَتْ (القَصْوَاءُ) بضم القاف والقصر, وهي عند أهل اللغة بفتح
القاف والمد.
وقال الداودي: سميت بذلك؛ لأنها كانت غايةً في الجري؛ قال: وآخر كلِّ شيء أقصاه،
والذي عند أهل اللغة أنها المقطوعة الأذن.
(1/98)
قال
ابن قُرْقُول: هي المقطوعة ربع الأذن، وبالقَصْر خطأٌ، وهي التي هاجر صلى الله
عليه وسلم عليها, ويقال لها: العضباء، ابتاعها أبو بكر من نعم بني الحريش.
والجدعاء: وكانت شهباء، وكان لا يحمله إذا نزل عليه الوحي غيرها.
وتسمى أيضًا الحناء, والسمراء, والعريس, والسعدية, والبغوم, واليسيرة, والرياء,
وبردة, والمروة, والجعدة, ومهرة, والشقراء.
وروينا في كتاب «المعجمين» قال: عن أبي العباس, عن أنس قال: «خطبنا النبي صلى الله
عليه وسلم على ناقته العضباء, وليست بالجدعاء»، فذكر حديثًا.
وفي «المحكم»: العضباء: حذف في طرف أذن الناقة والشاة، وهو أن يقطع منه شيء قليل.
وقد قصاها قَصْوًا وقَصَّاها، وناقة قصواء ومقصوة, وجمل مقصو وأقصى.
وأنكر بعضهم أقصى، وقال اللحياني: بعير أقصى ومقصى ومقصوة، وناقة قصواء ومقصاة
ومقصوة: مقطوعة طرف الأذن، والقصية من الإبل: الكريمة التي لا تجهد في حلب ولا
حمل.
وقيل: القصية من الإبل: رذالتها، فسرها عن ثعلب.
وقال الجوهري: كانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مقطوعة الأذن.
والقعود من الإبل: ما يقتعده الإنسان للركوب والحمل.
قال الأزهري عن الليث: القَعود والقَعودة من الإبل خاصة.
قال الأزهري: ولم أسمع قَعودة بالهاء لغير الليث.
قال الأزهري: ولا يكون إلا للمذكر، ولا يقال للأنثى قعودة.
قال: وأخبرني المنذري أنه قرأ بخط أبي الهيثم: ذكر الكسائي أنه سمع من يقول: قعودة
للقلوص، وللذكر قعود.
قال الأزهري: وهذا عند الكسائي من نوادر الكلام الذي سمعه من بعضهم، وكلام أكثر
العرب على غيره.
وجمع القَعود: قِعْدان، والقَعَادين: جمع الجمع, انتهى.
قال ابن التَّيَّاني في «الموعب»: ذكر صاحب «العين» في غير هذا الموضع أن القعود
لا يكون إلا ذكرًا, ولا يقال للأنثى قعودة.
وفي «المحكم»: القُعدة والقَعودة والقَعُود من الإبل: ما اتخذه [75/أ]
%ج 4 ص 149%
الراعي للركوب، والجمع أقِعْدة وقُعَد وقعائد.
(1/99)
وفي
«الصحاح» هو بالفارسية: رخت لش, وبتصغيره جاء المثل: اتخذوه قُعْيد الحاجات. إذا
امتهنوا الرحل في حوائجهم، وهو حين يركب، وأدنى ذلك أن يأتي عليه سنتان إلى أن
يثني، أي: دخل في السنة الثالثة، فإذا أثنى سمي جملًا.
بَابُ بَغْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم [البَيْضَاء]
قَالَهُ أَنَسٌ
قول أنس هذا تقدم ذكره.
قال البخاري:
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بَغْلَةً بَيْضَاءَ.
هذا التعليق ذكره البخاري مسندًا في الجزية.
قوله: بَابُ غَزْوِ المَرْأَةِ فِي البَحْرِ
2877 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الأَنْصَارِيِّ: سَمِعْتُ أَنَسًا يذكر حديث غزوِ أم حرامٍ في البحرِ. [خ 2877]
ذكر أبو مسعود أنه كذا في كتاب البخاري: أبو إسحاق, عن أبي طوالة, و سقط بينهما
زائدة بن قدامة الثقفي.
قَالَ الجياني: قابلته في «مسند أبي إسحاق» عن أبي طوالة، ليس بينهما زائدة، ومع
هذا فالحديث محفوظ لزائدة عن أبي طوالة، رواه عنه حسين بن علي الجعفي وغيره، وقد
رواه معاوية بن عمرو أيضًا عن زائدة, عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن.
وذكر البخاري في: بَابُ غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ
2880 - قال أنس: «وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ, وَأُمَّ سُلَيْمٍ, وَإِنَّهُمَا
لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا، ينْقُزَانِ الْقِرَبَ». [خ 2880]
قال البخاري:
وَقَالَ غَيْرُهُ: ينْقُلاَنِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ يفْرِغَانِهِ
فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ.
الخَدَم: الخلاخيل، الواحدة: خَدَمة، قال ابن قُرْقُول: وقد يسمى موضعهما من
الساقين خدَمة, وجمعه خِدَام.
وقوله: (ينْقُزَانِ) قال: يثبان. والنقز: الوثب والقفز؛ كأنه من سرعة السير.
(1/100)
قَالَ:
وضبط الشيوخ (القِرَبَ) بنصب الباء، ووجهه بعيد على الضبط المقدم، وأما مع
(ينْقُلاَنِ) فصحيح، وكان بعض شيوخنا يقرأ هذا الحرف بضم باء (القِرَب) يجعله
مبتدأ، كأنه قَالَ: والقرب على متونهما.
قال: والذي عندي أن في الرواية اختلالًا، ولهذا جاء البخاري بعدها بالرواية
المثبتة الصحيحة, وقد تخرج رواية الشيوخ بالنصب على عدم الخافض, كأنه قَالَ:
ينقزان بالقرب. [75/ب]
%ج 4 ص 150%
وقد وجدته في بعض الأصول: «تنقزان» بضم التاء، ويستقيم على هذا نصب القرب؛ أي:
تحركان القرب بشدة عدوهما بها، فكانت القرب ترتفع وتنخفض مثل الوثب على ظهورهما.
قال الخطابي: وأحسبه «تزفران»، والزفر: حمل القرب الثقال، ويقال للقربة نفسها:
الزفر. وكذلك قيل للإماء: الزوافر، وذلك لأنهن يزفرْنَ القرب.
قال: وقد روى أبو عبد الله هذا اللفظ في حديث عمر: «كانت تزفر لنا القرب في يوم
واحد».
قال ابن المنير: بوب على غزوهن وقتالهن، وليس في الحديث أنهن قاتلن، فإما أن يريد
أن إعانتهن الغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن للمداواة ولسقي الجرحى إلا وهن
يدافعن عن أنفسهن، وهو الغالب، فأضاف إليهن القتال كذلك, انتهى.
وعند ابن إسحاق ما يوضح هذا: لما قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يا أم سليم، ما هذا
الخنجر؟ قالت: يا رسول الله، أَبْعَجُ به بطنَ من يَدْنُو مني».
قال القرطبي: وقوله (خَدَمَ سُوقِهِن) كان هذا لضرورة ذلك العمل في ذلك الوقت،
ويحتمل أن يكون قبل نزول الحجاب، انتهى.
هو قبله بغير شك, فلا حاجة للاحتمال؛ لأنه إما في صفية وإما في زينب، وأيًا ما كان
فهو بعد أحد، قال: وقد يتمسك بظاهره من يرى أن تلك المواضع ليست بعورة من المرأة،
وليس بصحيح.
(1/101)
واختلف
في المرأة: هل يسهم لها؟ فقال الأوزاعي: يسهم للنساء، لأنه صلى الله عليه وسلم
أسهم لهن بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك؛ يعني حديث أبي داود من طريق حشرج بن زياد، عن
جدته: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لنا بخيبر كما أسهم للرجال».
قَالَ الخطابي: سنده ضعيف لا يقوم به حجة.
وبقول الأوزاعي يقول ابن حبيب المالكي، حكاه ابن المناصف بشرط قتالها.
قال الأوزاعي: ويسهم لغير البالغ من الصبيان إذا حضر القتال.
وقال مالك في المراهق: إذا أطاق القتال يسهم له.
وقال الثوري والكوفيون والليث والشافعي: لا يسهم لهن, ولكن يرضخ لهن, محتجين بقول
ابن عباس في «صحيح مسلم» لنجدة: «كن النساء يجدين من الغنيمة ولم يضرب لهم بسهم».
ولما سأل ابن وهب عن النساء هل يحذين من المغانم في الغزو؟ فقَالَ: ما سمعت ذلك،
وإنما رَدَّ [76/أ]
%ج 4 ص 151%
النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته نساءً خرجن معه، فالحديث فيه ضعف، وعلى
تقدير صحته يحتمل أن يكن شابات فردهن لأجل الفتنة، ويرد على هذا خروج أم المؤمنين
عائشة، أو لأن العدو كان فيه قوة فخاف عليهن.
وذكر الترمذي أن بعض أهل العلم قَالَ: يسهم للذمي إذا شهد القتال مع المسلمين.
وروي عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه.
قال ابن المنذر: وهو قول الزهري والأوزاعي وإسحاق.
قال ابن المناصف: ووقع في بعض مسائل المالكية أنه يسهم للذمي إذا أذن له الإمام في
الغزو معه.
قال: وأما المجنون فإن كان مطبقًا لم يسهم له، وهو كالصبي في عدم التكليف؛ بل أسوأ
حالًا منه, فإن كان عنده من العقل ما يمكنه به القتال فقيل: يسهم له. والظاهر أنه
لا يسهم له.
وأما المريض الذي لا يستطيع شيئًا في الحال، ولا يرجى في المآل، ولا ينتفع به في
عمل الجهاد بأمر، فالمروي عن أصحاب مالك: أنه لا يسهم له, وذلك كالمفلوج اليابس.
(1/102)
واختلفوا
في الأعمى والمقعد وأقطع اليدين؛ لاختلافهم: هل يتمكن له نوع من أنواع القتال،
كإدارة الرأي إن كانوا من أهله، وكقتال المقعد راكبًا، والأعمى يناول النبل، ونحو
ذَلِكَ، ويكثرون السواد؟
فمن رأى لمثل ذَلِكَ أثرًا في استحقاق الغنيمة أسهم لهم، ومن لم يره منع.
وأما الذي يخرج وبه مرض يرجى برؤه: فعند المالكية فيه خلاف: هل يسهم له أو لا؟
فإن مرض بعد الإدراب ففيه خلاف، الأكثرون يسهمون له، ولم يختلفوا أن من مرض بعد
القتال يسهم له وإن كان مرضه بعد إحراز الغنيمة.
واختُلفَ في التاجر والأجير على ثلاثة أقوال:
قيل: يسهم لهما إذا شهدا القتال مع الناس, قاتلا أو لم يقاتلا.
وقيل: لا يسهم لهما.
وقيل: لا يسهم لهما قاتلا أو لم يقاتلا.
وقيل: إن قاتلا أسهم لهما, وإن لم يقاتلا فلا.
روي عن مالك في الأجير هذه الأقوال الثلاثة, ولم يختلف عنه أنه إن لم يقاتل ولم
يشهد فلا شيء له.
وقول مالك في إحدى الروايات عنه: لا يسهم للأجير والتاجر إلا أن يقاتلا, وهو قول
أبي حنيفة [76/ب]
%ج 4 ص 152%
وأصحابه.
وعن مالك: يسهم لكل حر قاتل، وهو قول أحمد.
وقال الحسن بن حي: يسهم للأجير.
وروي مثل ذَلِكَ عن ابن سيرين والحسن في التاجر والأجير, يسهم لهما إذا حضرا
القتال؛ قاتلا أو لم يقاتلا.
قال ابن عبد البر: جمهور العلماء يرون أن يسهم للتجار إذا حضروا القتال.
وقال الأوزاعي وإسحاق: لا يسهم للعبد ولا للأجير المستأجر على خدمة القوم.
2881 - و (أُمُّ سَلِيطٍ): بفتح السين، بايعت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولا يعرف اسمها, وليس في الصحابيات من شاركها في هذِه الكنية. [خ 2881]
(1/103)
و (أُمَّ
كُلْثُومٍ): زوج عمر بن الخطاب, أمها فاطمة رضي الله عنها، أمهرها أربعين ألفًا,
توفيت هي وابنها زيد بن عمر في يوم واحد أيام حرب زُجاجة، فيما ذكره ابن المعلى
الأزدي في كتاب «الترقيص»، وذكرها أبو عمر في «الاستيعاب»؛ لأنها ولدت قبل وفاة
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزفر: ثلاثي، أي: يحمل، وقيل الزفر: القربة المملوءة ماء. وقد سلف في الباب قبله.
وقيل: تزفر تخيط.
2883 - وقول الرُّبَيِّعِ: «وَنَرُدُّ الجَرْحَى والقَتْلَى إِلَى المَدِينَةِ».
[خ 2883]
قال ابن التين: كانوا يوم أحد يجعلون الرجلين والثلاثة من الشهداء على دابة،
وتردهنَّ النساء إلى موضع قبورهم.
وقوله في: بَابُ نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ البَدَنِ
2884 - قال أبو مُوسَى: «فَنَزَعْتُ السَّهمَ من رُكبَةِ أبي عامر، فَنَزَا مِنْهُ
المَاءُ». [خ 2884]
بالزاي؛ أي: ظهر وارتفع وجرى ولم ينقطع.
قال المهلب: فيه جواز نزع السهام من البدن وإن خشي بنزعها الموت، وكذلك البَطُّ
والكَيُّ وشبهه، يجوز للمرء فعله رجاء الانتفاع بذلك، وإن كان في غبها خشية الموت،
وليس من صَنَع ذَلِكَ بِمُلْقٍ نفسه للتهلكة؛ لأنه بين الخوف والرجاء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبيدٍ أبي عَامِرٍ) دعا له لأنه
علم أنه ميت من ذلك السهم، وفي لفظ: «فلما جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسألته أن يستغفر له دعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لأبي عامر
عبدك، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك أو
من الناس».
باب الحِرَاسَةِ فِي الغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ
2886 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ
عَيَّاشٍ [77/أ]،
%ج 4 ص 153%
(1/104)
عَنْ
أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم، قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ،
وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ
يَرْضَ». [خ 2886]
قال البخاري: ولَمْ يَرْفَعْهُ إِسْرَائِيلُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، عَنْ أَبِي
حَصِينٍ.
قَالَ الإسماعيلي: تابع أبا بكرٍ شَريكٌ وقيسٌ.
قال البخاري:
2887 - وزَادَنا عَمْرٌو، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّصلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ،
وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» الحديث. [خ 2887]
وفيه: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ
كَانَ فِي الحِرَاسَةِ» الحديث.
حديث عمرو بن مرزوق شيخ البخاري هذا: رواه أبو نعيم الأصبهاني عن حبيب بن الحسن،
عن يوسف القاضي، حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله، فذكره.
ولما رواه ابن عساكر من حديث ... حدثنا أبو مسلم، حدثنا عمرو بن مرزوق، قال في
آخره: رواه البخاري عن عمرو، ورواه ابن ماجه عن ابن كاسب، عن إسحاق بن إبراهيم بن
سعيد المدني، عن صفوان بن سليم، عن عبد الله بن دينار.
ورواه الإسماعيلي عن أبي يعلى، عن ابن خيثمة: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث،
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، حدثني أبي، فذكره.
قال ابن التين: (التَّعْسُ): الكَبُّ؛ أي: عثر فسقط لوجهه، وضبطه بكسر العين.
قال: وذكره بعض أهل اللغة بفتحها.
وقال ابن الأنباري: التعس: الشر, قَالَ الله جلَّ وعزَّ: {فَتَعْسًا لَهُمْ}
[محمد:8] انتهى.
ذكر ابن التَّيَّاني عن قُطْرب: تَعِس وتَعَس بالكسر وبالفتح: شقي. وعن علي بن
حمزة: بالكسر والفتح: هلك.
(1/105)
وفي
«البارع»: تعسه الله وأتعسه: بمعنى نكسه.
وفي «التهذيب»: قال شمر: لا أعرف تعسه الله، لكن يقال: تعس بنفسه وأتعسه الله.
قَالَ: وقال الفراء: يقال: تعست إذا خاطبت الرجل، فإذا صرت إلى أن تقول: فَعِل،
قلت: تعس بكسر العين، وقال بعض الكلابيين: تعس هو أن يخطئ حجَّتَه إن خاصم، وبغيتَه
إن طلب.
وقال الرُّسْتُمِيُّ: التَّعْس: أن يخرَّ على وجهه، والنكس: أن يخر على رأسه.
وقَالَ الليث: التعس ألا ينتعش من عثرته، وأن ينكس في سفال.
والتعس في اللغة: الانحطاط، ذكره الزجاج.
وفي «المحكم»: هو السقوط على أي وجه كان, انتهى.
قوله: وقال [77/ب]
%ج 4 ص 154%
الأنباري، فيه نظر من حيث إن ابن الأنباري إنما حكاه في كتابه عن أبي العباس أحمد
بن يحيى.
قوله: (إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ) قال ابن بطال: أي إن أعطى ماله عمل ورضي عن خالقه
عزَّ وجلَّ، وإن لم يعط لم يرض، ويتسخط بما قدر له، فصحَّ بهذا أنه عبد في طلب
هذين، فوجب الدعاء عليه بالتعس؛ لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفاني وترك
النعيم الباقي.
وذكر ابن قُرْقُول أن بعضهم قال: حكي بالشين المعجمة، وفسره بالرجوع، وجعله دعاء
له لا عليه.
قوله: (وَإِذَا شِيكَ) أي: أصابته شوكة. وعن المروزي: «شيب» بالباء، وهو خطأ قبيح.
قال ابن قُرْقُول: أي إذا أصابته الشوكة في قدمه فلا يقدر على إخراجها، يقال:
انتقش الرجل إذا سل الشوكة من قدمه بالمنقاش.
قال الخطابي: يقال: نقشت الشوك، إذا استخرجته، وبه يسمى المنقاش.
و (طُوبَى): فُعْلَى من الطيب، أصلها: طُيْبَى، قُلِبَت الياء المضموم قبلها واوًا،
وقيل: هي الشجرة التي في الجنة.
وقوله: (إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وإنْ كَانَ في السَّاقَةِ) قال ابن الجوزي:
يعني: أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأي موضع اتفق له كان ممن لزم هذِه الطريقة،
كان حريًّا إن استأذن ألا يؤذن له، وإن شفع ألا يشفع.
وفي حديث عائشة:
(1/106)
2885
- «لَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي». [خ 2885]
قال ابن الجوزي: إن قيل: كيف طلب الحراسة مع توكله ويقينه بالقدر؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه سنَّ هذِه الأشياء لا لحاجته إليها، كما ظاهر بين درعين، ويدل على غناه
أنهم كانوا إذا اشتد البأس قدموه واتقوا به العدو.
الثاني: الثقة بالله لا تنافي العمل على الأسباب، بدليل: «اعقلها وتوكل»، وهذا لأن
التوكل يخص القلب، والتعرض بالأسباب أفعال تخص البدن فلا تناقض.
الثالث: وساوس النفس وحديثها لا يدفع إلا بمراعاة الأسباب، ومنه قول إبراهيم صلى
الله عليه وسلك: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ [78 أ]
%ج 4 ص 155%
قَلْبِي} [البقرة: 260]، ومنه أن سليمان رئي يحمل طعامًا ويقول: إن النفس إذا
أحرزت قوتها اطمأنت.
قال ابن بطال: فيه دليل أن ذَلِكَ كان قبل أن نزول: «والله يعصمك من الناس»، وقبل
نزول: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]؛ لأنه جاء في الحديث:
أنه لما نزلت هذِه الآية ترك الاحتراس بالليل؛ ولأن في حديث عائشة في بعض
الروايات: أن ذَلِكَ كان عند أول قدومه المدينة، انتهى.
نزول: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} كان بمكة، فلا يتجه ما قاله فيه،
اللهم إلا في قوله: «والله يعصمك من الناس».
وزعم القرطبي أن قوله: «والله يعصمك من الناس» ليس فيه ما يناقض الحراسة من الناس
ولا ما يمنعه، كما أن إخبار الله جلَّ وعزَّ [عن] نصره وإظهارِ دينه ليس فيه ما
يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدد والعدة، والأخذ بالجد والحزم والحذر، وسبب
ذَلِكَ: أن هذِه أخبار عن عاقبة الحال ومآله، ولكن هل تحصل تلك العاقبة عن سبب
معتاد أو غير سبب، ووجدنا الشريعة طافحة بالأمر له صلى الله عليه وسلم ولغيره
بالتحصن، وأخذ الحذر من الأعداء، والإعداد لذلك، وقد عمل صلى الله عليه وسلم بذلك،
وأخذ به، فلا تعارض في ذلك.
(1/107)
وعند
أبي داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم
حنين، فقال: من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله.
وعند ابن ماجه عن عثمان يرفعه: «حرس ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة، يقام
ليلها، ويصام نهارها».
وعند أحمد عن سهل بن معاذ، عن أبيه: «من حرس من وراء المسلمين تطوعًا لا يأخذه
بأجرة سلطان، لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم».
وعند الطبراني: «بعث مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين».
وعند ابن عساكر، من حديث يحيى بن صالح الوحاظي، حدثنا جميع بن ثوب، حدَّثَنَا خالد
بن معدان، عن أبي أمامة يرفعه: «لأن أحرس ثلاث ليال مرابطًا من وراء بيضة المسلمين
أحب إلى من أن تصيبني [78/ب] [80/أ]
%ج 4 ص 156%
لَيلَةَ القَدرِ فِي مَسجِدِ المَدِينَةِ، أَو بَيتِ المَقدِسِ»، قال أبو القاسم: حديث
حسن.
وعن قيس بن الحارث مثله.
قَالَ الحاكم: حديث غريب من حديث عمر بن عبد العزيز عن قيس، وهو صحابي معمِّر.
وعند النسائي عن أبي ريحانة: «حرمت النار على عين سهرت في سبيل الله».
وروينا في «الخلعيات» من حديث سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة: «حُرِّمَت النَّارُ عَلَى
عَينٍ سَهرَت فِي سَبيلِ الله».
ومن حديث بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده: «ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى
أَعْيُنُهُمُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ الله»
الحديث.
وعند ابن عساكر من حديث إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران
الأنصاري: «ثَلَاثَةُ أَعْيَنٍ لَا تَحْرِقُهُمُ النَّارُ» فذكره مثله.
وعند الترمذي من حديث عطاء الخراساني، عن ابن أبي رباح، عن ابن عباس: «حُرِّمَ
عَلَى عَيْنَيْنِ أَنْ تَنَالَهُمَا النَّارُ؛ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي
سَبِيلِ اللهِ» الحديث.
وروينا في «مسند عبد بن حميد» من حديث أبي عبد الرحمن، عن أبي هريرة مثله.
(1/108)
وعند
ابن عساكر، عن الفضل بن عباس، وعن عطية، عن أبي سعيد الخدري، ومن حديث ابن عمر
نحوه، والله أعلم.
وَقَوْلِه جلَّ وعزَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200].
قال زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل عليه.
وعن الحسن وقتادة: اصبروا على طاعة الله، وصابروا أعداء الله، ورابطوا في سبيل
الله.
وعن الحسن أيضًا: اصبروا على طاعة الله، وصابروا على المصائب، وصابروا على الصلوات
الخمس.
وقال محمد بن كعب: اصبروا على دينكم، وصابروا لوعدي الذي وعدتكم عليه، ورابطوا
عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، واتقوني فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدا
إذا لقيتموني.
قال ابن التين: الرباط على وجهين: المقام بثغر، وهو غير الوطن، فإن كان وطنه فليس
برباط، قاله مالك.
الثاني: هو رباط الخيل، وأصله من [79/أ]
%ج 4 ص 157%
الربط بالحبل والمقود، ومعنى ربطها في سبيل الله: اتخاذها لهذا.
والأصل فيه قوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ} [الأنفال: 60].
قَالَ ابن قتيبة: أصل الرباط والمرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في
الثغر، كل يُعد لصاحبه.
وذكر في: بَابُ مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ
2893 - عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ:
«التَمِسْ لي غُلاَمًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى
خَيْبَرَ»، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي، وَأَنَا غُلاَمٌ رَاهَقْتُ
الحُلُمَ. [خ 2893]
قال الداودي في غير هذا الحديث: «أَتَى بِي أَبُو طَلحَةَ فَقَالَ: أَنَسٌ غُلَامٌ
كَيِّسٌ فَليَخدُمكَ».
قال: وهذا ليس بمحفوظ؛ لأنَّ أنسًا قال: «خَدَمتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
عَشرَ سِنِينَ»، فكان أَوَّلُ خِدمتِه قبل خَيبر لستِّ سِنينَ؛ لأَنَّ خَيبر كَانت
فِي سَنةِ سَبعٍ.
(1/109)
قال:
ويحتمل أن يكون قال له: «التمس غلامًا من غلمانك يخدمني حتى أخرج إلى خيبر» أي:
يخدمه في المدينة غير أنس، وكان أنس متقدم الخدمة، وإنما أراد أن يخدمه حتى يخرجه،
وهذا أولى لتسلم الأحاديث.
ويحتمل أنه لما أخذ أنسًا لم يشترط على أن يسافر معه، وكان أنس يخدمه من غير
اشتراط أجرة، ولا بعقد، فجائز على اليتيم أن تسلمه أمه أو وصيه وشبههما في الصناعة
والمهنة، وهو لازم له ومنعقد عليه.
وقوله: (أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ) قال الخطَّابي: الحزن على أمر قد
وقع، والهمُّ فيما يُتوقَّع ولمَّا يَكُنْ بَعدُ.
وقال القزَّاز: الهمُّ هو الغمُّ والحزن، تقول: أهمَّني هذا الأمر وأحزنني، وهو
مُهِمٌّ، ويحتمل أن يكون من: همَّه المرض: إذا أذابه وأنحله، مأخوذٌ من: همَّ
الشَّحم إذا أذابه، والشَّيء مهموم، أي: مُذابٌ، فيكون تعوُّذه من المرض الذي
يُنحِل جسمَه، وسيأتي طرف منه في المغازي.
بَابُ مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الحَرْبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ لِي قَيْصَرُ: أَشْرَافُ
النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ. [79/ب]
%ج 4 ص 158%
هذا تقدم مسندًا أول الكتاب.
2896 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ،
عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْدٌ أَنَّ لَهُ
فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ
تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ». [خ 2896]
عند الإسماعيلي: «إِنَّمَا نَصَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضُعَفَائِهِمْ؛
بِدَعَوَاتِهِمْ، وَصَلَاتِهِمْ، وإخْلَاصِهِمْ».
وفي لفظ: «إِنَّمَا يَنصَرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ».
وفي لفظ: «ظَنَّ أَنَّ لَهُ، فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم».
وعند النَّسائي: «وَبِصَومِهِم».
(1/110)
وعند
عبد الرزَّاق عن مكحول: إِنَّ سَعدًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أَرَأَيْتَ رَجُلًا يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ، وَيَدْفَعُ عَنْ أَصْحَابِهِ،
أَيَكُونُ نَصِيبُهُ كَنَصِيبِ غَيْرِهِ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ، وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إِلَّا
بِضُعَفَائِكُمْ».
قال ابن بطَّال: عبادة الضُّعفاء ودعاءهم أشدُّ إخلاصًا وأكثر خضوعًا؛ لخلوِّ
قلوبهم من التعلُّق بزخرف الدنيا وزينتها، وصفاءِ ضمائرهم ممَّا يقطعهم عن الله
جلَّ وعزَّ، فجعلوا همَّهم واحدًا، فزَكَت أعمالهم، فأحبَّ دعاءهم.
قال المهلَّب: إنما أراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لسعدٍ
الحضَّ على التواضع، ونفي الكبر والزهو على قلوب المؤمنين.
2897 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم، قَالَ: «يَأْتِي على النَّاس زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ،
فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ:
نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ
صَحِبَ مَن صاحبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ من صَاحَبَ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ». [خ
2897]
قال ابن بطَّال: [81/ب]
%ج 4 ص 159%
يشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ القُرُونِ قَرنِي، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم».
وفيه معجزة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضيلة لأصحابه وتابعيهم.
(1/111)
و
(الفِئَام): بفاء مكسورة وهمزة، ويقال: فيام بياء مخفَّفة، ولغة أخرى بفتح الفاء، ذكره
ابن عُديس.
والذي في «التهذيب»: العامَّة تقول: فيام، وهي الجماعة من النَّاس.
وفي لفظ: «هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم». وهو ردٌّ
لقول جماعة من المتصوِّفة القائلين إنَّ سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يره أحد في صورته. ذكره السَّمعاني.
بَابُ لاَ يُقَالُ: فُلاَنٌ شَهِيدٌ
قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ
يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ».
هذا التَّعليق تقدَّم مسندًا.
2898 - وذكر حديثَ سَهْلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَقَى هُوَ
وَالمُشْرِكُونَ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، لاَ
يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا
بِسَيْفِهِ، فَقَال رجل: مَا أَجْزَأَ مِنَّا اليَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ
فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ». [خ 2898]
وفيه: قَالَ: فَجُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ
بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ،
فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
وفيه: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ
مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا
يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».
(1/112)
وقال
ابن الجوزي: كانت يوم أحد، قال: واسم الرجل قزمان، وهو معدود في المنافقين، وكان
تخلَّف يوم أحد فعيره النساء وقُلْن له: ما أنت إلا امرأة، فخرج فكان أول من رُمي
بسهم، ثم كسر جفن سيفه، فنادى: يا ناس قاتلوا على الأحساب، فلما جرح مر به قتادة
[82/أ]
%ج 4 ص 160%
بن [النعمان] فقال: هنيئًا لك الشهادة، فقال: إني والله ما قاتلت على دين، ما
قاتلت إلا على الحِفاظ، ثم قتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ
الله ليؤيِّد هذا الدِّين بالرَّجل الفاجر».
قال القرطبي في حديث أبي هريرة: «إنَّ الرَّجل ليعمل العمر الطويل بعمل أهل الجنة
ثم يختم له بعمل أهل النار فيدخلها»: وهو غير حديث سهل؛ لأنَّ ذاك لم يكن مخلصًا،
وهذا يُتأوَّلُ على بُعدٍ على من كان مخلصًا في أعماله قائمًا على شروطها، لكن
سبقت عليه سابقة القدر الذي لا محيص عنه، فبُدِّل به عند خاتمته.
و (الشَاذَّةً) بالشِّين وذال معجمتين.
و (الفاذَّة): بذالٍ كذلك، وهي المنفردة، وأنَّث الكلمتين على وجه المبالغة، كما
قالوا: علَّامةٌ ونسَّابةٌ.
وعن ابن الأعرابي: فلانٌ لا يدع لهم شاذَّةً ولا فاذَّةً، إذا كان شجاعًا لا يلقاه
أحد. وقيل: أنَّث شاذَّة لأنَّها بمعنى النَّسمة.
وقال الخطابي: الشَّاذة هي التي كانت في القوم ثم شذَّت منهم، والفاذَّة من لم
تختلط معهم أصلًا، فوصفه بأنَّه لا يبقى شيء إلا أتى عليه.
وقال الدَّاودي: الشَّاذة والفاذَّة ما صَغُر وكَبُر.
و (أَجْزَأَ): بجيم وزاي وهمزة؛ يعني: ما أغنى ولا كفى.
قال القرطبي: كذا صحَّت روايتنا فيه رباعيًا. وفي «الصَّحاح»: أجزأني الشيء كفاني،
وجزأ عني هذا الأمر؛ أي: قضى.
قال المهلب: في هذا الحديث ضد ما ترجم له البخاري، بأنَّه لا يقال: فلان شهيد، ثم
أدخل هذا الحديث، وليس فيه من معنى الشهادة شيء، وإنَّما فيه ضدها. انتهى.
(1/113)
كأن
المعنى الذي ترجم به هو قوله: (مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ)
فمدحوا جزاءه وغناه، ففهم النبيصلى الله عليه وسلم أنهم قضوا له بالجنة في نفوسهم،
فأوحى الله جلَّ وعزَّ بعقبى ذلك ومآل أمره لئلا يشهدوا لأحد شهادة قاطعة عند الله
تعالى.
وكذا ما رواه أبو هريرة المذكور أولًا ... كتاب الجهاد ...
باب التَّحريضِ عَلَى الرَّمْيِ
وقَولِ [81/ب]
%ج 4 ص 161%
اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِباطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]
خرَّج مسلم في صحيحه عن عُقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول وهو على المنبر: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أَلَا
إِنَّ القُوَّةَ الرَّميَ، أَلَا إِنَّ القُوَّة الرَّميَ، أَلَا إِنَّ القُوَّة
الرَّميَ».
وفي لفظ: «مَن عَلِم الرَّميَ ثُمَّ تَرَكَه فَلَيسَ منَّا»، أو: «قَد عَصَى».
وعند أبي داود: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ
فِي الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ بِهِ، والرَّامِي بِه، وَمُنْبِلَهُ،
فارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا،
لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ،
وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ
الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا».
أَوْ قَالَ: «كَفَرَهَا».
وعند التِّرمذي من طريق منقطعة: «أَلَا إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيكُمُ الأَرضَ،
وَسَتُكْفونَ المُؤْنَةَ، فَلَا يَعْجِزَنَّ أَحَدُكُم أَنْ يَلْهُوَ
بِأَسْهُمِهِ».
(1/114)
2900
- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الغَسِيلِ، عَنْ
حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: «إِذَا
أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ». [خ 2900]
ورواه في المغازي عن عبد الله بن محمد الجُعفي، عن أبي أحمد الزبيري، عن ابن
الغسيل، عن حمزة والزبير بن المنذر بن أبي أسيد، عن أبيهما.
وخالف ذلك أبو نعيم الحافظ فأدخل بين حمزة وابن الغسيل عباس بن سهل بن سعد من
رواية الزبيري، قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن أبي
أحمد الزبيري، عن عبد الرحمن بن الغسيل، عن عباس بن سهل بن سعد، عن حمزة، عن أبيه.
ورواه الطبراني من طريق يحيى الحماني وأبي نعيم الدكيني، عن ابن الغسيل، عن عباس
بن سهل وحمزة بن أبي أسيد.
وخالف البخاريَّ أيضًا أبو نعيم الأصبهاني مخالفة ثانية فقال: حدثنا محمد بن أحمد،
عن إبراهيم بن عدي، عن ابن ... عن محمد بن عبد الرحيم، عن، حدثنا أبو أحمد
الزبيري، عن ابن الغسيل، عن حمزة، والمنذر بن أبي أسيد، فذكره من غير ذكر الزبير،
وكأنَّه الصواب لقوله: عن [83/أ]
%ج 4 ص 162%
أبيهما والله أعلم.
وذكر البخاري حديث ابنِ الأكوع:
2899 - مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ:
«ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ
بَنِي فُلاَنٍ» قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ:
«مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ؟»، قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ:
«ارْمُوا وأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ». [خ 2899]
(1/115)
قرأت
على المُسنِد تاج الدين أحمد بن محمد بن علي بن شجاع الهاشمي في شهور سنة خمس عشرة
عن ابن رَواج، أخبرنا الحافظ الثغري، أخبرنا أبو الفتح البيودرجاني، أخبرنا أبو
نعيم، أخبرنا ابن فطير بجميع كتاب «الرَّمي» تأليفه، أخبرنا علي بن عبد العزيز،
حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن داود بن حصين، عن أبي
العالية، عن ابن عباس، أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بِنَفَرٍ يَرمُونَ
فَقَالَ: «رَميًا بَنِي إِسمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُم كَانَ رَامِيًا».
وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة: خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأَسْلَمُ
يرمون فقال: «اِرْمُوا بَنِي إِسمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُم كَانَ رَامِيًا،
وَارمُوا وَأَنَا مَعَ ابنِ الأدرع» فَأمسَكَ القومُ قِسيَّهم، وقَالوا: مَن كنتَ
مَعهُ غَلَبَ، قال: «اِرمُوا وَأَنَا مَعَكُم كُلِّكُم». انتهى.
ابن الأدرع: اسمه مِحجن، ذكره ابن عبد البر.
وحديث سلمة يشهد لما ذكره ابن سعد من طريق ابن لهيعة، عن عبد الرحمن بن زياد بن
أنعم، أخبرني بكر بن سوادة، سمع علي بن رباح يقول: «العرب من ولد إسماعيل بن
إبراهيم صلى الله عليه وسلم».
وذكره ابن هشام أيضًا عن بعض أهل اليمن. يعني: النَّسَّابين.
وفي كتاب الزبير: حدَّثني إبراهيم الحزامي، حدَّثني عبد العزيز بن عمران، عن
معاوية بن صالح الحميري، عن ثور، عن مكحول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«العرب كلُّها بنو إسماعيل إلا أربع قبائل: السلف، والأوزاع، وحضرموت، وثقيف».
ورواه صاعد في كتاب «الفصوص» تأليفه، من حديث عبد العزيز بن عمران، عن معاوية،
أخبرني مكحول، عن مالك بن يخامر - وله صحبة- فذكره.
قال أبو عمر: قالوا: قحطان بن تيمن بن هميسع بن نبت، وهو ثابت بن إسماعيل.
وقيل: قحطان بن يمن بن هميسع بن ثابت.
وقيل: قحطان بن هميسع بن أصياف بن هميسع بن أصياف بن هميسع بن أصياف بن هود بن
شروان بن الثيان [83/ب]
(1/116)
%ج 4
ص 163%
بن العامل بن مهران بن يحيى بن يقظان بن شاوت، وهو ثابت بن تيمن بن النبت بن
إسماعيل عليه السلام.
قال: ويشهد لمن جعل قحطان من ولد إسماعيل قولُ المنذر بن حرام جد حسان بن ثابت حيث
يقول:
ورثنا من البهلول عمرو بن عامر ... وحارثة الغِطْرِيف مجدًا مؤثَّلا
مآثر من نبت بن نبت بن مالك ... ونبت بن إسماعيل ما إن تحوَّلا
وقوله: (يَنْضِلُونَ) بضاد معجمة؛ أي: يترامون.
و (النِّضَال): الرَّميُ مع الأقران.
وفيه: أنَّ الجد وإن علا يسمى أبًا، وأن للسلطان أن يأمر رجاله بتعليم الفروسيَّة
ويحضََّ عليها، وأنَّ الرجل يتبع خلال أبيه، قال:
لسنا وإن كثرت أوائلنا يومًا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقوله: (حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ) قال الخطَّابي: وفي بعض النسخ المسموعة «حين
أسففنا»، مكان: (صَفَفَنَا)، فإن كان محفوظًا فمعناه: القرب منهم والتَّدلِّي
عليهم، كأنَّ مكانهم الذي كانوا فيه أهبط من مصافِّ هؤلاء، ومنه قولهم: أسف الطائر
في طيرانه: إذا انحطَّ إلى أن يقارب وجه الأرض، ثم يطير صاعدًا.
وقوله: (أَكْثَبُوكُمْ) بثاء مثلَّثة وباءٍ موحَّدة، أي: دنوا منكم وقاربوكم، وفي
«الغريبين»: «إذا كثَبُوكُمْ» رواه أبو العباس ابن حمويه صاحب شمر بإسناد له، قال
أبو العباس: فلعلهما لغتان.
وقال الداودي: معنى (أَكْثَبُوكُمْ): كثروا عليكم، وذلك أنَّ النبل إذا رمي في
الجمع لم يخطئ ففيه ردع لهم.
قال القرطبي: والقوة التَّقوي بإعداد يحتاج إليه، من الدُّروع، والسُّيوف، وسائر
آلات الحروب، إلا أنَّه لما كان الرميُ أنكاها في العدو وأنفعها على ما هو شاهد
فسَّرها به، وخصَّها بالذكر، وأكَّدها ثلاثًا.
(1/117)
وقد
وردت أحاديث في فضل الرمي، والتحريض عليه، ذكرنا منها جملة في كتابنا في الرمي،
فمنها ما رواه التِّرمذي عن أبي نجيح - يعني عمرو بن عبسة: «وَمَن رَمَى بِسَهمٍ
فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ لَهُ عَدلُ مُحَرَّرٍ» وقال: حسن صحيح.
وعند النَّسائي عن كعب بن مرة [84/أ]:
%ج 4 ص 164%
«مَن رَمَى بِسَهمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَلَغَ العَدُوَّ أَو لَم يَبلُغ كَانَ
لَهُ كَعِتقِ رَقَبَةٍ».
وعند ابن حبان: «مَن رَمَى فَبَلَغَ العَدُوَّ بِسَهمٍ رَفَعَ اللهُ بِهِ
دَرَجَتَهُ». فقال عبد الرحمن بن النحام: يا رسول الله، ما الدَّرجة؟ قال: «أَمَا
إِنَّهَا لَيسَت بِعَتَبَةِ أُمِّكَ، مَا بَينَ الدَّرَجَتَينِ مِئَةُ عَامٍ».
وروينا في «الخلعيَّات» من حديث الرَّبيع بن صَبيح، عن الحسن - يعني ابن أبي
الحسناء فيما ذكره الخطيب وقال هو الصَّواب -، عن أنس: «يُدخِلُ اللهُ بِالسَّهمِ
الجَنَّة ثَلَاثَةً: الرَّامِي بِه، وَصَانِعَهُ، وَالمُحتَسِبَ بِه».
وفي لفظ: «مَن اتَّخذَ قَوسًا عَرَبِيَّةً وَجَفِيرَهَا - يعني: كِنَانَتَه- نَفَى
اللهُ عَنهُ الفَقرَ».
وفي لفظ: «أَربَعِينَ سَنَةً».
وعند أبي داود: حدثنا الأشعث بن سعيد، حدثنا عبد الله بن بشر، عن أبي راشد
الحُبراني، عن علي: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يرمي بقوس فارسيَّة
فقال: «ارْمِ بِهَا»، ثم نظر إلى قوس عربيَّة فقال: «عَلَيكُم بِهَذِهِ
وَأَمثَالِهَا، فَإِنَّ بِهَذِهِ يُمَكِّنُ اللهُ لَكُم فِي البِلَادِ
وَيُؤَيِّدُكُم فِي النَّصرِ».
وعند الطَّبراني من حديث أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الطائف: «قَاتِلُوا أَهلَ الصِّقعِ، فَمَن بَلَغَ بِسَهمٍ فَإِنَّه
دَرَجَتُهُ فِي الجَنَّةِ».
(1/118)
ذكر
البيهقي عن أبي عبد الرحمن ابن عائشة أنَّه قال: أهل العلم إنما نهى عن القوس
الفارسية لأنها إذا انقطع وترها لم ينتفع بها صاحبها، والعربية إذا انقطع وترها
كانت له عصًا ينتفع بها.
وحديث أبي هريرة في لعب الحبشة في المسجد [2901] تقدَّم في الصلاة.
وقوله هنا في بعض نسخ البخاري:
2901 - زاد عبد الرزاق: ثنا معمر، عن الزُّهريِّ: في المسجد. [خ 2901]
رواه الإسماعيلي عن القاسم، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي،
عن الزهري فقال: في المسجد. وكذا هو في «صحيح مسلم».
الأحاديث بعده تقدم ذكرها.
بَابُ مَا جَاءَ فِي حِلْيَةِ السُّيُوفِ
2909 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا
الأَوْزَاعِيُّ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ،
يَقُولُ: «لَقَدْ فَتَحَ الفُتُوحَ قَوْمٌ، مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمُ
الذَّهَبَ وَلاَ الفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ [84/ب]
%ج 4 ص 165%
حِلْيَتُهُم العَلاَبِيَّ وَالآنُكَ وَالحَدِيدَ». [خ 2909]
وعند الإسماعيلي: أنَّه دخل - يعني سليمان - على أبي أمامة بحمص فبصرَ برجل عليه
سيف مُحلًّى، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: لأَنتم أبخل من أهل الجاهليَّة، إنَّ الله
يرزق الرَّجل منكم الدِّرهم ينفقه في سبيل الله بسبعمئة، ثمَّ إنَّكم تمسكون!.
ولما رواه أبو نعيم قال في آخره: قال الأوزاعي: (العَلابِي): الجلود الخام الَّتي
ليست بمدبوغة.
وعند ابن ماجه: «دخلنا على أبي أمامة فرأى في سيوفنا شيئًا من حلية فضَّة، فغضب».
الحديث.
وفي «المنتهى» لأبي المعالي: العلباءُ العصَبة الصَّفراء في عنق البعير، وهما
علباوان، بينهما منْبِت العُرْف، وإن شئت قلت: علباءان؛ لأنَّها همزة ملحقة، وإن
شئت شبهتها بالتَّأنيث الَّتي في حمراء، أو بالأصليَّة الَّتي في كساء، والجمع:
العَلابِي.
والعِلابَى أيضًا: جنسٌ من الرَّصاص.
(1/119)
وفي
الحديث: «إِنَّمَا كَانَت حِليَةُ سُيُوفهم العَلابِي والآنُك» فإنَّما يريد جمع
علباء؛ لأنَّهم كانوا يشدُّون سيوفهم بالعِلابِي، والآنك: ضرب من الرصاص.
وفي «الموعب» عن الفرَّاء: ربما أنث العلباء، ذهبوا به إلى العصبيَّة وهو قليل،
وقال أبو حاتم سألت بعض الفصحاء عن تأنيث العلباء فأنكره.
وفي «فوائد اللحياني»: هو مذكَّرٌ لا غير.
ولمَّا ذكر القزَّاز قول من قال: العِلابي ضرب من الرَّصاص. قال: هذا ليس بمعروف،
إنَّما المراد شدُّها بالعِلاب وهو العصب.
وفي «الصَّحاح»: هو الرَّصاص أو جنسٌ منه.
وفي «التهذيب»: كانت العرب تشدٌّ بالعِلابِيِّ الرطبةِ أجفان سيوفها فيجفَّ عليها.
و (الآنُك): الرَّصاص، وهو واحد ولا جمع له، وقيل: هو من شاذِّ كلام العرب أن يكون
واحد زنته أفعل.
وقال في «الواعي»: هو الأسرب، يعني: القصدير.
زاد في «المغيث»: جعله بعضهم الخالص منه، وقيل: الآنك اسم جنس والقطعة منه آنُكة.
قيل: ويحتمل أن يكون الآنُك فاعلًا وليس بأفعل، ويكون أيضًا شاذًّا.
وذكر الكراع أنَّه الرَّصاص القَلْعي.
وفي «المجمل» قال: هذا رصاص آنك، وهو الخالص.
وذكر البخاري في: بَابِ مَن عَلَّقَ سَيفَهُ بِالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِندَ
القَائِلَةِ
حديث جَابِرٍ في غزوٍ لهم:
2910 - فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَتْهُمُ [85/أ]
%ج 4 ص 166%
القَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ فَنَزَلَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ،
فَنَزَلَ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ وعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ. وَنِمْنَا
نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، وَإِذَا
عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ،
فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
فَقُلْتُ: اللهُ» ثَلَاثًا، فَشَامَ السَّيفَ، وَجَلَسَ وَلَم يُعَاقِبْهُ. [خ
2910]
(1/120)
وفي
لفظ: كان قتادة يذكر أنَّ قومًا من العرب أرادوا أن يقتلوا النَّبيَّ صلى الله
عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي، ويتلو: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}
[المائدة:11] الآية.
قَالَ البُخَارِيُّ:
4136 - قَالَ مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ: اسْمُ
الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الحَارِثِ. [خ 4136]
وعند ابن أبي شيبة: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن
أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كنَّا إذا نزلنا طلبنا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
أعظم شجرة وأظلها، قال: فنزلنا تحت سمرة، فجاء رجل وأخذ سيفه وقال: يا محمد من
يعصمك مني؟ قال: «الله»، فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ} [المائدة: 67].
فيه دلالة أنَّ أحدًا لم يحرسه، بخلاف ما كان عليه في أوَّل أمره، فإنَّه كان
يُحرس حتى نزل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
وروينا عن الواحدي من حديث الحِمَّاني، عن النَّضر، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس: كان
النَّبيُّ يُحرس، وكان عمه أبو طالب يرسل معه كل يوم رجالًا من بني هاشم يحرسونه،
فلمَّا نزل عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال: «يَا عَمَّاه، إِنَّ
اللهَ عَصَمَنِي مِن الجِنِّ وَالإِنسِ».
قال: وقالت عائشة: سهر النَّبيُ ذات ليلة فقال: «أَلَا رَجُلٌ صَالِحٌ
يَحرُسُنِي؟» فجاء سعد وحذيفة، فنام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ
غطيطه، [فنزل] هذِه الآية، كأنَّه أخرج رأسه من قبة أدم وقال: «انصَرِفُوا فَقَد
عَصَمَنِي اللهُ جلَّ وعزَّ».
وعند البيهقي: فسقط السَّيف من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من يده وقال: «مَن يَمنَعُكَ مِنِّي؟» قال: كن خير آخذٍ. قال: «فتُسْلِمُ؟» قال:
لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلَّى سبيله، فأتى
أصحابَه فقال: جئتكم من عند خير النَّاس.
(1/121)
وعند
الإسماعيلي: قبل أُحدٍ.
وذكر ابن إسحاق أن ذلك كان في غزوته صلى الله عليه وسلم إلى غطفان لِثِنتي عشرة
مضت من صفر، وقيل: في ربيع الأوَّل، وقيل: كان ذلك [في] ذات الرِّقاع، وهي غزوةُ
ذي أمر، وسمَّاها الواقدي [85/ب]
%ج 4 ص 167%
غزوة إيمان سنة اثنتين، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نزع ثوبيه ونشرهما على
شجرةٍ ليجفَّا من مطر كان أصابه، واضطجع تحتها، فقال الكفَّار لدُعثور - وكان
سيدهم وكان شجاعًا-: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه صارم حتى قام على رأسه،
فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الله»، فدفع جبريل في صدره، فوقع
السَّيف من يده، فأخذه النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال: «مَن يَمنَعُكَ أَنتَ
اليَومَ مِنِّي؟» قال: لا أحد. فقال: «قُم فَاذهَب لِشَأنِكَ»، فلمَّا ولَّى قال:
أنت خيرٌ منِّي. فقال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنكَ»، ثمَ
أسلم بعدُ.
وفي لفظ: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، ثمَّ أتى قومه فدعاهم
إلى الإسلام.
وسمَّاه الخطيب: غورث، وعند الخطَّابي: غُويرث بالتَّصغير، وذكر عياض أنَّه مضبوط
عند بعض رواة البخاري بعين مهملة، قال: وصوابه بالمعجمة، وقال الجيَّاني: هو فوعل،
من الغرث، وهو الجوع.
وعند الخطَّابي: لما همَّ بقتل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أخذته الزُّلخة،
يعني: وجعًا في صلبه، فبدر السَّيف من يده.
وذكرها الحاكم في غزوة خيبر من حديث إبراهيم بن إسماعيل ومجمع، عن الزُّهري عن
سنان بن أبي سنان عن جابر، ولعلَّ هذا أشبه؛ لأنَّ بعض النَّاس ذكر أنَّ قوله:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} كان بعد بنائه - بلغة الناس - بصفية، أو
ليلة البناء.
(1/122)
قوله:
(وَالسَّيفُ مُصلَتٌ فِي يَدِهِ) قال القرطبي: روي برفع (مُصلَتٌ) ونصبه، فمن رفعه
جعل خبر المبتدأ الذي هو (السَّيف في يَدِهِ) متعلِّقٌ به، ومن نصب جعل الخبر في
المجرور ونصب (صَلتًا) على الحال، أي مصلتًا. والمشهور فتح لام صلت، وذكر القتبي
أنَّها تكسر في لغة. وقال ابن عُدَيس: ضربه بالسيف صَلتا وصُلتا بالفتح والضم؛ أي:
مجرَّدًا. يقال: سيف صلت، و منصلت، وإصليت: متجرِّد ماض.
وقوله: (شَامَه): أي: أغمده، قال المبرِّد: هو من الأضداد، سله وأغمده.
وفيه جواز نوم المسافر إذا أمن.
وقوله: (مَن يَمنَعُكَ مِنِّي) استفهام مشرَّب بالنَّفي، كأنَّه قال: لا مانع لك
منِّي، فلم يُبال صلى الله عليه وسلم بقوله، ولا تحرَّج عليه ثقة بالله، [86/أ]
%ج 4 ص 168%
وتوكُّلًا عليه، فلمَّا شاهد الرَّجلُ تلك القوة التي فارق بها عادة النَّاس في
مثل تلك الحالة تحقَّق صدقَه وعلمَ أنَّه لا يصل إليه بضرر، وهذا من أعظم الخوارق
للعادة؛ فإنَّه عدوٌّ متمكِّن بيده سيف مشهور، وموت حاضر، ولا تغيَّرَ له صلى الله
عليه وسلم حالٌّ، ولا حصل له رَوْعٌ، ولا جزع، وهذا من أعظم الكرامات، مع اقتران
التحدي يكون من أوضح المعجزات.
وفي تبويب البخاري هذا الباب في المغازي إشعار بأنَّ المجاهد له حالتان؛ حالة أمن
وحالة خوف، والآمن ينام ويضع سلاحه، والخائف يكون مستوفزًا.
وقوله لسعد بن أبي وقاص:
2905 - «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي». [خ 2905]
وقال عليٌّ: «مَا سَمِعْتُهُ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ».
يخدش فيه ما عند الشيخين عن الزُّبير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
«فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي»، ولكن يُحمل على أنَّ عليَّا لم يسمعه، أو أنه نسي بعدما
سمعه فلا تعارض.
(1/123)
قال
النووي: وقد جمعهما لغيرهما أيضًا، وهو ظاهر في جواز هذا القول، وبه قال جماهير
العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب، والحسن البصري، وكرهه بعضهم في التَّفدية بالمسلم
من أبويه، والصَّحيح الجواز مطلقًا؛ لأنَّه ليس فيه حقيقة فداء، إنَّما هو كلام
ولطف وإعلام بمحبته له، وقد وردت الأحاديث الصَّحيحة بالتفدية مطلقًا.
وأمَّا ما روى أبو سلمة عن المبارك، عن الحسن: دخل الزُّبير على سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو شاكٍ فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ فقال له صلى الله
عليه وسلم: «مَا تَرَكتَ أَعرَابِيَّتَكَ بَعْدُ؟»، ورواه المنكدر عن أبيه قال:
دخل الزبير، فذكره، فغير صحيح لإرسال الأوَّل، وضعفِ الثَّاني.
وعلى تقدير صحَّته: ليس فيه النَّهي عن ذلك، والمعروف من قول القائل - لو قال:
فلان لم يترك أعرابيته - أنَّه نسبه إلى الجفاء لا إلى فعل ما لا يجوز.
وقول البخاري: مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاَحِ عِنْدَ المَوْتِ
وذكر حديث عمرو بن الحارث المذكور قبل:
2912 - «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا سِلاَحَهُ،
وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ». [خ 2912]
يريد بذلك خلاف ما كان رؤساء أهل [86/ب]
%ج 4 ص 169%
الجاهليَّة عليه، إذا مات أحدهم عهد بكسر سلاحه، وحَرق متاعه، وعَقْر دوابِّه. قال
السُّهيلي: فخالف سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم، وترك بغلته،
وسلاحه، وأرضه، غير معهود منها بشيء إلا التَّصدُّق بها.
بَابُ مَا قِيلَ فِي الرِّمَاحِ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «جُعِلَ رِزْقِي
تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ
أَمْرِي».
هذا التَّعليق ذكر الإشبيليُّ في «الجمع بين الصَّحيحين» أنَّ الوليد بن مسلم رواه
عن الأوزاعيِّ، عن حسَّان بن عطيَّة، عن أبي مُنِيب الجُرَشي، عن ابن عمر به.
وقول البخاري:
(1/124)
بَابُ
دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الحَرْبِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ
أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
تقدَّم هذا عنده مسندًا، ثمَّ ذكر قوله صلى الله عليه وسلم:
2915 - «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ
بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى
رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ. [خ 2915]
ثمَّ قال:
وَقَالَ وُهَيْبٌ، حدَّثَنَا خَالِدٌ، يَوْمَ بَدْرٍ.
هذا التَّعليق ذكره في التَّفسير فقال: حدَّثني محمد، حدثنا عفَّان بن مسلم، عن
وُهَيب، حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال وهو في قبة يوم بدر» الحديث.
كذا ذكره، ومن المعلوم أنَّ ابن عبَّاس لم يكن ليشهد هذا، ولا كان في حين من
يدركه، وقد بيَّنه مسلم في «صحيحه» بذكره إيَّاه من حديث سماك بن الوليد، عن ابن
عبَّاس، عن عمر، بزيادة: فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية
[الأنفال:9].
ومُحَمَّدٌ: الَّذي رواه عنه البخاري، قال أبو علي: كذا في روايتنا عن أبي محمد
الأصيلي، وكذا عند أبي ذر غير منسوب، وذكره أبو نصر ولم ينسبه، قال: وسقطَ ذِكرُه
جُملةً من نسخة ابن السَّكن، قال أبو علي: ولعله الذُّهلي.
وقال ابن طاهر في ترجمة عفَّان: روى عنه البخاري، وروى عن عبد الله بن سعيد، ومحمد
بن عبد الرَّحيم، وإسحاق غير منسوب، ومحمد غير منسوب عنه.
وروى مسلم عن الصغاني محمد بن إسحاق، ومحمَّد بن حاتم، ومحمد بن مثنى، عنه.
وقول البخاري في تفسير سورة القمر: [4877] حَدَّثنَا إسحاق، حدثَنَا خالد، عن
خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «وهو في قبة له يوم بدر». يريد بإسحاق هذا ابن
شاهين، نصَّ عليه غير واحد [87/أ]،
%ج 4 ص 170%
(1/125)
وإن
كان إسحاق الأزرق روى أيضًا عن خالد الطحَّان، لكنَّ البخاري ما روى عنه في
«صحيحه».
الحديثان بعده تقدم ذكرهما؛ حديث أبي هريرة في الزَّكاة، وحديث عائشة في البيوع.
وذكر في: بَابِ الحَرِيرِ فِي الحَربِ حديث أنس:
2919 - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ، مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا،
وَشَكَيَا إِلَيهِ، فَرَأَيتُهُ عَلَيهِمَا فِي غَزَاةٍ. [خ 2919]
وفي لفظٍ: «رُخِّصَ».
وهو حديث مخرَّج في الكتب الستَّة، وعند مسلم في السَّفر.
قال النَّووي: هو صريح الدَّلالة لمذهب الشَّافعي ومن وافقه أنَّه يجوز لبس الحرير
للرَّجل إذا كانت به حكَّة لما فيه من الضَّرورة، وكذلك العمل وما في معناهما.
انتهى.
الحرير ليس باردًا بإجماع من الأطبَّاء، قال الرَّئيس أبو علي يصف الملابس: والبرد
في المصقول والكتَّان، والحرُّ في الحرير والأقطان.
قال: وقال مالك لا يجوز، وكذا يجوز لبسه عند الضَّرورة كمن فاجأته الحرب ولم يجد
غيره، وكمن خاف من حرٍّ أو برد، والصَّحيح عند أصحابنا أنَّه يجوز لبسه للحكة
ونحوها في السَّفر والحضر جميعًا، وقال بعض أصحابنا: يختصُّ بالسَّفر، وهو ضعيف.
قال القرطبي: يدلُّ الحديث على جواز لبسه للضَّرورة، وبه قال بعض أصحاب مالك،
وأمَّا مالك فمنعه في الوجهين، والحديث واضح الحجَّة عليه، إلا أن يدَّعيَ
الخصوصية لهما ولا يصح، ولعلَّ الحديث لم يبلغه.
وقال ابن العربي: اختلف العلماء في لباسه على عشرة أقوال:
الأوَّل محرم بكلِّ حال.
الثَّاني: يحرم إلا في الحرب.
الثَّالث: يحرم إلا في السَّفر.
الرَّابع: يحرم إلَّا في المرض.
الخامس: يحرم إلا في الغزو.
السَّادس: يحرم إلا في العَلم.
السَّابع: يحرم على الرِّجال والنِّساء.
(1/126)
الثَّامن:
يحرم لبسه من فوق دون لبس من أسفل وهو الفُرش، قال أبو حنيفة وابن الماجشون: لا،
لأنَّ الفُرش ليس بلُبس. وهذا خلاف العربيَّة في الصَّحيح.
قال [87/ب]
%ج 4 ص 171%
أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس، وفي صحيح البخاري: النَّهي عن
الجلوس على الحرير.
التَّاسع: مباح بكلِّ حال.
العاشر: محرَّم وإن خلط مع غيره كالخز.
أمَّا كونه محرَّم مطلقًا فلقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَن لَبِسَ
الحَرِيرَ فِي الدُّنيَا لَم يَلبَسهُ فِي الآخِرَةِ».
وكرهه عمر بن الخطَّاب في الحرب، وروي ذلك عن ابن محيريز، وعكرمة، وابن سيرين،
وقالوا: كراهيته في الحرب أشدُّ لما يرجون من الشَّهادة، قاله ابن بطَّال، وهو قول
مالك وأبي حنيفة.
ومن أباحه في الحرب فلأنَّ المنع منه لأجل الخيلاء وهو جائز في الحرب، فزال الوجه
الذي لأجله منع، روى معمر عن ثابت قال: رأيت أنسًا لبس الديباج في فزعة فزعها
النَّاس.
قال ابن بطَّال: وكان على أبي موسى في الحرب الدِّيباج والحرير. وقال عطاء: هو في
الحرب سلاح. وأجازه عروة والحسن، وهو قول الشَّافعي وأبي يوسف.
ومن حديث حجَّاج، عن أبي عثمان، حدثني عطاء، عن أسماء أنَّها أخرجت إليهم جبَّة
مُزرَّرة بالدِّيباج وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها في الحرب.
ومن قال في السَّفر فلحديث الباب، وأمَّا من حرَّمه إلا العَلَم فلِما ثبت في
استثناءه في حديث عمر وغيره.
وقوله: (بِأُصبُعٍ إِلَى أَربَعٍ) ليس بشكٍّ من الرَّاوي، وإنَّما هو تفصيل
للإباحة، كما يقال: خذ واحدًا أو اثنين أو ثلاثة، يعني ما شئت من ذلك، وقد أباح
ذلك العَلَم في ثلاثة أصابع في أشهر قوليه لأنَّه لم يُرِد الأربع.
(1/127)
وأمَّا
من قال: هو محرَّم على الرِّجال والنِّساء فلما روى مسلم أنَّ ابن الزُّبير قال:
لا تُلْبسوا نسائكم الحرير، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن
لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنيَا لَم يَلبَسهُ فِي الآخِرَةِ».
وكأنَّ ابن الزُّبير فهم منه العموم ولم ير الخصوص، وهو ما في الصَّحيح قوله لعلي
- فأرسل إليه حلة سيراء فلبسها-: «إِنِّي لَم أَبعَث إِلَيكَ لِتَلبَسَهَا،
وإنَّمَا بَعَثتُهَا لِتُشَقِقَهَا خُمرًا بَينَ الفَوَاطِم».
وما في «صحيح التِّرمذي»: «هذَانِ - يعني الذَّهب والحرير - حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ
أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا».
وأمَّا من قال هو مباح بكلِّ حال فتعلَّق بأنَّ الحرير كان مباحًا؛ إذ لبسه
سيِّدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ كان حرامًا حتى ذكر تحريمه ونصَّ
عليه، ثمَّ كان مباحًا حين رخَّص فيه لأهل [88/أ]
%ج 4 ص 172%
الحكَّة والقمل، والمحرَّم من المطاعم والملابس لا يباح لمثل هذه الحاجة اليسيرة،
ألا ترى أنَّه لا يجوز التَّداوي بالبول للحاجة.
قال القاضي أبو بكر: وهذا منزع من لم يتبصر القول، لما قَالَ الرَّاوي الصَّاحب
العالم: رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير لعلَّة كذا كان ذلك نصًا على
بقاء التَّحريم في الذي رواه واختصاص الرُّخصة به.
ثمَ الرُّخصة في الشَّريعة على وجوه؛ منها للضَّرورة، ومنها للحاجة، ومنها
للمشقَّة اليسيرة الدَّاخلة على المسلم كالقصر والفطر، وكان ابن الزُّبير يلبس
الخزَّ فدلَّ على إباحته، ولبسه أيضًا عثمان، والنكتة المعنوية في ذلك أنَّ الحرير
حرام، والصُّوف والكتَّان حلال، فإذا مزجا جاء منهما نوع لا يسمى حريرًا، فلا
الاسم يتناوله، ولا السَّرف والخيلاء يدخله، فخرج عن الممنوع اسمًا ومعنىً، فجاز
على الأصل وكره على الشبهة.
بَابُ قِتَالِ التُّركِ
ذكر فيه حديث:
(1/128)
2927
- عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ
مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ،
وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الوُجُوهِ،
كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ». [خ 2927]
وفي حديث أبي هريرة المخرَّج عند الستَّة:
2928 - «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّركَ، صِغَارَ الأَعيُنِ،
حُمرَ الوُجُوهِ، ذُلفَ الأُنُوفِ». [خ 2928]
وفي لفظ: «يَلبَسُونَ الشَّعرَ وَيَمشُونَ فِي الشَّعرِ».
وفي رواية: «حَتَّى تُقَاتِلُوا خوزًا وَكرمَانَ مِن الأَعَاجِم».
قال البخاري:
2929 - وقَالَ سُفْيَانُ - يعني ابن عيينة - وَزَادَ فِيهِ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً: «صِغَارَ الأَعْيُنِ، ذُلْفَ
الأُنُوفِ». [خ 2929]
هذا التَّعليق رواه البخاري مسندًا في علامات النُّبوَّة، وعند الإسماعيلي: قال
محمد بن عباد: بلغني أن أصحاب بابل كانت نعالهم الشَّعر.
وعند البكري في «أخبار التٌّرك»: «كَأنَّ أَعيُنَهُم حِدَقُ الجَرَادِ،
وَيتَّخِذُونَ الدُّرَقَ حَتَّى [88/ب]
%ج 4 ص 173%
يَربِطُوا خُيُولَهُم بِالنَّخِيلِ».
وفي لفظ: «حَتَّى يُقَاتِلَ المُسلِمُونَ التُّركَ، يَلبِسُونَ الشَّعرَ».
وعند ابن ماجه عن أبي سعيد رفعه: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا
قَومًا صِغَارَ الأَعيُنِ عِراضَ الوُجُوهِ، كَأنَّ أَعيُنَهُم حِدَقُ الجَرَادِ،
وَكَأنَّ وُجُوهَهُم المِجَانُّ المُطرَقَة، يَنتَعِلُونَ الشَّعرَ،
وَيَتَّخِذُونَ الدُّرَقَ، وَيَربِطُونَ خُيُولَهُم بِالنَّخِيلِ».
وفي حديث أبي بكر الصدِّيق ?: «أنَّ الدَّجَّال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها
خراسان يتبعه أقوام كأنَّ وجوههم المجان المطرقة». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
غريب، لا يُعرفُ إلَّا من حديث أبي التيَّاح.
(1/129)
وعند
أبي داود من حديث بريدة - بإسناد لا بأس به وقال ابن دحية: صحيح -: «يُقَاتِلُكُمْ
قَوْمٌ صِغَارُ الْأَعْيُنِ - يَعْنِي التُّرْكَ - تَسُوقُونَهُمْ ثَلَاثَ مِرَاتٍ
حَتَّى تُلْحِقُوهُمْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمَّا فِي السِّيَاقَةِ
الْأُولَى، فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَالثَّانِيَةِ فَيَنْجُو بَعْضٌ،
وَيَهْلَكُ بَعْضٌ، وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ، فَيُصْطَلَمُونَ».
وعند البيهقي: «إِنَّ أُمَّتِي يَسُوقُهَا قَومٌ عِراضُ الوُجُوهِ كَأنَّ
وُجُوهَهُم الحُجَفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى يُلحِقُوهُم بِجَزِيرَةِ العَرَبِ»
قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ هُم؟ قَالَ: «التُّركُ، وَالَّذِي نَفسِي
بِيَدِهِ لَيَربِطُنَّ خُيُولَهُم السَّوَارِي مَسَاجِدَ المُسلِمِينَ».
قرأت على إبراهيم بن علي المشهدي، عن الحافظ البكري، حدثنا عبد الصمد بن محمد بن
الفضل، أخبرنا ثقة الحرم محمد بن الفضل كتابة، أخبرنا البيهقي، أخبرنا ابن فورك،
حدثنا عبدالله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا
الحشرج بن نباتة، حدثنا سعيد بن جُمهان، عن عبد الرَّحمن بن أبي بكرة، عن أبيه،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَنزِلَّنَّ طَائِفُةٌ مِن أُمَّتِي أَرضًا
يُقَالُ لَهَا البَصرَةُ، فَيَجِيءَ بَنُو قَنطُورَاءَ، عِرَاضُ الوُجُوهِ صِغَارُ
الأَعيُنِ، حَتَّى يَنزِلُوا عَلَى جِسرٍ لَهُم» الحديث.
وذكر البكري من حديث سليمان بن الرَّبيع العدوي، عن عبد الله بن عمرو قال:
«يُوشِكُ بَنُو قَنطُورَاءَ بنِ كَركَر أَن يَسُوقُوا أَهلَ [89/أ]
%ج 4 ص 174%
خُرَاسَانَ وَأَهلَ سِجِّستَانَ سَوقًا عَنِيفًا» الحديث بطوله.
قال: فقدمنا على عمر بن الخطاب فحدَّثناه بما سمعنا من ابن عمرو، فقال: ابن عمرو
هو أعلم بما يقول.
(1/130)
قال
الخطابي: «بنو قَنطُورَاءَ» هم التُّرك، يقال: إنَّ قَنطُورَاءَ اسم جارية كانت
لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ولدت أولادًا جاء مِن نسلهم الترك.
وفي «القصد والأمم» لابن عبد البر: وأمَّا الترك فيما ذكروا هم ولد يافث، وهم
أجناس كثيرة، ومنهم أصحاب مدن وحصون، ومنهم قوم في رؤوس الجبال والبراري، ليس لهم
عمل غير الصيد، ومن لم يصد ودج دابته وشوى الدم في مصران يأكله، وهم يأكلون الرخم
والغربان، وليس لهم دين، ومنهم من يدين بالمجوسية وهم الأكثرون، ومنهم من تهوَّد،
وملكهم يلبس الحرير وتاج الذهب ويحتجب كثيرًا، وفيهم سحر.
وقال وهب بن منبه: هم بنو عم يأجوج ومأجوج، وقد قيل: إنَّ أصل الترك أو بعضهم من
حِمْير، وقيل: إنَّهم بقايا قوم تبع ومن هناك، كانوا يسمون أولادهم بأسماء العرب
العاربة، فهؤلاء ومن كان مثلهم يزعمون أنَّهم من العرب، وألسنتهم أعجمية، وبلدانهم
غير عربيَّة دخلوا في بلاد العجم واستعجموا.
وفي كتاب «الإكليل» لابن أبي الدِّمنة الهَمْداني: أكثرهم يقول: الترك من ولد
أفريدون بن سام بن نوح صلى الله عليه وسلم، وسموا تركًا لأنَّ عبد شمس بن يشجب لما
وطئ أرض بابل أُتِيَ بقوم من أجابرة ولد يافث، فاستنكر خلقهم، ولم يحب أن يدخلهم
في سبي بابل، فقال: اتركوهم، فسموا التُّرك.
وقال صاعد في كتاب «الطبقات»: أمَّا التُّرك فأمَّة كثيرة العدد، فخمة المملكة،
ومساكنهم ما بين مشارق خراسان من مملكة الإسلام، وبين مغارب الصين، وشمال الهند،
إلى أقصى المعمور في الشمال، وفضيلتهم التي برعوا فيها وأحرزوا خصالها الحروب
ومعالجة آلاتها.
وقال المسعودي في «المروج» [89/ب]:
%ج 4 ص 175%
(1/131)
في
الترك استرخاء في المفاصل، واعوجاج في سيقانهم، ولينٌ في عظامهم، حَتَّى إنَّ
أحدهم ليرمي بالنشَّاب من خلفه كرميه من قدَّام، فيصير قفاه كوجهه ووجهه قفاه،
ومطاوعات فقارات ظهرهم لهم، وحمرة وجوههم عند تكامل الحرارة في الوجوه على الأغلب
من كونها وارتفاعها بغلبة البرد على أجسامهم.
و (المَجَانُّ): قال الخطَّابي: هي الَّتي ألبست الأطرقة من الجلود، وهي الأغشية
منها، شبَّه عرض وجوههم ونتوء وجناتهم بظهور الترسة، وهي بفتح الميم وتشديد
النُّون، جمعُ مِجن بكسر الميم وهو التُّرس.
قال ابن قُرْقُول: هي الترسة التي ألبست بالعقب طاقة فوق أخرى.
و (المُطْرَقَةُ): بسكون الطاء المهملة وتخفيف الرَّاء.
قال ابن قُرْقُول: قال بعضهم: الأصوب فيه المطرَّقة، وهو ما رُكِّب بعضه فوق بعض.
قال: وقيل هو أن يقوّر جلد بمقداره ويلصق به كأنَّه ترس على ترس.
و (ذُلْفُ): بذال معجمة مضمومة، أي: قِصارٌ، وهو الفَطَس وتأخُّر الأرنبة، وقيل:
غلظ الأرنبة، وقيل: تطامن فيها.
ورواه بعضهم بدال مهملة، قال: وقد قيَّدناه عن التَّميمي بالوجهين وبالمعجمة أكثر.
وقال ابن التِّين: ذلف الأنوف صغارها. وقيل: تشميرها عن الشَّفة.
وعن ابن فارس: الذَّلف الاستواء في طرف الأنف، ليس بجيِّد غليظ.
قال في «المخصص»: وهو يعتري الملاحة.
و (الأُنُوفُ): جمع أنف، مثل فلس وفلوس، وعند الفرَّاء: الآنف مثل بحر وأبحر، وفي
«المخصص» هو جميع المنخر، وسمي أنفًا لتقدُّمه، وجمع الأنف: آنف وآناف. وسيأتي
الكلام عليه أيضًا في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى.
وذكر البخاري في: بَابِ الدُّعَاءِ عَلَى المُشرِكِينَ
6921 - عَنْ عَائِشَةَ: أنَّ اليَهُودِ دَخَلُوُا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَلَعَنَتهُم، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟» قَالَت:
أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «أَفَلَم تَسمَعِي مَا قُلتُ؟ وَعَلَيكُم».
[خ 6921]
(1/132)
وذكر
في الاستئذان من كتابه حديث ابن عمر وأنس.
وعند النَّسائي عن أبي بصرة قال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَاكِبٌ إِلَى
اليَهُودِ، فَمَن انطَلَقَ مَعِي، فَإِن سَلَّمُوا [90/أ]
%ج 4 ص 176%
عَلَيكُم فَقُولُوا: وَعَلَيكُم».
وعند ابن ماجه من حديث ابن إسحاق عن أبي عبد الرحمن الجهني - وصحبته مختلف فيها-
مثله.
وعند ابن حبان من حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: «أَتَدرُونَ مَا قَالَ؟»
قَالُوا: سَلَّمَ، قَالَ: «لَا، إِنَّما قَالَ: السَّامُ عَلَيكُم، أَي:
تُسَامُونَ دِينَكُم، فَإِذَا سَلَّمَ عَلَيكُم رَجُلٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ
فَقُولُوا: وَعَلَيكَ».
قال الخطابي: رواية عامَّة المحدثين بالواو: «وَعَلَيكُم»، وكان ابن عيينة يرويه
«عَلَيكُم» بحذف الواو، وهو الصَّواب؛ وذلك أنَّه إذا حذف الواو صار قولهم الذي
قالوه بعينه مردودًا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدُّخول فيما
قالوه؛ لأنَّ الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين.
وعند أبي عمر: ورواه عن يحيى، عن مالك، عن ابن دينار: «عَلَيكَ» بلفظ الواحد.
وقال القرطبي: الواو هنا زائدة، وقيل للاستئناف، وحذفها أحسن في المعنى وإثباتها
أصحُّ رواية وأشهر.
وقال المنذري: من فسَّر السَّام بالموت فلا تبعد الواو، ومن فسَّره بالسَّآمة
فإسقاط الواو هو الوجه.
قال ابن الجوزي: وكان قتادة يمد ألف السَّآمة.
وذهب عامَّة السَّلف وجماعة الفقهاء إلى أنَّ أهل الكتاب لا يُبدؤون بالسلام، حاشا
ابن عبَّاس، وصديُّ بن عجلان، وابن محيريز فإنَّهم جوَّزوه ابتداءً.
قال النَّووي: وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي، ولكنه قال: يقول: عليك، ولا
يقول: عليكم، بالجمع. وحكي أيضًا أنَّ بعض أصحابنا جوَّز أن يقول: وعليكم السَّلام
فقط، ولا يقول: ورحمة الله وبركاته، وهو ضعيف مخالف للأحاديث.
(1/133)
وذهب
آخرون إلى جواز الابتداء للضَّرورة، أو لحاجة تعنُّ له إليه، أو لذمام وسبب، وروي
ذلك عن إبراهيم وعلقمة.
وقال الأوزاعيُّ: إن سلَّمت فقد سلَّم الصَّالحون، وإن تركت فقد ترك الصَّالحون،
وتأوَّل [90/ب]
%ج 4 ص 177%
لهم قوله: «لَا تَبدَؤوهُم بِالسَّلَامِ»؛ أي: لا تبدؤوهم كسلامكم بالمسلمين.
واختلفوا في ردِّ السَّلام: فريضة على المسلمين والكفَّار بالواو، وهذا تأويل
قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النِّساء: 86]. قال ابن
عبَّاس وقتادة في آخرين: هي عامَّة في الرَّدِّ على المسلمين والكفار، وقوله {أَوْ
رُدُّوهَا} يقول للكافر: وعليكم. قال ابن عبَّاس: من سلَّم عليك من خلق الله تعالى
فاردد عليه وإن كان مجوسيًّا.
وروى ابن عبد البر عن أبي أمامة الباهلي أنَّه كان لا يمرُّ بمسلم، ولا يهوديٍّ،
ولا نصرانيٍّ، إلا بدأه بالسَّلام.
وعن ابن مسعود، وأبي الدَّرداء، وفضالة بن عبيد: أنَّهم كانوا يبدؤون أهل الكتاب
بالسَّلام.
وكتب ابن عباس إلى كتابيٍّ: السَّلام عليك. وقال: لو قال لي فرعون خيرًا لرددت
عليه.
وقيل لمحمَّد بن كعب: إنَّ عمر بن عبد العزيز يردُّ عليهم ولا يبتدأهم؟ فقال: ما
أرى بأسًا أن نبدأهم بالسَّلام. ولقول الله جلَّ وعزَّ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف:89]. وفي هذا ردٌّ لما ذكرناه قبل.
وقال طائفة: لا يردُّ السَّلام على الكتابيِّ، والآية مخصوصة بالمسلمين، وهو قول
الأكثرين.
وعن ابن طاوس يقول: علاكَ السَّلام.
واختار بعضهم أن يردَّ عليهم السِّلام بكسر السِّين، أي الحجارة.
وعن شيخنا القشيري: لو تحقَّقنا قولهم السَّلام، فهل يقال: إنَّه لا يمتنع الردُّ
عليهم بالسَّلام الحقيقيِّ كالمسلم، أو يقال بظاهر الأمر؟ ويترجَّح الثَّاني بظاهر
اللَّفظ، ويترجَّح الأوَّل بالنَّظر إلى المعنى.
وعن مالك: إن بدأت ذميًّا على أنَّه مسلم، ثم عرفت أنَّه ذمي فلا تسترد منه
السَّلام.
(1/134)
قال
ابن العربي: وكان ابن عمر يسترده منه فيقول: اردد عليَّ سلامي.
وأدخل بعضهم حديث اليهودي في باب: من سبَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر: وهذا عندي لا وجه له.
وستأتي تكملته في كتاب الأدب.
وذكر البخاريُّ في: بَابِ إِرْشَاد المُسلِمِ أَهلَ الكِتَابِ أَو تَعَلُّمَهُم
الكِتَابَ
2936 - كتابَ [91/أ]
%ج 4 ص 178%
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى قيصر المذكور أوَّل الكتاب. [خ 2936]
قال ابن بطَّال: إرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام على الإمام، وأمَّا تعليمهم
الكتاب فاستدلال الكوفيين على جوازه بكتابته صلى الله عليه وسلم آية من كتاب الله
بالعربيَّة، فعلَّمهم كيف حروف العربيَّة، وكيف تأليفها، وكيف اتِّصال ما بينها،
قالوا: فهذا تعليم لهم؛ لأنَّهم لم يقرؤوه حتَّى ترجم لهم، وفي الترجمة تعريب ما
يوافق من حروفها حروفهم.
قال أبو حنيفة: لا بأس بتعليم الحربيِّ والذميِّ القرآن والعلم والفقه؛ رجاء أن
يرغبوا في الإسلام، وهو أحد قولي الشَّافعي.
وقال مالك: لا يُعلَّمون الكتاب ولا القرآن، وهو قول الشَّافعي الآخر.
قال: وكره مالك إذا كان صيرفيٌّ يهوديٌّ أو نصرانيٌّ أن يصرف منهم.
احتجَّ الطحاوي لأصحابه بكتاب هرقل وبقوله جلَّ وعزَّ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}
[التوبة:6]، وروى أسامة بن زيد: مرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على ابن أبي
قبل أن يسلم، وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن.
وذكر البخاريُّ في: بَابِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى
الإِسلَامِ والنُّبُوَّةِ أحاديثَ تقدَّم ذكرها.
قال ابن المنير: و (حِمْص): يجوز صرفه وعدمه؛ لقلة حروفه وسكون وسطه، قال ياقوت:
بناها حمص بن المهري من العمالقة، وقال الحازميُّ: كانت قديمًا أَذْكَرَ من دمشق.
(1/135)
وفي
«أسماء البلاد» للكلبي: سميت بقوم من بني مهر بن حيص بن حاف بن مكنف بن عمليق.
وقال البكري عن سيبويه: لا يجوز فيها الصرف كما يجوز في ضدِّه؛ لأنَّه اسم أعجمي،
سمِّيت برجل من العمالقة، ويقال: مِن عاملة، هو أوَّلُ من نزلها.
وزعم ابن الأنباري في «الكتاب الزَّاهر» أنَّها من قول العرب: قد حمص الجرح بحمص
حموصًا، وانحمص ينحمص انحماصًا، إذا ذهب ورمه.
وقوله: (عَلَى رَِسْلِكَ) ضبط بفتح الرَّاء وكسرها، فمن فتح أراد التُّؤدة، ومن
كسر أراد الهيئة.
واستحبَّ العلماء أن يدعى الكافر إلى [91/ب]
%ج 4 ص 179%
الإسلام قبل القتال. قال مالك: إلَّا من قربت داره فإنَّه لا يدعى؛ لعلمه
بالدَّعوة بخلاف مَن بَعُد، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا، وهو قول الحسن،
وإبراهيم، وربيعة، والليث، وأبي حنيفة، والثَّوري، والإمام الشَّافعي، وأحمد، وأبي
إسحاق، وأبي ثور.
وقال الشَّافعي: لا أعلم أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلَّا أن يكون
الخزر والتُّرك أمَّة لم تبلغهم، فلا يقاتلوا حتى يُدعوا، ومن قُتل منهم قبل الدَّعوة
فعلى قاتله الدية، وقال أبو حنيفة: لا دية عليه.
وقوله في حديث أبي هريرة:
2946 - «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ». [خ 2946]
قال الطَّحاوي: ذهب قوم إلى القول بظاهره، وقال آخرون: لا حجَّة لكم فيه؛ لأنَّ
الرسول صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يقاتل قومًا لا يوحِّدون الله، فكان أحدهم
إذا وحَّد الله عُلم بذلك تركه لما قوتل عليه، وخروجه منه ... .
روى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّه صلى
الله عليه وسلم لما وجَّه عليًا إلى خيبر قال: «قَاتِلهُم حَتَّى يَشهَدُوا أَن
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ».
(1/136)
فلا
بدَّ من إقرارهم بنبوَّة نبيِّنا، من غير أن يخصُّوها كما تقوله طائفة من اليهود؛
فإنَّهم يقولون: لا إله إلا الله وإن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصَّة.
وقد جاء في حديث أنس مبينًا: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا
أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ تعالى».
هذا قول أبي حنيفة وصاحبيه.
بَابُ مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا
وَمَنْ أَحَبَّ الخُرُوجَ يَوْمَ الخَمِيسِ
2947 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ، عَن أَبِيه: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ - وَكَانَ قَائِدَ
كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ -: قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا. [خ 2947]
قال البخاري:
2948 - وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ، أخبرنا
يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ كَعْبِ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ [92/أ]:
%ج 4 ص 180%
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا
وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا فِي حَرٍّ
شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ
أَمْرَهُمْ، لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ
الَّذِي يُرِيدُ». [خ 2948]
هذا الحديث خرَّجه السِّتَّة، وخرَّجه البخاري مطوَّلًا ومختصرًا في عشرة مواضع.
قال البخاري:
(1/137)
2950
- حدثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدَّثَنَا هِشَامٌ، أخبرنا مَعْمَرٌ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
أَبِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الخَمِيسِ فِي
غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الخَمِيسِ». [خ 2950]
قال الدارقطني: الرِّواية الأولى صواب، وحديث يونس مرسل، ورواه سويد بن نصر، عن
ابن المبارك متَّصلًا مثلما رواه ابن وهب واللَّيث عن يونس، ورواه مسلم عن سلمة
ابن أعين، عن معقل، عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن عمه عبيد
الله عن كعب، وتابع معقلًا صالحُ بن أبي الأخضر على عبد الله بن كعب، وكلاهما لم
يحفظ.
قال الجيَّاني: كذا هذا الإسناد عن ابن مردويه، عن ابن المبارك، في «الجامع» و
«التاريخ الكبير»، وكذا رواه ابن السَّكن وأبو زيد ومشايخ أبي ذر الثَّلاثة. ولم
يلتفت الدَّارقطني إلى قول عبد الرحمن بن عبد الله: سَمِعتُ كَعبًا؛ لأنَّه عنده
وهم.
قال أبو علي: وقد رواه معمر، عن الزُّهري، على نحو ما رواه ابن مردويه من الإرسال.
قال: ومما يشهد لقول أبي الحسن ما ذكره الذُّهليُّ في «العلل»: سمع الزُّهريُّ من
عبد الرحمن بن كعب، ومن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، وسمع من أبيه عبد الله بن
كعب، ولا أظن سمع عبدُ الرحمن بن عبد الله من جدِّه شيئًا، وإنَّما روايته عن أبيه
وعمه.
قال الجياني: والغرض من هذا كلِّه الاستدراك على البخاري، حيث خرَّجه على
الاتِّصال وهو مرسل.
ويوضِّح ذلك أيضًا رواية البخاري في كتاب الجهاد في باب الصلاة إذا قدم من سفر:
حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن
أبيه وعمه عبيد الله بن كعب، عن كعب، فذكر الحديث.
وعند أبي داود: عن محمد بن يحيى، عن حسن بن الرَّبيع، عن ابن [92/ب]
%ج 4 ص 181%
(1/138)
إدريس
قال: قال ابن إسحاق: حدَّثني الزُّهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن
أبيه، عن جده: قلتُ: «يا رسول الله، إنَّ من توبتي أن أخرج من مالي» الحديث.
وقال أبو العباس الطرقي: ربَّما اشتبهت رواية عبد الرحمن بن عبد الله عن جده،
فيظنُّ أنَّها مرسلة؛ من حيث إنَّه يروي في بعض الأحايين عن أبيه عن جدَّه، وليس
كذلك فإنَّه إنَّما يروي عن جدِّه أحرفًا من الحديث، ولم يمكنه حفظه كله عنه؛
لطوله ولصغره، فاستثبته من أبيه.
واعلم أنَّ خير ما يدلُّك على شأن روايات هذا الحديث أن تعلم أنَّ لكعب ثلاثة
أولاد: عبد الله قائده، وعبيد الله، وعبد الرحمن، أدرك الزهريُ عبدَ الله وعبدَ
الرحمن، ولعبد الله ابنٌ يقال له: عبد الرحمن، روى عنه الزُّهري الحديث بطوله.
وفي مسلم: عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن عمه عبيد الله، وكان قائد
كعب.
قال الدَّارقطني: الصَّواب قول من قال: عبد الله، مكبَّر.
ورواه النَّسائي من حديث ابن جريج عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه
عبد الله، وعن عبيد الله عن أبيهما.
قال الطرقي: يجوز أن يكون عبد الله وعبيد الله جميعًا قائدي أبيهما حين عمي،
واختلاف حديث الأخوين من أصحاب الزُّهري لاختلاف روايتهم.
وقال النسائي: يشبه أن يكون الزُّهري سمعه من عبد الله بن كعب، ومن عبد الرحمن
عنه.
وقوله: (وَرَّى) يريد: طلب غزوه العدو؛ لئلَّا يسبقه الجواسيس ونحوهم بالتَّحذير،
إلا إذا كانت سفرة بعيدة فيستحب أن يعرِّفهم بُعْدَها كما جرى في هذه الغزوة؛
للتَّأهُّب، وأصله من الوري وهو جعل البيان وراءه.
وقال أبو علي الفسوي: أصله من الوراء، كأنَّه قال: لم يشعر به، وأصحاب الحديث لا
يضبطون الهمزة فيه، وتصغيره: ورية، وأصله: وريية فسقطت واحدة منهما كما قلبت في
عطاء: عُطي، والأصل عطيي، فتقول: وريت عن كذا وكذا بغير همز.
(1/139)
و
(المَفَازَةُ): المهلكة، سمِّيت بذلك تفاؤلًا بالفوز والسَّلامة، كما قالوا
للَّديغ: سليم، وفي [93/أ]
%ج 4 ص 182%
«الكتاب الزَّاهر» مأخوذة من قولهم: قد فَوَّزَ الرجل إذا هلك، وقيل: لأنَّ من
قطعها فاز ونجا.
قوله: (فَجَلَا لِلنَّاسِ) هو بتخفيف اللَّام، أي: كشف، وبيَّنَ، ووضَّح. يقال: جليت
الشيء: إذا كشفته.
وقوله: (إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي)، وقوله: (أَمْسِكْ
عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ) كانه عليه أن يتضرَّر بالفقر، وأن لا يصبر عليه، ولا
يخالف هذا صدقة أبي بكر بجميع ماله، فإنَّ أبا بكر كان صابرًا وراضيًا.
فإن قيل: كيف قال: (أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي) مع قوله أوَّلًا: (نَزَعتُ لَهُ
ثَوبِي، وَاللهِ لَا أَملِكُ غَيرَهُمَا)؟
فالجواب: أنَّه أراد الأرض والعقار، يؤيِّده قوله: (فَإِنِّي أُمسِكُ سَهمِيَ
الَّذِي بِخَيبَرَ).
وقوله: (لَم يَتَخَلَّف إِلَّا فِي هَذِه وَفِي بَدرٍ) يردُّ قول الكلبي أنَّه شهد
بدرًا.
(1/140)
ولما
بوَّب البخاري: الخُرُوجُ بَعدَ الظُّهرِقال ابن بطَّال: فيه دليل على أنَّه لا
يكره السَّفر وابتداء العمل بعد ذهاب صدر النَّهار وأوَّله، وأنَّ ما روي:
«اللَّهُمَّ بَارِك لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» لا يدلُّ أنَّ غير البكور لا بركة
فيه؛ لأنَّ كلَّ ما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه البركة، ولأمته
فيه أكبر الأسوة، وإنما خصَّ البكور لأنَّه وقت يقصده النَّاس بابتداء أعمالهم،
وهو وقت نشاط، فخصَّه بالدُّعاء لينال بركةَ دعوته جميعُ أمَّته. وقول البخاري:
باب الخُرُوجِ آخِرَ الشَّهرِوَقَالَ كُرَيْبٌ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: انْطَلَقَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
القَعْدَةِ. تقدَّم هذا التَّعليق مسندًا في كتاب الحج عن المقدمي: حدثَنَا فضيل
بن سليمان، حدثَنَا موسى بن عقبة، قال: أخْبرَنِي كريب، فذكره. قال ابن بطال:
وخروجه آخر الشهر يخالف أفعال الجاهلية في استقبالهم أوائل الشُّهور بالأعمال،
وتوجيههم ذلك، وتجنبهم غيره من أجل نقصان العمر، ولم يلتفت سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى أباطيلهم ولا طيرتهم [93/ب] %ج 4 ص 183%الكاذبة، وردَّ أمره
إلى الله جلَّ وعزَّ، ولم يراعِ نقصان شهر ولا ابتداءه. بَابُ التَّودِيع
2954 - وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم في بَعْثٍ، وَقَالَ لَنَا: «إِنْ لَقِيتُمْ فُلاَنًا
وَفُلاَنًا- لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا- فَحَرِّقُوهُمَا
بِالنَّارِ». [خ 2954]
(1/141)
قَالَ:
ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: «إِنِّي
كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ
النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فَإِنْ وجدتُمُوهُمَا
فَاقْتُلُوهُمَا».
هذا التَّعليق رواه النَّسائي عن الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن
ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، وذكر آخر كلامهما عن بكير.
وقال الإسماعيلي: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة، حدثنا عبد الله بن وهب.
وأخبرني ابن خزيمة، حدثنا يونس وابن عبد الحاكم قالا: حدثنا ابن وهب، فذكره.
وقال البخاري في كتاب الجهاد أيضًا: حدثنا قتيبة، عن اللَّيث، عن بكير، عن سليمان،
عن أبي هريرة، فذكره.
قال الترمذي: وقد ذكر محمد بن إسحاق بين سليمان وأبي هريرة رجلًا في هذا الحديث،
وحديث الليث أشبه وأصح.
وسمَّى ابن شاهين الرَّجل: أبا إسحاق الدَّوسي، وهو مجهول.
وعند البخاري حديث عكرمة، عن ابن عباس: بلغه أنَّ عليًّا حرَّقَ قومًا فقال: لو
كنت أنا لم أحرقهم؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يُعَذِّب أَحَدًا
بَعَذِابِ اللهِ»، ولقتلتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن بَدَّلَ دِينَهُ
فَاقتُلُوه».
زاد الإسماعيلي: عن عمار الدهني: لم يحرقهم، ولكن حفر لهم حفائر، وخرق بعضها إلى
بعض، ثم دخن عليهم حَتَّى ماتوا.
قال عمرو بن دينار: فقال الشَّاعر:
لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا حطبًا ونارًا ... هناك الموت نقدًا غير دين
وعند العقيلي: فقال علي يوم ذاك:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا ... أججت ناري ودعوت قنبرًا
قال: وكانوا قالوا لعلي: أنت إلهنا.
وعند [94/أ]
%ج 4 ص 184%
(1/142)
أبي
داود عن حمزة الأسلمي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّره على سرية وقال:
«إِن وَجَدتُم فُلَانًا فَأَحرِقُوهُ بِالنَّارِ» فولَّيت، فناداني وقال: «إِن
وَجَدتُمُوهُ فَاقتُلُوهُ وَلَا تَحرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ
إِلَّا رَبُّ النَّارِ».
وروى الحازمي من حديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزِّناد، عن محمَّد بن مرَّة
الأسلمي، عن أبيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّره على سرية، فذكر مثله.
انتهى
وكأنَّه تصحَّف على النَّاسخ «حمزة» بـ «مرَّة»، فإنَّك لا تجد صحابيًا اسمه مرَّة
ونسبه أسلمي، فينظر.
وعند ابن شاهين من حديث كاتب الليث عنه، عن عمر بن عيسى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن
ابن عباس، عن عمر أنَّه جاءته جارية فقالت: إنَّ زوجي أقعدني على النَّار حتَّى
أحرق فرجي، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن حُرِّقَ بِالنَّارِ
أَو مُثِّلَ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُو مَولَى اللهِ وَرَسُولِهِ».
وعن ابن مسعود: رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد حرقوها فقال:
«إِنَّهُ لَا يَنبَغِي أَن يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ».
وهذا يخدش فيه ما روي: «إِنَّ نَبِيًّا مِن الأَنبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِم
أَجمَعِينَ قَرَصَتهُ نَملَةٌ فَأَمَرَ بِقَريَةِ النَّملِ فَأُحرِقَت، فَقَالَ
اللهُ لَهُ: لَا تَقتُل إِلَّا نَملَةً وَاحِدَةً».
قال الحكيم في «نوادر الأصول»: وهو إذن في إحراقها؛ لأنَّه إذا جاز إحراق واحدة
جاز في غيرها.
وقال ابن العربي: في هذا نسخ الحكم قبل العمل به، ومنع منه المبتدعة والقدرية.
والرَّجلان المذكوران في حديث أبي هريرة: هبار بن الأسود القرشي، الذي روَّع زينب
بنت رسول صلى الله عليه وسلم حتَّى ألقت ذات بطنها.
والثاني: نافع بن عبد القيس.
وعند ابن القسطلاني: نافع بن عبد عمرو.
(1/143)
وأمَّا
قول ابن الجوزي في حديث حمزة: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى رجل
من عذرة» بأنَّه هبار فغير جيِّد؛ لأنَّ عدوَّه آت من قريش فينظر.
وقال المهلَّب: ليس نهيه عن التَّحريق بالنَّار على معنى التَّحريم، وإنَّما هو
على سبيل التَّواضع لله تعالى، والدليل على أنَّه ليس بحرام سملُ أعين الرُّعاة
بالنَّار في مصلَّى المدينة بحضرة الصَّحابة، وتحريق الخوارج بالنَّار، وأكثر
علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنَّار، وقول أكثرهم بتحريق
المراكب. [94/ب]
%ج 4 ص 185%
وروى لنا من عند ابن شاهين من حديث صالح بن حيَّان، عن ابن بريدة، عن أبيه: أنَّ
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا إلى رجل كذب عليه في حكم حكمه، وفي امرأة
واقعها، فقال: «إِن وَجَدتَهُ حَيًّا فَاقتُلهُ، وَإِن وَجَدتَهُ مَيْتًا
فَحَرِّقهُ بِالنَّارِ» فوجده لُدغ فمات، فحرقه.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أنَّ أبا بكر لما ارتدَّت أم قرفة شدَّ رجليها بفرسين ثم
صاح بهما فشقاها.
قال الحازمي: ذهبت طائفة إلى منع الإحراق في الحدود، وقالوا: يقتل بالسَّيف، وإليه
ذهب أهل الكوفة، والنَّخعيُّ، والثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، ومن الحجازيِّين:
عطاء.
وذهبت طائفة في حق المرتد إلى مذهب علي.
وقالت طائفة: من حَرَق يُحرَق، وبه قال مالك، وأهل المدينة، والإمام الشَّافعي،
وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.
واختلف العلماء في استتابة المرتد: فروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود أنَّه
يستتاب، فإن لم يتب قتل، والجمهور على هذا.
وقالت طائفة: لا يستتاب، ويجب قتله حين ارتدَّ؛ منهم: عبيد بن عمير، والحسن،
وطاوس، وأبو يوسف، وأهل الظاهر.
وقال عطاء: إن كان أصله مسلمًا فإنَّه لا يستتاب، وإن كان مشركًا فأسلم ثمَّ
ارتدَّ فإنَّه يستتاب.
وعن علي: لا تستتاب المرأة وتسترقُّ، وقال به عطاء.
قال ابن عبَّاس: لا تقتل ولكن تحبس وتجبر.
(1/144)
والجمهور
لا فرق بين النِّساء والرِّجال في الاستتابة، فإن لم تتب فقالت طائفة منهم
الأوزاعي وأحمد: تقتل. وقالت طائفة: تحبس ولا تقتل، وهو قول الثَّوريِّ وغيره من
الكوفيِّين.
واختلف القائلون بالاستتابة؛ فقيل: يستتاب ثلاثة أيَّام وهو قول الشَّافعي، والقول
الآخر: يستتاب فإن تاب وإلَّا قتل مكانه، وقال الزُّهري يستتاب ثلاث مرَّات.
وعن علي يستتاب شهرًا، وقال النَّخعي والثَّوري يستتاب أبدًا، وقيل يستتاب ثلاث
مرَّات، أو ثلاث جمع، أو ثلاثة أيَّام، مرَّة في كل يوم أو جمعة، حكي هذا عن أبي
حنيفة، وستأتي له تتمَّة في الحدود.
بَابُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ ذكر حديث ابن عمر:
2955 - «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا
أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ». [خ 2955]
وفي حديث علي: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا، وأمَّر عليهم رجلًا،
وأمَرَهم أن يسمعوا ويطيعوا» الحديث، وفيه: «لَا طَاعَةَ فِي مَعصِيَةِ اللهِ،
إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوفِ».
وعند النَّسائي عن عمران بن حصين، والطبراني عن الحكم بن عمرو نحوه.
وعند ابن إسحاق وغيره: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث علقمة بن مُجَزِّز
المدلجي في ثلاث مئة إلى الحبشة، فأمَّر عليهم عبد الله بن حذافة على بعض الجيش،
فأجَّج نارًا وأرادهم على الوثوب فيها، فلمَّا بلغ ذلك النَّبيَّ صلى الله عليه
وسلم قال: «مَن أَمَرَكُم بِمَعصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ».
قال الحاكم: كانت في صفر بعد فتح مكة شرَّفها الله تعالى.
وفي كتاب «الفكاهة» للزٌّبير من حديث عمر بن الحكم، وثوبان، عن أبي سعيد: «أمَّر
النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة البدري على سريَّة وأنا معه فأجَّج
نارًا» الحديث.
ذكر عياض إجماع العلماء على وجوب طاعة الإمام في غير معصية، وتحريمها في المعصية.
(1/145)
قال
ابن بطَّال: احتجَّ بهذا الخوارج فرأوا الخروج على أئمَّة الجور [95/أ]
%ج 4 ص 186%
والقيام عليهم عند ظهور جورهم.
والذي عليه الجمهور: أنَّه لا يجب القيام عليهم، ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد
إيمانهم، أو تركهم إقامة الصَّلوات، وأمَّا دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج
عليهم إذا استوطن أمرهم وأمر النَّاس معهم، لأنَّ في ترك الخروج عليهم تحصين
الفروج والأموال وحقن الدِّماء، وفي القيام عليهم تمزُّق الكلمة، وكذلك لا يجوز
القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم.
قال ابن التِّين: فأمَّا ما يأمر به السلطان من العقوبات فهل يسع المأمور به أن
يفعل ذلك من غير تثبُّت أو علم يكون عنده بوجوبها عليه؟
قال مالك: إذا كان الإمام عدلًا كعمر بن الخطاب أو عمر بن العزيز، لم تسع مخالفته،
فإن لم يكن كذلك وثبت عنده الفعل جاز.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: ما أمر به الولاة من ذلك غيرهم يسعهم أن يفعلوه فيما كان
ولايتهم إليه، وفي رواية عن محمد: لا يسع المأمور أن يفعله حتى يكون الآمر عدلًا،
وحتَّى يشهد بذلك عنده عدل سواء، إلَّا في الزِّنا فلا بدَّ من ثلاثة سواء، وروي
نحو الأول عن الشعبي.
وذكر أن رجلًا سبَّ أبا بكر، فقال أبو برزة: أضرب عنقه؟ فقال أبو بكر: لو قلت لك
ذلك كنت تفعل؟ قال: نعم، قال: ما كان ذلك لأحد بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم،
فإن أحدًا لا يلزم قوله ولا يجب طاعته في قتل مسلم إلَّا بعد أن يعلم أنَّه حقٌّ،
إلَّا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنَّه لا يأمر إلا بالحق.
قال الخطَّابي: وفيه دليل أنَّ يمين المكره غير لازمة.
بَابُ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِمَامِ وَيُتَّقَى بِهِ
ذكر حديث:
2956 - 2957 - الأعرج، عن أبي هريرة: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ». [خ 2956
- 2957]
قال:
(1/146)
وبهذا
الإسناد: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى
اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ
فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ
أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ
بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ».
قال ابن بطال: في رواية: «فَإنَّ عَلَيه مِنْهُ وِزْرًا». [95/ب].
%ج 4 ص 187%
قال ابن المنير: وجه مطابق الترجمة لقوله: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) أنَّ
معنى قوله: (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) أي من أمامه، فأطلق الوراء على الإمام؛
لأنَّهم وإن تقدَّموه في الصورة فهم أتباعه في الحقيقة، والنَّبيُّ صلى الله عليه
وسلم تقدَّم على غيره بصورة الزَّمان، لكن المتقدَّم عليه مأخوذ عليه العهد أن
يؤمن به وينصره كآحاد أمته وأتباعه، فهم في الصُّورة أمامه، وفي الحقيقة أتباعه
وخلفه. انتهى.
قد بيَّنَّا في كتاب الطهارة أنَّ البخاري مراده بهذا أن يأتي بنسخة الأعرج، فإنَّ
أوَّل حديث فيها: «نَحْنُ الآخِرُونَ».
قال الخطابي: كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة، ولا يُطيعون غير
رؤساء قبائلهم، فلما وُلِّيَ عليهم في الإسلام الأمراء أنكرته نفوسهم، وامتنع
بعضهم من الطَّاعة، وإنَّما قال لهم صلى الله عليه وسلم هذا القول ليعلِّمهم أنَّ
طاعة الأمراء مربوطة بطاعته، وأنَّ من عصاهم عصى أمره؛ ليطاوعوا الأمراء الذين
كانوا يولِّيهم عليهم.
قال: وإذا كان إنَّما وجبت طاعتهم لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخليق ألا
تكون طاعة من كان منهم مخالفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأمره واجبة.
(1/147)
قال
القرطبي: وليس هذا الأمير خاصًّا بمن باشره سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتولية الإمارة، بل هو عامٌّ في كلِّ أمير عدل للمسلمين، ويلزم منه نقيض ذلك في
المخالفة والمعصية.
قوله: (إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ) أي كالسَّاتر؛ لأنَّه يمنع العدوَّ من أذى
المسلمين، ويمنع النَّاس بعضهم من بعض.
ومعنى: (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) أي: يقاتل معه الكفَّار والبغاة وسائر أهل
الفساد.
والتَّاء في قوله: «يُتَّقَىْ بِهْ» مبدلة من الواو؛ لأنَّ أصلها من الوقاية.
قال الخطابي: وفيه كالدَّليل إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف بأنَّ من أطاعهم
في أمرٍ، ثم تبيَّن له خطؤهم فيما أمروه من ذلك معذور، وأنَّ التَّبعة على الآمر،
وهو شبيه بما قاله الشعبي.
قال: ويحتمل أن يكون أراد به جُنَّة في القتال، وفيما يكون منه في أمره دون غيره.
قال المهلب: معنى «يُتَّقَىْ بِهْ» [96/أ]
%ج 4 ص 188%
أي يرجع إليه في الرَّأي والمشورة، وغير ذلك، ممَّا لا يجب أن يقضى فيه إلا برأي
الإمام وحكمه، ويتَّقى به الخطأ في الدين، والعمل من الشُّبهات وغيرها.
وذكر بعضهم أنَّ قوله: (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) عند العلماء على الخصوص، وهو في
الإمام العدل، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة
له، إلَّا أن يرى الإمام كما رأى عثمان من القعود، فطاعتة واجبة، إلا أنَّ
الخارجين عليه إن قتلوه في غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال أو قتلوا غيره؛
فإنَّ القصاص يلزمهم، بخلاف قتلهم لأحد في حال الملاقاة للفئتين، ولذلك استجاز المسلمون
طلب دم عثمان رضي الله عنه؛ إذ لم يكن قتله عن ملاقاة.
(1/148)
وإن
كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنَّة ترك الخرج عليه، وأن
يقيموا معه الحدود، والصَّلوات، والحج، والجهاد، وتؤدَّى إليه الزَّكوات، فمن قام
عليه متأوِّلا بمذهب خالف فيه السنَّة، أو لجور، أو لاختيار إمام غيره سُمِّي
فاسقًا ظالمًا غاصبًا في خروجه لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون في ذلك من سفك
الدِّماء.
فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه، ولم يجز أن يسفكوا دماءهم في نصره، وقد
رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع عليٍّ، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى، ولم
ير علي مَن قعد عن القتال معه ذنبًا يوجب سخطه، وإن كان قد دعا بعضهم فأبوا أن
يجيبوه فعذرهم.
وقوله: (وَإِن قَالَ بِغَيرِهِ) قال الخطَّابي: (قَالَ) هنا بمعنى: حكم. يقال: قال
الرَّجل واقتال: إذا حكم.
قال: وقيل: إنَّه مشتقٌّ من القَيْل الذي ينفذ قوله وحكمه.
وذكر في: بَابِ البَيْعَةِ فِي الحَرْبِ أَنْ لاَ يَفِرُّواوَقَالَ بَعْضُهُمْ:
عَلَى المَوتِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] حديثَ:
(1/149)
2958 - نَافِعٍ، عن ابْنُ عُمَرَ، وهو ممَّا تفرَّد به البخاري: «رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ»، قال جويرية: فَسَأَلْتُ نَافِعًا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ [96/ب] %ج 4 ص 189%بَايَعَهُمْ، عَلَى المَوْتِ؟ قَالَ: «لاَ، بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ». انتهى [خ 2958] ذكر البخاري وغيره أنَّ المبايعة كانت بالحديبية على الموت، قال الإسماعيلي: هذا من قول نافع في البيعة ليس بمسند. وقال ابن المنير: وجه مطابقة الآية الكريمة للتَّرجمة قوله في أثنائها: {فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم} [الفتح:18] مبنيًّا على قوله: {فَعَلِمَ مَا فِيْ قُلُوْبِهِمْ} [الفتح:18]، فالسَّكينة الثُّبوت والطُّمأنينة في موقف الحرب، دلَّ ذلك على أنَّهم أضمروا في قلوبهم الثُّبوت، وأن لا يفرُّوا؛ وفاء بالعهد. انتهى. لقائل أن يقول: لمَّا ذكر البخاري في التَّرجمة عن بعضهم المبايعة على الموت استدلَّ على ذلك بالآية الَّتي فيها المبايعة تحت الشجرة، وكانت البيعة بالحديبية تحت الشَّجرة على الموت، وأورد الأحاديث في الباب التي تدلُّ على ذلك وعلى الصَّبر، والصبر يجمع المعاني كلَّها، وبيعة الشَّجرة إنَّما هي على الأخذ بالشدَّة، وأن لا يفروا أصلًا، ولا بدَّ من الصَّبر إمَّا إلى فتح، وإمَّا إلى موت. قال المهلَّب: ووقع في بعض الألفاظ: «ألَّا نَفِرَّ»، فهو نفس القصَّة التي وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصَّبر، وقول نافع: «عَلَى الصَّبرِ» كراهية لقول من قال بأحد الطريقين: الفتح أو الموت، فجمع نافع المعنيين في كلمة الصبر. وقوله: (فَمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ وكَانَتْ رَحْمَةً) يعني: خشية أن تعبد، أو تصير كالقبلة والمسجد، لمن لا يتمكن الإسلام من قلبه لجهل أو شبهة. وفي بعض الروايات: «خَفِيَ عَلَيهِم مَكَانُهَا فِي العَامِ المُقبِل».
(1/150)
وحديث ابن زيد: «لَا أُبَايِعُ أَحَدًا عَلَى المَوتِ» يدلُّ أنَّهم كانوا بايعوه على الموت. وأمَّا بيعة الحرَّة - حرة زهرة - فكانت سنة ثلاث وستِّين كما ذكره السُّهيلي، والَّذي عند الواقدي وأبي عبيد والحازمي وغيرهم: هي حرَّة واقم، أطم شرقي المدينة. قال الشَّاعر: فَإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ ... فَنَحْنُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَوقد أَفردَ في أمرها تصنيفًا المدائني وغيره، وسببها أنَّ عبد الله بن حنظلة وغيره من أهل المدينة وفدوا إلى يزيد فرأوا منه ما لا يصلح، فرجعوا إلى المدينة، فخلعوه وتابعوا ابن الزُّبير، فأرسل إليهم يزيدُ مسلم بن عقبة المعروف [97/أ] بمُسرف فأوقع بأهل المدينة وقعة عظيمة، قتل من وجوه النَّاس ألفًا وسبعمئة، ومن أخلاط النَّاس عشرة آلاف سوى النِّساء والصِّبيان. قال ابن السَّيِّد: والحرَّة في كلامهم: كل أرض كانت حجارة سود محرقة، والحرار في بلاد العرب كثيرة، وأشهرها ثلاث وعشرون حرَّة، قاله ياقوت. وذكرَ في: بَابِ عَزْمِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَحديثَ ابن مسعود الذي تفرَّد به البخاري وسأله رجلٌ:2964 - أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا، يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي المَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لاَ نُحْصِيهَا؟ [خ 2964] (المُؤَدِّي): يعني أداة للحرب كاملة، ولا بدَّ من الهمز؛ إذ لولاه لكان: من أددي، إذا هلك، وقال الدَّاودي: يعني قويًّا متمكِّنًا. وقوله: (نُحصِيهَا) أي: لا نطيقها من قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] قال: ويحتمل أن يريد: لا ندري هل في طاعة أو معصية؟ وقوله: (فَعَسَى أَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَيْنَا إِلَّا مَرَّةً) يقول: فافعلوا كذلك مع العدل. وقول ابن مسعود: (مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا) يريد: ما بقي، قال الله جلَّ وعزَّ: {إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 171].
(1/151)
وقال الدَّاودي: يريد: ما مضى، وقال بعض أهل اللُّغة: غَبَرَ من الأضداد، يقع لما مضى ولما بقي. وقال قوم: الماضي غابر، والباقي غبر. قال ابن الجوزي: وهو بالماضي هنا أشبه؛ لقوله: ما أذكر. و (الثَّغْبُ): الماء المستنقع في الموضع المطمئن، والجمع ثغاب، شبَّه باقي الدنيا بباقي غدير، ذهب صفوه وبقي كدره. قال القزَّاز: ثَغْبٌ وثَغَبٌ، والفتح أكثر من الإسكان. وفي «المنتهى»: بالتَّحريك أفصح، وهو موضع الماء، وقيل: هو الغدير الَّذي يكون في غلظ من الأرض، أو في ظل جبل، لا يصيبه حرُّ الشمس فيبرد ماؤه. يريد عبدُ الله: ما ذهب من خير الدنيا وبقي من شرِّ أهلها، والجمع ثُغبان وثِغبان، مثل شَيثَ وشِيثان، وحَمَلٌ وحُمْلان، ومن سكَّن قال: ثِغاب. وفي «المحكم»: هو بقيَّة الماء العذب في الأرض، وقيل: هو أخدود تحتفره المسايل من عَلُ، فإذا انحطَّت حفرت أمثال القبور والدِّيار، فيمضي السَّيل عنها ويغادرُ الماءَ فيها، فتصفقه الرِّيح فليس شيء أصفى منه ولا أبرد، فسُمِّي الماء بذلك [97/ب] %ج 4 ص 191%المكان. وقيل: كلُّ غدير ثغب، والجمع أثغاب. وقال ابن الأعرابي: الثغب ما استطيل في الأرض مما تبقى من السَّيل، إذا انحسر تبقى منه في خدٍّ من الأرض والماء بمكانه ذلك ثغب. قال: واضطُرَّ شاعرٌ إلى إسكان ثانيه فقال: وفي يدي مثلُ ماء الثَّغْب ذو شُطَبقال سيبويه: الثَّغْب، بسكون الغين: الغدير، والجمع ثغبان. وقال المهلب: هذا الحديث يدلُّ على شدة لزوم النَّاس طاعة الإمام ومن يستعمله. باب كون النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ.
(1/152)
قال المهلَّب: يريد قوله: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ»، فهو يستبشر بما نصره الله به من الرِّياح، ويرجو هلاك أعدائه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدَّبُور فقد نصر بها، فكان إذا لم يقاتل أوَّل النَّهار - وهو الوقت الذي تهبُّ فيه الرياح - أخَّر حتَّى تزول الشَّمس وتهبَّ رياح النَّصر، ويتمكَّن من القتال بوقت الإبراد وهبوب الرِّياح؛ لأنَّ الحرب كلما استحرت وحمي المقاتلون بحركتهم فيها وما حملوه من سلاحهم هبت أرواح العشي، وبرَّدت من حرِّهم، ونشَّطتهم، وخفَّفت أجسامهم، بخلاف اشتداد الحر. وقد روى التِّرمذي من حديث النُّعمان بن مقَرِّن، قال: غزوت مع النَّبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حَتَّى تطلع الشمس، وإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتَّى تزول الشمس، وإذا زالت الشمس قاتل حتَّى العصر، ثم أمسك حتَّى يصلي العصر، ثمَّ يقاتل، وكان يقال عند ذلك: تهيج رياح النَّصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم. ثم قال: وقد روي عن النعمان بسند أوصل من هذا، ثم ذكر قطعة منه، وقال: حسن صحيح.
(1/153)
بَابُ اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإِمَامَلِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور: 62] الآيَةِ. قال المهلَّب: هذه الآية أصل أن لا يبرح أحد عن السُّلطان إذا جمع النَّاس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم إلَّا بإذنه؛ فإن رأى أن يأذن له أذن، وإلا لم يأذن له. قال ابن التِّين: احتجَّ الحسن بهذه الآية على أنَّه ليس لأحد أن يذهب من الجيش حتَّى يستأذن الإمام، وهذا عند سائر الفقهاء خاصٌّ بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال قوم: لا يذهب من كان في الجمعة فأصابه أمر ولا ينصرف حَتَّى يستأذن الإمام. قال: وليس ذلك في مذاهب الفقهاء. بَابُ مَنِ اخْتَارَ الغَزْوَ بَعْدَ البِنَاءِفِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمولم يذكر حديثًا، وهو حديث مخرَّج عنده بعد، قال: «كَانَ نَبِيٌّ مِن الأَنبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِم وَسَلَامُهُ أَرَادَ الغَزوَ فَقَالَ: لَا يَتبَعُنَا مَن تَزَوَّجَ امرَأةً لَم يَبنِ بِهَا».قال ابن التِّين عن الدَّاودي: لو قال البخاريُّ باب من اختار البناء قبل الغزو كان أبين، لأنَّ الحديث الذي أشار إليه ... .قال ابن بطَّال: أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يخرج معه من لم يشغل نفسه بشيء من علائق الدُّنيا؛ ليجتهد فيما خرج له، ويثبت ولا يفر. بَابُ الجَعَائِلِ وَالحُمْلاَنِ فِي السَّبِيلِقال ابن بطال: أراد البخاري بالجعائل أن يخرج الرجل شيئًا من ماله يتطوع به في سبيل الله كما ذكر عن ابن عمر، أو يعين به من لا مال له [98/ب] %ج 4 ص 193%من الغزاة، كالفرس الذي حمل عليه عمر، فهذا حسن مرغوب فيه، وليس من باب الجعائل التي كرهها العلماء.
(1/154)
قال مالك: أكره أن يؤاجر الرَّجل نفسه أو فرسه في سبيل الله، وكره أن يعطيه الوالي الجُعل على أن يتقدم إلى الحصن، ولا نكره الجعائل لأهل العطاء؛ لأنَّ العطاء مأخوذ على هذا الوجه. قال مالك: لا بأس بالجعائل في البعوث، لم يزل النَّاس يتجاعلون عندنا بالمدينة، يجعل القاعدُ للخارج إذا كانوا من أهل ديوان واحد؛ لأنَّ عليهم سدَّ الثغور. وأصحاب أبي حنيفة يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوَّة، أو في بيت المال ما يفي بذلك، فإن لم تكن لهم قوَّة ولا مال، فلا بأس أن يجهِّز بعضهم بعضًا، على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا ينبغي أن يكون وفاقًا لقول مالك. وقد روى أيوب، عن محمد، عن ابن عمر قال: كان القاعد يمنح الغازي، فأمَّا أن يبيع الرجل غزوه فلا أدري ما هو؟ وقال الشَّافعي: لا يجوز لأحد أن يغزو بجعل يأخذه من رجل، وأردُّه إن غزا به، وإنَّما أجيزه من السُّلطان دون غيره؛ لأنَّه يغزو بشيء من حقَّه، واحتجَّ بأنَّ الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه، فلا يجوز أن يستحقَّ على غيره عوضًا. وقال ابن المنير: كلُّ من أخذ مالًا من بيت المال على عمل فإذا أهمل العمل ردَّ ما أخذ بالقضاء، وكذلك الأخذ منه على عمل لا يتأهَّل له، ولا يُلتفت إلى تخيُّل أنَّ الأصل من مال بيت المال الإباحة للمسلمين؛ لأنَّا نقول: الأخذ منه على وجهين: أحدهما: أن الآخذ مسلم فله نصيب كان على وجه. والآخر: الأخذ على عمل، فإنَّما يستحق بوفائه. الاختلاف في الأجير تقدَّم قريبًا. وقال المهلب في حديث يعلى: غَزَوْتُ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلًا، فَعَضَّ [99/أ] %ج 4 ص 194%أَحَدُهُمَا الآخَرَ، الحديث.
(1/155)
أنَّ
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أسهم للأجير، وإنَّما حاول البخاري إثبات ذلك
بالدَّليل؛ لأنَّ في الحديث جواز استئجار الحرِّ في الجهاد، وقد خاطب الله جلَّ
وعزَّ جماعة المؤمنين الأحرار بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَإِنَّ لِلهِِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فدخل الأجير في هذا الخطاب، فوجب
له سهم المجاهد القائم. قال ابن المنير: الإسهام للأجير أجنبي عن التَّرجمة. بَابُ
مَا قِيلَ فِي لِوَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
2974 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، [حَدَّثَنِي اللَّيْثُ]، حدثَنَا
عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ
القُرَظِيُّ: «أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرَادَ الحَجَّ، فَرَجَّلَ. [خ 2974]
هذا اللفظ ذكره البخاري ... .
وعند الإسماعيلي: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا عيسى بن حماد، حدثنا الليث: «فرجَّل
أحد شقي رأسه، فإذا هديه قد قلد فأهل بالحج، ولم يُرَجَّلْ شِقَّ رأسه الآخر».
وكذا ذكره البرقاني فيما ذكره الحميدي من حديث الليث.
وروى ابن عبَّاس وبريدة فيما ذكره ابن عاصم: أنَّ لواء النَّبيِّ صلى الله عليه
وسلم كان أبيض ورايته سوداء، من مرط لعائشة.
وعن البراء: كانت سوداء مربعة.
وقال جابر: دخل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة ولواؤه أبيض.
وقال مجاهد: كان لسيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أغبر.
وعند الرشاطي: الرايات إنَّما كانت بخيبر، وإنما كانت الألوية قبل.
ومن حديث سماك عند ابن أبي عاصم، عن رجل من بني عجل قَالَ: ورأيت لواءً أبيض،
والنَّاس يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن سماك عن رجل من قومه قَالَ: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء.
(1/156)
وعن
الحارث بن حسان: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رايات سود، فقلت: من هذا؟
قالوا: عمرو بن العاصي، قدم من غزاة ومعه [99/ب]
%ج 4 ص 195%
لبني سليم راية حمراء، والأنصار صفراء.
قال ابن العربي: اللِّواء ما يُعقد في طرف الرُّمح ويُلوى معه، وبذلك سُمِّي لواء،
والرَّاية: ثوب يجعل في طرف الرُّمح ويخلى بهيئة تصفقه الرِّيح، وزعم ابن الأثير:
أنَّ اللِّواء لا يمسكه إلا صاحب الجيش. انتهى.
وذكر أبو الفرج الأموي في تاريخه أنَّ عمر سُئل عن الشعراء فقال: زهير بن أبي
سُلمى أمير الشُعراء، فقيل: له: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امرِئُ
القَيسِ حَامِلُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ وَقَائِدُهُم إِلى النَّارِ». فقال: إنَّ
الرَّاية لا تكون [إلَّا] مع الأمير.
وقالت ليلى الأخيلية:
~ومُخَرَّق عنه القميص نَخَالُه وسط البيوت من الحياء سقيما
~حتَّى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللِّواء على الخميس زعيما
بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ
شَهْرٍ»
ذكر فيه حديث أبي هريرة:
2977 - «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وبَيْنَا أَنَا
نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي». [خ
2977]
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا.
ثم ذكر حديث أبي سفيان عن هرقل وقوله:
(1/157)
2978 - «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ - يعني محمدًا - إِنَّهُ ليَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ». [خ 2978] قال ابن المنيِّر: المناسبة في دخول حديث أبي سفيان في هذا الباب لهذه اللَّفظة؛ لأنَّ بين الحجاز والشام مسيرة شهر وأكثر. وعند الإسماعيلي: قال ابن شهاب: بلغني أنَّ (جَوَامِع الكَلِمِ) أنَّ الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد، أو الأمرين، أو نحو ذلك. وقال ابن المنيِّر: جوامع الكلم القرآن. وقال الخطابي: معناه إيجاز الكلام في إشباع المعاني. قال المهلب: الرُّعب شيء خصَّه الله وفضَّله به، لم يؤته أحدًا غيره. قال: ورأينا ذلك عيانًا. أخبرنا أبو محمد الأصيلي، قال: افتتحنا برشكولة، ثم صحَّ عندنا أنَّ أهل القسطنطينية ساعة بلوغهم خبرها صاروا على سورها وتحصَّنوا، وهى على أكثر من شهرين من برشكولة. قال الخطابي: وفيه دليل على أنَّ الفيء للنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء لأنَّه [100/أ] %ج 4 ص 196%وصل إليه بالنصرة، أُوتيها من قبل الرُّعب الذي أُلقي في قلوبهم منه. و (الفَيْءُ): كلُّ مال لم يُوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهو ما خلى عنه أهله وتركوه من أجل الرُّعب، وكذا ما صالحوا عليه من جزية أو خَراج من وجوه الأموال. وقوله: (تَنتَثِلُونَهَا) أي: تثيرونها من مواضعها وتستخرجونها، يقال: نثلت البئر وانتثلتها إذا استخرجت ترابها، وهو النَّثيل. وفي بعض الروايات رواية: «وأَنتُم تَرغَثُونَهَا»، أي: تستخرجون دَرَّهَا وترضعونها. وفي ذكره حديث أبي هريرة المتقدم [2989]: «عَلَى كُلِّ سُلامَى مِن النَّاسِ عَليهِ صَدَقَةٌ»، وفيه: «وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيهَا، أَو يَرفَعُ عَلَيهَا مَتَاعَه صَدَقَةٌ» الحديث، في باب: «من أخذ بالرِّكاب ونحوه»، قال ابن بطَّال: وجه المطابقة في هذا أنَّ الإعانة على الدَّابَّة يدخل فيه الأخذ بالرِّكاب وغيره.
(1/158)
زاد
ابن المنير: لا من جهة عموم صيغة الفعل فإنه مطلق، ولكن بالمعنى المساوق. انتهى.
أو يحتمل أنه أراد حديث أخذ العباس ? بركاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم حنين، والله تعالى أعلم. بَابُ السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ
العَدُوِّ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَابَعَهُ
ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ
العَدُوِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ القُرْآنَ.
(1/159)
2990 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ. [خ 2990] قال أبو عمر: قال مالك: أرى ذلك مخافة أن يناله العدو، وكذا قال يحيى الأندلسي، والقعنبي، وابن بكير، وأكثر الرُّواة، ورواه ابن وهب عن مالك فقال في آخره: «خشية أن يناله العدو»، في سياقه الحديث، لم يجعله من قول مالك، وكذلك قال عبيد الله بن عمر، وأيوب عن نافع، عن ابن عمر: «نهى أن يُسافر بالقرآن».ورواه الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم [100/ب] %ج 4 ص 197%أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ويخاف أن يناله العدو. وقال إسماعيل بن أمية وليث بن أبي سليم، عن نافع، عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُسَافِروُا بِالقُرآنِ إِلَى أَرضِ العَدُوِّ، فَإِنِّي أَخَافُ أَن يَنَالَهُ العَدُوُّ».وكذا قال شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر: وهو مرفوع صحيح. وزعم الإسماعيلي أنَّ ابن مهدي وصله عن مالك ولم يفصله. ولما ذكر ابن الجوزي لفظ: «فَإِنِّي لَا آمَنُ أَن يَنَالَهُ العَدُوُّ» ظاهر هذا الكلام أنَّ القائل: «لَا آمَنُ» أو: «أَخَافُ» هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (مَخَافَةَ أَن يَنَالَه العَدُوُّ) قال الخطيب: هو قول مالك، بيَّن ذلك أبو مصعب، وابن وهب، وابن القاسم، والمسندُ النهيُ حسب. وقال الحميدي: عن البرقاني: لم يقل (كره) إلا ابن بشر، وقد رواه جماعة عن عبيد الله، فاتفقوا على لفظ النهي. انتهى. على ما ذكره البرقاني يصح ما في بعض نسخ البخاري: «باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو».
(1/160)
وقال ابن بطَّال: هذا الثاني - يعني المبتدأ بذكره - وقع فيه غلط من الناسخ؛ لأنَّ قوله: (وَكَذَلِكَ يُرْوَى فيه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ) ولم يتقدم له ذكر شيء يشار إليه، فكذلك صار لا معنى له، والصواب فيه أن يكون حديث مالك في أول الباب، ثم يقع بعده: (وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَن ابنِ بِشْرٍ) وبعده: وتابعه ابن إسحاق. وكذا فعله أيضًا أبو نعيم في مستخرجه، ذكر حديث مالك أولًا، ثم ذكره بعده قول ابن بشر، إلى آخره. وإنما أتى بالمتابعة لأجل زيادةٍ من راو في الحديث: (مَخَافَةَ أَن يَنَالَه العَدُوُّ) مرفوعةٍ، لأنها لم تصح عنده، ولا عند مالك مرفوعة. وقال المنذري: رواه بعضهم من حديث ابن مهدي، والقعنبي، عن مالك، فأدرج هذه الزيادة في الحديث، وقد اختلف على القعنبي في هذه الزيادة؛ فمرة بيَّن أنها قول مالك، ومرة يدرجها في الحديث. ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك فلم يذكر هذه الزيادة البتة، وقد رفع هذه الكلمات أيوب، والليث، والضحاك بن عثمان الحزامي، عن نافع، عن ابن [101/ب] %ج 4 ص 198%عمر. قال: وقال بعضهم: يحتمل أن مالكا شكَّ هل هي من قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فجعل بتحريه هذه الزيادة من كلامه على التفسير، وإلا فهي صحيحة من قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية غيره. ولما ذكر الإسماعيلي قول البخاري: (وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ العَدُوِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ القُرْآنَ) قال: ما كان أغنى أبا عبد الله عن هذا الاستدلال؛ لأنه لم يقل أحد أن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في داره. وقال ابن المنير: الاستدلال بهذا على الترجمة ضعيف؛ لأنها واقعة عين، لعلهم تعلموه تلقينًا، وهو الغالب حينئذٍ.
(1/161)
قال المهلب: وفائدة قوله: (وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) إلى آخر كلامه، أراد بيان أنَّ النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ليس على العموم، ولا على كل الأحوال، وإنما هو في السرايا التي ليست مأمونة، وأما إذا كان في العسكر العظيم فيجوز؛ لأن الصحابة كان يعلم بعضُهم بعضًا القرآن؛ لأنهم لم يكونوا مستظهرين له، وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يُعَلِّمون منها، فاستدل البخاري أنهم في تعلمهم كان منهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز لهم تعلمه في أرض العدو بكتاب وغير كتاب كان فيه إباحة حمله إلى أرض العدو، إذا كان عسكرًا مأمونًا، وهو قول أبي حنيفة. ولم يفرق مالك في النَّهي بين العسكر الكبير والصَّغير، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والأول أصح. قال عياض: وكره مالك وغيره معاملة الكتابي بالدراهم والدنانير؛ لأن فيها اسم الله جلَّ وعزَّ. وذَكره.
(1/162)
وقوله في: بَابِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ الحَرْبِأن حديث مسيره إلى خيبر المذكور في كتاب الصلاة:2991 - تَابَعَهُ عَليٌّ عَن سُفيَانَ - يعني تابع المسندي - (رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيهِ). [خ 2991] أسنده في علامات النبوة عن سفيان. قال ابن بطال: وقد روى سفيان عن أيوب في هذا الحديث: حالوا إلى الحصن، أي تحولوا إليه، يقال: حُلت عن المكان: إذا تحولت عنه، ومثله: أَحلت عنه. وحديث أبي موسى:2992 - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا» الحديث. [خ 2992] خرَّجه [101/ب] %ج 4 ص 199%الستة في كتبهم. وشيخ البخاري فيه الفريابي، نص عليه أبو نعيم الحافظ، وكذا الذي روى عنه أيضًا حديث جابر. وسفيان: هو الثوري. وأبو عبد الله شيخُه الراوي عن عبد العزيز بن أبي سلمة: فذكر ابن مسعود الدمشقي أنَّ النَّاس رووا هذا الحديث عن عبد الله بن صالح، وقال الجياني: نسبه ابن السكن فقال: ثنا عبد الله بن يوسف. وقوله: (ارْبَعُوْا) بكسر الهمزة، وسكون الراء، وفتح الباء الموحدة، قال الأزهري عن يعقوب: رَبَع الرجل يَربع: إذا وقف وتحبَّس. وقال الليث: يقال: اربع على نفسك، واربع على طِلْعك، واربع عليك: كل ذلك واحد، ومعناه: انتظر. وقال الخطابي: يريد: أمسكوا عن الجهر، وَقِفُوا عنه. وقال ابن قُرْقُول: اعطفوا عليها بالرفق بها والكفِّ عن الشدة. و (أَوْفَى): علا وأشرف. و (الثَّنِيَّة): أعلى الجبل، وهو ما يرى منه على البعد، وقال ابن فارس: والثنية من الأرض كالمرتفع، وقال الداودي: هي الطرق التي في الجبال. و (الفَدْفَد): الأرض الغليظة ذات الحصى، لا تزال الشمس تَدف فيها، ذكره القزاز. وقال ابن فارس: الأرض المستوية. وقال الخطابي: رابية مشرفة. وفي الحديث: كراهية رفع الصوت بالدعاء، وهو قول عامة السَّلف. قال محمد بن جرير: من الصحابة والتابعين.
(1/163)
وروي
من حديث هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُباد: «كان الصحابة يكرهون رفع
الصوت عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز».وفي لفظ: «ورفع الأيدي عند الدعاء
والقتال».وقال سعيد بن المسيب: ثلاث مما أحدث الناس: رفع الصوت عند الدعاء، ورفع
الأيدي، واختصار السجود. ورأى مجاهد رجلًا يرفع صوته بالدعاء، فحصبه. وقوله في
حديث أبي موسى:2996 - «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ
مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا». [خ 2996] قال ابن بطال: ليس هذا على
العموم [102/أ] %ج 4 ص 200%وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح، فأما من
لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل في معنى هذا الحديث. قال: ومما يدل أن
الحديث في النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن
عمرو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ العَبدَ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُ
حَسَنَةٌ مِن العِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ قِيلَ لِلمَلَكِ: اكتُب لَهُ مِثلَ
عَمَلِهِ».قال: قوله: «إِنَّ العَبدَ إِذَا كَانَ على طَرِيقُة حَسَنَةٍ مِن
العِبَادَةِ» لا يقال إلا في النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدي الفرائض، وكما قال صلى
الله عليه وسلم: «مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلاَةٌ بِاللَّيلٍ، يَغْلِبُهُ
عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرَ صَلاَتِهِ».قال ابن المنير:
هذا تحجير واسع؛ بل يدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عنه
فعلًا؛ لأنه قام به عزمًا أن لو كان صحيحًا، حتَّى صلاة الجالس في الفرض لمرضه
يكتب له بها أجر صلاة القائم. وقال ابن التين: قيل: إذا تكلف المريض أو المسافر
بأقل العمل كان أفضل من عمله وهو صحيح مقيم.
بَابُ السَّيْرِ وَحْدَهُذكر في حديث الزبير وقد تقدم، ثم قال:
(1/164)
2998 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حدثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وحدثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حدثَنَا عَاصِمُ، عَن أَبِيهِ، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ». [خ 2998] زعم خلف أن البخاري لم يروه عن أبي نعيم (حَدَّثَنَا)، وإنما قال: «وقال أبو نعيم».ثم قال: لم يقل - يعني البخاري- في حديث أبي نعيم: حدثَنَا، وإنما قال: قال أبو نعيم، عن عاصم. وتبعه المزي حذو القذة بالقذة، وهو كما ترى فيما رأيت من كتاب الصحيح من رواية أبي الوقت وغيره: حدثنا أبو نعيم، وكذا ذكره أبو نعيم في مستخرجه. وأما تخريج الحاكم له من غير زيادة، وقوله فيه: صحيح على شرط مسلم، فغير جيد. وقول الترمذي: لا يعرفه إلا بهذا الوجه من حديث عاصم بن محمد، فكذلك أيضًا؛ لأن النسائي رواه عن المغيرة بن عبد الرحمن [102/ب] عن محمد بن ربيعة، عن عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر، به. قال ابن التين: (الوَحْدَةُ) ضبطت بفتح الواو وكسرها، وأنكر بعض أهل اللغة الكسر، وقال ابن قُرْقُول: «وَحدَكَ» منصوب بكل حال عند أكثر أهل الكوفة على الظرف، وعند البصريين على المصدر. أي: توحد وحده. قال: وكسرته العرب في ثلاث مواضع: عُيير وحدِه، وجحيش وحدِه، ونسيج وحدِه. وعن أبي علي: رجل وَحَد، ووَحِد، بفتح الحاء وكسرها، ووَحْد، ووَحِيد، ومُتوحِّد، والأنثى: وَحْدَة، وأنشد في «التذكرة»: كالبيدانة الوَحدة. ووَحِدَ، ووَحُدَ، بكسر الحاء وضمها وَحَادة، ووَحِدَة، ووَحْدًا، وتوحَّد كله: بقي وحده، وعن كراع: الوحَد: الذي ينزل وحده. بَابُ السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِوقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى المَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعَجَلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ».
(1/165)
هذا
التعليق تقدم في كتاب الحج مسندًا من حديث عباس بن سهل بن سعد عنه، قال: «خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك» الحديث. والأحاديث التي بعده تقدمت في
الحج
بَابُ الجِهَادِ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ
3004 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حدَّثَنَا شُعْبَةُ، حدَّثَنَا حَبِيبُ بنُ أَبِي
ثَابِتٍ، سَمِعْتُ أَبَا العَبَّاسِ الشَّاعِرَ، وَكَانَ - لاَ يُتَّهَمُ فِي
حَدِيثِهِ - قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ:
«أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ». [خ 3004]
ليس هذا الحديث مطابقا للترجمة؛ لأنه ليس فيه استئذان ولا غيره فينظر، اللهم إلا
أن تكون الترجمة مفهومة من الحديث أو مستنبطة مما نذكره بعد من عند الجوزي.
وعند ابن حبان في «صحيحه»: «وكان قد أسلم».
وفيه: «وأبيا أن يخرجا معه».
وعند ابن أبي عاصم بسند صحيح: بينا نحن [103/أ]
%ج 4 ص 202%
عند النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة بين مكة والمدينة إذ جاء أعرابي من أخلق
الرجال وأشده، فقال: يا رسول الله: إني أحب أن أكون معك، وأجد بي قوة، وأحب أن
أقاتل العدو معك، وأقتل بين يديك. فقال: «هَل لَكَ مِن وَالِدَينِ؟» قال: نعم،
قال: «انطَلِق فَالحَق بِهِمَا وَبِرَّهُمَا، وَاشكُرِ للهِ وَلَهُمَا»، قال: إني
أجد فيَّ قوة ونشاطا لقتال العدو، قال: «انطَلِق فَالحَق بِهِمَا»، فأدبر، فجعلنا
نعْجب من خلقه وجسمه.
وعند أبي الفضل الجوزي: يا رسول الله إني أتيت إليك وتركت أبوي يبكيان، فقال:
«ارجِع إِلَيهِمَا فَأَضحِكهُمَا كَمَا أَبكَيتَهُمَا».
(1/166)
ومن
حديث رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، جاءت امرأة بابن لها إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابني يريد الجهاد، وأنا
أمنعه، فقال صلى الله عليه وسلم: «الزَم أُمَّكَ حَتَّى تَأذَنَ لَكَ، أَو
يَأتِهَا المَوتُ».
وعند أبي داود - بسند لا بأس به على رأي الحاكم وغيره - عن أبي سعيد الخدري: أنَّ
رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: «هَل لَكَ أَحَدٌ
بِاليَمَنِ؟» قال: أبواي، فقال: «أَذِنَا لَكَ؟» قال: لا. قال: «ارجِع إِلَيهِمَا
فَاستَأذِنهُمَا، فِإِن أَذِنَا لَكَ فَجَاهِد، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا».
وعند أبي عبد الرحمن النسائي: عن عبد الرحمن بن جاهمة، عن أبيه، أن رجلًا جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت الغزو وجئت أستشيرك، فقال:
«هَل لَكَ مِن أُمٍّ؟» قال: نعم، قال: «فَالزَمهَا، فَإِنَّ الجَنَّةَ عِندَ
رِجلِهَا».
قال ابن حزم في «مراتب الإجماع»: إن كان أبواه يضيعان بخروجه ففرضه ساقط عنه
إجماعًا، وإن كان ممن لا يضيع فذهب الجمهور إلى أنه يستأذنهما، فإن أذنا خرج، وإلا
فلا يخرج، روي ذلك عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
وقال ابن المنير: والأجداد آباء، والجدات أمهات.
وقال ابن المنير: هذا فيما كان فرضًا على الكفاية، فإذا تعين بتركه معصية على كل
حر وعبد، ولا يستأذن الحر أبويه، ولا العبد سيده.
وقول المهلب - يحمل على أن المسلمين كانوا مستظهرين على عدوهم، أو رأى به ضعفًا لم
يقدر على نفاذه [103/ب]
%ج 4 ص 203%
في الجهاد فقدمه إلى بر الوالدين - فيه نظر؛ لما ذكرناه من عند ابن أبي عاصم، وروي
عن أميري المؤمنين عمر وعثمان: من أراد الغزو وأمرته أمه بالجلوس فعليه أن يجلس.
وبالجلوس قال الحسن بن أبي الحسن، وممن رأى أن لا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه:
مالك، والأوزاعي، والشافعي، والثوري، وأحمد، وأكثر أهل العلم.
(1/167)
وعند
النووي: هذا في التطوع، أما إذا وجب عليه فلا حاجة إلى إذنهما، وإن منعاه عصاهما،
هذا إذا كانا مسلمين، وإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه، فرضًا كان أو
نفلًا، وطاعتهما حينئذٍ معصية، وعن الثوري: هما كالمسلمَين.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذا كله بعد الفتح، وسقوط فرض الهجرة والجهاد، وظهور
الدين، أو كان ذلك من الأعراب، وغير من كان تجب عليه الهجرة، فرجَّح بر الوالدين
على الجهاد.
ويندرج في هذا: المِدْيان، ذكر ابن المناصف عن الشافعي: ليس له أن يغزو إلا بإذن
صاحب الدَّين؛ سواء كان مسلمًا أو غيره.
وفرَّق مالك بين أن يجد قضاء أو لا يجد، فإن كان غريمًا فلم يرَ بجهاده بأسًا، وإن
لم يستأذن غريمه، فإن كان مليئًا وأوصى بدينه إذا حل أُعطي دينُه فلا يستأذنه.
وقال الأوزاعي: له أن يخرج من غير إذن صاحب الدين مطلقًا.
بَابُ مَا قِيلَ فِي الجَرَسِ وَنَحْوِهِ فِي أَعْنَاقِ الإِبِلِ
(1/168)
3005 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِي مَبِيتِهِمْ - فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا أَنْ: «لاَ يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلاَدَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ». [خ 3005] قال بعض العلماء: ليس في الحديث ما يدل على التبويب؛ لأنه لا ذكر فيه للجرس، وتُمحِّل له بقول الخطابي: أمر بقطع القلائد؛ لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس. قال: لعل البخاري استنبطه من هذا وهو لا شيء؛ لأن الحديث نفسه [104/أ] %ج 4 ص 204%فيه ذكر الجرس، والبخاري على عادته يحيل على أطراف الحديث في التبويب. بيانه ما في «الموطآت» للدارقطني من رواية عثمان بن عمر، عن مالك، عن عبد الله، عن عباد بن أبي بشير الساعدي، وفيه: «وَلَا جَرَسَ فِي عُنُقِ بَعِيرٍ إِلَّا قُطِعَ».قال ابن عبد البر: في رواية روح بن عبادة، عن مالك: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا مولاه. قال أبو عمر: وهو عندي ابن حارثة. انتهى. فلا أدري لمَ لم يذكر البخاري ما بوَّب له، ولم يذكر الرسول، وكلاهما قطعة من حديث مالك الذي رواه البخاري عنه. وعند أبي داود: عن أبي وهب الجيشاني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اربِطُوا الخَيلَ وَقَلِّدُوهَا، وَلَا تُقلِّدُوهَا الأَوتَارَ».قال وكيع: ليس هذا من قلائد الإبل المذكورة، ومعنى هذا: لا يكون لتركبوها في الفتنة، فإنكم إذا فعلتم تعلقت بكم الأوتار غالبًا، ويكون في خروجه ذلك ظالمًا.
(1/169)
ومن هذا حديث رُويفِع عند أبي داود: «يَا رُوَيفِع: أَبلِغ النَّاسَ أَنَّه مَن عَقَدَ لِحيَتَه، أَو تَقَلَّدَ وَتَرًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنهُ بَرِيءٌ».وعند ابن حبان، عن أنس: أمر بقطع الأجراس. وفي حديث عائشة: «تُقطَعَ مِن أَعنَاقِ الإِبلِ يَومَ بَدرٍ».قال أبو عمر: لا بأس أن تقلد الخيل قلائد الصوف الملون، إذا لم يكن ذلك خوف نزول العين. قال ابن الجوزي: ربما صحَّفَ من لا علم له بالحديث، فقال: من وبر، بباء موحدة، وإنما هي مثناة من فوق، والمراد بها: أوتار القسي، كانوا يقلدونها لئلا تصيبها العين، فأمرهم بقطعها؛ ليُعْلمهم أن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئًا. هذا قول مالك بن أنس، وسئل عن القلادة أيضًا فقال: ما علمت بكراهيته إلا في الوتر. وقيل: نهى عن ذلك لئلا تختنق عند شدة الركض، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني. وقال أبو عبيد بن سلام: نهى عن ذلك لأن الدواب تتأذى بذلك ويضيِّق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فتختنق به، أو تمتنع من السير كما جرى لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتبست. [104/ب] وقال النضر فيه كما قال وكيع في الفرس؛ أي: لا تطلبوا الوتر، قال القرطبي: وهو بعيد لفظًا ومعنىً. وقد اختلف العلماء في تقليد البعير وغيره من الحيوان والإنسان ما ليس بتعاويذ قرآنية مخافة العين، فمنهم من نهى عنه ومنعه قبل الحاجة، وأجازه عند الحاجة، تمسكًا برواية عقبة بن عامر من حديث أبي داود يرفعه: «مَن عَلَّق تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَه، وَمَن عَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللهُ لَه».ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، والنهي عن الجرس؛ لأن الملائكة لا تصحب رفقة هو فيها، هذا قول الأكثرين. وزعم ابن حبان أن ذلك مقصور على رفقة فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/170)
قالوا: لأن الجرس شبيه بالناقوس، أو لأنه من التعاليق المنهي عنها، وقيل: كره لصوته، وهو كراهة تنزيه، وكره بعضهم الجرس الكبير دون الصغير. وهو بفتح الراء رواه الأكثرون، ونقل عياض عن أبي بحر سكونها، وهو اسم للصوت وأصله: الصوت الخفي. بَابُ الجَاسُوسِوَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ذكر البخاري في غير هذا الباب إثر حديث علي المذكور: قَالَ عَمرٌو بنُ دِينَار: فَنَزَلَت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية. قَالَ سُفيَانُ: فَلَا أَدرِي أَذَاكَ فِي الحَدِيثِ أَم مِن عَمرِو بنِ دِينَار؟ وروي عن الواحدي أنه قال: قال جماعة من المفسرين: نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة؛ وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من مكة، وهو يتجهز لفتح مكة شرَّفها الله تعالى، فقال: «مَا جَاءَ بِكِ؟» قالت: الحاجة، قال: «فَأَينَ أَنتِ عَن شَبَابِ أَهلِ مَكَّةَ؟» - وكانت مغنية - قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فكساها وحمَّلها، وأتاها حاطب، فكتب معها كتابًا إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير، وكتب في الكتاب: إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم [105/أ] يريدكم فخذوا حذركم. فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم بخبرها، فبعث عليًا، وعمارًا، وعمر، والزبير، وطلحة، والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد، وكانوا كلهم فرسانًا، وقال: «انطَلِقُوا حَتَّى تَأتُوا رَوضَةَ خَاخٍ؛ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابُ إِلِى الُمشرِكِينَ، فَخُذُوهُ وَخَلُّوا سَبِيلَهَا؛ فِإِن لَم تَدفَعهُ إِلَيكُم فَاضرِبُوا عُنُقَهَا. .. » الحديث.
(1/171)
وعند
ابن أبي حاتم من حديث الحارث، عن علي: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يأتي مكة أسرَّ إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة، منهم حاطب، وأفشى في الناس أنه
يريد خيبر.
3007 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيًّا: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا
وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ وقَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ
خَاخٍ» الحديث بطوله. [خ 3007]
وفي كتاب الحميدي: ذكر البرقاني أن نحو هذا الحديث رواه سماك، عن ابن عباس، قال:
قال عمر: كتب حاطب إلى أهل مكة .. الحديث، وزعم أنه في مسلم.
قال الحميدي: وليس له عند أبي مسعود ولا خلف ذكر.
وهذه الظعينة اسمها: سارة كما سلف، وقيل أم سارة، وقيل: كنود مولاة لقريش، وقيل:
لعمران بن صيفي، وقيل: كانت من مزينة من أهل العرج، وكان حاطب كتب إلى ثلاثة:
صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل.
قال الحاكم في «الإكليل»: وكانت مغنية نوَّاحة، تغني بهجاء سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأمر بها يوم الفتح فقتلت.
وذكرها أبو نعيم وابن منده في جملة الصحابيات، ووقع في كتاب «الأحكام» للقاضي
إسماعيل في قصة حاطب: قال للذين أرسلهم لها: «إِنَّ بِهَا امرَأَةً مِن
المُسلِمِينَ مَعَهَا كِتَابٌ إِلَى المُشرِكِينَ»، وأنهم لما أرادوا أن يخلعوا
ثيابها قالت: أَوَلَستُم مسلمين؟ انتهى.
ويشكل بأنَّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة ذكرها في المستثنيين
بالقتل، وتقدم قول الحاكم فيها، يؤيده ما ذكره أبو عبيد البكري: «فَإِنَّ بِهَا
امرَأَةً مِن المُشرِكِينَ».
(1/172)
وفي
«الأسباب» للواحدي: لما قدمت المدينة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم [105/ب]:
%ج 4 ص 207%
«مُسلِمَةَ جِئتِ؟» قالت: لا. قال: «فَمَا جَاءَ بِكِ؟» قالت: احتجت. قال:
«فَأَينَ أَنتِ مِن شَبَابِ قُرَيشٍ؟» الحديث.
وقال السهيلي: في الكتاب: أما بعد فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه
إليكم في جيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره
الله تعالى بكم، وأنجز له موعده فيكم؛ فإن الله وليه وناصره.
وفي «تفسير ابن سلام» كان فيه: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نفر إما إليكم،
وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر.
وقيل: كان فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه
يريد غيركم، فقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم.
وقال القرطبي: ويحكى أنه كان في الكتاب يفخم أمر جيش سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأنهم لا طاقة لهم به.
قال السهيلي: (خَاخ) بخاءين معجمتين. وكان هشيم يصحفها فيقول: حاج: بحاء وجيم.
وذكر البخاري أن أبا عوانة كان يقولها كما يقوله هشيم.
وفي قوله: (أَو لَتُلقِينَ الثِّيَاب) قال ابن العربي: فيه جواز تجريد العورة عن
السترة عند الحاجة.
و (العِقَاصُ): بعين مكسورة، هو الشعر المعقوص، وهو المضفور، وهو جمع عَقيصة
وعقصة، والعَقص ليُّ خصلات الشعر بعضه على بعض.
وعند المنذري: هو ليُّ الشعر على الرأس ويدخل أطرافه في أصوله.
قال: ويقال: هي التي تتخذ من شعرها مثل الرمانة.
قال: وقيل: العقاص هو: الخيط الذي يجمع فيه أطراف الذوائب.
وقول حاطب: (وَكَانَ مَن مَعَكَ) قال القرطبي: هكذا الرواية الصحيحة، وعند مسلم:
«ممن معك»، بزيادة «من»، والصواب: إسقاطها؛ لأن «مِن» لا تزاد في الواجب عند
البصريين، وأجاز ذلك بعض الكوفيين.
(1/173)
وإنما
أطلق عمر على حاطب اسم النفاق؛ لأنه والى كفار قريش وباطنهم، وإنما فعل حاطب ذلك
متأولًا في غير حرب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الله جلَّ وعزَّ
صدق نيته فنجاه من ذلك.
وذكر الجاحظ في كتابه «العمدة»: قال النظام: فقال عمر: دعني يا رسول الله اضرب
عنقه -يعني: حاطبًا- فقد كفر.
قال ابن الباقلاني: في نقضه هذا [106/أ]
%ج 4 ص 208%
الكتاب: هذه اللفظة ليست معروفة. انتهى.
وسيأتي خلاف قوله بعدُ.
قوله: (وَمَا يُدرِيكَ؟) أي: يعلمك، ولعله للترجي، وهو هنا محقق بدليل ما ذكر في
آل عمران والأنفال.
وقوله: (اعمَلُوا مَا شِئتُم) قال ابن الجوزي: ليس هو على الاستقبال، وإنما هو
للماضي، تقديره: اعملوا ما شئتم، أيُّ عمل كان لكم فقد غُفر، ويدل على هذا شيئان:
أحدهما: أنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر. والثاني: أنه كن يكون إطلاقًا في
الذنوب، ولا وجه لذلك، ويوضحه أن القوم خافوا من العقوبة فيما بعد؛ فلهذا كان عمر
يقول: يا حذيفة أنا منهم؟
قال القرطبي: هذا التأويل وإن كان حسنًا فإن فيه بعدًا؛ لأنَّ (اعمَلُوا) صيغة
أمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضع العرب قط صيغة الأمر موضع الماضي، لا بقرينة،
ولا بغير قرينة، كذا نص عليه النحويون، وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة إنما
هي بمعنى الإنشاء والابتداء لا بمعنى الماضي.
واستدلاله عليه بقوله: «قَد غَفَرتُ لَكُم» ليس بصحيح؛ لأنَّ «اعمَلُوا مَا
شِئتُم» يحمل على صدور الفعل، ولا يصح أن يكون بمعنى الماضي، فيتعين حمله على
الإباحة والإطلاق، وحينئذ يكون خطاب إنشاء، فيكون كقول القائل: أنت وكيلي وقد جعلت
لك التصرف كيف شئت، فإنما يقتضي إطلاق التصرف من وقت التوكيل، لا قبل ذلك.
(1/174)
وقد
ظهر لي وجه آخر، وهو: أنَّ هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف تضمَّن أنَّ هؤلاء القوم
حصل لهم حال غُفرت لهم بها ذنوبهم السَّالفة، وتأهلوا لأن يغفر لهم ذنوب مستأنفة
إن وقعت منهم، لا أنهم نُجِّزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة؛ بل لهم
صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء ما وجودُ ذلك
الشيء؛ إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت له أهليتها، وكذلك
القضاء وغيره، وعلى هذا فلا يأمن من حصلت له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما
عساه أن يقع منه من الذنوب. انتهى.
لقائل أن يقول: كل من كان مسلمًا متأهل للمغفرة فلا خصوصية إذن لهؤلاء على هذا،
قال ثم إن الله جلَّ وعزَّ [106/ب]
أظهر صدق رسوله صلى الله عليه وسلم للعيان في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنهم
لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن تُوفوا رضي الله عنهم، ومن وقع منهم في أمر
ما، أو مخالفة لجأ إلى التوبة ولازمها حتى لقي الله جلَّ وعزَّ عليها؛ يَعْلم ذلك
قطعًا مِن حالهم مَن طالع سيرهم وأخبارهم.
وذكر عياض أنَّ الإجماع على أنَّ من ثبت عليه حد أنه يقام عليه، وقد ضرب سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحًا الحد.
وفي الحديث: هتك ستر الجواسيس، نساءً كنَّ أو رجالًا، إذا كان في ذلك مصلحة، أو
كان في الستر مفسدة.
قال أبو الفرج: وقد دلَّ هذا الحديث على حكم المتأوِّل في استباحة المحظور خلاف
حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل، ودلَّ على أنَّ من أتى محظورًا، أو ادَّعى في
ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك، وإن كان غالب الظن خلافه.
(1/175)
وقول
عمر - في رواية - أنَّه كفر، يحتمل أن يكون تأول قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، أو يكون: أراد كفر النعمة، أو يكون الراوي روى
بالمعنى؛ فإنه لمَّا سمع: قول عمر: نافق. قال: كَفَرَ؛ لأنَّ النِّفاق كفرٌ عند
جماعة.
قال القرطبي: وفيه أنَّ ارتكاب الكبيرة لا يكون كفرًا.
ومذهب الشافعي وطائفة: الجاسوس المسلم يعزَّر ولا يجوز قتله، وعند أبي حنيفة
وغيره: يُوجع عقوبة ويطال حبسه، وقال بعض المالكية: يقتل إلا أن يتوب.
وقال النووي: وقال بعضهم: يقتل إذا كانت عادته كذلك وإن تاب، وعن مالك يجتهد فيه
الإمام.
قال الأوزاعي: فإن كان كافرًا يكون ناقضًا للعهد، وإن كان مسلمًا يوجع عقوبة.
وقال أصبغ: الجاسوس الحربي يقتل، والمسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على
الإسلام فيقتلان.
وعن الطبري: كان هذا من حاطب هفوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما روته عمرة، عن
عائشة: «أَقِيلُوا ذَوِي الهَيئَاتِ عَثَرَاتِهِم».
قال: فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ صفحه عنه كان لما علم الله من صدقه، فلا يجوز لمن بعد
الرسول [107/أ]
صلى الله عليه وسلم أن يعلم، فقد ظنَّ خطأ؛ لأنَّ أحكام الله جلَّ وعزَّ في عباده
إنما تجري على ما ظهر منهم، لا بما بطن، وقد روي مثل ذلك عن الأئمة. انتهى.
استدلاله بحديث عمرة يخدش فيه آخره حيث قال: «إِلَّا حَدًّا مِن حُدُودِ اللهِ
تَعَالَى».
واشتقاق الجاسوس تقدَّم أوَّل الكتاب.
و (الكِسْوَةُ): قال ابن التين: بكسر الكاف وضمها.
و (حُمْرُ النَّعَم): يريد الإبل خاصة، وهي أنفسها وخيارها، قال الهروي: يذكر
ويؤنث، وعن الفرَّاء: لا يؤنث.
وأما (الأَنعَامُ): فالإبل والبقر والغنم، قال الجوهري: الأنعام تذكر وتؤنث.
بَابُ الأُسَارَى فِي السَّلاَسِلِ
(1/176)
3010
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حدَّثَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم، قَالَ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فِي
السَّلاَسِلِ». [خ 3010]
وعند أبي داود: «عَجِبَ رَبُّنَا مِن قَومٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ
بِالسَّلَاسِل».
قال ابن المنير: إن كان المراد حقيقة وضع السلاسل في الأعناق فالترجمة مطابقة، وإن
كان المراد المجاز عن الإكراه فليست مطابقة.
قال المهلب: يعني أنهم يدخلون في الإسلام مكرهين، وسُمي الإسلام باسم الجنة لأنه
سببها، ومن دخله دخل الجنة، وقد جاء ها المعنى في البخاري في تفسير سورة آل عمران
من حديث أبي هريرة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل
عمران:110]، قال: «خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلاَسِلِ
فِي أَعْنَاقِهِمْ، حَتَّى يَدْخُلُون فِي الإِسْلاَمِ».
قال ابن الجوزي: ويحتمل أنهم لو بقوا على كراهيتهم للإسلام لم يدخلوا الجنة؛ لأنهم
قُيدوا مكرهين، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعًا، وكان السبب الإكراه في الأول.
وأوضح أبو داود هذا المعنى أيضًا؛ فإنه لما ذكر حديث أبي هريرة المُبتدأ به في
«باب الأسير يوثق» ذكر معه حديث ثُمامة بن أثال والحارث بن البرصاء، وأنهما
أُوثِقا وجيء بهما إلى سيدنا [107/ب]
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بَابُ فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ
(1/177)
3011
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثَنَا سُفْيَانُ، حدَّثَنَا
صَالِحُ بْنُ حَيٍّ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَاهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا
فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا
فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الكِتَابِ، كَانَ
مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَهُ أَجْرَانِ،
وَالعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ». [خ 3011]
قال المهلب: فيه: أنَّ من أحسن في معنيين في أي عمل كان من أعمال البر فله أجران،
والله يضاعف لمن يشاء، وجاء النص في هؤلاء الثلاثة ليستدل بذلك في سائر الناس
وسائر الأعمال.
قال الداودي في قوله: (وَمُؤمِنُ أَهلِ الكِتَابِ) يعني حين بُعث سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو على دين عيسى صلى الله عليه وسلم، وأما اليهود وغيرهم ممن
كان على غير الإسلام فإنما وُضع عنه ما كان عليه من كفر، وقوي ثواب ما كان يفعله
لله جلَّ وعزَّ في حال كفره كما قال لحكيم بن حزام: «أَسلَمتَ عَلَى مَا أَسلَفتَ
مِن خَيرٍ».
قال ابن التين: هذا الذي قاله إنما يصح لو كان عيسى صلى الله عليه وسلم أرسل إلى
سائر الأمم، لكن من كذب به كان كافرًا، فإن يكن أحدٌ لم يكذب به، أو لم يعلم
برسالته، وبقي على دينه يهوديًّا أو غيره فهو له أجران إذا أسلم، وهو معنى قوله
تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:
54].
(1/178)
وقال
ابن المنير: إن قيل: مؤمن من أهل الكتاب لا بد أن يكون مؤمنًا بنبيناصلى الله عليه
وسلم للعهد المتقدم والميثاق، فإذا بعث صلى الله عليه وسلم فإيمانه الأول يستمر،
فكيف يُعدَّدُ حتَّى يتعدد أجره؟
قال: إيمانه الأول بأن الموصوف كذا رسول، وثانيًا: أن محمدًا هو الموصوف وهما
معلومان متباينان.
وسيأتي طرف منه في النكاح إن شاء الله تعالى.
بَابُ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ، فَيُصَابُ الوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ
[108/أ]
%ج 4 ص 212%
{بَيَاتًا} [الأعراف: 4]: «لَيْلًا»
3012 - 3013 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثَنَا سُفْيَانُ،
حدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ
الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، وَسُئِلَ: ْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنَ المُشْرِكِينَ
يُبَيَّتُونَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ: «هُمْ
مِنْهُمْ». [خ 3012 - 3013]
قال سُفيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ، قَالَ: «هُمْ مِنْهُمْ»، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ
عَمْرٌو: «هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» انتهى.
بيَّن الإسماعيلي هذا بقوله: قال سفيان: وكان عمرو حَدَّثَنَاه أولًا عن الزهري
قبل أن يلقاه فقال: «هُم مِن آبَائِهِم»، فلما أخبرنا الزهري تفقدته فلم يقل: «هُم
مِن آبَائِهِم»، قال: «هُم مِنهُم».
ورواه الطبراني من حديث حماد بن زيد، عن عمرو، عن ابن عباس بلفظ: «هُم مِن
آبَائِهِم» لم يذكر الزهري، ولا عبيد الله، ولا الصعب، رواه عن علي بن عبد العزيز،
حدثنا حجاج بن منهال وعارم عنه.
وهذا الحديث خرَّجه الستة في كتبهم.
(1/179)
وقال
ابن المنير: العجب لزيادته في الترجمة «نِيَامًا» وما هو في الحديث إلا ضمنًا؛ لأن
الغالب أنهم إذا وقع بهم في الليل لم يخلوا من نائم، وما الحاجة إلى كونهم نيامًا،
أو أيقاظًا، وهما سواء، إلا أن قتلهم نيامًا أدخل في الغيلة؛ فنبه على جوازها في
مثل هذا. انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إنَّه قوَّل البخاري ما لم يقله، والذي رأيت في عامة ما رأيت من
نسخ كتاب الصحيح: (بَيَاتًا) بباء موحدة، وبعد الألف تاء مثناة من فوق، يوضحه ما
في بعض النسخ من قول البخاري: «لنُبيِّتنَّه بُيِّتَ لَيلًا».
ولما ذكره ابن قُرْقُول قال: بيَّته ليلًا من البيات، وهو الطَّرْق إغفالًا من
الليل، وكأنَّ ابن المنير وقعت له نسخة مصحَّفة، أو تصحَّف عليه بياتًا بنيام، على
أنَّ تفسير البخاري الذي ذكرناه يوضح مراده، وأنَّ غيره غير جيد.
وأما ما ذكره في إثر الحديث: قال الصَّعب: وسمعته يقول: «لَا حِمَى إِلَّا للهِ
وَرَسُولِهِ» يشبه أن يكون شبيهًا بما روي عن أبي هريرة: «نَحنُ الآخِرُونَ
السَّابِقُونَ»، ثم وصله بحديث آخر ليس فيه شيء من معناه لأنهم [108/ب]
%ج 4 ص 213%
كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها.
وزعم بعضهم أنَّ هذا يخالف ما ذكره البخاري بعدُ عن ابن عمر: «نَهَى عَن قَتلِ
النِّسَاءِ وَالصِّبيَانِ». وما في مسلم عن بُريدة: «اغزُوا، وَلَا تَقتُلُوا
وَلِيدًا، وَلَا تُمَثِّلُوا».
وعن الترمذي، عن سمرة: «اقتُلُوا شُيُوخَ المُشرِكِينَ وَاستَبقُوا شَرخَهُم»
وقال: حسن صحيح غريب.
وعند النسائي عن ابن عباس: أنَّ رسول الله لم يقتلهم، فلا تقتلهم، يقوله لنجدة
الحروري.
وفي «الخلعيات» عن عبيد، عن أبي سعيد: «نَهَى عَن قَتلِ النِّسَاءِ
وَالصِّبيَانِ»، وقال: «هُمَا لِمَن غَلَبَ».
وفي «سير ابن إسحاق» وكتاب ابن عساكر عن أبي .. بن مالك: نهى النبيُّ صلى الله
عليه وسلم الذين قتلوا ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان.
(1/180)
وبعموم
هذه الأحاديث تمسَّك أبو حنيفة في منع قتل المرتدة، وبما رواه ابن أبي عاصم من
حديث خالد الفزر عن أنس: «لَا تَقتُلُوا شَيخًا فَانِيًا، وَلَا طِفلًا صَغِيرًا،
وَلَا امرَأَةً».
وأما الخطابي فقال: قوله: (هُم مِنهُم) يريد في حكم الدِّين، فإنَّ ولد الكافر
محكوم له بالكفر. ولم يُرد بهذا القول إباحة دمائهم، تعهدًا لها وقصدًا إليها،
وإنما هو إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بهم، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بالآباء
لم يكن عليهم في قتلهم شيء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء
والصبيان، فكان ذلك على القصد لا قتال منهن، فإذا قاتلن فقد ارتفع الحظر، وأحل
دماء الكفار إلا بشرائط الحقن.
قال ابن التين: هذا في مقاتلتها بالرمح والسيف ونحوهما، أما إذا قاتلت برمي
الحجارة فعن ابن حبيب: لا يستباح بذلك قتلها، إلا أن تكون قَتلت فإنها تقتل؛ إلا
أن يرى الإمام إبقاءها، وكذلك الصبي المراهق.
وقال سحنون: من رمى منهم بالحجارة رُميت بالحجارة وإن قتلت بذلك؛ لقوله تعالى:
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}
[الشورى: 41]، وإذا وجب قتلهن واستطيع على ذلك بعد أسرهنَّ فعن ابن القاسم:
يُقتلن، وفي كتاب ابن سحنون: لا يُقتلن. [109/أ]
%ج 4 ص 214%
وإذا تترس الكفار بصبيانهم أو نسائهم، ولا يستطيع المسلمون منهم إلا بإصابة أولئك،
قال مالك: فحرام عليهم رميهم، وكذا إذا تحصنوا بحصن أو سفينة فحرام حرق تلك
السفينة أو رمي ذلك الحصن، إذا خيف تلف النساء والصبيان.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: إنما نُهي عن القصد إلى قتلهم، وأما إذا قصد غيرهم ولا
يمكن إلا بتلف النساء والصبيان فلا بأس بذلك.
وإن حاربت المرأة: فعن سحنون: لا تقتل، وقال الأوزاعي: تقتل، وفي كتاب الحازمي:
ذهبت طائفة إلى قتلهم مطلقًا، وهو رد لما قاله ابن بطال: لا يجوز عند جميع العلماء
قصد قتل نساء الحربيين وأطفالهم.
(1/181)
وفي
«صحيح مسلم» رواية جمهور الرواة - قال عياض: وهو الصواب -: «الدَّار»، وأما
(الذَّرَارِيُّ) فليست بشيء، وهو تصحيف، وما بعده يبيِّن الغلط.
قال النووي: ليست باطلة كما قال؛ بل لها وجه، وتقديره: سئل عن حكم صبيان المشركين
الذين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل، فقال: «هُم مِن آبَائِهِم»؛ أي لا
بأس بذلك؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في أحوالهم كلها.
ومعنى (البَيَات): أن يغار عليهم بالليل، بحيث لا يعرف رجلٌ من امرأةٍ.
قال: و (الذَّرَارِيِّ) بتشديد الياء، وهو الفصيح، وقد يخفف.
قال الحازمي: رأى بعضهم حديث الصَّعب منسوخًا - ومنهم ابن عيينة والزهري - بحديث
الأسود بن سريع: «أَلَا لَا تَقتُلُنَّ ذُرِيَّةً».
وبحديث كعب بن مالك: «نَهَى عَن قَتلِ النِّسَاءِ وَالوِلدَانِ» إذ بعث إلى ابن
أبي الحقيق.
قال الشافعي: وحديث الصعب كان في عمرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان في
الأولى فقتل ابن أبي الحقيق قبلها أو في سنتها، وإن كان في عمرته الآخرة فهي بعد
ابن أبي الحقيق بلا شك.
قال: ولم نعلمه رخص في قتل النساء والصبيان ثم نهى عنه. انتهى.
حديث الصَّعب كان في عمرة القضية، جاء ذلك في غير ما حديث صحيح، وجمع بعضهم ما
رواه رباح بن الربيع أخي ابن حنظلة الكاتب: رأى النبي صلى الله عليه وسلم [109/ب]
%ج 4 ص 215%
امرأة مقتولة في غزوة فقال: «مَا كَانَت هَذِه تُقَاتِل»، ثم قال لرجل: «الحَق
خَالِدًا فَلَا يَقْتُلنَّ ذُرِيَّةً وَلَا عَسِيفًا» عند أبي داود، ورواه النسائي
أيضًا من حديث أخيه حنظلة بمثله. انتهى.
هذا واضح في تأخره عن حديث الصعب؛ لأنَّ خالدًا إنما كان مع النبي صلى الله عليه
وسلم مقاتلًا سنة ثمان.
وعند ابن المنذر عن ابن عباس: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأة مقتولة
يوم الخندق فقال: «مَن قَتَلَ هَذِه؟» قال رجل: أنا. قال: «وَلِمَ؟» قال: نازعتني
قائم سيفي. قال: فسكت.
(1/182)
وفي
أبي داود: قتل النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من بني قريظة - لحدث أحدثته - مِن
جملة مَن قتل من رجالهم.
وقد ذكر ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم إنما قتلها لطرحها رحى على خلَّاد بن
سويد.
واتفق مالك، والكوفيون، والأوزاعي، والليث: أنه لا يقتل شيخ، ولا راهب.
وفي أحد قولي الشافعي يجوز محتجًا بأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل
دريد بن الصمة، ومنهم من جمع بين من له معونة برأي و شبهه كدريد، وبين من لا معونة
عنده، وبذلك قال الطحاوي، وهو قول محمد، وقياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
بَابُ {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]
فِيهِ حَدِيثُ ثُمَامَةَ.
يعني البخاري بحديثه الذي سلف في كتاب الصلاة.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة؛ فقال النحاس في قوله تعالى: {فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] للعلماء
فيها ثلاثة أقوال:
فمنهم من قال: هي منسوخة، ولا يحل قتل أسير صبرًا، وإنما يُمنُّ عليه أو يفدي،
وقالوا: ناسخها قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
[التوبة:5]، فممَّن قال هذا: الحسن، والضحاك، والسدي، وعطاء، ومنهم الطبري،
والشعبي.
قال النحاس: ومن العلماء من قال: لا يجوز في الأسرى من المشركين إلا القتل، وجعلوا
قوله عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
ناسخًا لقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [التوبة:5] وهذا قول
قتادة، ويروى عن مجاهد.
وقال [110/أ]
%ج 4 ص 216%
غيرهم: إنَّ الآيتين جميعًا محكمتان، وهو قول ابن زيد، وهو قول صحيح بيِّن؛ لأنَّ
إحداهما لا تنفي الأخرى، ينظر الإمام في ذلك ما يراه مصلحة، إما القتل، وإما
الفداء والمن، وكذا قاله أبو عبيد بن سلام.
(1/183)
قال:
وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور، قال: وقد فعل هذا كلَّه سيدنا رسول صلى
الله عليه وسلم في حروبه.
وعند الطبراني عن أبي بكر الصديق: لا يفادي بأسير من المشركين، وإن أُعطي فيه كذا
وكذا من مال. انتهى.
وهو خلاف ما روي عنه في إشارته في أسارى بدر بالفداء، وأشار عمر بقتلهم.
وقال الزهري: كتب عمر بن الخطاب: اقتلوا كل من جرت عليه المواسي.
وقال الطحاوي: اختلف قول أبي حنيفة في هذا؛ فروي عنه أن الأسرى لا تفادى، ولا
يردون حربًا؛ لأن في ذلك قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال، ومما سواه مما لا
قوة لهم فيه.
وروي عنه: أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
ورأي أبي حنيفة أن المن منسوخ.
وقيل: كان خاصًّا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بَابٌ: هَلْ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ وَيَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى
يَنْجُوَ مِنَ الكَفَرَةِ؟
فِيهِ المِسْوَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
حديث المسور هذا أخرجه البخاري مسندًا في مواضع منها كتاب الشروط، وقد تقدم.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في الأسير هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حتَّى
ينجو منهم؟
فقالت طائفة: لا ينبغي للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلص
منهم إلا بقتلهم وأخذ أموالهم وإحراق دورهم فعل ما شاء من ذلك، وهو قول أبي حنيفة
ومحمد بن جرير.
واختلفوا إذا أمنوه وعاهدهم على أن لا يهرب، فقال الكوفيون: إعطاؤه العهد على هذا
باطل، وقال الشافعي: له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأنه قد أمنهم بذلك.
وقال مالك: إن عاهدهم على ذلك فلا يجوز أن يهرب إلا بإذنهم، وهو [100/ب]
%ج 4 ص 217%
قول سحنون وابن المواز، وقال: هذا بخلاف إذا ألجؤوه إلى أن يحلف بطلاق، أو عتاق،
لا يلزمه؛ لأنه مكره، ورُوِيَ عن ابن القاسم.
وقال غيره: لا فرق بين يمينه وعهده لأنه فيهما مكره.
(1/184)
وحديث
العرنيين تقدم في الطهارة، والنملة أيضًا تقدم.
بَابُ حَرْقِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ
3020 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي
قَيْسُ، عن جَرِيرٌ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ
تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ» وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ
اليَمَانِيَةِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِئَةِ فَارِسٍ مِنْ
أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ،
فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:
«اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا»، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا
فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا جِئْتُكَ
حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ، قَالَ: فَبَارَكَ فِي خَيْلِ
أَحْمَسَ، وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ. [خ 3020]
قال ابن المنير: الترجمة أعم، إذ المُحْرَق بيت الصنم لا بيت السكن، ثمَّ بوَّب له
البخاري بعد: «بَابُ مَنْ لاَ يَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ».
قال ابن المنير: وجه دخوله في الأحكام أن الحديث دلَّ على فضيلة ركوب الخيل
والثبوت عليها.
قال ابن بطال: وقوله: (هَادِيًا مَهدِيًّا) من باب التقديم والتأخير، لأنه لا يكون
هاديًا إلا بعد أن يهتدي هو فيكون مهديًا، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
له ما سقط بعد ذلك عن فرس.
و (ذو الخَلْصة): قيده أبو الوليد الوقشي بفتح الخاء وسكون اللام، وهو بيت باليمن
ببلاد دوس، بناه خثعم ليَحجَّ إليه، ويَطوف عنده، ويَتجر عنده.
وقيل: الخلصة اسم للبنية، وقيل: اسم الصنم، وعُمل موضعه لما أخرب مسجدٌ، وسمي مسجد
العبلاة.
(1/185)
وقوله:
(كَعْبَةَ اليَمَانِيَّة) من إضافة الموصوف إلى صفته، جوَّزه الكوفيون، وقدَّر فيه
البصريون حذفًا، أي: كعبة الجهة اليمانية، وفي رواية: «الكَعبَةُ اليَمَانِيَّة
والكَعْبَةُ الشَّامِيَّة». وفي [111/أ]
%ج 4 ص 218%
بعض النسخ بغير واو بين اليمانية والكعبة الشامية، وتقديره: هذان اللفظان كانا
يقالان، أحدهما لموضع والآخر لموضع، فاليمانية لخثعم، والشامية الكعبة الحرام المشرفة.
و (رَسُولُ جَرِير): جاء مُبيَّنًا في بعض الروايات أنه أبو أرطأة؛ حصين بن ربيعة.
قال عياض: ورُوي: حسين، والصواب الأول.
و (أَحْمَس): هذا هو ابن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك
بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
و (خَثْعَم): اسمه أفتل، وقيل: أقبل، بقاف وباء موحدة، ابن أنمار بن أراش بن عمرو
بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد.
فكأنه - والله أعلم - أرسل جريرًا لهدمها ليكون أنكأَ لمن كان يعبدها؛ لأن هذا
القريب ممن اتخذها أولًا ولي هدمها؛ لِما وَضَح له وثبت في قلبه مِن سَفَهِ من
اتخذها وقبول رأيه.
وقد روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رفعه: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
تَضطَرِبَ أَليَاتُ نِسَاءِ دَوسٍ حَولَ ذِي الخَلْصَة» وَكَانَت صَنَمًا
تَعبُدُهَا دَوسٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ.
وقال ابن دحية: هو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم.
وقيل: هو صنم كان عمرو بن لحي نصبه بأسفل مكة حين نصب الأصنام، فكانوا يلبسونه
القلائد، ويعلقون عليه بيض النعام، ويذبحون عنده.
وعند أبي حنيفة: الخلصة: نبت طيب الريح يتعلق بالشجر، له حب كذنب الثعلب، وجمع
الخلصة خُلُص، قال السهيلي: وهو بضم الخاء واللام، وفتحهما ابن إسحاق.
قال: وبعثُ جريرٍ كان قبل وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهرين.
وفي «الباهر» لابن عُديس: كان المبرد يرويه بضم الخاء.
(1/186)
قال
ابن السيد في كتاب «الفَرق والمعرفة»: بفتح اللام، وقال: أما قول امرئ القيس:
لو كنت يا ذا الخلْصة الموتورا دوني وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن عرف الأعادي زورا
فإنه سكَّن اللام ضرورة، انتهى.
الذي أنشد ابن إسحاق وغيره: لو كنت يا ذا الخلص الموتورا، بغير تاء، والله تعالى
أعلم.
3021 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «حَرَّقَ [111/ب]
%ج 4 ص 219%
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ». [خ 3021]
فيه جواز قطع شجر الكفار وإحراقه، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق،
ومالك، والثوري، وابن القاسم.
وعن الشافعي: كراهة حرق الزروع والكلأ.
وروي عن أبي بكر الصديق، والليث، وأبي ثور، والأوزاعي - في رواية -: لا يجوز.
احتج الأولون بقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5]. قال ابن
عباس: هي النخلة والشجرة. وقال ابن إسحاق: التحريق سنة إذا كان منكيًا للعدو.
وعن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى أسامة أن: «أَغِرْ عَلَى
أُبْنَى صَبَاحًا وَحَرِّقْ».
وزعم بعضهم أن نهي أبي بكر عن تحريق نخل أهل الشام لأن سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان قد أخبرهم بفتحها، وزعم الطحاوي أنَّ خبره مرسل، ورواه عنه ابن
المسيب، ولم يولد إلا بعد وفاته.
وحمله الطبري على قصد التَّحريق وتعمده، فأما إذا أصابه التَّحريق والغرق في خلال
الغارة فغير ممنوع دنيا وآخرة.
وقال المهلب: للمسلمين أن يكيدوا عدوهم بكل ما فيه ضعف لشوكتهم؛ من قطع ثمارهم،
وتغوير مياههم، والحَوْل بينهم وبين ما يأكلون ويشربون، والتضييق عليهم بالحصار.
واختلفوا إذا غنم المسلمون دواب الكفار، وخافوا كثرةَ العدو وأخذَها من أيديهم،
فقال أبو حنيفة ومالك: تُعرقب وتُعقر حتى لا ينتفعوا بها، وقال الشافعي: لا يحل
قتلها ولا حرقها ولكن تخلى.
(1/187)
بَابُ
قَتلِ النَّائِمِ المُشرِكِ
3022 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ
بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِي
رَافِعٍ لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ:
فَدَخَلْتُ فِي مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الحِصْنِ،
ثُمَّ إِنَّهُمْ فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ، فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ
فِيمَنْ خَرَجَ أُرِيهِمْ أَنَّنِي أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الحِمَارَ،
فَدَخَلُوا وَدَخَلْتُ مَعَهُم، وَأَغْلَقُوا بَابَ الحِصْنِ لَيْلًا، فَوَضَعُوا
المَفَاتِيحَ فِي كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ
المَفَاتِيحَ، فَفَتَحْتُ بَابَ الحِصْنِ [112/أ]،
%ج 4 ص 220%
ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، فَأَجَابَنِي،
فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ، ثُمَّ جِئْتُ، ثُمَّ
رَجَعْتُ كَأَنِّي مُغِيثٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ! وَغَيَّرْتُ صَوْتِي،
فَقَالَ: مَا لَكَ لِأُمِّكَ الوَيْلُ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي
مَنْ دَخَلَ عَلَيَّ، فَضَرَبَنِي، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِي فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ
تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ العَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَأَنَا دَهِشٌ،
فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ لِأَنْزِلَ مِنْهُ، فَوَقَعْتُ فَوُثِئَتْ رِجْلِي،
فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ
الوَاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ أَنعى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ
الحِجَازِ، قَالَ: فَقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْنَاهُ. [خ 3022]
(1/188)
وفي
لفظ: «فدخل عليه عبد الله بن عتيك ليلًا فقتله وهو نائم».
وفي لفظ: «كان ابن عتيك الأمير، وكان أبو رافع في حصنه بالحجاز». وفيه: فانكسرت
ساقي فقال لي صلى الله عليه وسلم: «ابْسُط رِجلَكَ»، فبسطت رجلي فمسحها، فكأنما لم
أشتكها قط.
وفي لفظ: «بعث ابنَ عتيك وعبدَ الله بن عتبة في ناس معهم» الحديث. وهو من أفراد
البخاري.
قال البخاري - لمَّا ذكره بعد بني النضير وقبل أحد - اسم أبي رافع: «عبد الله،
وَيُقَالُ: سَلَّامُ بْنُ أَبِي الحُقَيْقِ، كَانَ بِخَيْبَرَ، وَيُقَالُ: فِي
حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الحِجَازِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ بَعْدَ كَعْبِ بْنِ
الأَشْرَفِ».
وفي «طبقات ابن سعد»: كان في شهر رمضان، سنة ست من الهجرة، وقيل: في ذي الحجة سنة
خمس.
وفي «الإكليل»: كان بعد بدر، وقبل غزوة السويق، والنيسابوري: قبل دومة الجندل،
وابن حبان: بعد بدر الوعد في آخر سنة أربع، وأبو معشر: بعد غزوة ذات الرقاع وقبل
سرية عبد الله بن رواحة.
وكان أبو رافع قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم من الجعل
العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن
عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة، والأسود بن خزاعة، ومسعود بن سنان، وأمرهم
بقتله، فذهبوا إلى خيبر، فكمنوا، فلما هدأت الرِّجلُ جاؤوا إلى منزله، فصعدوا درجة
له، وقدَّموا عبد الله بن عتيك؛ لأنه كان يرطن باليهودية، واستفتح وقال: جئت أبا
رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادات أن تصيح، فأشاروا إليها
[112/ب]
%ج 4 ص 221%
بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه، فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية، فَعَلَوه بأسيافهم.
(1/189)
قال
ابن أنيس: وكنت رجلًا أعشى لا أبصر، فأتكئ بسيفي على بطنه حتى سمعت حَشه في
الفراش، وعرفت أنه قضى، وجعل القوم يضربونه جميعًا، ثم نزلوا، فصاحت امرأته، فصاح
أهل الدار، واختبأ القوم في بعض مياه خيبر، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف
يطلبونهم بالنيران، فلم يجدوهم، فرجعوا، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن
الطلب، ثم خرجوا إلى المدينة، وكلهم يدعي قتله، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسيافهم، فنظر إليها، فإذا أثر الطعام في ذباب سيف ابن أنيس، فقال: هذا قتله.
وفي «سير ابن إسحاق»: لما انقضى أمر الخندق وأمر بني قريظة، وكان أبو رافع ممن
حزَّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنت الخزرج رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق، فأذن لهم، فخرجوا وفيهم فلان ابن سلمة.
وفي كتاب «دلائل النبوة» للبيهقي: قتله ابن عتيك، وذفف عليه ابن أنيس.
وفي «الإكليل» حين ذكرها إثر بدر الكبرى في جمادى الآخرة سنة ثلاث عن ابن أنيس
قال: ظهرت أنا وابن عتيك، وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن ابن عتيك. فقالت امرأة
ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت ابن عتيك. فقال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك، ابن عتيك
بيثرب أنى هو عندك هذه الساعة! افتحي فإن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة أحدًا.
ففتحت، فدخلت أنا وابن عتيك، فقال لابن عتيك: دونك، فشهرت عليها السيف، فأخذ ابن
أبي الحقيق وسادة فاتقاني بها، فجعلت أريد أن أضربه فلا أستطيع، فوخزته بالسيف
وخزا، ثم خرجت إلى ابن أنيس فقال: أقتلته؟ قلت: نعم.
رواه من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله
بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن أمه بنت عبد الله بن أنيس، عن أبيها.
وعند ابن عقبة: وكان معهم أيضًا أسعد بن حرام، حليف بني سواده.
قال السهيلي: ولا نعرف أحدا ذكره غيره، انتهى.
(1/190)
ويشبه
أن يكون غير جيد؛ لأن الحاكم في «الإكليل» رواه أيضًا عن الزهري، وعند الكلبي: عبد
الله بن أنيس هو ابن أسعد بن حرام. فيحتمل الاختلاط على بعض من رواه، والله أعلم.
وعند الواقدي: كانت أم ابن عتيك التي [113/أ]
%ج 4 ص 222%
أرضعته يهودية بخيبر، فأرسل إليها يعلمها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرًا
كبيسًا وخبزًا، ثم قال لها: يا أماه إنا لو أمسينا لبتنا عندك، فأدخلينا خيبر.
فقالت: وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع.
قالت: لا تقدر عليه.
وفيه: قالت: فادخلوا علي ليلًا، فدخلوا عليها ليلًا لما نام أهل خيبر في خمر
الناس، فأعلمتهم أن أهل خيبر لا يغلقون عليهم أبوابهم؛ فرقًا أن يطرقهم ضيف، فلما
هدأت الرِّجْل قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع، فقولوا: إنا جئنا له
بهدية، فإنهم سيفتحون لكم، فلما انتهوا إليه، استهموا عليه، فخرج سهم ابن أنيس.
وأما قول البخاري: فيهم عبد الله بن عتبة فكأنه متفرد بهذا القول فيما أرى، والله
تعالى أعلم.
وقال ابن المنير: يعني بالنائم المضطجع، وإلا فلا مطابقة بين الترجمة والحديث.
وقال الإسماعيلي: هذا قتلُ يقظانٍ نُبِّه من نومه.
وقال المهلب: في الحديث جواز اغتيال من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد
أو مال أو رأي، وفيه: الأخذ بالشدة في الحرب، والتعرض لعدد كثير من المشركين،
والإلقاء باليد إلى التهلكة في سبيل الله، والعلامة المعروفة على الشيء، لصوت أبي
رافع ولصوت الناعية.
وقوله: (سَمِعْتُ نَعَايَا أَبَا رَافِعٍ) كذا الرواية، وصوابه أن يقال: نعايَ أبا
رافع بغير ألف، كذا يقوله النحويون، أي: انعوا أبا رافع، كما قال شداد بن أوس: يا
نعايَ العرب، أي: انعوا العرب.
قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيها ميت له قدر ركب راكب فرسًا وجعل يسير في
الناس، ويقول: نعاء فلان، أي: انعه وأظهر خبر وفاته.
(1/191)
قال
أبو نصر: وهي مبنية على الكسر مثل: دَرَاكِ؛ أي: أدرك أبا رافع.
قوله: (وَمَا بِي قَلَبَةٌ) قال الفراء: أصله من القلاب، وهو داء يصيب [113/ب]
%ج 4 ص 223%
الإبل.
قال الأصمعي: تموت منه من يومها، فقيل ذلك لكل سالم ليست به علة.
وقال ابن الأعرابي: معناه: ليست له علة يقلب لها فينظر إليه.
وذكر المفضل بن سلمة في «الكتاب الفاخر» أن الأصمعي قال: ما به داء، وهو من القلاب
داء يأخذ الإبل في رؤوسها فيقلبها إلى فوق.
وقال الفراء: ما به علة يخشى عليه منها، وهو من قولهم: قُلِب الرجل إذا أصابه وجع
في قلبه، وليس يكاد يقلب منه.
وقال ابن الأعرابي: أصل ذلك في الدواب، أي: ما به داء يقلب منه حافره، وأنشد:
ولم يُقلِّب أرضها البيطار
وقال الطائي: ما به شيء يقلقله فيقلب منه على فراشه.
وقال أبو جعفر النحاس في «زياداته على الفاخر»: حكى عبد الله بن مسلم أن بعضهم
يقول في هذا: أي ما به قلبة، استعير من هذا الأصل لكل سالم ليست به آفة.
وقال يحيى بن الفضيل: إذا وصفوا الرجل بالصحة قالوا: ما به قلبة، ولو كان كما
قالوا لكان بالضعف والسقم أولى منه بالقوة؛ لأن القلبة هي القوة والحركة والتصرف،
ولذلك قيل للحازم من الرجال: رجل قلب، فمن لم يكن به قلبة فهو كالميت.
والقول الصحيح في هذا قول الفرَّاء.
وقوله رضي الله تعالى عنه: (وُثِئَتْ رِجْلِي) بثاء مثلثة، ذكرها ثعلب في باب
المهموز من الفعل، وقال: وُثئت يده، فهي موثوءة، ووثأتها أنا.
وأما ابن فارس فقال: وقد تهمز.
قال أبو سليمان: والواو مضمومة.
قال القزاز: وهو وصم يصيب العظم من غير أن يبلغ الكسر.
وقول البخاري في: بَابِ: لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ
(1/192)
3026
- وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: حدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ،
وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا». [خ 3026]
أخرجه مسلم في صحيحه عن حسين الحلواني وعبد بن حميد، عن أبي عامر - يعني العقدي -
به.
وذكر البخاري [114/أ]
في: بَابِ: الحَرْبُ خُدْعَةٌ:
حديث أبي هريرة وجابر، وذكره النسائي بسند صحيح عن علي.
وقال الدارقطني: ورواه أيضًا الثوري عن أبي إسحاق، عن سعيد بن ذي حُدان، قال:
حدثني من سمع عليًا، وهو أصح؛ لأن سعيدًا لم يدرك عليًا.
وعند ابن ماجه: عن ابن عباس بسند لا بأس به على رأي جماعة، وعائشة بسند صحيح،
وأسماء بنت يزيد حسَّنه الترمذي بلفظ: «لَا يَحِلُّ الكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ؛
فِي الحَربِ، وَالكَذِبِ لِزَوجَةٍ، وَالكَذِبِ لِيُصلِحَ بَينَ النَّاسِ».
وكعب بن مالك رواه أبو داود بسند جيد، وزيد بن ثابت رواه الحاكم في «تاريخ بلده»
بسند ضعيف، وحديث حَميد بن عبد الرحمن عن أمه ذكره ابن أبي عاصم بسند جيد، وحديث
أنس في قصة الحجاج بن علاط تقدم.
ضبط الأصيلي (خُدْعَة): بضم الخاء وسكون الدال، وعن يونس ضم الخاء وفتح الدال،
أنشد أبو العباس المنير:
ويا قوم من عاذري من الخُدَعة
وعن عياض فتحُهما، وفي باب المفتوح أوله من الأسماء من كتاب «الفصيح» عن ثعلب:
الحرب خَدْعة هذه أفصح اللغات، ذُكر لي أنها لغة سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وقال الجرجاني: عن أبي العلاء عمر عن ثعلب قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«الحَربُ خَدْعة» أفصح؛ لأنها كانت لغته خاصة، ولغته أفصح اللغات.
وقال القزاز: فتح الخاء وسكون الدال لغة النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/193)
قالوا:
والخَدْعة: المرة الواحدة من الخِداع، فمعناه أن من خُدع فيها مرة واحدة عطب وهلك،
ولا عودة له.
وقال ابن سيده في «العويص»: من قال خُدعة أراد: تخدع أهلها.
وفي «الواعي»: أي يثيبهم بالظفر والغلبة، ثم لا يفي لهم.
وفي «التهذيب» للأزهري: الحرب خُدعة، قاله الكسائي وأبو زيد.
قال أبو منصور: هي أجود اللغات الثلاث.
قال ابن سيده: ومن قال: خُدعة أراد: هي تخدع، كما يقال: رجل لُعنة، يلعن كثيرًا،
وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه في الحرب، فكأنها خدعت هي.
وقال قاسم بن ثابت في كتابه «الدلائل»: كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى سمَّوا
الحرب خدعة.
قال النَّمر بن [114/ب]
%ج 4 ص 225%
تولب:
وإن أنت لاقيت في خُدعة فلا تنهينك أن تُقدما
وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد: خِدعة بالكسرة.
قال المطرز: والأفصح بالفتح؛ لأنها لغة قريش.
وقال ابن درستويه: ليست بلغة قوم دون قوم، وإنما هي كلام الجميع، لأنها المرة
الواحدة من الخداع فُتحت.
وقال الأستاذ أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يختار هذه البنية ويستعملها كثيرًا؛ لأنها بلفظها الوجيز تعطي معنى البنيتين
الأخريين، وتعطي أيضًا معنى استعمال الحيلة في الحرب ما أمكنك، فإذا أعيتك الحيل
فقاتل، فكانت هذه اللغة على ما ذكرنا مختصرة اللفظ كثيرة المعنى، فلذلك كان سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يختارها.
قال اللحياني: خدعت الرجل أخدعه خَدعا وخِدعا وخَديعة وخُدعة، إذا أظهرتَ له خلاف
ما تخفي، وأصله كل شيء كتمته فقد خدعته، ورجل خَدَّاع وخَدوع وخَدِع وخدعة إذا كان
خِبًّا.
وفي «المحكم»: الخَدعُ والخديعة المصدر، والخِدْع والخِدَاع الاسم، ورجل خيدع:
كثير الخداع.
(1/194)
قال
ابن العربي: الخديعة في الحرب تكون بالتورية، وتكون بالكمين، وتكون بخُلف الوعد،
وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرم، والكذب حرام بالإجماع، جائز في مواطن
بالإجماع، أصلها الحرب، أذن الله فيه وفي أمثاله رفقًا بالعباد لضعفهم، وليس للعقل
في تحريمه ولا في تحليله أثر، إنما هو إلى الشرع، ولو كان تحريم الكذب كما يقول
المبتدعون عقلًا ويكون التحريم صفة نفسية كما يزعمون ما انقلب حلالًا أبدًا،
والمسألة ليست معقولة فتستحق جوابًا، وخفي هذا على علمائنا.
قال الطبري: إنما يجوز فيه المعاريض دون حقيقة الكذب [115/أ]
%ج 4 ص 226%
فإنه لا يحل.
قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل.
وقال بعض أهل السير: قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يوم الأحزاب لنعيم بن
مسعود.
وعن المهلب: الخداع في الحرب جائز كيفما يمكن إلا بالأيمان والعهود، والتصريح
بالأيمان فلا يحل شيء من ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (هَلَكَ كِسرَى، ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسرَى بَعدَهُ)
فهو يريد ما في مسلم: «قَد مَاتَ كِسرَى» بلفظ الماضي المحقق بقد، لكن وقع هذا
اللفظ في كتاب الترمذي بسند مسلم: «إِذَا هَلَكَ كِسرَى» لم يقل: «قَد مَاتَ».
قال القرطبي: وبين اللفظين بون عظيم، ولفظ مسلم يعني أن كسرى قد كان وقع موته،
فأخبر عنه، وعلى هذا يدل حديث أبي بكرة من عند البخاري: لما بلغ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم امرأة قال: «لَن يُفلِحَ قَومٌ
وَلِيَ أَمرَهُم امرَأَةٌ».
(1/195)
يعني
أنه لما مات كسرى ولَّوا عليهم بِنْته، ولهذا لا يصح أن يقال مكان «قَد مَاتَ» «إِذَا
مَاتَ»، ولا «إِذَا هَلَكَ»؛ لأنَّ (إِذَا) للمستقبل و (مَاتَ) للماضي، وهما
متناقضين فلا يصح بينهما إلا على تأويل بعيد، وهو تقدير أنَّ أبا هريرة سمع الحديث
مرتين، فسمع أوَّلًا: «إِذَا هَلَكَ كِسرَى»، ثم سمع بعده: «قَد هَلَكَ»، فيكون
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحديث الأول قبل موت كسرى؛ لأنه علم أنه
يموت، ويكون قال الحديث الثاني بعد موته.
قال: ويحتمل أن نفرق بين الموت والهلاك فيقال: إن موت كسرى كان قد وقع في حياته
صلى الله عليه وسلم، فأخبر عنه بذلك، فأما هلاك ملكه فلم يقع إلا بعد موت سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وموت أبي بكر، وإنما هلك ملكه في خلافة عمر رضي الله
عنهما.
وأما قوله: «فَلَا كِسرَى بَعدَه وَلَا قَيصَرَ» قال عياض: معناه عند أهل العلم:
لا [115/ب]
%ج 4 ص 227%
يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، وقد انقطع أمر كسرى عنها، وتمزَّق ملكه بدعوته
صلى الله عليه وسلم، وتخلى قيصر عن الشام، ورجع القهقرى إلى داخل بلاده.
و (كِسرَى): بكسر الكاف، كذا ذكره ثعلب، وأبو علي أحمد بن جعفر الدينوري في
«فصيحهما».
وقال يعقوب والقزاز في «البهي»: كِسْرى أكثر من كَسْرى، وأما أبو زيد الأنصاري
فأنكر الفتح.
وفي «تقويم المُفْسد» لأبي حاتم: كِسْرى وكَسْرى.
وقال ابن الأعرابي: الكسر فصيح.
وقال ابن السيد: كان أبو حاتم يختار الكسر.
وقال القزاز: والكسر أفصح، والجمع كسور وأكاسرة وكساسرة، قال: والقياس أن يجمع
كِسرُون، كما يجمع موسى مُوْسَون.
(1/196)
وأنبانا
المسند الجودري عن المغيري، أخبرنا الحافظ السلامي، أخبرنا الإمام أبو القاسم بن
منده كتابة من أصبهان، عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي، قال: حدثني أبو محمد
البغدادي، عن أبي إسحاق الزجاج: أنه أنكر على أبي العباس قوله: كِسرى، بكسر الكاف،
قال: وإنما هو كَسرى بالفتح، وقال: ألا تراهم يقولون: كَسروي.
قال ابن فارس: أما اعتباره إياه بالنسبة، فقد يفتح في النسبة ما هو في الأصل مكسور
أو مضموم، أما تراهم يقولون في النسبة إلى آل تِغلب: تَغلبي، وفي النسبة إلى
أُمية: أَموي، وقد يقال: تِغلبي وأُموي، فقد جرى بعض النسبة على غير الأصل، فلا
معنى إذا لقول الزجَّاج، على أنَّ الذي قاله رواية عنه، وأنه معرب خسرو، أي واسع
الملك، فكيف أعربه المعرب إذا لم يخرج عن بناء كلام العرب فهو جائز.
وروى ناس من البصريين: «كِسرى» كما رواه ثعلب.
وقال في «المجمل» قال أبو عمرو: ينسب إلى كسرى، بكسر الكاف: كَسْرِى وكَسْرَوي،
وقاله الأموي بكسر الكاف أيضًا.
وفي «الجمهرة»: كسرى اسم فارسي، ويجمع كسورا وأكاسر هكذا [116/أ]
%ج 4 ص 228%
يقول أبو عبيدة، ولم يذكر ابن دريد غير هذا فقط.
وذكر اللحياني أنَّ معناه شاهان شاه، وهو اسم لكل من ملك الفرس، والنجاشي: لمن ملك
الحبشة، وخاقان: لمن ملك الترك، وقيصر: لمن ملك الروم، وتبع: لمن ملك اليمن،
وبطليموس: لمن ملك اليونان، ومالخ: لمن ملك اليهود، والنمرود: لمن ملك الصابئة،
ونغفور: لمن ملك الهند، وغانة: لمن ملك الزنج، وفرعون: لمن ملك مصر، والإخشيد: لمن
ملك فرعانة، والنعمان: لمن ملك العرب من قبل العجم، وجالوت: لمن ملك البربر،
وجرجير: لمن ملك أفريقية، وشهريان: لمن ملك خلاط، وفور: لمن ملك السند، والأصفر:
لمن ملك علوى، ورتبيل: لمن ملك الخزر، وكابل: لمن ملك النوبة، وماجد: لمن ملك
الصقالبة.
وذكر ابن المنير في تبويب البخاري:
الفَتْكِ بِأَهْلِ الحَرْبِ، و الكَذِبِ فِي الحَرْبِ
(1/197)
3031
- وقول محمد بن مسلمة: يا رسول الله! أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»،
قَالَ: فَأْذَنْ لِي، فَأَقُولَ قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ» فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ
هَذَا - يَعْنِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم - قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا
الصَّدَقَةَ، قَالَ: وَأَيْضًا، وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قَدِ
اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ، حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ
أَمْرُهُ. [خ 3031]
أنَّ الترجمة غير مُحَصَّلة إذ يمكن جعله تعريضًا، فإنَّ قوله: (عَنَّانَا)، أي:
كلَّفنا، والأوامر والنواهي تكاليف.
وقوله: (وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ) أي: طلبها منا بأمر الله جلَّ وعزَّ.
و: (نَكرَهُ أَن نَدَعَهُ حَتَّى نَنظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمرُهُ) معناه نكره
العدول عنه مدة بقائه صلى الله عليه وسلم، فما فيه دليل على جواز الكذب الصريح،
ولا سيما إذا كان في المعاريض مندوحة.
قال ابن بطال: الفتك في الحرب على وجهين:
أحدهما: محرم، وهو الذي يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه الناس، فإذا آمنه فقد
حرم بذلك دمه والغدر به، وعلى هذا جماعة العلماء.
الثاني: مباح، وهو أن يخادعه بألفاظ هي معاريض غير مصرحة بالأمان.
واختلف في قتل ابن الأشرف على وجوه؛ فقيل إن قتله من هذا [116/ب]
%ج 4 ص 229%
الباب المباح؛ لأن ابن مسلمة لم يصرح له بشيء من لفظ التأمين، وإنما أتاه بمعاريض
من القول فيجوز هذا أن يسمى: فتكًا على المجاز.
الثاني: قاله بعض شيوخنا قال: أن من آذى الله عزَّ وجلَّ ورسوله حلَّ دمه، ولا
أمان له يعتصم به، فقتله جائز على كل حال؛ لأن سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم إنما
قتله بوحي وإذن من الله جلَّ وعزَّ في قتله، فصار ذلك أصلًا في جواز قتل من كاد
الله ورسوله.
(1/198)
ولو
أن رجلًا أدخل مشركًا داره وآمنه فسب عنده سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم حلَّ
للذي أمنه قتله، ومن زعم أنَّ ابن الأشرف قتل غدرًا، قُتل بغير استتابة؛ لأنه نسب
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر نزَّهه الله تعالى عنه، وقد قتل علي
بن أبي طالب ابن يامين السبائي حين تكلم بمثل هذا، أبعده الله تعالى.
وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في المغازي.
وحديث ابن صياد تقدم في الشهادات.
وقول البخاري في:
بَابِ الرَّجَزِ فِي الحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي حَفْرِ الخَنْدَقِ
فِيهِ سَهْلٌ وَأَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ يَزِيدُ عَنْ
سَلَمَةَ. انتهى.
كأنه يريد بحديث سهيل: ما ذكره هو في فضل الأنصار.
وحديث يزيد عن سلمة: يشبه أن يكون ما رواه هو أيضًا عنه من قوله:
~أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرُّضَّع
وعند ابن عساكر في «كتاب الجهاد» من حديث أزهر بن سعد، عن ابن عون، عن الحسن، عن
أمه، عن أم سلمة فذكرت نقل النبي صلى الله عليه وسلم التراب بالخندق وهو يقول:
اللهم إن الخير خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
حديث البراء تقدم، وحديث جرير تقدم قريبًا.
وقوله في حديث البراء المتقدم في أحد:
3039 - «تَخطَفُنَا الطَّيرُ». [خ 3039]
قال الخطابي: هذا مثل يريد به الهزيمة، يقول صلى الله عليه وسلم: إن رأيتمونا قد
زُلنا عن مكاننا وولَّينا منهزمين فلا تبرحوا أنتم، وهذا كقولهم: فلان ساكن الطير،
إذا كان هادئًا [117/أ]
%ج 4 ص 230%
وقورًا وليس هناك طير، وايضًا فالطير لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للرجل
إذا أسرع وخفَّ: قد طار طيره.
وقال الداودي: معناه: إن قُتلنا وأكلت الطير لحومنا فلا تبرحوا مكانكم.
وقوله: (أَوْطَأْنَاهُمْ) قال ابن المنير: يريد مشيًا عليهم، وهم قتلى بالأرض.
(1/199)
وقوله:
(يَشْتَدُّوْنَ) أي: يَعْدون، والاشتداد العَدْو، وروي: «يُسنِدْن» قال ابن التين:
هي رواية أبي الحسن، ومعناها: يمشين في سند الجبل يُرِدْن أن يرقين الجبل.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إجابة أبي سفيان تفاديًا عن الخوض فيما لا فائدة فيه،
وعن خصام مثلِه أيضًا، وإجابة عمر بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم حِمايةٌ.
قال ابن بطال: وليس فيه عصيان لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة،
وإن كان عصيانًا في الظاهر، فهو مما يؤجر به.
وقوله: (بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوْؤُكَ) يعني: يوم الفتح.
وقوله: (الحَرْبُ سِجَالٌ) أي دِوَلًا من هؤلاء، وأصله أن المُسْتَقين بالسجلِّ -
وهو الدَّلو - يكون لكل واحد منهم سجال.
وقوله: (اُعلُ هُبَل) يعني: صنمهم، وفي رواية: «اِرقَ»، مكان (اُعلُ) أي: ارق في
الجبل على حزبك، أي: علوت حتى صرت كالجبل العالي.
قال الداودي: يحتمل أن يريد بذلك تعيير المسلمين حين انحازوا إلى الجبل.
و (العُزَّى): شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، وروى أبو صالح، عن ابن عباس، قال: بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العُزَّى ليقطعها، وقيل: كانت
صنمًا، قاله الضحاك وأبو عبيد.
قال ابن الجوزي في قوله: (اللهُ مَولَانَا وَلَا مَولَى لَكُم) إن قيل: أليس الله
جلَّ وعزَّ مولى الخلق كلهم؟
فالجواب: أن المولى هنا بمعنى الولي، والله تعالى يتولى المؤمنين بالنصر والإعانة
وخذل الكفار.
بَابُ مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا صَبَاحَاهْ، حَتَّى
يُسْمِعَ النَّاسَ
قال ابن المنير: موضعها من الفقه أنَّ هذه الدعوة ليست من دعوى الجاهلية المنهي
عنها، إما لأنها استغاثة على الكفار، وإما لأنها استعانة عامة لا [117/ب]
%ج 4 ص 231%
ينتدب فيها قبيلة مخصوصة.
(1/200)
وذَكَرَ
البخاري ثلاثيًا قصة ابن الأكوع في الغابة [3041]، وهي غزوة ذي قَرَد؛ بفتح القاف
والرَّاء والدال المهملة، ويقال بضمتين، قال السهيلي: كذا ألفيته مقيدًا عن أبي
علي، والقَرَد في اللغة الصوف الرديء، على نحو يوم من المدينة.
قال ابن سعيد: والغابة على بريد من المدينة في طريق الشام، كانت في شهر ربيع الأول
سنة ست.
وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر بن حَزم، وغيرهما،
قالوا: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلممن لحيان لم يُقم بعد قدومه إلا الليالي
حتى أغار عبيدة، وكان خرج صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان في جمادى الأولى، وزعم
البخاري أنها قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. وكأنه خلاف ما عند البصريين.
وعند ابن سعد: كانت لقاح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين لقحة ترعى
بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن ليلة الأربعاء في أربعين
فارسًا فاستاقوها وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصَّريخ فنودي: يا خيل الله اركبي،
وكان أولَ ما نودي بها، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج غداة الأربعاء في
الحديد مُقنعًا فوقف، فكان أول من وقف إليه المقداد بن عمرو عليه الدرع والمغفر
شاهرًا سيفه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءً في رمحه وقال: «امض حتى
تلحقك الخيول، وأنا في أثرك»، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلَّف سعد بن
عبادة في ثلاث مئة من قومه يحرسون المدينة.
قال المقداد: فادركت أخريات العدو، وقد قتل أبو قتادة سعدًا، وقتل عكاشة أبان بن
عمرو، وقتل المقداد حبيب بن عيينة، وقرفة بن مالك بن حذيفة بن بدر، وأدرك سلمة بن
الأكوع القوم وهو على رجليه فجعل يراميهم بالنبل ويقول:
خذوها وأنا ابن الأكوع اليوم يوم الرُّضَّع
حتى انتهى بهم إلى ذي قرد، وهي ناحية خيبر مما يلي المستناخ، قال مسلمة: [118/أ]
%ج 4 ص 232%
(1/201)
فلحقنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم والنَّاس عشيًّا، فقلت يا رسول الله: إن القوم عطاش،
فلو بعثتني في مئة رجل استنقذنا ما بأيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال:
«مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ». ثم قال: «إِنَّهُم الآنَ لَيُقْرَوْنَ فِيْ غَطَفَانَ».
ولم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، وأقام بها يوما وليلة، والثبت عندنا أن النبي الله
صلى الله عليه وسلم أمَّر على هذه السرية سعيد بن زيد الأشهلي، ولكن الناس نسبوها
إلى المقداد لقول حسان:
غداة فوارس المقداد
فعاتبه سعيد بن زيد فقال: اضطرني الروي إلى المقداد.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الاثنين وقد غاب خمس ليال.
وقال: «خَيرُ فُرسَانِنَا اليَومَ أَبُو قَتَادَة، وَخَيرُ رِجَالِنَا اليَومَ
سَلَمَة»، قال سلمة: وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل.
وفي «الدلائل» للبيهقي: أوفى سلمة على سلع، ثم صرخ: يا صباحاه الفزع الفزع. فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي «الإكليل» للحاكم: باب غزوة ذي قرد، قال أبو عبد الله: هذه الغزوة هي الثالثة
لذي قرد، فإن الأولى: سرية زيد بن حارثة في جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين
شهرًا من الهجرة، والثانية: خرج فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه
إلى بني فزارة، وهي على تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة، وهذه الثالثة: التي أغار
عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أبو قتادة وابن الأكوع
في طلبها، وذلك في سنة ست من الهجرة.
(1/202)
وقوله:
(وَاليَومُ يَومُ الرُّضَّع) ذكر ابن الأنباري في «الزاهر» أنه هو الذي رضع اللؤم
من ثدي أمه، أي غُذي به، وقيل هو الذي يرضع ما بين أسنانه يستكثر من الجشع بذلك،
قالت امرأة من العرب تذم رجلًا:
إنه لأُ كَلة ثُكَله يأكل من جشعه خُلَله
أي: ما يتخلل بين أسنانه.
وقال أبو عمر: وهو الذي [118/ب]
%ج 4 ص 233%
يرضع الشاة أو الناقة من قبل أن يحلبها من شدة الشَّره.
وقال قوم: الراضع الذي لا يمسك معه محلبًا، فإذا جاءه إنسان فسأله أن يسقيه احتج
أنه لا محلب معه، وإذا أراد هو أن يشرب رضع الناقة أو الشاة.
وقيل: هو رجل كان يرضع الغنم ولا يحلبها لئلا يسمع صوت الحلب فيطلب منه.
وقال في «الموعب»: رضع الرجل رضاعة مثل كرم، وهو رضيع وراضع للئيم، وجمعه: راضعون.
وقال ابن دريد: أصل الحديث أن رجلًا من العماليق طرقه ضيف ليلًا فمصَّ ضرع شاته
لئلا يسمع الضيف صوت الشخب، فكثر حتى صار كل لئيم راضعًا، فعل ذلك أو لم يفعله.
وقال إبراهيم: من عيوب الشاة أن ترتضع لبن نفسها.
وقيل: هو الذي يرضع طرف الخلال التي يخلل بها أسنانه ويمص ما يتعلق به.
وقيل أيضًا في قوله: (اليَومُ يَومُ الرُّضَّع) يعني: اليوم يظهر من أرضعته كريمة
أو لئيمة.
وقيل: اليوم يظهر من أرضعته الحرَّة من صغره.
وقيل: اليوم هلاك اللئام.
وقيل: اليوم تفارق المرضعة رضيعها.
قال السهيلي: (اليَومُ يَومُ الرُّضَّع) هو برفعهما، وبنصب الأول ورفع الثاني.
وقوله: (يَا صَبَاحَاهُ) قال القرطبي: معناه الإعلام بهذا الأمر المهم الذي دهمهم
في الصباح.
وقال ابن المنير: الهاء للندبة، وهي تسقط في الوصل، والرواية إثباتها فيقِفُ على
الهاء، وقيل: لأنهم كانوا يغزون وقت الصباح.
وقيل: جاء وقت الصباح فتأهبوا للقاء، فإن الأعداء يتراجعون عن القتال في الليل
فإذا جاء النهار عاودوه.
وقوله: (فَأَسْجِح) أي: سهِّل ولا تأخذ بالشدة؛ بل ارفق فقد حصلت النكاية فيهم.
(1/203)
وقوله:
(يُقرَون) من القِرى، وهو الضيافة، والمعنى أنهم قد وصلوا إلى قومهم، وقيل أنهم
يضيفون الأضياف، فراعى صلى الله عليه وسلم ذلك لهم، رجاء توبتهم وإنابتهم.
وقال بعضهم: «يغزون» بغين معجمة، وهو تصحيف.
قال ابن الجوزي: وقال بعضهم: «يُقرُون» بضم الياء والرَّاء، وفسَّره بعضهم بأنهم
يجمعون الماء واللبن، وهو تصحيف. انتهى.
لو نظر هؤلاء ما في كتاب «الدلائل» للبيهقي وغيره [119/أ]
%ج 4 ص 234%
من قوله: «إِنَّهُم لَيَغبِقُونَ الآنَ فِي غَطَفَانَ» فجاء رجل من غطفان فقال:
مَرُّوا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطوا جلدها رأوا غبرة
فتركوها وخرجوا هرابًا، لما احتاجوا إلى هذا التخرُّص.
وفي «الدلائل» أيضًا: أن امرأة الغفاري ركبت العضباء ناقة سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة أخبرت
سيدنا رسول الله بنذرها فقال: «بِئسَ مَا جَزَيتِهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذرٍ فِي
مَعصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَملِكُ ابنُ آدَمَ».
قال السهيلي: اسمها ليلى، ويقال: كانت امرأة أبي ذر، وزعم المبرد أن المرأة كانت
أنصارية، وكانت بمكة، وكأنه غير جيد؛ لتوارد الرواة على القول الأول وأنه
بالمدينة.
وكان الشماخ، واسمه الهيثم، فقال معقل الصحابي: أقتدي بهذه المرأة في قوله لعرابة
بن أوس الأوسي، وقول إسحاق بن إبراهيم: هو من الخزرج غير جيد، يخاطب ناقته:
إذا بلغتني وحملتِ رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين
واقتدى بقوله هذا جماعة من الشعراء، قال ذو الرِّمَّة يخاطب ناقته:
إذا ابن أبي موسى بلالًا بلغتهِ ... فقام بفأسٍ بين وصليكِ جازرُ
قال أبو دهبل الجمحي:
يا ناق سيري واشرقي ... بِدَم إِذا جِئْت الْمُغيرَة
سيثيبني أُخْرَى سوا ... ك وَتلك لي مِنْهُ يسيرَة
وقال ابن أبي عاصية لمعن بن زائدة:
نذر عليّ لَئِن لقيتُكَ سالمًا ... أَن يسْتَمر بها شفار الجازر
(1/204)
ثم
نحرها عند دخوله إليه، فتطير معن، فلما أخبره بنذره قال: اطعمونا من كبد هذه
المظلومة.
وقال محمد بن علي الهَمْدَاني يخاطب عبد الله بن خاقان:
إلى الوزير عبيد الله مقصدها ... أعني ابن يحيى حياة الدين والكرم
إذا رميت برحلي في ذراه فلا ... نلتُ الأماني إن لم تَشْرقِي بدم
وليس ذاك لذنب منكِ أعرفه ... ولا لجهل بما أوليتِ من نعم
لكنه فعل شماخ بناقته ... لدى عرابة إذ أدّته [119/ب]
%ج 4 ص 235%
وقول البخاري: وقال سلمة: خذها وأنا ابن الأكوع، ذكره مسندًا قبل، وكذا قوله:
«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِب» تقدم قريبًا.
بَابُ إِذَا نَزَلَ العَدُوُّ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ
ذكر حديث أبي سعيد لما نزلت قريظة على حكم سعد بن معاذ:
3043 - فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ
هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ
المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، فَقَالَصلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ
حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ». [خ 3043]
وفي لفظ: «أَو خَيرِكُم»، وفيه: «قَضَيتَ بِحُكمِ اللهِ».
قال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه لزوم حكم المُحَكَّم برضا الخصمين، وإن لم
ينتصب عمومًا.
وذكر القرطبي وغيره أنَّ في هذا: جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهماتهم في الحرب
وغيره، وهو رد على الخوارج إذ أنكروا التحكيم على علي رضي الله عنه.
والنزول على حكم الإمام وغيره جائز، ولهما الرجوع عنه ما لم يحكم، فإذا حكم لم يكن
للعدو الرجوع، ولهم أن ينتقلوا من حكم رجل إلى غيره.
(1/205)
وقال
الطبري: يقال للنازلين على الحكم: إن حكم الحاكم يجوز في ديننا أمضينا حكمه، وإن
كرهتم ذلك رددناكم إلى حصنكم، والحكم الذي لا يجوز لأحد الفريقين الرجوع عنه هو أن
يحكم بقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم وقَسْم أموالهم إن كان ذلك هو النظر للمسلمين.
وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم، والمنِّ عليهم، ووَضْع الخراج على رؤوسهم، فجائز بعد
أن يكون نظرًا للمسلمين.
وأما الحكم الذي يرد ولا يمضي فهو أن يحكم أنهم يُقرُّوا في أرض المسلمين كفارًا
بغير خراج يؤدونه إلى الإمام، ولا جزية.
قال ابن بطال: وإن سألوهم أن ينزلهم على حكم الله أو يحكم فيهم بحكم الله؛ فإنه لا
ينبغي إجابتهم؛ لصحة الخبر عن بريدة من عند مسلم: كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث
أميرًا على جيش وصَّاه بتقوى الله، وفيه: «وَإِن قَاتَلتَ أَهلَ حِصنٍ فَأَرَادُوا
أَن تَجعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجعَل لَهُم ذِمَّةَ
اللهِ وَلَا ذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَاجعَل لَهُم ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصحَابِكَ».
قال ابن بطال: فإن قيل: كيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجل، مرضي [120/أ]
%ج 4 ص 236%
دينه لا يتجاوز فيهم حكم الله وحكم رسوله، ثم يقول: لا يجوز للإمام أن يجيبهم إلى
النزول على حكم الله وحكم رسوله؟
قيل له: ليس كما توهمت، فإن كراهة الإجابة إلى النزول على حكم الله ورسوله الذى هو
الحق عنده، فإن ذاك لا يعلمه إلا الله جلَّ وعزَّ، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين
وأمانة ليصلح ما حضرهم في الوقت، لا سبيل إلى الحكم بعلم الله جلَّ وعزَّ، فهذا
معنى النهي.
وقوله: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُم) استدلَّ به من يقول القيام لأهل الدين والعلماء
إكرامًا لهم واحترامًا، وقد قام طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك لما تِيْبَ عليه،
فكان كعب يراها له.
(1/206)
قال
السهيلي: وقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية، ولعدي بن حاتم،
حين قدما عليه، وقام لمولاه زيد بن حارثة، ولغيره أيضًا، وكان يقوم لابنته فاطمة
رضي الله عنها إذا دخلت عليه، وتقوم له إذا قدم عليها، وقام لجعفر ابن عمه.
وليس هذا معارض لحديث معاوية: «مَن سَرَّه أَن يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ
قِيَامًا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ لأنَّ هذا الوعيد إنما توجه
للمتكبرين، وإلى مَن يغضب أو يسخط ألَّا يقام له.
قال القرطبي: إنما المكروه القيام للمرء وهو جالس.
قال: وتأول بعض أصحابنا (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُم) على أن ذلك مخصوص بسعد.
وقال بعضهم: أمرهم بالقيام لينزلوه على الحمار لمرضه، وفيه بعد.
وهل قوله: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُم) يريد الأنصار، أو جميع من حضر من المهاجرين
والأنصار؟ وسيأتي الكلام عليه في غزوة بني قريظة.
قال أبو سليمان: وفيه جواز قول الرجل للآخر: يا سيدي، إذا علم منه خيرًا وفضلًا؛
وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر.
وقوله: (بِحُكمِ المَلِك) المشهور في الرواية كسر اللام، وهو في مسلم كذلك بلا
خلاف، وفي البخاري فتح بعضهم اللام، فإن صح فيراد به جبريل صلى الله عليه وسلم،
يريد الحكم الذي جاء به عن الله جلَّ وعزَّ.
قال ابن الجوزي: هذا مردود من وجهين:
الأول: ما نقل أن ملكًا نزل في شأنهم بشيء، ولو نزل بشيء اتُبِع وتُرك اجتهاد سعد.
الثاني: في بعض ألفاظ الصحيح: «قَضَيتَ بِحُكمِ اللهِ [120/ب] جلَّ وعزَّ».
بَابٌ: هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ، وَمَنْ رَكَعَ
رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ
(1/207)
3045
- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا
بِالهَدَأَةِ، وَهيَ بَيْنَ عُسْفَانَ. الحديث بطوله. [خ 3045]
وعند الدارقطني: قال يونس من رواية أبي صالح، عن الليث، عن يونس وابن أخي الزهري
وإبراهيم بن سعد: «عُمر بن أبي سفيان» بضم العين، غير أن إبراهيم نسبه إلى جده
فقال: عمر بن أسيد، قال البخاري في «التاريخ»: الصحيح: عمرو.
وهذه السرية تسمى بسرية الرَّجيع، قال ابن سعد: كانت في صفر على رأس سنة وثلاثين
شهرًا.
وعن أبي هريرة وعاصم بن عمر قالا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهيط من
عضل والقارة، وهم من الهون بن خزيمة، فقالوا: يا رسول الله! إنَّ فينا إسلامًا،
فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرؤونا القرآن، فبعث معهم عشرة رهط: عاصم بن
ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وعبد الله بن طارق، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وخالد
بن البكير، ومعتب بن عبيد -وهو أخو ابن طارق لأمه- وأمَّر عليهم عاصمًا، وقال
قائل: مرثد بن أبي مرثد، وكذا في «الإكليل».
قال الواقدي: والرَّجيع على سبعة أميال من عُسفان، وحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي
الأسود، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع عيونًا إلى مكة
ليخبروه.
وعند موسى بن عقبة كذلك عن الزهري قال: وكانوا ستة.
وفي «الدلائل» للبيهقي: بعث صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت إلى بني لحيان
بالرجيع، وذكرها ابن إسحاق في صفر سنة أربع من الهجرة، وعدَّهم ستة، وأميرهم مرثد.
(1/208)
وبنو
لِحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر: المعروف فيه كسر اللام، وحكى ابن
قُرْقُول فتحها، وعند الرشاطي: أنهم من بقايا جرهم، وحَلُّوا في هذيل. وعن ابن
دريد: اشتقاقه من اللَّحْي، واللَّحْي من قولهم: لحيت العود [121/أ]
%ج 4 ص 238%
ولحوته: إذا قشرته.
وقوله: (فَنَفَّرُوا لَهُم) بتشديد الفاء، وفي رواية: «فَنَفَرَ إِلَيْهِم
بِقَرِيبٍ مِن مِئَةٍ رَجُلٍ» بتخفيف الفاء، فكأنه قال: نفَّروا مئتي رجل ولكن ما
تبعهم إلا مئة.
وقوله: (فَاقتَصُّوا آثَارَهُم) أي: اتبعوها، وقال ابن التين: ويجوز بالسين.
وقوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِم عَاصِم) أي: علم بحواسه الخمس، قال الله جلَّ
وعزَّ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]. وهكذا، وفي أبي داود:
«فَلَمَّا حَسَّ» بغير الألف.
وقوله: (لَجَؤُوا إِلَى فَدفَد) بفاءين مفتوحتين، بينهما دال مهملة ساكنة، وهو
الموضع المرتفع الذي فيه غلظ وارتفاع.
وفي رواية عند أبي داود: «قَرْدَدْ» بقاف مفتوحة، وبعد الراء الساكنة دالان
مهملتان، الأولى مفتوحة، وهما سواء.
وعن الأوزاعي: لا بأس للأسير المسلم أن يأبى أن يمكن من نفسه؛ بل يأخذ بالشدة
والإباء من الأسر، والأنفة من أن يجري عليه ملك كافر، كما فعل عاصم، وفي نزول خبيب
وصاحبيه جواز أن يستأسر الرجل.
قال المهلب: إذا أراد أن يأخذ بالرخصة في إحياء نفسه كفعل هؤلاء.
وعن الحسن: لا بأس أن يستأسر الرجل إذا خاف أن يُغلب.
وقال النووي: أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورًا.
وأما الثالث الذي قال: (هَذَا أَوانُ الغَدْرِ) فسمَّاه ابن إسحاق: عبدَالله بن
طارق، بدري، وقتله هؤلاء بالحجارة بالظهران.
وكان خُبيب قتل الحارثَ بن عامر يوم بدر، وهو بضم الخاء المعجمة، ذكره البخاري
وغيره في البدريين.
وزعم شيخنا أبو محمد الدمياطي أنَّ الحارث بن عامر إنما قتله خبيب بن أساف ببدر؛
لأن خبيب بن عدي لم يشهد بدرًا.
(1/209)
قال
ابن إسحاق: ابتاع خبيبًا حجير بن أبي إهاب أخو الحارث لأمه، ابتاعه لعقبة بن
الحارث ليقتله بأبيه، وقيل: اشترك في ابتياعه أبو إهاب بن عزيز، وعكرمة بن أبي
جهل، والأخنس بن شريق، وعبيدة بن حكيم بن الأوقص، وأمية بن أبي عتبة، وبنو الحضرمي،
وصفوان بن أمية، وهم أبناء من قُتِل من المشركين ببدر، ودفعوه إلى عقبة فسجنه حتى
انقضت الأشهر الحرم فصلبوه بالتنعيم، فكان أول من صلب في ذات الله جلَّ وعزَّ،
وأول من صلى ركعتين عند القتل، [121/ب]
%ج 4 ص 239%
وقيل: زيد بن حارثة حين أراد المكري الغدر به فيما ذكر في «مرشد الزوار».
و (الدَّثْنَة): بدال مهملة مفتوحة، بعدها ثاء مثلثة ساكنة، ثم نون مفتوحة، ويقال:
بكسر الثَّاء، قتله صفوان بن أمية بأبيه.
وقول عمرو بن أبي سفيان: (فَأَخبَرَنِي عُبَيدُ اللهِ بنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنتَ
الحَارِثِ أَخبَرَتهُ) يريد القاري، من القارة.
قال الحافظ المزي: وهو والد محمد بن عبيد الله، وسمَّى ابنُ إسحاق ابنةَ الحارث:
ماوية، وقيل: مارية، وهي مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت زوج عقبة بن الحارث،
وسماها ابن بطال: جويرة.
وفي «معجم البغوي»: هي ماوية بنت حجير بن أبي إهاب، وعند الواقدي: هي مولاة بني
عبد مناف.
قال الحميدي في «الجمع»: رواية عبيد الله عنها هنا إلى قوله: (فَلَمَّا خَرَجُوا
بِهِ مِنَ الحَرَمِ)، والابن الذي أحدَّ الموسى هو أبو الحسين بن الحارث بن عامر
بن نوفل، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي شيخ مالك.
وقوله: (وَاقتُلهُم بَدَدًا) بفتح الباء الموحدة، والبدد: التفرق.
قال السهيلي: ومن رواه بكسر الباء فهو جمع بِدَّة، وهي: الفرقة والقطعة من الشيء
المتبدد، ونصبُه على الحال من المدعو، وبالفتح مصدر. كأنه قال: لا تُبق منهم
أحدًا.
و (المَصْرَعُ): موضع سقوط الميت.
و (الشِّلْو): العضو من اللحم. وعن الخليل: الشلو الجسد من كل شيء.
(1/210)
قال
ابن قُرْقُول: والذي يجب أن يكون هنا ما قاله الخليلي، يعني أعضاء جسد، إذ لا
يقال: أعضاء عضو.
وقال الداودي: و (الأَوْصَالُ): جمع وصل، و (المُمَزَّع): بضم الميم وبالزاي وعين
مهملة، المفرق.
وفي رواية: الذي قتل خُبيبًا هو أبو سِروَعة بكسر السين، وقيل: بفتحها وفتح الراء،
وقيل: بفتح السين وضم الرّاء، وقيل: إنه عقبة بن الحارث، وقيل: أخوه، وكلاهما أسلم
بعد ذلك، وكان عاصم قَتل يوم أحد فتيين من بني عبد الدار أخوين، أمهما سلافة بنت
سعد بن شهيد، وهي التي نذرت إن قدرت على قحف عاصم لتشربن فيه الخمر.
و (الظُّلَّةُ): السَّحابة. [122/أ]
%ج 4 ص 240%
وقيل: هي كل ما غطى وستر.
وقال القزاز: ما يستظل به من ثوب أو شجر.
قال الخطابي: و (الدَّبُر): الزنابير، واحدها دبرة. وقال ابن فارس: هي النحل،
وجمعه دبور، وسيأتي الكلام عليه أيضًا في الغزوات.
والشعر العيني الذي انشده خبيب قال ابن هشام في «السيرة»: أكثر أهل العلم بالشعر
ينكرها له.
وأمَّا فِكاك الأسير: ففرض على الكفاية، قال ابن بطال: على هذا كافَّة العلماء.
وعن عمر بن الخطاب: فِكاك أسرى المسلمين من بيت المال، وبه قال إسحاق.
وعن الحسن بن علي: هو على أهل الأرض التي يقاتل عليها.
وعن مالك وقيل له: أواجب على المسلمين افتداء أسراهم؟ قال: نعم، أليس بواجب عليهم
أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم، فكيف لا يفدوهم بأموالهم؟
وعن أحمد: يفادون بالرُّؤوس، وأما بالمال فلا أعرفه.
وإطعام الجائع: فرض على الكفاية، فلو أن رجلًا يموت جوعًا، وعند آخر ما يحييه به،
بحيث لا يكون في ذلك الموضع أحد غيره ففرض عليه إحياء نفسه، وإذا ارتفعت حالة
الضَّرورة كان ذلك ندبًا.
وذكر البخاري في: بَابِ فِدَاءِ المُشْرِكِينَ
حديث:
3048 - مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فذكر فداء العبَّاس. [خ 3048]
وهو حديث تفرَّد به عن الجماعة.
وقال الإسماعيلي: لم يسمع موسى بن عُقبة من ابن شهاب شيئًا.
(1/211)
وحديث
[3049] إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز تقدَّم في الصَّلاة.
وكذا حديث [3050] جُبير بن مطعم.
بَابُ الحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
3051 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ:، عَنْ إِيَاسِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ
مِنَ المُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ،
ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اطْلُبُوهُ،
وَاقْتُلُوهُ» فَقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ. [خ 3051]
وعند مسلم: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ، يَعني
حنينًا، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ
جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ
حَقَبِهِ، فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ،
وَجَعَلَ
%ج 4 ص 241%
يَنْظُرُ، وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ
خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ قَعَدَ عَلَيْهِ،
فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ.
قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ، ثُمَّ
تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ
رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي، فَضَرَبْتُ رَأْسَه، فَنَدَرَ،
ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ،
فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ:
«مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟» قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ: «لَهُ سَلَبُهُ
أَجْمَعُ».
(1/212)
وعند
الإسماعيلي: فقال صلى الله عليه وسلم: «عَليَّ بِالرَّجُلِ، اقتُلُوه» فابتدروه
القوم.
وفي رواية: قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر أنه عين من المشركين،
فقال: «مَن قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ».
قال المهلب: هذا الحديث أصل في قتل الجاسوس الحربي، وعليه جماعة العلماء، واختلفوا
في الحربي يدخل دار الإسلام بغير أمان، فقال مالك: هو فيء لجميع المسلمين، وهو قول
أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد هو لمن وجده.
وقال الشافعي: هو فيء إلا أن يسلم قبل الظفر به، واحتج الشافعي بحديث سلمة في أنَّ
السَّلب من رأس الغنيمة لا من الخُمس.
قال ابن القصَّار: سلمة إنَّما كان مستحقًّا لكل الغنيمة لا الخُمس؛ لأنه لم يكن
من جملة العسكر، وإنما تبعه وحده فله ما أخذ غير الخُمس، فترك النبيُّ صلى الله
عليه وسلم له الخُمس زيادة على الأربعة الأخماس التي له.
وأما الجاسوس المعاهد والذميُّ:
فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضًا للعهد؛ فإن رأى الإمام استرقاقه أَرَقَّه ويجوز
قتله.
قال النَّووي: وعند الجمهور لا ينتقض عهده بذلك إلا أن يكون شرط عليه انتقاض العهد
بذلك.
وأما المسلم: فعند الشَّافعي وأبي حنيفة وبعض المالكية في آخرين يُعزَّر بما يراه
الإمام إلا القتل.
وقال مالك: يجتهد فيه الإمام.
قال عياض: قال كبار أصحابه يقتل واختلفوا [123/أ]
%ج 4 ص 242%
في تركه بالتوبة؛ قال ابن الماجشون: إن عُرف بذلك قُتل وإلا عُذِر.
وعند أبي حنيفة: السَّلب ما على المقتول من ثياب، وسلاح، ومركب.
وعند ابن قُرْقُول: هو ما أُخذ عنه من لباس وآلة حرب.
وقال ابن المنير في تبويب البخاري: الترجمة أعم؛ لأنَّ الجاسوس حكمه غير حكم
الحربي المطلق الداخل بغير أمان.
وقال ابن المنير في حديث عمر المذكور في الجنائز، والمزيد فيه من عند أبي نعيم
الحافظ: «وَيُوفَى لَهُم بِعَهدِهِم»، إذا نقض الذِّميُّ العهد هل يُسترقُّ أم لا؟
(1/213)
فعن
ابن شهاب: لا يُسترقُّ، وقال ابن القاسم: يُسترَقُّ، محتجًا بأن الذمة لو حمتهم من
الرق بعد نقضهم لحمتهم من القتل، وقد صلب عمر يهوديًا أراد اغتصاب امرأة، ورأى أبو
بكر استرقاق أهل الردَّة، فكيف بكفَّار نقضوا العهد؟
وقال البخاري في: بَابِ جَوَائِزِ الوَفْدِ
3053 - حدثنا قَبِيصة، حدثنا ابن عيينة. [خ 3053]
قال الجيَّاني: كذا في نسخة أبي زيد والنَّسفي وأبي أحمد، وعن ابن السَّكن، عن
الفِربري، عن البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن عيينة.
جعل بدل قَبيصةٍ قتيبةَ، وتكرر قتيبة عن ابن عيينة في مواضع، ولعلَّ البخاري سمع
الحديث منهما، غير أنه لا يُحفَظُ لقبيصة عن ابن عيينة شيء في الجامع، ولا ذكره
أبو نصر فيمن روى في الجامع عن غير الثوري.
وأما (جَزِيرَةِ العَرَبِ) فقال أحمد بن المعدل: حدثني يعقوب بن محمد بن عيسى
الزهري، قال: قال مالك بن أنس: جزيرة العرب المدينة ومكة شرَّفهما الله تعالى،
واليمامة، واليمن.
وفي رواية ابن وهب عنه: مكة والمدينة واليمن.
وعن المغيرة بن عبد الرحمن: مكة والمدينة واليمن وقريَّاتها.
وعن الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس، من أقصى عدنِ أبينَ إلى أطراف الشام، هذا
الطول، والعرض من جُدَّة إلى ريف العراق.
وفي رواية أبي عبيدة عنه: الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق طولًا، وعَرضُها من
جُدَّة وما وراءها إلى [123/ب]
%ج 4 ص 243%
ساحل البحر أطراف الشَّام.
وقال الشعبي: هي ما بين الكوفة إلى حضرموت.
وقال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى بِطُوارة من أرض العراق، إلى أقصى اليمن
في الطول، وأمَّا في العَرض فما بين رَمْل يَبْرِين إلى منقطع السماوة.
قال أبو عبيد البكري: قال الخليل: سميت جزيرة العرب لأنَّ بحر فارس وبحر الحبش
والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومَعْدِنها.
(1/214)
وقال
أبو إسحاق الحربي: أخبرني عبيد الله بن شبيب، عن زهير، عن محمد بن فضالة: إنما
سميت جزيرة لإحاطة البحر بها، والأنهار من أقطارها وأطرافها، وذلك أنَّ الفرات
أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين، ثم انحطَّ عن الجزيرة، وهو ما بين الفرات
ودجلة، وعن سواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأبلة، وامتدَّ البحر
من ذلك الموضع مغرِّبًا مُطبِقًا ببلاد العرب منقطعًا عليها، فأتى منها على سفوان
وكاظمة، ونفد إلى القطيف وهجر وأسياف وعمان السحر، وسال منه عُنق إلى حضرموت إلى
أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن بلادِ حَكَمٍ والأشعريين
وعَكٍّ، ومضى إلى جُدَّة ساحلِ مكة، وإلى الجار ساحل المدينة، وإلى ساحل تَيْماء
وأَيْلَة حتَّى بلغ إلى قُلْزُم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا العنق
من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر، حتَّى دفع في بحر مِصر والشام، ثم
أقبل ذلك البحر من مصر حتَّى بلغ بلاد فلسطين، ومرَّ بعسقلان وسواحلها، وأتى على
صور بساحل الأردن، وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل
قنسرين، حتَّى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطًا على أطراف قنسرين
والجزيرة إلى سواد العراق، فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها على خمسة
[124/أ]
أقسام: تِهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن.
وقوله في الحديث: (وَنَسِيتُ الثَّالِثَة) قال ابن المنير: ورد في رواية أنها
القرآن.
وعن المهلب: حتَّى تجهيز جيش أسامة بن زيد.
قال ابن بطال: كان المسلمون اختلفوا في تجهيز جيشه على أبي بكر، فأعلمهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم عهد بذلك عند موته.
وقال عياض: يحتمل أنَّها قوله: «لَا تَتَّخِذُوا قَبرِي وَثَنًا»، فقد ذكر مالك
معناه مع إجلاء اليهود.
بَابُ إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الحَرْبِ، وَلَهُمْ مَالٌ أَرَضُونَ،
فَهِيَ لَهُمْ
(1/215)
3059
- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الحِمَى،
فَقَالَ: يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ
المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ
الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ
ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَان إِلَى
زَرْعٍ ونَخْلٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ: إِنْ
تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا، يَأْتِنِي بِبَنِيهِ»، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ
المُؤْمِنِينَ؟ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَكَ،
فَالْمَاءُ وَالكَلَأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَايْمُ
اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ، إِنَّهَا لَبِلاَدُهُمْ
قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلاَمِ،
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ المَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا. [خ 3059]
وهذا الأثر تفرَّد به البخاري عن الجماعة، وقال فيه الدارقطني: غريب صحيح.
وذكر أيضًا حديث:
3058 - «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟». [خ 3058]
وقد تقدم ذكره في الحج.
قال المهلب: لما أسلم أهل مكة منَّ عليهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وترك لهم أموالهم وديارهم، ولم يستطب تعرض أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده، ولا
شيء للغانمين فيه، إلا أن يقسمه [124/ب]
%ج 4 ص 245%
(1/216)
لقوله
جلَّ وعزَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فأتاهم صلى الله
عليه وسلم بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم في مكة فانتهوا، ونهاهم عن
الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذه الآية فلم يقسمها لهم.
قال ابن المنير: وجه مناسبته للترجمة على وجهين:
إما أن يكون صلى الله عليه وسلم سئل: هل ينزل بداره بمكة؟ وهو مُبَيَّن في بعض طرق
الحديث. وقوله: (وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا؟) بيِّنٌ؛ لأنه إذا ملك ما
استولى عليه في الجاهلية من ملك النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يملك ما لم يزل
له ملكا أصالة.
وإما أن يكون سُئل: هل يترك من منازل مكة شيئًا لأنها فتحت عنوة؟ فبيَّن أنه منَّ
علىها أهلها بأنفسهم وأموالهم فتستقر أملاكهم عليها كما كانت.
قال: وعلى التقديرين فأهل مكة ما أسلموا على أملاكهم، ولكنه مَنَّ عليهم ثم
أسلموا، فإذا ملكوا وهم كفار بالمنِّ، فملكُ من أسلم قبل الاستيلاء أولى.
وحديث عمر مطابقته بينة، غير أن عبد الرحمن وعثمان رضي الله عنهما لم يكونا من أهل
المدينة ولا دخلاها في قوله: (قَاتَلُوا عَلَيهَا فِي الجَاهِلِيِّةِ وَأَسلَمُوا
عَلَيهَا فِي الإِسلَام) والكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليهما.
قال المهلب: إنما أدخل البخاري حديث عمر تحت هذِه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا
عَفوًا، فكانت أموالهم لهم، ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بني النجار فأوجبه لهم،
وكذا قال عمر: (إِنَّها لأَرْضُهم قَاتَلُوا عَلَيهَا فِي الجَاهِلِيِّةِ) فأوجبها
لهم.
وهذا كله يشهد لهذه الترجمة أنَّ من أسلم في أرض الحرب فأرضه له، ما لم يُغلب
عليها.
وسئل مالك عن إمام قَبِلَ الجزية من قوم فأسلم فيهم أحدٌ، أتكون أرضه وماله له؟
فقال مالك: ذلك مختلف، وأمَّا الصُّلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما
أهل [125/أ]
%ج 4 ص 246%
(1/217)
العَنوة
فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأنَّ أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم
فهي فيء لمن منَّ عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى
صالحوا عليها، فليس عليهم إلا ما صُولحوا عليه، وقول مالك: في هذا إجماع العلماء.
واختلفوا إذا أسلم في دار الحرب وبقي فيها ماله وولده ثم خرج إلينا مسلمًا وغزا مع
المسلمين لمدة؟
فقال ابن إدريس وأشهب وسحنون: إنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان، ومَلَك الصغار
لأنهم تبع له في الإسلام.
وقال مالك والليث: أهله وماله وولده فيء على حكم البلد كما كانت دار النبي صلى
الله عليه وسلم على حكم البلد وملكهم، ولم ير نفسه صلى الله عليه وسلم أحقَّ بها.
وفرق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم في بلده ثم خرج إلينا، فأولاده الصغار أحرار
مسلمون، وما أودعه مسلمًا أو ذميًّا فهو له، وما أودعه حربيًّا فهو وسائر عقاره
هنالك فيء، فإذا أسلم في بلد الإسلام، ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء
لاختلاف حكم الدارين عنده.
ولم يفرق مالك والشافعي بين إسلامه في داره أو في دار الإسلام.
قال المهلب: وقوله: (اُضْمُم جَنَاحَكَ عَلَيَّ) يريد: استرهم بجناحك، هكذا في بعض
الروايات: (على) وفي بعضها: (عن)، أي: لا تحمل ثقلك عليهم وكف يدك عن ظلمهم.
و (الصُّرَيْمَة): تصغير الصِّرمة، وهي من الإبل نحو الثلاثين.
و (الغُنيمة): القليلة.
وقوله: (وَإِيَّايَ، وَنَعَمَ ابنِ عَوفٍ، وَنَعَمَ ابنِ عَفَّانَ) أي: حذَّره أن
تدخل الحمى؛ فإنها كثيرة، فإن دخلته أهلكته، وإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها
عوض من أموالهم.
وقوله: (إِنَّهُم لَيَرَونَ أَنِّي قَد ظَلَمتُهُم) قال ابن التين: يريد أهل
المواشي الكثيرة، ويحتمل أن يريد أهل المدينة.
وقول البخاري في: بَابِ كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ
3060 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ [125/ب]
%ج 4 ص 247%
حدَّثَنَا أَبُوحَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ مثله. [خ 3060]
(1/218)
أي
مثل حديث حذيفة المذكور أولًا، وزاد:
فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَمِئَةٍ. وقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا بَيْنَ سِتِّمِئَةٍ
إِلَى سَبْعِمِئَةٍ.
انتهى التعليق عن أبي معاوية محمد بن خازم.
رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، وأبي كريب، قالوا: حدثنا
أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة فذكره.
وقال المهلب: كتابة الإمام الناس سنة عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين، فيتعين
حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطيق المدافعة إذا نزل بأهل ذلك البلد مخافة، وإن
وجوب ذلك لا يتعدى المسلمين، وليس على أهل الذمة؛ لأنهم إنما أعطوا الجزية
للمدافعة عنهم.
قال ابن التين: واختلاف العدد لعله سقط عن بعض الناقلين، ولعلهم كتبوا مرَّاتٍ
كلما يريد خروجًا، فذكر موطنًا منها.
وقوله: (نَخَافُ وَنَحنُ أَلفٌ وَخَمسُمِئَةٍ) يريد: أيام حفر الخندق. انتهى
كلامه، وفيه نظر.
قال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أنه لا يتخيل أن كتابتهم كان إحصاء بعددهم،
وقد يكون ذريعة لارتفاع البركة منهم كما ورد في الدعوات على الكفار: «اللَّهُمَّ
أَحصِهِم عَدَدًا» أي: ارفع البركة منهم. إنما خرج هذا من هذا النحو؛ لأن الكتابة
لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت ليست من ناحية الكتابة، ولكن من ناحية إعجابهم
بكثرتهم، فأُدِّبوا بالخوف المذكور في الحديث.
ثم إن الترجمة تطابق الكتابة الأولى، وأما هذِه الثانية فكتابة خاصة لقوم
بأعيانهم.
بَابٌ: إِنَّ اللهَ يُؤيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِر
(1/219)
3062
- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
وَحَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ، حدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا
مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمخيبر، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي
بالإِسْلاَمَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَلَمَّا حَضَرَ القِتَالُ قَاتَلَ
الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا، [126/أ]
%ج 4 ص 248%
فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى
الجرح، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ
فَقَالَ: «الله أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ». ثُمَّ
أَمَرَ بِلاَلًا فَنَادَى بِالنَّاسِ «إِنَّهُ لاَ يدخلُ الجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ
مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ».
[خ 3062]
وذكره أيضًا في غزوة خيبر، ومن عادة العلماء أن يذكروا السند النازل، ثم يذكرون
العالي، والبخاري هنا عكس من غير أن يبين في السند فائدة فَيُنظر.
وزعم ابن إسحاق والواقدي في آخرين أنَّ هذا كان بأحد، واسم الرجل: قزمان، وهو
معدود في جملة المنافقين، وكان تخلف عن يوم أحد فعيره النساء، فلما أَحْفَظْنَهُ
خرج فقتل سبعة، ثم جُرح فقتل نفسه. الحديث.
وقصة قزمان كانت بأحد، وقد تقدم ذكرها في كتاب الجهاد.
وأما حديث أبي هريرة فالصحيح أنه كان في خيبر، كما ذكره البخاري، وهما قصتان.
قال المهلب: هذا مما أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن نفذ عليه الوعيد من
الفجار المذنبين، لا أن كل من قتل نفسه أو غيره يقضى عليه بالنار.
(1/220)
وقال
ابن التين: يحتمل أن يكون استوجبها إلا أن يغفر الله له، أو بقوله في غير ذلك
الرجل على الحقيقة، ويحتمل إن كان على الحقيقة أن يُعاقب بقتله نفسَه، أو يكون قد
ارتاب وشك حين أصابه الجراحة، وهذا أشبه بظاهر الحديث لقوله: «لَا يَدخُلُ
الجَنَّةَ إِلَّا نَفسٌ مُسلِمَةٌ» وهذا يدلُّ على أنَّ الرَّجل كان مسلمًا لا
منافقًا.
وقال ابن المنير: هذا رجل ظاهر الإسلام، قتل نفسه، وظاهر النداء عليه يدل على أنه
ليس مسلمًا، والمسلم لا يخرجه قتل نفسه عن كونه مسلمًا، فلا يُحكم بكفره، ويُصلَّى
عليه، قال: ويجاب عن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع من أمره على سرِّه
فعلم بكفره؛ لأن الوحي عنده عتيد.
وقولهم: (قُلتَ لَهُ إِنَّهُ مِن أَهلِ النَّار) قال ابن الشجري: اللام قد تأتي
بمعنى (في)، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [126/ب]
%ج 4 ص 249%
لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: فيه.
وقوله: (فَكَادَ بَعضُ النَّاسِ أَن يَرتَابَ) كذا في نسخة السَّماع بثبوت (أن) مع
(كاد) وهو جائز على قلته.
وقوله: (إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ) وفي رواية: «يؤيد» بغير لام.
قال النووي: ويجوز في (إنَّ) كسر الهمزة وفتحها، وقد قُرئ في السبعة: {إِنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} [آل عمران: 45] بفتح الهمزة وكسرها.
قال ابن بطال: ولا يعارض هذا قوله: «إِنَّا لَا نَستَعِينُ بِمُشرِك» لأنَّ المشرك
غير المسلم الفاجر أو يُحمل قوله على أنَّا لا نستعين بمشرك أن يكون خاصًّا بذلك
الوقت؛ فقد استعان بصفوان بن أمية في هوازن واستعار منه مئة درع، وخرج معه صفوان
حتَّى قالت له هوازن: تقاتل مع محمد ولست على دينه؟ فقال: لأن يَرُبُّني رجل من
قريش خير من أن يَرُّبُني رجل من هوازن.
قال الطحاوي: قتال صفوان كان مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باختياره، فلا
يعارض قوله: «إنَّا لا نستعين بمشرك» انتهى.
(1/221)
ينظر
في هذا الكلام فإنَّ المقول له هذا كان أيضًا مختارًا، لا مجبورًا، والله تعالى
أعلم.
قال ابن التين: وهل يستعان بالكفار في المجانيق وشبهها؟ فمنعه مالك، وأجازه ابن
حبيب.
قال ابن المنير: موضع الترجمة أن لا يُتَخَيَّل في الإمام والسلطان الفاجر إذا حمى
حوزة الإسلام أنه مُطَّرح النفع في الدين لفجوره، فيُخرجَ عليه ويُخلع؛ لأن الله
قد يؤيد دينه به، فيجب الصبر عليه والسمع والطاعة له، في غير المعصية.
ومن هذا الوجه استحسان العلماء الدعاء للسلاطين بالتأييد وشبهه من الخير، من حيث
تأييدُهم للدين، لا من حيث أحوالهم الخارجة.
بَابُ مَنْ غَلَبَ العَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاَثًا 3065 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ،
حدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ
أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى
قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ. [خ 3065] تَابَعَهُ مُعَاذٌ،
وَعَبْدُ الأَعْلَى، حدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي
طَلْحَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي موضع آخر:3976 - أَمَرَ يَوْمَ
بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ [127/أ]
%ج 4 ص 250%
صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ
مُخْبِثٍ. فذكر نداه إيَّاهم. [خ 3976]
وقوله: (مَا أَنتُم بِأَسمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنهُم) قال قتادة: أحياهم الله حتى
أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا.
متابعة عبد الأعلى رواها مسلم عن يوسف بن حماد عنه، ومتابعة معاذ رواها وأبو بكر
الإسماعيلي عن أبي يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا معاذ بن معاذ وعبد
الأعلى، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، فذكره.
(1/222)
وأما
قول الحميدي: زاد البرقاني في هذا الحديث: قَالَ قتادة: أحياهم الله، فذكره، فغير
جيد؛ لثبوته في كتاب البخاري.
وقال ابن المنير: الصحابي رضي الله عنه حكى ما جرى، لا أنه قال لا يجوز غيره.
قال ابن الجوزي: كانت إقامته ليظهر تأثير الغلبة، وتنفيذ الأحكام، وترتيب الثواب
ولقلة احتفاله بهم، كأنه يقول: نحن مقيمون، فإن كان لكم قوة فهلموا إلينا.
وقال غيره: كان هذا منه لأن الثلاث أكثر ما يريح المسافر؛ لأن الأربعة إقامة،
لحديث: «لَا يَبقَيَنَّ مُتَأَخِّرٌ بِمَكَّةَ بَعدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوقَ
ثَلَاثٍ»، ولأن الغنيمة فيها تقسم، ولأن الظهر أيضا يستريح، هذا كله إذا كان في
أمن من عدوه.
وقولُ البخاريِّ في:
بابِ مَنْ قَسَمَ الغَنِيمَةَ فِي غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُلَيْفَةِ،
فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا.
تقدَّم في الشَّركة مسندًا من عند الستَّة، وسيأتي بعد باب: القليل من الغلول
أيضًا.
قال المهلب: هذا إلى نظر الإمام واجتهاده، يقسم حيث الأمن والحاجة، ويؤخر إذا رأى
بالمسلمين غَنَاءً.
وممن أجاز القسمة بدار الحرب: مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: لا، حتى يخرجها إلى دار الإسلام؛ وذلك لأن الملك لم يتمَّ عليها
إلا بالاستيلاء التام، ولا يحصل إلا بإحرازها في دار الإسلام.
استدلَّ الأوَّلون بما رواه أبو إسحاق الفزاري، قال: قلت للأوزاعي: هل قسم رسول
[127/ب]
%ج 4 ص 251%
الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الغنائم بالمدينة؟ قال: لا أعلمه، وكان الناس
يتبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم، ولم يقفل سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم من غزاة قط أصاب منها غنيمة إلا خمَّسها، وقسمها من قبل أن يقفل، من ذلك غزاة
بني المصطلق وخيبر وهوازن، ذكر ذلك ابن قدامة.
(1/223)
قال:
ولأن الملك يثبت فيها بالقهر والاستيلاء، فصحت قسمتها، كما لو أُحرزت بدار
الإسلام، والدليل على ثبوت الملك فيها أمور:
أحدها: أن سبب الملك الاستيلاء التام، وقد وُجد.
الثاني: أن ملك الكفار زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في
الغنيمة ولا يصح تصرفهم فيها.
الثالث: لو أسلم عبدُ الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرًّا، وهو يدل على زوال ملك
الكفار وثبوت الملك لمن قهره.
بَابُ إِذَا غَنِمَ المُشْرِكُونَ مَالَ المُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ المُسْلِمُ
3067 - قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ، حدَّثَنَا عَبدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ
عُمَرَ، قَالَ: ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ، فَأَخَذَهُ العَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ،
فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَقَ عَبْدٌ
لَهُ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمُ المُسْلِمُونَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ
خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [خ 3067]
هذا التَّعليق رواه أبو داود عن محمد بن سليمان الأنباري والحسن بن علي الخلال،
قالا: حدثنا عبد الله بن نمير، به.
قال الداودي: كان هذا في غزوة مؤتة، وهو الصحيح بخلاف ما رواه موسى بن عقبة عند
البخاري عن نافع من قصة الفرس الآتي بعدُ في هذا الباب، وأمير المسلمين يومئذ خالد
بعثه أبو بكر.
ولما روى الإسماعيلي حديث موسى قال فيه: يوم لقي المسلمون ظبيا وأسدًا، فاقتحم
الفرس بعبد الله بن عمر جرفًا فصرعه، وسقط عبد الله، فعارَ الفرسُ فأخذه العدو،
فلما هزم الله العدو رد خالد على عبد الله فرسه.
وعند ابن أبي عاصم في «كتاب الجهاد» عن أبي هريرة: أنَّ رجلًا أهدى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ناقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعرِفُهَا
كَمَا أَعرِفُ بَعضَ أَهلِي».
وقد اختلف العلماء في [128/أ]
%ج 4 ص 252%
(1/224)
الأموال
التي يأخذها المشركون من المسلمين، ثم قهرهم المسلمون وأخذوها منهم، فلا يخلو
صاحبها إما أن يكون [علم] بها قبل قسمتها أو بعد القسمة، فإن علم بها قبل القسمة
رُدَّت إليه بغير شيء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب، وعطاء،
والنخعي، وسليمان بن ربيعة، والليث، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي،
والكوفيون، وإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال الحسن والزهري: لا ترد إلى صاحبها قبل القسمة ولا بعدها، وهي للجيش، ونحوه عن
عمرو بن دينار، قال ابن المناصف: وروِي مثلُهُ عن علي بن أبي طالب؛ لأن الكفار
ملكوه باستيلائهم، فصار غنيمة كسائر أموالهم.
واستُدل للأوَّلين بحديث الباب، وبما روي عن ابن عباس أن رجلًا وجد بعيرًا له كان
المشركون أصابوه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِن أَصَبتَه قَبلَ أَن نَقسِمَه
فَهُو لَكَ، وَإِن أَصَبتَهُ بَعدَ مَا قُسِمَ أَخَذتَه بِالقِيمَةِ»، ذكره أبو
داود من حديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة.
وقال أبو أحمد: هذا يعرف بآخر عن عبد الملك، وقد روي عن ابن مسعود، عن عبد الملك،
قال يحيى بن سعيد: سألت مسعرًا عنه، فقال: هو من حديث عبد الملك، ولكن لا أحفظه.
قال يحيى والحسن: متروك.
وقال الطحاوي: من رواية عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس.
قال: يدل على أنه قد رواه غير الحسن بن عمارة، فاستغنى عن روايته لشهرته عن عبد
الملك بن ميسرة.
وقال ابن عدي: وروي أيضًا من حديث مسلمة بن علي وابن عياش، وهما ضعيفان.
ومن حديث إسحاق بن أبي فروة عند الدارقطني، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن وَجَدَ مَالَه فِي الفَيءِ قَبلَ أَن يُقسَمَ
فَهُوَ لَه، وَمَن وَجَدَهُ بَعدَ مَا قُسِمَ فَلَيسَ لَهُ بِحَقٍّ».
قال الإشبيلي: أسنده ياسين الزيات، عن سماك، عن تميم، عن جابر بن سمرة. وياسين
ضعيف عندهم.
(1/225)
وإن
علم به بعد القسمة أخذه بالقيمة، وهو قول عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن المسيب،
وعطاء، والقاسم، وعروة، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، ومالك. [128/ب]
%ج 4 ص 253%
أخذًا بحديث ابن العباس المتقدم، وبحديث رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن
الخطاب في هذا فقال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به بالثمن الذي حسب على من أخذه.
وكذلك إن بِيع ثم قسم ثمنه فهو أحق بالثمن، ولأنه إنما امتنع من أخذه بغير شيء كي
لا يفضي إلى حرمان آخذه، أو يضيع الثمن على المشتري، وحقهما ينجبر بالثمن.
والمحكي عن أبي حنيفة أخذه بالقيمة، ويروى عن مجاهد مثله.
والباقون يقولون: يأخذه بالثمن الذي حسب على من أخذه.
وقال الشافعي: لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها
بغير شيء، ويعطي مشتريه ثمنه من خمس المغانم.
احتج له بحديث أبي المهلب، عن عمران ابن حصين: أغار المشركون على سرح المدينة،
وأخذوا العضباء، فركبت امرأة العضباء ونذرت أن تنحرها، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لَا نَذرَ فِيمَا لَا يَملِكُ ابنُ آدَمَ» وقد تقدَّم.
وقال ابن القصار: يملكه أهل الحرب على المسلمين، ألا ترى أنه لو كان باقيًا على
ملك مالكه لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة ولا بعدها، فكذا لو أتلفه الكافر ثم أسلم
لم نتبعه بقيمته، ولو أتلفه مسلم على مسلم غرمه، ولمَّا جاز أن يملك المسلم على
الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر بذلك عليه، بدلالة قوله: «هَلْ تَرَكَ
لَنَا عَقِيلٌ مِن رِبَاع؟»، وكان قد استولى على دور النبي صلى الله عليه وسلم
بمكة وباعها، وهو قول أحمد بن حنبل.
وعند الطحاوي روى سفيان، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة، أن رجلًا أصاب العدو له
بعيرًا، فاشتراه رجل منهم، فجاء به، فعرفه صاحبه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: «إن شئت أعطِه ثمنه الذي اشتراه به، وهو لك، وإلا فهو له».
(1/226)
وقوله
في حديث جابر: (فَحَيَّ هَلَا) قال ابن قُرْقُول: حي كذا، أي: هلُمَّ وأقبل، يقال:
حيَّ على، وحيْ هلا، وحيَّ هلا، وعلى كذا حي هل منصوبة مخففة مشبهة بخمسة عشر، وحي
هل بالسكون لكثرة الحركات، ولشبهها بِصَهْ وَمَهْ، وحَيَّ هْلَ بسكون الهاء،
[129/أ]
%ج 4 ص 254%
وقال أبو عبيد: معنى قوله فحي هلًا بعمر، أي: ادع عمر، وقيل: حي: هلمَّ، وهلا:
حثيثًا، وقيل: هلا: أسرع، جُعل كلمة واحدة، وقيل: هلا: اسكن، وحي: أسرع، أي: أسرع
عند ذكره واسكن حتى ينقضي.
وقال الداودي: فحيَّ هلا بكم، أي: هلموا أهلًا بكم وأتيتم أهلكم
وقوله: (سَنَّه) قال ابن المبارك: هي بالحبشية حسنة، وفي رواية: «سنَّا سنَّا»،
وفي رواية: «سنَّاه سنَّاه»، قال ابن قُرْقُول: كلُّها بفتح السين وشدِّ النون إلا
عند أبي ذر فإنه خفف النون، وعند القابسي كسر السين.
وقوله: (أَبلِي وَأَخلِقِي) أي: أنعمي، والبلاء للخير والشر؛ لأن أصله الاختبار،
وأكثر ما يستعمل في الخير مقيدًا, وعند أبي ذر: «أخلفي» بالفاء، والأول بالقاف هو
المشهور.
وقوله: (حَتَّى ذَكَر) كذا لأكثر الرواة بالذال المعجمة والرَّاء، وزاد ابن السكن:
«حتى ذكر دهرًا» وهو تفسير لهذه الرواية، كأنه أراد: وبقي هذا القميص مدة من
الزمان طويلة أُنسِيَها الراوي فعبر عنها بقوله: (ذَكَرَ دَهرًا) أي: زمانًا نسيت
تحديده.
وقيل: هذا الضمير يرجع إلى الراوي، يدل عليه ما في رواية أخرى: «فبقيت» يعني أم
خالد بنت خالد بن سعد بن العاص واسمها آمنة.
وقيل: في ذكر ضمير القميص؛ أي بقي هذا القميص حتى ذُكر دهرًا، كما يقال: شيخ مسنٌّ
يذكر دهرًا، أي: يعقل زمانًا طويلًا قد مضى.
ولأبي الهيثم في رواية: «حتى دكِن» بدال مهملة ونون، والدكنة غبرة كَدِرة من طول
ما لُبس.
(1/227)
وعند
البخاري: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بثياب فيها خميصة سوداء أو صفراء،
فقال: «مَن تَرَونَ أَكسُو هَذِه؟» فسكت القوم، فقال: «ائتُونِي بِأُمِّ خَالِد»
فأُتي بها تُحملُ، وأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال: «أَبلِي وَأَخلِقِي» وكان
فيها علم أخضر أو أصفر، فقال: «يَا أمَّ خَالِد، هَذَا سَنَّاه».
و (كَخ كَخ): بفتح الكاف وكسرها، وسكون الخاء وكسرها، وبالتنوين مع الكسر وبغير
تنوين. قال ابن دريد: يقال: كخ [129/ب]
%ج 4 ص 255%
يكخ كخا إذا نام فغط.
وقال الداودي: هي كلمة أعجمية عربت.
قال ابن بطال: يُخاطب الصبيان بما يُخاطب به الكبار تأليفًا إذا فهموا، وهذه
المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف للمسلمين أنه لا يأكل الصدقة.
وقوله في: بَابِ الغُلُولِ
3073 - (لَا أُلفِينَّ): أي: لا أجدن، ألفينا: وجدنا. [خ 3073]
قال القرطبي: كذا الرواية الصحيحة بمدِّ «لا ألفينَّ» وبالفاء، ومعناه: لا يأخذن
أحد شيئًا من المغانم فأجده يوم القيامة على تلك الحال.
قال النووي: هو بضم الهمزة وكسر الفاء، ورواه العذري بفتح الهمزة والقاف من
اللقاء، وله وجه، وجاء في رواية: «لَا أَعرِفَنَّ» والمعنى متقارب، وبعض الرواة
يقول «لَأَعرِفَنَّ» بغير مد على أن تكون لام القسم، وفيه بُعْدٌ، والأول أحسن.
وقوله: (ثُغَاء) هو صوت الغنم.
و (الرُّغَاء): صوت الإبل.
و (اليُعار): [صوت المعز] خاصة، ومنه: شاة تَيْعَرُ.
و (الصَّامت): الذهب والفضة.
قال القرطبي: وفيه دلالة أن الغلول كبيرة.
قال النووي: أجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول وأنه من الكبائر، وقال ابن
المنذر: أجمع العلماء أنَّ الغالَّ عليه أن يرد ما غلَّ إلى صاحب المقاسم ما لم
يفترق الناس، واختلفوا فيما يفعل بعد ذلك إذا افترق الناس؟
(1/228)
فقالت
طائفة: يدفع إلى الإمام خُمْسَه ويتصدق بالباقي، وهو قول الحسن، ومالك، والأوزاعي،
والليث، والزهري، والثوري، وأحمد، وروي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية.
وقال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه إلى الإمام أو الحاكم كسائر الأموال الضائعة،
وليس له الصدقة بمال غيره.
وعن ابن مسعود: أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه.
واختلفوا في عقوبة الغال؟
فقال الجمهور: يُعزَّر بقدر حاله على ما يراه الإمام ولا يحرق متاعه، وهذا قول أبي
حنيفة، والشافعي، ومالك، وجماعة كبيرة من الصَّحابة والتابعين من بعدهم.
وقال الحسن، وأحمد، وإسحاق، ومكحول، والأوزاعي: يحرق [130/أ]
%ج 4 ص 256%
رَحْله ومتاعه كله.
قال الأوزاعي: إلا سلاحه وثيابه التي عليه.
قال الحسن: إلا الحيوان والمصحف.
وقال ابن العربي في كتابه «المسالك»: ثبت في الصحيح من الحديث أنَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «مَن غلَّ فَاضرِبُوهُ وَحرِّقوا رَحلَه».
قال: وأما حديث ابن عمر، عن عمر مرفوعًا في تحريق رحل الغال فهو حديث تفرد به صالح
بن محمد، وهو ضعيف عن سالم. انتهى.
وقال أبو عمر: تفرَّد به صالح، ولا يحتج به.
وقال أبو داود لما ذكره بعد رفعه موقوفًا من فعل الوليد بن هشام بن عبد الملك:
وهذا أصح الحديثين.
وقال الترمذي: غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه، والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وهو
قول أحمد وإسحاق، وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: إنما روى صالح بن محمد، وهو
منكر الحديث، قال: وقد روي في غير حديث في الغال، ولم يأمر فيه صلى الله عليه وسلم
بحرق متاعه.
قال البخاري في «التاريخ»: عامة أصحابنا يحتجون بحديث صالح في الغلول، وهو باطل
ليس بشيء.
وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح، قال: وهو حديث لم يتابع عليه، ولا
أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الطحاوي: ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل الذي وجد عنده الخرز
والعباءة.
(1/229)
قال
الطحاوي: ولو صحَّ حُمل على أنه كان إِذْ كانت العقوبة في الأموال تأخذ شطر المال
من مانع الزكاة وضالة الإبل وسارق التمر، وكله منسوخ. انتهى.
لقائل أن يقول: إنما لم يحرق رحل الذي وجد عنده الخرز والعباءة لأنه كان ميْتًا،
فخرج ماله إلى ورثته، فليس برَحْله حينئذ ولا متاعه، والحديث الأول محمول على ما
إذا كان الغالٌّ حيًّا فلا تعارض بينهما على هذا، والله أعلم.
باب القَلِيلِ مِنَ الغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وهذا أَصَحُّ.
كأنَّ البخاري يريد تضعيف ما أسلفناه، وما رواه أبو داود عن محمد بن عون، [130/ب]
%ج 4 ص 257%
عن موسى بن أيوب، عن الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر: حرقوا متاع الغال وضربوه.
قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ولم أسمعه منه: «ومنعوه سهمه».
قال أبو داود: وحدثنا الوليد بن عتبة وعبد الوهاب بن نجدة، عن الوليد، عن زهير، عن
عمرو قوله، ولم يذكر ابن نجده: «مُنع سهمُه». وتصحيح ما رواه هو:
3074 - عن عَلِيٍّ، حدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ ابن عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم: «هُوَ فِي النَّارِ». فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا
عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. [خ 3074]
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ: كَرْكَرَةُ.
(1/230)
قوله:
(في النَّار) قال ابن التين، عن الداودي: يحتمل أن يكون هذا جزاؤه إلا أن يعفو
الله، ويحتمل أن يصيبه في القبر، ثم ينجو من جهنم، ويحتمل أن يكون وجبت له النار
من نفاق كان يُسِرُّه، أو بذنب مات عليه مع غلوله أو بما غل، فإن مات مسلمًا فقد قال
صلى الله عليه وسلم: «يَخرُجُ مِن النَّارِ مَن مَاتَ فِي قَلبِهِ مِثقَالُ
ذَرَّةٍ مِن إِيمَانٍ».
وفي إكفائه صلى الله عليه وسلم القدور في حديث رافع بن خديج المتقدم قبلُ في كتاب
الشركة: قال المهلب: إنما أمر بإكفائها لأنهم ذبحوها بذي الحليفة، وهي أرض الإسلام،
وليس للناس أن يأخذوا في أرض الإسلام إلا ما قسم لهم، وإباحة الأكل من لحوم الإبل
والغنم وغيرها عند جماعة العلماء إنما هو في أرض العدو، وقبل تخليص الغنيمة
وإحرازها.
قال الشافعي: ما أخذه المرء من الطعام في أرض العدو وفضلت منه فضلة وقدم بها بلد
الإسلام فإنه يردها إلى الإمام.
وقال أبو حنيفة: يتصدق به. فكيف بمن يأخذه في أرض الإسلام، ويتصرف فيه بغير إذن
الإمام؟
ورخص مالك في فضلة الزاد مثل الخبز واللحم إذا كان يسيرًا لا مال له. وهو قول
[131/أ]
%ج 4 ص 258%
أحمد.
وقال الليث: أحب إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه.
وقال الأوزاعي: يهديه إلى أهله، وأما البيع فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه في
المغنم، فإن فات تصدَّق في الجيش، ورخَّص فيه سليمان بن موسى.
قال ابن المنذر: روى سماك عن ثعلبة بن الحكم قال: أصبنا يوم خيبر غنمًا
فانتهبناها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدورهم تغلي فقال: «إِنَّهَا
نُهبَةٌ فَأكْفِؤُوا القُدُورَ وَمَا فِيهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ النُّهبَةُ».
فهذا يدل أنهم كانوا قد خرجوا من أرض العدو؛ لأن النهبة مباحة في بلاد العدو.
وقال ابن المنير: وذهب بعض العلماء إلى أن المذبوح تعديًا سرقة أو غصبًا ميتةٌ،
وله انتصر البخاري.
(1/231)
وقال
ابن المنير: يحتمل أنهم تجاوزوا في ذلك، وتبويب البخاري يدل على كراهية ذلك.
قال القرطبي عن المهلب: إن ذلك كان لتركهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أخريات القوم واستعجالهم للنهب، ولم يخافوا من مكيدة العدو، فحرمهم الشَّرع ما
استعجلوا له عقوبة لهم بنقيض قصدهم، كما منع القاتل من الميراث.
قال القرطبي: ويشهد لصحة هذا التأويل حديث أبي داود: «وتقدم سَرَعَانُ النَّاسِ
فَعَجِلُوا وَأَصَابُوا مِن المَغَانِمِ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي
أُخرَيَاتِ النَّاس».
قال: واعلم أن المأمور بإراقته إنما هو إتلاف لنفس المَرَق، وأما اللحم فلم
يتلفوه، ويحمل على أنه جُمع وَرُدَّ إلى المغنم، ولا يظن به أنه أمر بإتلافه؛ لأنه
مال الغانمين، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، على أن الجناية بطبخه
لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، إذ من جملتهم أصحاب الخمس، ومن الغانمين من لم
يطبخ.
فإن قيل: لم ينقل إلينا أنهم حملوا ذلك اللحم إلى المغنم؟
قلنا: ولا ينقل أنهم أحرقوه ولا أتلفوه كما فعل بلحوم الحمر الأهلية؛ لأنها نجسة
قاله صلى الله عليه وسلم، أو قال: «رِجْسٌ»، وإذا لم يأت نقل صريح وجب تأويله على
وفق القواعد الشرعية.
بابُ الطَّعَامِ عِنْدَ القُدُومِ
وكَانَ [131/ب]
%ج 4 ص 259%
ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ
هذا التعليق رواه القاضي إسماعيل في «كتاب الأحكام» عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن
نافع، عنه، أنه كان إذا كان مقيمًا لم يفطر، وإذا كان مسافرًا لم يصم، وإذا قدم
أفطر أيامًا لغاشيته ثم يصوم.
قال المهلب: ما ذكره إسماعيل هنا ليس فيه دليل أنَّ سفره كان أبدًا في رمضان دون
سائر الشهور؛ بل قوله: إذا كان مقيمًا لم يفطر، يدل أن إفطاره لغاشيته قد يكون من
صيامه التطوع، فيحتمل أن يُبيِّت الفطر.
فإن قيل: ويحتمل أن يبيت الصيام ثم يفطر، لوُرَّاده بعد التبييت.
(1/232)
قال
أبو عبد الله: يرد ذلك قوله: «ذلك الذي يلعب بصومه» وقد زوج ابنته فلم يفطر، وقد
دعاه عروة إلى وليمة فلم يفطر، وقال: «لو أخبرتني، ولكني أصبحت صائمًا» فكيف لمن
يغشاه؟
3089 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ،
عَنْ جَابِرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ
المَدِينَةَ، نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً. [خ 3089]
زَادَ مُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبٍ، سَمِعَ جَابِرًا: «اشْتَرَى مِنِّي
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا بِوَقِيَّتَيْنِ وَدِرْهَمٍ، فَلَمَّا
قَدِمَ صِرَارًا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ، فَذُبِحَتْ.
محمد هذا: هو ابن مثنى، يدل عليه ما قاله الإسماعيلي: حدثنا الحسن، عن ابن راهويه،
قال ابن المثنى، حدثنا وكيع، فذكره.
والزيادة التي ذكرها معاذ أخرجها مسلم في «صحيحه» عن ابن معاذ، عن أبيه، به،
والإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان عن ابن معاذ، عن أبيه، به.
وأمَّا: (صِرَار) فموضع قرب المدينة، قيده الدارقطني وغيره بالمهملة، وعند الحموي
والمستملي وابن الحذاء: «ضرار» بضاد معجمة. قال ابن قُرْقُول: وهو وهم.
قال الخطابي: وهي على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق.
وقال أبو عبيد البكري: هي بئر قديمة تلقاء حرَّة واقم.
وهذا الطعام قال الفراء: سمي النَّقيعة؛ لأن المسافر يأتي وعليه النَّقع، وهو غبار
السَّفر، فيقال منه: انتقعت انتقاعًا [132/أ].
%ج 4 ص 260%
وقال في «الموعب»: النقيعة المحض من اللبن يبرد، وقال السلمي: طعام الرجل ليلة
يملك.
وعن صاحب «العين»: النقيعة العبيطة من الإبل، وهي جزور توفر أعضاؤها وتنقع في
أشياء على حيالها، وقد نقعوا نقيعة، ولا يقال: انقعوا.
وستأتي له تكملة في النكاح.
فَرْضُ الخُمُسِ
حديث الشَّارف تقدم في البيوع.
وزاد النسائي على ما ذكره البخاري من الصحابة الذين شهدوا بأن سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
(1/233)
3093
- «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكنَاهُ صَدَقَةٌ» طلحةَ بنَ عبيد الله. [خ 3093]
قال البخاري:
3094 - حدثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ. [خ 3094]
وهو الصواب، ووقع في نسخة أبي الحسن: حدثنا محمد بن إسحاق الفروي، وكأنه وهم.
قال عياض: تأوَّل قوم طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من أبيها على أنها أوَّلت
الحديث إن كان بلغها قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَا نُورَثُ» على الأموال
التي لها بال، فهو الذي لا يورث، لا ما يتركون من طعام وأثاث وسلاح.
قال: وهذا التأويل يرده قوله: (مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيهِ)، وقوله: (مِمَّا
تَرَكَ مِن خَيبَرَ وَفَدَك وَصَدَقَتِهِ بِالمَدِينَةِ).
وقيل: إن طلبها لذلك قبل أن تسمع الحديث، الذي دلَّ على خصوصية سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بآية الوصية: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً
فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11].
قال ابن المنير: حكي أن طائفة من الشيعة تزعم أنه لا يورث، قالوا: ولم تطالب فاطمة
بالميراث، وإنما طالبت بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نحلها من غير علم أبي بكر
رضي الله عنهما.
وأُنكر هذا، وقالوا: ما ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نحلها شيئًا، ولا أنها
طالبت به. انتهى.
وأما ما روي من أن فاطمة رضي الله عنها طلبت فدك، وذكرت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أقطعها [132/ب]
%ج 4 ص 261%
إيَّاها، وشهد لها عليٌّ على ذلك فلم يقبل أبو بكر شهادته؛ لأنه زوجها فلا أصل له
ولا تثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا يثبت.
(1/234)
وإنما
طلبت وادعت الميراث هي وغيرها من الورثة، قاله أبو إسحاق إبراهيم بن حماد بن أيوب
بن حماد بن زيد الباجي في كتابه: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال لها أبو
بكر: أنت عندي مُصدَّقة، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك
عهدًا، أو وعدك وعدًا صدَّقت وسلَّمت. قالت: لا، لم يكن منه إليَّ في ذلك شيء إلا
ما أنزل الله من القرآن، غير أني لما نزلت عليه قال: «أَبشِرُوا آلَ مُحَمَّدٍ
فَقَد جَاءَكُم الغِنَى»، فقال أبو بكر: صدق أبوك وصدقت. ولم يبلغني في تأويل هذِه
الآية أن هذا السهم كاملًا لكم، فلكم الغنى الذي يسعكم ويفضل عنكم، وهذا عمر وأبو
عبيدة وغيرهما فاسأليهم، فانطلقت إلى عمر فسألته، وذكر لها ما ذكر أبو بكر.
رواه عن أبيه، حدَّثَنَا يحيى ابن أكثم، حدَّثَنَا علي بن عياش الألهاني،
حدَّثَنَا أبو معاوية صدقة الدمشقي، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق، عن أنس.
وقال ابن العربي: الآية وإن كانت عامة فإنما توجب أن يورث ما يملكه سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولو سلَّمنا ملكه لم يكن لها منها دليل، لأنها ليست
عندنا - وعند من أنكر العموم - لاستغراق المالكين وكلِّ من توفي، وإنما بُنِيَ على
أقل الجمع، وما فوقه يحتمل، فوجب الوقف فيه.
وعند كثير من القائلين بالعموم أن هذا الخطاب وسائر العمومات لا يدخل فيه سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشرع ورد بالتفرقة بينه وبين أمته، ولو ثبت
العموم لوجب تخصيصها، وهذا الخبر وما في معناه يوجب تخصيص الآية، وخبر الآحاد
تخصيص، فكيف ما كان هذا سبيله [133/أ]
%ج 4 ص 262%
وهو القطع بصحته؟
وقوله: (لَا نُورَثُ، مَا تَرَكنَاهُ صَدَقَةٌ) قال القرطبي: جميع الرواة لهذه
اللفظة يقولونها بالنون: (لَا نُورَثُ) يعني جماعة الأنبياء صلوات الله عليهم
وسلامه، كما في الرواية الأخرى: «نَحنُ مَعَاشِرَ الأَنبِيَاءِ لَا نُورَثُ».
(1/235)
و
(صَدَقَةٌ): مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو (مَا تَرَكنَا)، والكلام جملتان:
الأولى فعلية، والثانية اسمية، لا خلاف بين المحدثين في هذا.
وقد صحف بعض الشيعة في هذا فقال: «لا يورث»، بياء آخر الحروف، و «ما تركنا صدقةً»
بالنصب، وجعل الكلام جملة واحدة، على أن يجعل: «ما» مفعولًا لم يسم فاعله، و
«صَدَقةً» تنصب على الحال، ويكون معنى الكلام: إنَّ ما نترك صدقةً لا يورث، وهذا
مخالف لما وقع في سائر الروايات، ولما حمله الصحابة من قوله: «فَهُوَ صَدَقَةٌ».
وإنما فعل الشيعة هذا واقتحموه لما يلزمهم على رواية الجمهور من إفساد مذهبهم؛
لأنهم يقولون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يورث كما يورث غيره، متمسكين بعموم
الآية الكريمة.
وقوله: (فَلَم تَزَل مُهَاجِرَةً لِأَبِي بَكرٍ حَتَّى تُوُفِّيَت) قال المهلب:
إنما كان هجرها انقباضًا عن لقائه ومواصلته، وليس هذا من الهجران المحرم، وإنما
المحرم من ذلك أن يلتقيا فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يروِ أحد أنهما التقيا
وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا مهاجرين إلا أن تكون النفوس مظهرة
للعداوة والهجران، وإنما لا زمت بيتها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران.
وقد ذكر في كتاب «الخمس» تأليف أبي حفص بن شاهين عن الشعبي، أن أبا بكر قال
لفاطمة: يا بنت رسول الله، ما خير حياة أعيشها وأنت عليَّ ساخطة، فإن كان عندك من
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك عهد فأنت الصادقة المصدقة المأمونة على ما
قلت. قال: فما قام أبو بكر حتى [133/ب]
%ج 4 ص 263%
رضيت ورضي.
أخبرنا بذلك المسند الجودري، عن المنقري، عن الشهرزوري، عن ابن المهتدي، عن أبي
حفص، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا محمد بن عبد الملك الرقيعي، حدثنا علي،
حدثنا منصور بن أبي الأسود عنه.
(1/236)
قال:
وفي حديث أسامة بن زيد الليثي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال أبو بكر
لفاطمة: بآبائي أنت وبآبائي أبوك إنه قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: «لَا
نُورَثُ، مَا تَرَكنَا صدقةٌ» قال: فقالت: إني لست ممن ينكر.
قال ابن التين: سبب عدم ميراث الأنبياء لئلا يُظنَّ بهم أنهم جمعوا المال لورثتهم،
كما حرمهم الله جلَّ وعزَّ الصدقة الجارية على يديهم من الدنيا؛ لئلا ينسب إليهم
ما تبرؤوا به من الدنيا، وقيل: لئلا يخشى على وارثهم أن يتمنى لهم الموت، فيقع في
محذور عظيم.
قال ابن بطال: هو في معنى قوله: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ»،
وأما صدقته بالمدينة فهي أموال بني النضير، وكانت قريبة من المدينة.
قال أبو الفرج: وهي مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا
ركاب.
قال عياض: الصدقات التي صارت إليه صلى الله عليه وسلم:
أحدها: وصية مخيريق يوم أحد، وكانت سبع حوائط في بني النضير.
الثاني: ما أعطاه الأنصار من أرضهم، وهو مما لا يبلغه الماء، وكان هذا ملكًا له
صلى الله عليه وسلم.
ومنها حقه من الفيء من أموال بني النضير، كانت له خاصة حين أجلاهم.
وكذا نصف أرض فدك، صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها فكانت خالصة له.
وكذا ثلث أرض وادي القرى، أخذه في الصلح حين صالح اليهود.
وكذا حصنان من حصون خيبر: الوطيح والسلالم أخذهما صلحا.
ومنها: سهمه من خمس خيبر وما افتتح فيها [134/أ]
%ج 4 ص 264%
عنوة.
فكانت هذه كلها ملكًا لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم خاصة، لا حق لأحد
فيها، فكان يأخذ منها نفقته ونفقة أهله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكتُ بَعدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَاملِي
فَهُوَ صَدَقَةٌ».
(1/237)
وكان
ابن عيينة يقول: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات؛ لأنهنَّ لا
يجوز لهنَّ النكاح أبدًا، فجرت عليهن النفقة وتُركت حجرهن لهن يسكنَّها، وأراد
بمؤونة العامل من يلي بعده.
وقال أبو داود: وأما اختصام علي والعباس فيما جعل إليهما من صدقته بالمدينة، وهي
أموال بني النضير، فكانت في القسمة، وسألا عمر أن يقسمها نصفين بينهما، يستبد كل
واحد بولايته، فلم ير عمر أن يوقع القسمة على الصدقة، ولم يطلبا قسمتها ليتملكاها،
وإنما طلبا القسمة؛ لأنه كان يشق على كل واحد منهما ألا يعمل عملًا في ذلك المال
حَتَّى يستأذن صاحبه.
وعنده أيضًا: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك،
فأما بنو النضير فكانت حبسًا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسًا لأبناء السبيل، وأما
خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزأين للمسلمين، وجزءًا
نفقة لأهله، وما فضل عن نفقه أهله جعله بين فقراء المهاجرين.
قال ابن بطال: فإن قيل: فما معنى حديث عائشة في هذا الباب، وليس فيه ذكر الخمس؟
قيل: هو موافق للباب؛ وذلك أن فاطمة إنما جاءت تطلب ميراثها من فدك وخيبر وغيرهما،
مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يجر فيها خمس، فاستغنى البخاري لشهرته عن
إيراده مكشوفًا.
وقوله: (حِينَ مَتَع النَّهَارُ) بتاء مثناة من فوق، قبلها ميم، ثم عين مهملة. قال
يعقوب: علا واجتمع، وقال غيره: أي طال. وذلك قبل الزوال.
وقوله: (حَتَّى أَدخُل عَلَى عُمَرَ) قال ابن التين: من ضمَّ لام (أَدخُل) كانت
(حَتَّى) عاطفة، فعنى بالكلام: [134/ب]
%ج 4 ص 265%
انطلقت فدخلت على. ومن فتح اللام كانت (حَتَّى) تعني: كي، ومثاله قوله جلَّ وعزَّ:
{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214].
وقوله: (رِمَالُ سَرِير) وفي مسلم: «مُفضِيًا إِلَى رُمَالِه» بضم الراء وكسرها
أيضًا، وهو ما ينسج من سعف النخل ونحوه ليضطجع عليه.
(1/238)
وقوله:
(بِرَضْخ) بسكون الضاد والخاء المعجمتين، وهي العطية القليلة غير المقدرة، وفي
رواية: «دَفّ أهل بيات»، وهو بفتح الدال المهملة وهو المشي بسرعة، كأنهم جاؤوا
مسرعين للضُّر الذي نزل بهم.
و (يَرْفا): بفتح الياء أخت الواو وإسكان الراء، وبالفاء غير مهموزة مقصورة، ومنهم
من همزه، وفي «سنن البيهقي»: «اليرفأ» بألف ولام.
وقوله: (هَل لَكَ فِي عُثمَانَ) أي: هل لك إذن في عثمان. وقول العباس: (هَذَا
الكَاذِبُ) يعني: الكاذب إن لم ينصف بحقيقة الجواب.
وزعم المازري أن هذه اللفظة تنزه القائل والمقول فيه عنها، وننسبها إلى أن بعض
الرواة وهم فيها، وقد أزالها بعض الناس من كتابه تورُّعًا، وإن لم يمكن الحمل فيها
على الرواة فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها إدلالًا عليه؛ لأنه بمنزلة والده،
ولعله أراد ردع علي عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل
ما يفعله عن قصد، وإن كان علي لا يراها موجبة لذلك في اعتقاده، وهذا كما يقول
المالكي شارب النبيذ ناقص الدين، والحنفي يعتقد أنه ليس بناقص، وكل واحد محق في
اعتقاده ولا بد من هذا التأويل؛ لأنَّ هذه القضية جرت بحضرة عمر والصحابة، ولم
ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذاك إلا أنهم فهموا
بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقده.
وقول عمر: (تِيْدِكُم) أي: على رسلكم، وأمهلوا ولا تعجلوا، وهي من التؤدة.
وقوله: (خُصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن هَذَا الفَيءِ بِشَيءٍ لَم
يُعْطَهُ غَيرُه) قال القاضي: فيه [135/أ]
%ج 4 ص 266%
احتمالان:
الأول: تحليل الغنيمة له ولأمته.
الثاني: تخصيصه بالفيء، إما كله أو بعضه، وهل في الفيء خمس أم لا؟
قال ابن المنذر: لا يُعلم أحدٌ قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء.
قال ابن بطال: خصَّه بنصيبه من الخمس، وهو معنى ذِكرِ هذا الحديث في باب فرض
الخمس.
(1/239)
قال
القرطبي: لما وَلِيَ علي لم يغير هذه الصدقة عما كانت في أيام الشيخين، ثم كانت
بعده بيد حسن، ثم حسين، ثم علي بن حسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن
حسن، ثم بيد عبد الله بن حسن، ثم وليها بنو العباس على ما ذكره البرقاني في
«صحيحه».
ولم يُرو عن أحد من هؤلاء أنه تملَّكها، ولا ورثها، ولا وُرِثت عنه، فلو كان ما
يقوله الشيعة حقًّا لأخذها عليٌّ أو أحد من أهل بيته لما ولُّوها، وكذا في اعتراف
علي وعمه بصحة ما ذكره أبو بكر: «إنا لا نُورث».
ولا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أنهما أذعنا تقية، ولا بقيا على
أنفسهما؛ لشدتهما في دينهما، ولعدل عمر، وأيضًا فالمحل محل مناظرة ومباحثة ليس فيه
ما يفضي إلى شيء مما يقوله أهل الزيغ من الشيعة.
وذكر ابن المناصف في «كتاب الجهاد» عن مالك أنَّ الفيء والخُمس سواء، يجعلان في
بيت المال، ويعطي الإمام أقارب سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم بقدر اجتهاده،
ولا يعطون من الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ
مُحَمَّدٍ» وهم بنو هاشم.
وقال في الخمس والفيء: هو حلال للأغنياء، ويوقف منه في بيت المال، بخلاف الزكاة.
وقال عبد الملك: المال الذي آسى الله جلَّ وعزَّ فيه بين الأغنياء والفقراء مالُ
الفيء، وما ضارع الفيء من ذلك: أخماس الغنائم، وجزية أهل العنوة وأهل الصلح، وخراج
الأرض، وما صولح عليه أهل الشرك في الهدنة، وما أخذ من تجار أهل الحرب إذا خرجوا
لتجاراتهم إلى دار الإسلام، وما أخذ من أهل ذمتنا إذا اتجروا من بلد إلى بلد،
[135/ب]
%ج 4 ص 267%
(1/240)
وخمس
الركاز، حيث ما وجد يبدأ عندهم في تفريق ذلك بالفقراء والمساكين واليتامى وابن
السبيل، ثم يساوي بين الناس فيما بقي شريفهم ووضيعهم، ومنه يرزق والي المسلمين
وقاضيهم، ويعطى غازيهم، ويسد ثغورهم، ويبنى مساجدهم وقناطرهم، ويفك أسيرهم، وما
كان من كافة المصالح التي لا توضع فيها الصدقات، فهذا أعم في المصرف من الصدقات؛
لأنه يجري في الأغنياء والفقراء، وفيما يكون فيه مصرف الصدقة وما لا يكون.
هذا قول مالك وأصحابه، ومن ذهب مذهبهم: أن الخمس والفيء مصرفهما واحد.
وذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والأوزاعي، وأبو ثور، وداود، وإسحاق،
والنسائي، وعامة أصحاب الحديث والفقه إلى التفريق بين مصرف الفيء والخمس، فقالوا:
الخمس موضوع فيما عيَّنه الله جلَّ وعزَّ فيه من الأصناف المُسَمَّين في آية الخمس
من سورة الأنفال، لا يتعدى به إلى غيرهم، ولهم مع ذلك في توجيه قسمه عليهم بعد
وفاته صلى الله عليه وسلم خلاف.
وأما الفيء فهو الذي يرجع النظر في مصرفه إلى الإمام بحسب المصلحة والاجتهاد.
وذكر البخاري هنا:
بَابَ أَدَاءِ الخُمسِ مِنَ الدَّينِ
فذكر حديث وفد عبد القيس المذكور أول الجامع في باب أداء الخمس من الإيمان.
قال ابن المنير: وفائدة الجمع بين الترجمتين: أنَّا إن قدرنا: الإيمان قول وعمل،
دخل أداء الخمس من الإيمان، وإن قلنا: إنه التصديق دخل أداؤه في الدين.
قال: وهو عندي في لفظ هذا الحديث خارج عن الإيمان داخل في الدين؛ لأنه ذكر أربع
خصال: أولها الصلاة، وآخرها أداء الخمس، فدل أنه لم يَعْنِ بالأربع إلا هذه
الفروع.
وأما الإيمان الذي أبدل منه الشهادة: فخارج عن العدد، ولو جعل الإيمان بدلًا من
الأربع لاختل الكلام أيضًا. والذي يخلص من ذلك كله إخراج الإيمان من الأربع، وجعل
الشهادة بدلًا [136/أ]
منه، فكأنه قال: آمركم بأربع أصلها الإيمان الذي هو الشهادة. ثم استأنف بيان
الأربع، فإنه قال: والأربع إقام الصلاة، إلى آخره.
(1/241)
قال:
وذكر في:
بَابِ نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
حديث عائشة:
3097 - «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ
شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ
مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ». [خ 3097]
وجه مطابقته للترجمة لأنها لم تذكر أنها أخذته في نصيبها، إذ لو لم تكن لها النفقة
مستحقة لكان الشعير الموجود لبيت المال، أو مقسومًا بين الورثة، وهي إحداهن.
قال: وذكر بعده حديث عمرو بن الحارث:
3098 - «مَا تَرَكَ إِلَّا سِلَاحَه وَبَغْلَتَهُ وَأَرْضًا تركهَا صَدَقَةً». [خ
3098]
أراد الأرض التي ينفق منها على نسائه بعد وفاته فطابق بذلك الترجمة.
قال الترمذي: والشطر الشِّق.
وقال عياض: نصف وسق.
وقال ابن الجوزي: أي: جزء من شعير.
قال: ويشبه أن يكون نصف شيء كالصاع ونحوه.
وفيه: أنَّ البركة أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات.
وأما حديث المقدام بن معدي كرب [خ:2128]: «[كِيلُوا] طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ
فيه»، قيل: المراد بكيله أول تمليكه إيَّاه، وقيل: عند إخراج النفقة به بشرط أن
يبقى الباقي مجهولًا، ويكيل ما يخرجه، لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل.
قال ابن بطال: كانت تظن كلَّ يوم أنه سيفنى لقلةٍ كانت تتوَّهمها فيه، فلذلك طال
عليها، فلما كالته علمت مدة بقائه ففني عند تمام ذلك الأمر.
قال الجياني: وقع عند القابسي قال البخاري: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق
سمعت عمرو بن الحارث قال: «مَا تَرَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا
سِلَاحَه». وهو وهم، والصواب: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى.
قال ابن المنير: وأما دخول ترجمة البخاري وهي باب ما جاء في ثبوت أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم فمن الْفِقْه؛ لأَن سكناهن فِي بيُوت النَّبِي صلى الله عليه وسلم
من الخصائص كَمَا استحققن [136/ب]
%ج 4 ص 269%
(1/242)
النفقة
لحبسهن أبدًا. وساق البخاري الأحاديث التي تنسب إليهن البيوت فيها تنبيهًا على
أنَّ هذه النسبة تحقق دوام استحقاقهن للبيوت ما بَقِيْنَ.
وقال الإسماعيلي: وقول ابن عمر:
3104 - «قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحوَ مَسكَنِ
عَائِشَةَ». [خ 3104]
لا يكون دلالة على الملك الذي أراده البخاري؛ لأن المستعير والمستأجر والمالك
يستوون في المسكن.
وقال ابن بطال: إن قال قائل: إن كان لم يُورث صلى الله عليه وسلم لقوله: «مَا
تَرَكنا صَدَقَة» فكيف سكن أزواجه بعد وفاته في مساكنهن إن كنَّ لم يرثنه، إذًا
فكيف لم يخرجن عنها؟
فيجاب بأن طائفة من العلماء قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل لكل امرأة
منهن كانت ساكنة في مسكن سكنته في حياته، فملكت ذلك في حياته، فتوفي يوم توفي وذلك
لها، ولو كان صار لهن ذلك من وجه الميراث عنه لم يكن لهن منه إلا الثمن، ثم كان
ذلك الثمن أيضًا مشاعًا في جميع المساكن.
وفي ترك منازعة العباس وفاطمة إياهن في ذلك، وترك منازعة بعضهن بعضًا فيه دليل
واضح على أن الأمر كذلك.
وقال آخرون: إنما تُرِكْنَ في المساكن التي سكن فيها سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ لأنَّ ذلك كان من مؤنتهن الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته، كما استثنى نفقاتهن حين قال: «مَا تَرَكتُ
بَعدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤنَةِ عَامِلي فَهُوَ صَدَقَةٌ».
قالوا: ويدل على ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن وارثِهُنَّ، فلو كان ملكًا لهن كان
يورث عنهن بغير شك، وإنما كان لهن سكناه حياتَهُنَّ، فلما مضين بسبيلهن جعل ذلك
زيادة في المسجد الذي يعم المسلمينَ نفعُه كما فعل ذلك في الذي كان لهن من النفقات
في تركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صرفه فيما يعم نفعه.
(1/243)
بَابُ
مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَصَاهُ، وَسَيْفِهِ
وَقَدَحِهِ، وَخَاتَمِهِ
وَمَا اسْتَعْمَلَ الخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ [137/أ]
%ج 4 ص 270%
يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعرِهِ، وَنَعْلِهِ، وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ
به أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
3109 - حدَّثَنَا عَبْدَانُ، حدثنا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ:
«أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ». [خ 3109]
قال أبو علي: كذا روي في هذا الإسناد عن أبي زيد المروزي، وعند ابن السكن وأبي
أحمد وغيرهما: عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس. وهو الصواب.
وكذلك ذكره الدارمي بسنده لما رواه عن البخاري، ثم قال: لا يعلم أحد رواه عن عاصم،
عن ابن سيرين، عن النبي إلا أبا حمزة.
قال الدارقطني: خالفه شريك فرواه عن عاصم، عن أنس، والصحيح قول أبي حمزة.
قال الجيَّاني: والذي عندي في هذا أن بعض الحديث يرويه عاصم عن أنس، ويروى بعضه عن
ابن سيرين عن أنس، وهذا بيِّن في حديث أبي عوانة عن عاصم المذكور عند البخاري، وفي
آخره قال: وقال عاصم: قال ابن سيرين: إنه كانت فيه حلقة من فضة. فقال له أبو طلحة:
لا تغيرنَّ شيئًا صنعه النبي فتركه.
قال: كذا رواه أبو عوانة وجوَّده؛ ذكر أوله عن عاصم، عن أنس، وآخره عن عاصم، عن
محمد، عن أنس.
لم يذكر البخاري هنا حديث الدرع استغناءً بحديث عائشة المذكور قبلُ في كتاب الرهن:
«وَرَهَنَ دِرعَهُ عِندَ يَهُودِي» وكان له أدراع، منها السغدية، بسين مهملة وغين
معجمة نسبة إلى سغد سمرقند، وقيل بعين مهملة وسين مفتوحة فيما أحسب، وكانت لعكبر
القينقاعي.
قال النيسابوري في «شرف المصطفى»: وهي درع داود صلى الله عليه وسلم التي لبسها حين
قتل جالوت.
وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا درع يقال لها: فضة كانت عليه يوم أحد، ودرع
ذات الفضول.
(1/244)
قال
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر في «الجوهرة»: هي التي رهنها عند اليهودي، ودرع تسمى
ذات الوشاح، ودرع تسمى البتراء، ودرع تسمى الحريق، ودرع تسمى ذات الحواشي.
وأما عصاه: فكان له مِحجن قدر ذراع أو أكثر، وهي معقدة الرأس كالصولجان يستلم به
الركن، ويمشي وهو [137/ب]
في يده، ومخصرة تسمى العرجون يتكئ عليها, وله أيضًا عسيب من جريد النخل.
3106 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى
البَحْرَيْنِ وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الكِتَابَ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم، وَكَانَ نَقْشُ الخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ،
وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ». انتهى. [خ 3106]
زعم أبو مسعود ومن بعده أن البخاري أخرج هذا الحديث في اللباس، وأغفلوا ذكره لديه
هنا، ولما خرجه في اللباس قال في آخره:
[5879] وَزَادَنِي أَحْمَدُ قال: حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي،
عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم فِي يَدِهِ، وَفِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَفِي يَدِ عُمَرَ بَعْدَ
أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ، جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ، فَأَخْرَجَ
الخَاتَمَ فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ ننَزَحَ البِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ».
أحمد هذا قيل: هو ابن حنبل، وذِكْر الخاتم يأتي إن شاء الله تعالى بما فيه في كتاب
اللباس، وكذا بقية ما ترجم له في اللباس، وخطبة عليٍّ بنت أبي جهل تذكر في الفضائل.
(1/245)
قال
ابن بطال: واتفاق الأمة بعده صلى الله عليه وسلم من أنه لم يملك أحد درعه، ولا
عصاه، ولا سيفه، ولا قدحه، ولا خاتمه، ولا نعله يدل أنهم فهموا من قوله: «لَا
نُورَثُ» أنه عام في صغير الأشياء وكبيرها، وهذا رد على الشيعة.
وقد روى الطبري أن أبا إسحاق قال لأبي جعفر: أرأيت عليًّا حين ولي كيف صنع في سهم
ذي القربى؟ قال: سلك والله بها طريق أبي بكر وعمر.
قال المهلب: أما ذكر البخاري هذه الآثار كلها في هذا الباب ليكون سنة للخلفاء في
الختم والسيف والدرع وشبهها.
بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِنَوَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم، وَالمَسَاكِينِ
وَإِيثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأَرَامِلَ، حِينَ
سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ رضي الله عنها وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى: أَنْ
يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْيِ، فَوَكَلَهَا إِلَى الله جلَّ وعزَّ. [138/أ]
(1/246)
3113
- حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ المُحَبَّرِ، حدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي الحَكَمُ،
سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، حدَّثَنَا عَلِيٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا
تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ
تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ أخذنا مَضَاجِعَنَا،
فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: «مَكَانكمَا». فقعد بيننا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ
قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا
سَأَلْتُمَاني، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا
وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا
وَثَلاَثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا». [خ 3113]
وفي رواية: «فَوَجَدتُ عِندَهُ خُدَّامًا فَاستَحيَيتُ».
وفي رواية: قال علي: «مَا تَرَكتُه مُنذُ سَمِعتُهُ مِن رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم، قِيلَ لَهُ: وَلَا لَيلَةَ صِفِّين؟ قَالَ: وَلَا لَيلَةَ صِفِّين».
وعند أبي داود من حديث الفضل بن حسن الضمري: أن أم الحكم أو ضباعة بنت الزبير
حدثته عن إحداهما أنها قالت: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيًا فذهبت أنا
وأختي فاطمة نشكو إليه ما نحن فيه، قالت: وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَتكُماَ يَتَامَى بَدرٍ» وذكر التسبيح على
إثر كل صلاة، لم يذكر النوم.
وفي «العلل» لأبي الحسن: أنَّ أم سلمة هي التي قالت لسيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إن ابنتي فاطمة جاءتك تلتمسك، الحديث.
وفي لفظ: وكانت ليلة باردة، وقد دخلت هي وعلي في اللحاف، فأرادا أن يلبسا الثياب،
وكان ذلك ليلًا.
(1/247)
وفي
لفظ: جاء من عد رأسيهما، وأنها أدخلت رأسها في اللفاع - يعني: اللحاف - حياءً من
أبيها، قال علي: حتى وجدت برد قدمه على صدري فسخنها.
وفي لفظ: ما كان حاجتك أمس إلى آل محمد، فسكت مرتين، فقلت: أنا والله أحدثك يا
رسول الله: بلغنا أنه أتاك رقيق أو خدم. فقلت لها: سليه خادمًا،
وفي هذا إشعار بأن آل محمد يريد به محمدًا نفسه، كقوله: «لَقَد أُوتِيَ مِزمَارًا
مِن مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»، والمراد: داود صلى الله عليه وسلم.
وعند إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن
أبيه، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم [138/ب]
%ج 4 ص 273%
قال لعلي وفاطمة: «لَا أُخدِمُكُمَا وَأَدَعُ أَهلَ الصُفَّة يَطوُون جُوعًا، لَا
أَجِدُ مَا أُنفِقُ عَلَيهِم، وَلَكِن أَبِيعُهُ فَأُنفِقُه عَلَيهِم» انتهى.
هذا يُعلمك أنَّ البخاري يبوب للشيء ولا يكون على شرطه، فيؤخذ من أطراف ذلك الحديث
معنى ما بوَّب له، أو يريد بذلك - والله أعلم - إشحاذ ذهن الناظر، ودؤوبه في العلم
ولا يركن إلى الراحة.
قال ابن بطال: في هذا مباشرة بعض جسد ابنته صلى الله عليه وسلم، وجواز مباشرة ذوي
المحارم، وهو خلاف قول مالك، وقولُ من جوَّزه أولى لموافقة الحديث.
قال المهلب: فيه أن الإنسان يحمل على أهله ما يحمل على نفسه من التقلل في الدنيا،
ويُسَلِّيهم عنها بما أعدَّ الله للصابرين في الآخرة.
وفيه: أنَّ أقلَّ الأعمال الصالحة خير مكافأة من الأجر من عظيم أمور الدنيا؛ لأن
التسبيح قول، وهو خير أجرًا في الآخرة من خادم في الدنيا، وعنائها بالخدمة
والسعاية عن مالكها، فكيف بالصلاة والحج وسائر الأعمال التي يستعمل فيها أعضاء
البدن كلها!
وقال القرطبي: قوله: (خَيرًا مِن خَادِم) يريد: من التصريح بسؤال خادم.
(1/248)
وقال
أبو جعفر: ذهب قوم إلى أن لذوي قرابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم من
الخمس مفروض؛ لقوله جلَّ وعزَّ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وهم بنو هاشم وبنو المطلب كافة، لإعطاء النبي صلى الله
عليه وسلم إياهم دون سائر قرابته، وهذا قول الشافعي، وأبي ثور.
وذهب قوم إلى أنهم لا سهم لهم من الخُمس معلوم، ولا حظَّ لهم، خلاف حظ غيرهم.
قالوا: وإنما جعل الله جلَّ وعزَّ لهم ما جعل من ذلك في الآية الكريمة المذكورة
لحال فقرهم وحاجتهم، فإذا استغنوا خرجوا من ذلك.
قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حظ لكانت فاطمة بينهم
وأوَّلهم، وبه فعل أبو بكر وعمر، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة، وكذا فعل علي
لما صار الأمر إليه.
قال المهلب: في الحديث بيان أن ذلك للإمام يفعل فيه بما يشاء، وأن طلبة العلم
مقدمون في خمس المغانم على سائر من ذكر الله جلَّ وعزَّ له فيه اسمًا؛ لأنَّ أصحاب
الصُّفَّة كانوا قد تجرَّدوا لسماع [139/أ]
%ج 4 ص 274%
العلم وضبط السنن على شبع بطونهم، فكأنهم آجروا أنفسهم من الله جلَّ وعزَّ.
وذكر البخاري في:
بَابِ قَولِ اللهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]
3114 - حديث جابر يرفعه: «سَمُّوا بِاسْمِي، وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي،
فَإِنِّي إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ»، وَقَالَ حُصَيْنٌ:
«بُعِثْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ». [خ 3114]
قول حصين هذا التعليق ذكره مسلم في «صحيحه» في كتاب الأدب.
ثم قال البخاري:
وقَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ سَالِمًا - يعني
ابن أبي الجعد -، عَنْ جَابِرٍ، أَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ القَاسِمَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي».
(1/249)
قول
عمرو هذا: رواه أبو نعيم الأصبهاني، عن أبي العباس، قال: حدثنا يوسف القاضي، حدثنا
عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن قتادة، الحديث.
وحديث معاوية تقدم ذكره.
وقول البخاري: قال رسول الله: (إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ) رواه أبو داود عن سلمة بن
شبيب، عن عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن همام، عن أبي هريرة بلفظ: «إِنْ أَنَا إِلَّا
خَازِنٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ».
وذكر البخاري حديث أبي الأسود، عن أبي عباس - واسمه معمر - عن خولة الأنصارية،
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ رِجَالًا يَخُوضُونَ فِي مَالِ اللهِ
بِغَيرِ حَقٍّ، وَلَهُم النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ».
ولما خرجه الترمذي من حديث سعيد بن أبي سعيد، عن أبي الوليد يعني - سَنُوطًا ذكره
الجياني - قَالَ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ حَمْزَةَ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: سَمِعْتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ
فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ
لَيْسَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ النَّارُ».
وعند الإسماعيلي، وأبي نعيم، والطبراني، وابن عبد البر، والحميدي من حديث أبي
الأسود، عن ابن عباس، عن خولة بنت ثامرٍ الأنصارية، وعند الجياني: خولة بنت قيس بن
فهد الأنصارية تكنى أم محمد، وهي امرأة حمزة بن عبد المطلب، ويقال لها: بنت ثامر.
ويقال: إن ثامرًا لقب قيس بن فهد.
وقال ابن المديني: خولة بنت قيس هي بنت ثامر، وقال أبو نعيم تُكْنى أمَّ محمد،
وقيل: أم حبيبة، وصحَّف ابن منده حبيبة بصبية، وأم صبية غير هذه؛ تيك جهينية، وهذه
أنصارية من أنفسهم. وكنَّاها أبو نصر الكلاباذي أيضًا: أم صُبية.
ولما ذكر الدارقطني في «الإلزامات» أن البخاري خرج عن النعمان، عن خولة، [139/ب]
%ج 4 ص 275%
(1/250)
بنت
ثامر يرفعه: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ» الحديث. قال: لا نعرف خولة بنت ثامر
إلا في هذا الحديث، ولم يرو عنها غير النعمان، وهذا اللفظ يشبه لفظ سَنُوطا، عن
خولة بنت قيس بن فهد، امرأة حمزة.
قال الجياني: وكانت بنت قيس بعد حمزة عند النعمان بن العجلان.
وقال شيخنا أبو محمد الدمياطي: الأشبه بنت ثامر.
وجمع أبو العباس الطرقي حديث البخاري والترمذي في ترجمة خولة بنت قيس، وفرَّقهما
غيره من أصحاب الأطراف.
قوله: (وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلَامٌ) قال القرطبي: صدر هذا القول من سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أيضًا أنس حين نادى رجل: يا أبا القاسم فالتفت
صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: لم أعنك. فقال صلى الله عليه وسلم ... الحديث.
قال: فلما كانت الكنية بأبي القاسم تؤدي إلى عدم التوقير والاحترام نهى عنها، يؤيد
هذا المعنى ما نقل عن اليهود أنها كانت تناديه بهذه الكنية فإذا التفت قالوا: لم
نعنك، فحسم الذريعة بالنهي.
قال: فإن قيل: على هذا أن يمنع التسمية بمحمد، وقد فرق بينهما، فأجازه في الاسم،
ومنعه في الكنية؟
فالجواب أنه لم يكن أحد من الصحابة يجترئ أن يناديه باسمه، أو الاسم لا يُوقَّر
بالنداء به، بخلاف الكنية، فإن في النداء بها احترامًا وتوقيرًا، وإنما كان يناديه
باسمه أجلاف العرب، ممن لم يؤمن، أو لم يرسخ الإيمان في قلبه، ويكون النهي عن ذلك
مخصوصًا بحياته، وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم.
وعلى حديث جابر يقتضي أنَّ النهي عن ذلك إنما كان لأن ذلك الاسم لا يصدق على غيره،
وهو قوله: «إِنَّمَا جُعِلتُ قَاسِمًا أَقسِمُ بَينَكُم» أي: الذي سنَّ قسم
الأموال في المواريث والغنائم وغيرهما عن الله جلَّ وعزَّ، وليس ذلك لأحد إلا له،
فلا يطلق هذا الاسم بالحقيقة إلا عليه، وعلى هذا فلا يجوز التكني بأبي القاسم، لا
في حياته صلى الله عليه وسلم، ولا بعد موته، وإلى هذا ذهب بعض السلف.
(1/251)
كأنه
يريد محمد بن سيرين.
ذكر ابن التين وأهل الظاهر - قال النووي: وهو مذهب الشافعي -: لا يحل التكني بأبي
القاسم لأحد أصلًا سواء أكان اسمه أحمدًا أو محمدًا؛ لظاهر هذا الحديث.
قال القرطبي: وزادت [140/أ]
%ج 4 ص 276%
طائفة أخرى من السلف فرأوا منع التسمية بالقاسم لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم، وقد
غير مروان بن الحكم اسم ابنه عبد الملك حين بلغه هذا الحديث، فسمَّاه عبد الملك،
وكان أوَّلًا سمَّاه القاسم، وفعله بعض الأنصار أيضًا.
وذهبت طائفة من السلف إلى أنَّ الممنوع إنَّما هو الجمع بين اسمه وكنيته، واستدلوا
بحديث الترمذي عن أبي هريرة: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع أحد
بين اسمه وكنيته ويسمى محمدًا أبا القاسم». وقال: حديث حسن صحيح.
وعلى هذا فيجوز أن يكنى بأبي القاسم من ليس اسمه محمدًا.
وذهب الجمهور من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى جواز كل ذلك، فله أن يجمع اسمه
وكنيته، وله أن يسمي بما شاء من الأسماء والكنى، بناءً على أنَّ ما تقدَّم منسوخ، وإما
مخصوص به صلى الله عليه وسلم، محتجين بحديث علي المصحَّحِ عند الترمذي: يا رسول
الله: إنه ولد لي غلام أُسمِّيه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم».
وبما رواه أبو داود عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: جاءت امرأة إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إني ولدت غلامًا وسميته محمدًا، وكنيته أبا
القاسم، فذُكر لي أنك تكره ذلك؟ فقال: «مَا الَّذِي أَحَلَّ اسمِي وَحَرَّمَ
كُنيَتِي».
ويتأيد النسخ بأنَّ جماعة كبيرة من السلف وغيرهم سمُّوا أولادهم باسمه وكنوهم.
%ج 4 ص 277%
(1/252)
بكنيته
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جمعًا وتفريقًا، وكأن هذا كان أمرًا معروفًا معمولًا
به في المدينة وغيرها، فقد صارت أحاديث الإباحة أولى لأنها ناسخة لأحاديث المنع،
ويترجح بالعمل المذكور، وهو مذهب مالك، وذهب ابن حزم إلى أنه ليس منسوخًا، وإنما
كان النهي للتنزيه والإذن لا للتحريم، وشذت طائفة فمنعوا التسمية بمحمد سواء كان
له كنية أم لا متمسكين بما روي ... عن سيد المخلوقين محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أنه قال:» تُسَمُّونَ أَوْلادَكُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُم»
وبما كتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: «أَلَّا يُسَمُّوا
أَحَدًا بِاسْمِ نَبِيٍّ، وَأَمَرَ جَمَاعَةً بِالْمَدِينَةِ بِتَغْيِيرِ
أَسْمَاءِ أَبْنَائِهِم المسَمَّين بِمُحَمَّدٍ، حَتَّى ذَكَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ
سَمَّاهُمْ بِهِ فَتَرَكَهُمْ «.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: الحديث المذكور غير معروف عند أهل النقل، وعلى تسليمه
فمقتضاه النهي عن لعن من اسمه محمد لا عن التسمية به. انتهى.
لقائل أن يقول: إذا سُمِّيَ به كأنه تسَبَّب للشتم؛ لأنه قلَّ من يخلو من شتم
ولده، فَسَدُّ الباب في ذلك أولى.
%ج 5 صُرْطُبِيُّ: وقد تقدمت النصوص الدالة على إباحة التسمية به، قد روي عن سيدنا
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أحاديث تدل على الترغيب في التسمية بمحمد
... ليس فيها ما يصح ولا ما يصلح أن يكون ... لإباحة حكم ولا يجوز الاستدلال على
%ج 5 ص 1%
الأحكام بما لا يصح، وأحاديث النهي أكثرها ليس لها علة.
(1/253)
قَالَ
القُرْطُبِيُّ: وقيل سبب نهي عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول لابن أخيه محمد
بن زيد بن الخطاب: فعل الله بك يا محمد، فقال:» وَإنَّ سَيدَنَا رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُسَبُّ، بلْ وَاللهِ لَا تُدْعَى مُحَمَّدًا مَا
بَقِيتُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَن».
وأجمع العلماء على جواز التسمية بأسماء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه إلا ما
ذكرناه عن عمر، وسمى جماعة من [10] الصحابة بأسماء الأنبياء، قال عياض: وكره بعض
العلماء التسمي بأسماء الملائكة صلوات الله عليهم وسلامه، وهو قول الحارث بن
مسكين، قال: وكره مالك التسمية بجبريل وياسين. انتهى.
سمعت الإمام نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل بن عبد المحسن البكري يقول: أنا لا
أستحسن التسمية بجبريل وميكائيل وإسرافيل ونحو ذلك من أسماء الملائكة، وبلغني أن
مالكًا كرهه، وعن عمر بن الخطاب أنه قَالَ: «مَا قَنَعْتُمْ بِأَسْمَاءِ بَنِي
آدَمَ حَتَّى سَمَّيْتُمْ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ؟!». انتهى.
وحديث خولة يدل: أن من أخذ شيئًا بغير قسم فقد تخوض أي: تصرف فيه وتقحم في
استحلاله بغير حق.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وغرض البخاري بهذا الحديث الرد على من جعل للنبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خمس الخمس ملكًا، استدلالًا بقوله جَلَّ وَعَزَّ: {فَأَنَّ
لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] وهو قول الشافعي.
قال إسماعيل بن اسحاق: وقد قيل في الغنائم كلها لله وللرسول كما قيل في الخمس، فكانت
الأنفال كلها لله جَلَّ وَعَزَّ ولرسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقيل: بل
أعلم الله المسلمين أن الأمر فيها مردود إليه فقسمها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فكان فيها كرجل من المسلمين، بل لعله ما أخذ من ذلك
%ج 5 ص 2%
يكون أقل من حظ رجل.
(1/254)
قَالَ
الْمُهَلَّبُ: إنما خُصَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بنسبة الخمس إليه؛ لأنه ليس
للغانمين فيه دعوى، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى وَقَفَهُ في بيت المال
لنوازل المسلمين أو يجعله فيما يراه، وقد يَقْسِمُ منه للغانمين كما أنه يعطي من
المغانم لغير الغانمين، كما قسم لجعفر وغيره ممن لم يشهد الوقعة، فالخمس وغيره
موكول إلى قسمه واجتهاده، وليس فيه ملك، ولا يتملك من الدنيا إلا قدر حاجته، وهذا
معنى تسميته بقاسم، وليست هذه التسمية بموجبة إلا في اجتهاده لقوم دون قوم.
قال ابن المنير: وجه مطابقة الأحاديث للآية تحقيق أن المراد فيها بذكر الرسول
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما هو تَوَلِّيه للقسم، لا أنه يملكُّه لأنه حصر
حاله في القسمة بـ {أَنَّمَا} [الأنفال: 41] فخرج الملك.
الباب الذي بعده تقدم حديثاه في الجهاد.
وقوله في حديث جابر بن سمرة: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قال الجياني: لم أجد إسحاق
هذا منسوبًا لأحد.
ذكر أَبُو نُعَيْمٍ في «مستخرجه» هذا الحديث فقال: حَدَّثَنا أبو أحمد، حَدَّثَنا
عبدُ الله بنُ محمد بن شِيْرُوْيَه، قال: حَدَّثَنا إسحاق بن إبراهيم، حَدَّثَنا
جرير به، وحديث جابر بن عبد الله تقدم في الطهارة.
3124 - وذكر في حديث أبي كريب، عن ابْن الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَواتُ اللهِ
عَلَيْهِم وَسَلَامُهُ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ
امْرَأَةٍ، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ
سُقُوفَهَا، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ
وِلَادَتَهَ» وفيه: «فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلَاةَ الْعَصْرِ،
%ج 5 ص 3%
(1/255)
فَقَالَ
لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللهُمَّ احْبِسْهَا
عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ» وفيه: «فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولًا فَلْيُبَايِعْنِي
مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ
بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ». الحديث [خ 3124]
ولما ذكره أَبُو نُعَيْمٍ في» مستخرجه «قال: رواه البخاري عن أبي كريب، عن عبد
الله بن المبارك - أو غيره - عن معمر. انتهى. هذا لم أره فيما رأيت من نسخ الصحيح
فينظر.
وذكر ابن إسحاق أن هذا النبي هو يوشع بن النون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال:
ولم تحتبس الشمس إلا له ولنبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صبيحة الإسراء حين
انتظروا العير التي أخبر بقدومها عند شروق الشمس ذلك اليوم. انتهى كلامه.
وفيه نظر لما ذكره الحاكم في» المستدرك «، وأبو جعفر في كتابه» المشكل «عن أسماء
بنت عُمَيْسٍ، أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نام على فخذ علي بن
أبي طالب بعد العصر، فلم يحركه علي حتى غابت الشمس، فلما استيقظ قال علي: يا رسول
الله، إني لم أصل العصر، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اللهُمَّ إِنَّ
عَبْدَكَ عَلِيًّا احْتَبَسَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَبِيِّكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ
شَرْقَهَا» قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، ثم قام علي
فتوضأ وصلى العصر، وذلك بالصهباء.
قال الطحاوي: كان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ
حديث أسماء؛ لأنه من أجلِّ علامات النبوة، قال أبو جعفر: وهو حديث متصل، وفي موضع
آخر: ورواته ثقات، ولا التفات إلى ما أعلَّهُ به ابن الجوزي، من حيث أنه لم يقع له
الإسناد الذي وقع لهؤلاء، وأعله ابن تيمية بأمر آخر وهو أن أسماء كانت مع زوجها
بالحبشة، وهو غير جيدٍ؛ لأن جعفرًا قدم حينئذ على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ،
%ج 5 ص 4%
(1/256)
وقسم
له ولأصحابه وهم بخيبر، فلا عِلَّةَ إذًا على هذا. والله أعلم.
ولما ذكره عياض في» الإكمال «: من أنَّ الله جَلَّ وَعَزَّ ردَّ الشمس على سيدنا
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الخندق حين شغل عن صلاة العصر حتى غابت
الشمس فصلاها، قال الطحاوي: رواته ثقات.
ولما ذكره أبو القاسم الطبراني في» أوسط معاجمه» من حديث مَعْقِلِ بنِ عُبَيْدِ
الله، عن أبي الزبير، عن جابر: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
أَمَرَ الشَّمْسَ فَتَأَخَرَتْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». وقال: لم يروه عن معقل إلا
الوليد بن عبد الواحد التميمي، تفرد به أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل الحَرَّاني،
ولم يروه عن أبي الزبير إلا معقل.
ولما ذكره محمد بن إسحاق نفسه في كتاب «المبتدأ» وأغفله في «كتاب السيرة» من حديث
يحيى بن عروة، عن أبيه: «أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ حِينَ أَمَرَ مُوسَى صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَرَهُ بِحَمْلِ
تَابُوتِ يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمْ يُدَلَّ عَلَيْهِ حَتَّى
كَادَ الْفَجْرُ يَطْلُعُ، وَكَانَ قَدْ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسِيرَ
بِهِمْ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَدَعَا رَبَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يُؤَخِّرَ
طُلُوعَها حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ، فَفَعَلَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ
ذَلِكَ» وبنحوه ذكر الضحاك في «تفسيره الكبير».
ولما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه «ذم النجوم» بسند فيه ضعف عن علي بن أبي
طالب، أن يوشع بن نون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال له قومه: إنا لن نؤمن بك
حتى تعلمنا بدء الخلق وآجاله، فأوحى الله إلى غمامة فأمطرتهم واستنقع على الخيل
ماؤها، ثم أوحى الله إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجري في ذلك الماء فأراهم بدء
الخلق وآجالهم له مجاري الشمس والقمر والساعات، فكان أحدهم يعلم
%ج 5 ص 5%
(1/257)
متى
يموت ومتى يمرض فبقوا كذلك برهة، ثم إن داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قاتلهم
على الكفر، فأخرجوا آل داود في القتال من لم يحضر أجله، فكان يقتل من أصحاب داود
ولا يقتل منهم أحد، فدعا الله داود فحبست الشمس عليهم فزيد في النهار، فاختلطت
الزيادة بالليل والنهار فلم يعرفوا قدر الزيادة، فاختلط عليهم حسابهم.
ذكر ابنُ التَّيَّانيِّ في «الْمُوعَبِ»: أن البُضع اسم المباضعة، وهو الجماع، قال
تأبط شرًا بذكر الغول:
~ وطالبتُها بُضعَها فالتوت بوجه تغوَّل فاستغولا
فجعل البضع هنا: المباشرة، وقيل البُضع: مَهر المرأة، والبِضاع - بالكسر - الجماع.
وعن أبي زيد: المباضعة النكاح، وقد بضعها بضعًا، والاسم: البُضع وهو الجماع،
والبضع: مثال عِلم مِلكِ الولي للمرأة، وبضعها: مثال قرطٍ بيد زوجها، وهو الطلاق.
وأنشد:
~ حمى أبضاعها الشم الغياري
وكذلك البضيع جمع مثل: كلب وكليب، وفي «تهذيب الأزهري»: اختلف الناس في البضع،
فقال قوم: هو الفرج، وقال قوم: هو الجماع.
وعن الأصمعي: ملك فلان بضع فلانة، إذا ملك عقدة نكاحها، وهو كناية عن موضع الغشيان.
وفي «الواعي» الاستبضاع: نوع من نكاح الجاهلية، كان الرجل منهم يقول لامرأته إذا
طهرت فأرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل
الذي تستبضع منه، ثم يجامعها بعد إن أراد، يريد بذلك نجابة ولدها.
و (الخلِفَات): جمع خَلِفَة، كذا ذكره الشراح، وفي «المحكم» الخَلِفَة: الناقة
الحامل، وجمعها: خِلَف، وقيل: جمعها مخاض
%ج 5 ص 6%
على غير قياس، كما قالوا لواحدة النساء امرأة.
وقيل: هي التي استكملت سنة بعد النتاج، ثم حمل عليها فلَقِحَت.
وقال ابن الأعرابي: إذا اسْتَبَانَ حملها فهي خلفة حتى تعشر، وخلفت الناقة خلفًا،
هذه عن اللِّحْياني. وقيل: الْمُخَلفة التي توهموا أن بها حملا ثم لم تلقح.
(1/258)
وقال
في «المخصص» عن الأصمعي: ناقة عاقد، تعقد بذنبها عند اللقاح، فإذا ثبت اللقاح -
وهو حملها - فهي خلفة، والجمع: المخاض.
ابن دريد: المخاض والمخاض، صاحب «العين»: جمعها خلفات، الأصمعي: فلا تزال خلفة حتى
تبلغ عشرة أشهر. انتهى. وهو خلاف ما في «المحكم» فينظر.
وفي «الصحاح»: الخلِف - بكسر اللام - المخاض من النُّوْقِ، الواحدة: خلفة.
وفي «المغيث»: يقال: خَلَفت إذا حملت، وأخلفت إذا حالت ولم تحمل.
وإنما نهى يوشع صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قومه عن اتباعه على هذه الأحوال؛ لأن
أصحابها يكونون متعلقي القلوب بها فتضعف عزائمهم، وتفتر رغباتهم في الجهاد
والشهادة، وربما يفرط ذلك التعلق بصاحبه فيفضي به إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير،
والهمم إذا تفرقت ضعف فعل الجوارح، وإذا اجتمعت قويت.
وقيل في حبس الشمس: أنها رُدَّتْ على أدراجها، وقيل: أوقفت فلم تبرح، وقيل: بَطئ
سيرها، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهو أولى الأقوال.
قال ابن الجوزي: أكل النار للمغانم لتخلص نية الغازين كيلا يكون قتالهم لأجل
الغنيمة، وأبيحت الغنائم لهذه الأمة؛ لأن الإخلاص غالب عليها فلم تحتج إلى باعث
آخر.
البابان اللذان بعده تقدما.
(بابُ: قِسْمَةِ الإِمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَيَخْبَؤُهُ لِمَنْ لَمْ
يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ)
3127 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ
مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ
مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ» الحديث [خ
3127]
(1/259)
رواه
ابن عُلَيَّة عن أيوب، وقال حاتم بن وردان: حَدَّثَنا أيوب، عن ابنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عن الْمِسْوَرِ، قال: «قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ». تابعه الليث عن ابن أَبِي مُلَيْكَةَ.
حديث حاتم تقدَّم في الشهادات عند البخاري، فقال: حَدَّثَنا زياد بن يحيى، عن
حاتم، ومتابعه الليث أخرجها أيضًا في الهبة، وهو حديث خرَّجه الستة، ورواه
الإسماعيلي، عن ابن بنت منيع، أَخْبَرَنَا أحمد بن إبراهيم الموصلي وغيره، قالوا:
حَدَّثَنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، أنَّ مَخْرَمَةَ أتى
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فذكره. انتهى.
ابنُ أَبِي مُلَيْكَةَ صحَّ سماعه من عثمان المتوفى سنة خمس وثلاثين، فبالحري
سماعه ببلدته من مخرمة المتوفى سنة أربع وخمسين.
(بَابُ: كَيْفَ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرَ، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِي نَوَائِبِهِ)
3128 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنا مُعْتَمِرٌ،
عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ النَّخَلَاتِ حِينَ افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ». [خ 3128]
وذكره في غزوة الأحزاب بزيادة: وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ الذي كَانوا أَعْطوهُ أَوْ بَعْضَهُ،
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَجَعَلَتِ
الثَّوْبَ فِي عُنُقِي، تَقُولُ: كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
%ج 5 ص 8%
(1/260)
هُوَ
لَا نُعْطِيكُمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «لَكِ كَذَا»
وَتَقُولُ: كَلَّا، حَتَّى أَعْطَاهَا. حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: عَشْرَة
أَمْثَالِهَا، أَوْ كَمَا قَالَ.
هذا من باب الهدية لا الصدقة، فأول فتح عليه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ النضير
وكانت له خالصة، فحبس منها لنوائبه، وقسم أكثرها في المهاجرين خاصة دون الأنصار،
وذلك أنه قال للأنصار: «إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ المُهَاجِرِين، وَأَقَمْتُمْ عَلَى مُوَاسَاتِكُم التي
كُنْتُمْ آسَيْتُمْ بِهَا المُهَاجِرِين، وَإِنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْتُهَا الْمُهَاجِرِينَ
دُونَكُمْ، وَقَطَعْتُمْ عَنْهُمْ مَا كُنْتُمْ تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ»
قالوا: بل تعطيهم دوننا، فاستغنى القوم جميعًا، الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم،
والمهاجرون بما قسم عليهم.
وكانت أم أنس أعطت سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عذاقًا، وفي مسلم:
«نخلةً» يتصرف في ثمارها بنفسه وعياله وضيفه، فلهذا آثر بها أم أيمن، ولو كانت
إباحة له لما أباحها لغيره؛ لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء
لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء فإنه يتصرف فيه كيف شاء، وامتنعت أم أيمن
من رد المنحة؛ لأنها ظنت أنها كانت هبة وتمليكًا لأصل الرقبة، فأراد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ استطابة قلبها بالزيادة تبرعًا منه وإكرامًا لَهَا لِمَا لَهَا منْ
حقِّ الحضانة، وهذا يعكر على مذهب مالك حيث يقول: الواهب لا يرجع إليه ما كان وهبه
بسبب من الأسباب إلا بالإذن؛ لأنه أمر قهري، فينظر ما جوابهم عن هذا.
وقريظة قسمها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في أصحابه وأعطى من نصيبه في نوائبه،
قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: وزعموا أن هذه الغنيمة
%ج 5 ص 9%
أول غنيمة قسمت على السهام.
(1/261)
(بابُ:
بَرَكَةِ الْغَازِي فِي مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ وَوُلاَةِ الأَمْرِ)
3129 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قُلْتُ: لأَبِي أُسَامَةَ
حَدَّثَكُمْ هِشَامُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
«لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ
فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلاَّ ظَالِمٌ أَوْ
مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لاَ أُرَانِي إِلاَّ سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا،
وَإِنَّ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي» وفيه: «وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ شيءٍ مِنْهُ
فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ:
اللهُ». وفيه: «قالَ عَبدُ اللهِ: وَمَا وَلِيَ أَبِي إِمَارَةً قَطُّ وَلاَ
جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلاَ شَيْئًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ». [خ 3129]
وفيه: «وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ
وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ»
وفيه: «وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ».
قال هشام: (وَكَانَ بَعْضُ بني عَبْدِ اللهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ
خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ) هذا من إفراد البخاري، وذكره أصحاب الأطراف في مسند الزبير،
والأشبه أن يكون من مسند ابنه؛ لأن أكثره من كلامه، ولقوله: (ومَا وَلِيَ أَبِي
إِمَارَةً قَطُّ إلا أن يكون في غزوة مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
(1/262)
وهذه
اللفظة فيها معنى الرفع، وعند الإسماعيلي، عن جُوَيْرِيَة، حَدَّثَنا أبو أسامة،
حَدَّثَنا هشام، عن أبيه، وذكر الترمذي محسنًا عن عروة، قال: أوصى الزبير إلى ابنه
عبد الله صبيحة الجمل، فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ حَتَّى انتهى ذلك إلى فرجه.
قال
%ج 5 ص 10%
ابن المنير: وجه مطابقة الترجمة للحديث أن الزبير ما وسع عليه بولاية ولا جبابة،
بل ببركة غزوه مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَبُوْرِكَ له في سهامه من
الغنائم لطيب أصلها وسداد معاملته فيها.
وأما وقعة الجمل فكانت سنة ست وثلاثين على ذلك جماعة المؤرخين وأنكرها بعضهم، قال
أبو الفضل في «الشفا»: فأما من أنكر ما عُرِف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد،
التي لا ترجع إلى إبطال شريعة، ولا تفضي إلى إنكار قاعدة من الدين، كإنكار غزوة
تبوك أو مؤتة، أو وجود أبي بكر وعمر، أو قتل عثمان، وخلافة علي، مما علم بالنقل
ضرورة، وليس في إنكاره جحد شريعة، فلا سبيل إلى تكفيره، فجحد ذلك إنكار وقوع العلم
به إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل، ومحاربة عليٍّ
من خالفه، فأما إن ضعَّف ذلك من أجل تهمة الناقلين ووهم المسلمين أجمع فنكفره
بذلك؛ لسَيَرانه إلى إبطال الشريعة. انتهى.
وممن أنكرها بعد هذين أبو محمد بن حزم، ويشبه أن يكون نزع بذلك إلى براءة عائشة
رضي الله عنها. والله أعلم.
وقوله: (إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ) ذكر ابن
التين: أنه يريد إما متأول أراد بفعله وجه الله تعالى، ولم يتعد في تأويله، وإما
رجل من غير الصحابة أراد الدنيا وقاتل عليها فهو الظالم.
(1/263)
وقَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: معناه أن الصحابة في قتال بعضهم بعضًا كلٌّ له وجهٌ من الصواب
يُعْذَرُ به عند الله جَلَّ وَعَزَّ، فلا يسوغ أن يطلق على أحد منهم أنه قصد الخطأ
وقاتل على غير تأويل سائغ له، هذا مذهب أهل السنة، فكل واحد منهم مجتهد
%ج 5 ص 11%
محق عند نفسه، فالقاتل منهم والمقتول إن شاء الله تعالى في الجنة.
قال: فإن قيل فما معنى قوله: (إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ)؟.
قيل: معناه ظالم في تأويله عند خصمه و مخالفه، ومظلوم عند نفسه إن قتل، وأراد
الزبير أن يبين بقوله هذا أن تقاتل الصحابة - الذين هم خير أمة أخرجت للناس - ليس
كتقاتل أهل البغي والعصبية الذين القاتل منهم والمقتول ظالم لقوله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ
وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» لأنه لا تأويل لواحد منهم يُعْذَرُ به عند الله
جَلَّ وَعَزَّ، ولا شبهة له من الحق يتعلق بها، فليس أحد منهم مظلومًا، بل كلهم
ظالم.
وكان الزبير وطلحة وجماعة من كبار الصحابة خرجوا مع عائشة لطلب قتلة عثمان، وإقامة
الحدِّ عليهم، وكان قَتَلَتُهُ لجؤوا إلى علي، ولم يخرجوا لقتال علي، لأنه لا خلاف
بين الأمة أن عليًا أحق بالإمامة من جميع أهل زمانه، فرأى علي أنه لا ينبغي
إسلامهم للقتل على هذا الوجه، حتى يسكن حال الأمة، وتُجرى المطالب على وجهها،
بالبينات وطرق الأحكام؛ إذ علم أنه أحق بالإمامة من جميع الباقين، ورجاء أن تنفذ
الأمور على ما أوجب الله تعالى عليه، فهذا وجه منع عليٍّ المطلوبين بدم عثمان،
فكان من قدر الله تعالى ما جرى به العلم من تقاتلهم، ولذلك قال الزبير لابنه ما
قال لما رأى من شدة الأمر، وأن الجماعة لا تنفصل إلا عن تقاتل.
(1/264)
وقال:
(لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ مَظْلُومًا) لأنه لم يكن على قتال، ولا عزم عليه،
وكان عليٌّ لما سمع بخروج عائشة معهما خشي أن يأتيه أهل العراق فَيُصْنَعُ به كما
صُنِعَ بعثمان، وانصرف
%ج 5 ص 12%
الزبير قبل أن يبرد القتال نادمًا على ما وقع منه، فأنزله عمرو بن جرموز السعدي
وذبح له شاة، فلما نام قتله وذهب برأسه إلى علي، فقال: بشروا قاتل ابن صفية
بالنار، ويمكن أن الزبير سمع قول سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«بَشِّرُوا قَاتِلَ ابْن صَفِيَّةَ بِالنَّارِ» فلذلك قال: (لَا أُرَانِي إِلَّا
سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا).
واختلف في الوصية عند الحرب؛ لأنه سبب للموت كركوب البحر، هل يكون من الثلث أو من
رأس المال.
وقوله: (فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ) قال شيخنا أبو محمد التُّوْني: ذكره بعض العلماء
بالتشديد ليصح إضافته إلى ولده، أي: ليكون التثليث وُصلةً إلى إيصال ثلث الثلث
إليهم، وفيه نظر.
وقوله: (وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ) قال ابن التين: أي حاذوهم في السن،
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وازوهم في السن ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله في
أنصبائهم من الوصية أولاد الزبير فيما حصل لهم من ميراث الزبير، قَالَ ابنُ
بَطَّالٍ: وهذا أولى، وإلا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزبير معنى في الموازاة في
السن.
وقوله: (اسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ) فيه دفعٌ لتأويل الشيعة في تشنيعهم على أم
المؤمنين ومن تبعها بأنهم ظالمين؛ لأن الله تعالى لا يكون وليًا للظالم.
وقوله: (فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ) قَالَ ابنُ
بَطَّالٍ: هذا غلط في الحساب، وكأنه من البخاري، والصحيح فجمع ماله سبعة وخمسون
ألف ألف، وتسعمائة ألف، وقال ابن التين: مثله غير الأخير فإنه ذكر أنه ستمائة ألف،
%ج 5 ص 13%
قال ابن المنير: وَهِمَا جميعًا، ولم يبين صوابه.
(1/265)
ورواه
ابن سعد، عن القعنبي، عن ابن عيينة، قال: قسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف،
ومن حديث أبي أسامة بلفظ: فأصاب كل امرأة من نسائه، ألف ألف ومائة ألف، فيصبح
المال على هذه الرواية خمسة وخمسين ألف ألف.
وعند الواقدي، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشام، عن أبيه، قال: كان قيمة ما ترك
الزبير، إحدى وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف، فَيُحْمَلُ على أنه أراد قيمة تركته
عند موته، لا الزائد عليه من غلة الأرضين في أربع سنين التي لم يقسم عبد الله بين
الورثة شيئًا حتى كملت.
وقال في الباب الذي بعده:
3130 - حَدَّثَنا مُوسَى بن إِسْماعِيل، حَدَّثَنا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنا
عُثْمَانُ بْنُ عَبْد الله بن مَوْهَبٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «إِنَّمَا تَغَيَّبَ
عُثْمَانُ») الحديث. [خ 3130]
قال الجياني: كذا ورد هذا الإسناد عن ابن السكن، وأبي زيد المروزي وغيرهما. وفي
نسخة أبي محمد، عن أبي أحمد، حَدَّثَنا موسى، حَدَّثَنا أبو عوانة، حَدَّثَنا عمرو
بن عبد الله، هكذا قال: عمرو، وصوابه: عثمان. وقد تكرر هذا الحديث في ثبات عثمان
على الصواب لجميع الرواة، ولعثمان ابنٌ يقال له: عمرو بن عثمان، وهو الذي سماه
شعبة محمدًا.
وذكر في باب: (مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَعِدُ النَّاسَ
أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالْأَنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ)
(1/266)
3136
- حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنا
بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ:
«بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَنَحْنُ
بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ») وفيه: «فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا- أَوْ
قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا- وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ
مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ
%ج 5 ص 14%
مَعَهُ إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَسَمَ لَهُمْ
مَعَهُمْ». [خ 3136]
3133 - وفي حديث زَهْدَمٍ، عنه: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: «وَاللهِ لاَ
أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» فَأُتِيَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا وَأعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرِّ
الذُّرَى. [خ 3133]
وفيه: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا
أَنَسِيتَ؟ قَالَ: «لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ،
وَإِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا».
قال ابن المنير: هذا الحديث ليس مطابقًا للترجمة فإن ظاهره يعني الأول أنه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قسم لهم من أصل الغنيمة مع الغانمين، وإن كانوا غائبين
تخصيصًا لهم لا من الخمس، إذ لو كان منه لم تظهر الخصوصية؛ لأن الخمس لعامة
المسلمين، والحديث ناطق بها. انتهى.
(1/267)
ذكر
موسى بن عقبة، أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ استطاب أنفس الغانمين ما أعطى
أصحاب السفينة كما فعل في سبي هوازن، وقيل: إنما أعطاهم مما لا يفتح بقتال مما قد
أجلى عنه أهله بالرعب، فصار فيئًا، وقال آخرون منهم ابن حبيب: إنما أعطاهم من
الخمس الذي له أن يضعه باجتهاده.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لأن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، ويمكن أن البخاري ذهب إلى
هذا، وقيل: إنهم كانوا وصلوا قبل القسمة، والذي أعطى يوم حنين للمؤلفة، إنما كان
من نصيبه وحقه من الغنيمة.
وقد جاء في حديث أبي هريرة أن خيبر كانت غنائمها لأهل الحديبية خاصةً.
قال السُّهَيلي: وقول من قال إنه أعطى المؤلفة من خمس الخمس مردودٌ؛
%ج 5 ص 15%
لأن هذا ملكه فلا كلام لأحد فيه، وقيل: أعطاهم من رأس الغنيمة، وذلك خصوص به
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ}
[الأنفال: 1] وهذا يرده ما ذكر من نسخ هذه الآية.
والذي اختاره أبو عُبَيْدٍ أن إعطاءهم كان من الخمس.
وعند ابن إسحاق: أن ذا الخويصرة التميمي هو القائل لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: اعدل.
(بابُ: مَا مَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى الأُسَارَى مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ)
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فيه حجة لما ذكره ابن القَصَّارِ، عن مالك وأبي حنيفة: أن
الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة إلا بعد قسمة الإمام لها، وعن
الشافعي: أنهم يملكون بنفس الغنيمة.
(1/268)
وقال
الداودي: لم يكن القوم ممن يخمس، ولا يُسْتَرَق ولا يكون ذمة إذا مُنَّ عليه، إنما
كان الحكم فيهم في تلك الغزاة القتل أو المفاداة بأموال تأتيهم من مكة، ومن لم يكن
له مال علم أولاد الأنصار الكتاب. قال: وكيف يخمسون عنده - يعني البخاري - وهو
يروي: «سَبْعَةٌ لَا مَوْلَى لَهُمْ إِلَّا اللهُ: قُرَيْشٌ، وَالْأَنْصَارُ،
وَجُهَيْنَةُ، وَمُزَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارُ». وكان حكم قريش
يوم الفتح الإسلام أو القتل، لا يفادون ولا يسترقون ولا يقبل منهم جزية، فأحكام
قريش ليست لغيرهم.
3139 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ
بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ
لَهُ». [خ 3139]
ذكره البخاري في المغازي فقال:
%ج 5 ص 16%
حَدَّثَنا إسحاق بن منصور، أَخْبَرَنَا عبد الرزاق. وكان هذا عمدة أصحاب الأطراف،
إذ قالوا في حديث الباب: رواه البخاري، عن إسحاق بن منصور، ورواه أبو منصور، ورواه
أَبُو نُعَيْمٍ، عن الطَّبَرانيِّ، قال: حَدَّثَنا إسحاق بن إبراهيم، أَخْبَرَنَا
عبد الرزاق، فذكره.
ولما رواه في المغازي قال: حَدَّثَنا محمد بن محمد بن مكي، حَدَّثَنا
الفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنا البخاري، حَدَّثَنا إسحاق بن إبراهيم، أَخْبَرَنَا عبد
الرزاق، ثم قال رواه البخاري عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق. انتهى.
وكذا هو في بعض نسخ المغاربة ابن منصور.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هذا الحديث حجة في جواز الْمَنِّ على الأسارى وإطلاقهم بغير
فداء، خلافًا لقول بعض التابعين؛ لأن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لا يجوز في صفته أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله، وهو غير جائز.
(1/269)
وهذا
عند ابن إدريس وأحمد أن الإمام مخير في الأسارى البالغين، إن شاء منَّ عليهم من
غير فداء، وإن شاء فاداهم، وإن شاء قتلهم، أي ذلك كان أصلح وأعز للإسلام فعل.
وعند أبي حنيفة كذلك إلا قوله: ولا يُمَنُّ عليهم بغير فداء، قال: لأن ذلك تقوية
للكفار.
قال ابن الجوزي: زعم بعضهم أنَّ الْمَنَّ كان مخصوصًا بسيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال: وهذا الحديث حجة لما ذكره ابن القصار، عن مالك وأبي
حنيفة أولًا، قال: وذلك أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لو منَّ على الأسارى سقط
سهم من له الخمس كما سقط سهم الغانمين.
قال ابن القَصَّارِ: لو أنهم ملكوا بنفس الغنيمة كان من له أب أو ولد ممن يعتق
عليه إذا ملكه يجب أن يعتق عليه بنفس الغنيمة ويحاسب به من سهمه، وكان يجب لو
تأخرت
%ج 5 ص 17%
القسمة في العين والرزق، ثم قسمت أن يكون حول الزكاة على الغانمين يوم غنموا، وفي
اتفاقهم أنه لا يعتق عليهم من يلزمهم عتقه إلا بعد القسمة، ولا يكون حول الزكاة
إلا من يوم حاز نصيبه بالقسمة، أنه لا يملك بنفس الغنيمة، ولو ملك بنفس الغنيمة لم
يجب عليه الحد إذا وطئ جارية من المغنم قبل القسمة.
واحتج أصحاب الشافعي فقالوا: لو ترك السبي لمطعم بن عدي كان يستطيب أنفس الغانمين
كما فعل في سبي هوازن؛ لأن الله جَلَّ وَعَزَّ أوجب لهم ملك الغنائم إذا غنموها
بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] فأضافها
إليهم.
(1/270)
وأما
قولهم: في العتق للأب والولد فلا حجة فيه؛ لأن السنة إنما وردت فيمن أعتق شقصًا له
في عبد معين قد ملكه وعرفه بعينه، فأما من لا يعرف بعينه فلا يشبه عتق الشريك، ألا
ترى أن الشريك له أن يعتق كما أعتق صاحبه، وفي إجماعهم أنه يعتق على الشريك
الموسر، وإجماعهم أنه لا يعتق عليه في شريكه في الغنيمة دليل على الفرق بينهما،
وأما قوله في الزكاة فغير جيد؛ لأن الفوائد لا تراعى حولها عندهم إلا من يوم تصير
بيد صاحبه، وأما اعتلالهم بوجوب الحد فلا معنى له؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا
خلاف بين العلماء أنه لو وطئ جارية معينة بينه وبين غيره لم يحد، فكيف ما لا
يتعين؟!
وقول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هذا في المطعم ما قاله؛ لأنه كان كافًا عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقام في نقض الصحيفة، وسيذكر في غزوة بدر.
وقول البخاري في:
(باب: وَمِنَ الدَّلِيلِ أَنَّ الْخُمُسَ لِلإِمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِي بَعْضَ
قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ: مَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى
%ج 5 ص 18%
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ)
قال الليث: حَدَّثَنِي يونس معلقًا، وهو عنده مُسْنَدٌ في المغازي، عن يحيى بن
بُكَيْر عنه، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقوله: (وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ
لأُمٍّ) خرجه أبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هذا الباب فيه ردٌّ لقول الشافعي رحمه الله أن سهم ذوي
القربى خمس الخمس يقسم بينهم بالسوية من غير تفضيل فقير على غني، قال إسماعيل بن
إسحاق: وليس في هذا الباب أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قسم بينهم خمس الخمس،
وقد يجوز أن يقسم بينهم أكثر أو أقل؛ لأنه لم يخص في الحديث سهمهم كم هو، وإنما
فيه الفرق بين بني هاشم وبني المطلب وبين سائر بني عبد مناف.
(1/271)
وعند
الطحاوي، من حديث الحسن بن محمد بن علي قال: اختلف الناس بعد وفاة سيدنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في سهم ذوي القربى، فقال قوم: هو لقرابة الخليفة،
وقال قوم: هو للخليفة، ثم أجمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في العدة والخيل في
سبيل الله تعالى، فكان كذلك إمارة الشيخين.
قال الطحاوي: أفلا ترى أن ذلك مما قد أجمع عليه الصحابة، ولو كان لقرابة رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما منعوا منه، ولما صُرِفَ إلى غيرهم، ولا كان يخفى
ذلك عن الحسن بن محمد مع علمه وتقدمه.
وهذا يردُّ قول من زعم أن لذوي القربى سهمًا مفروضًا من الخمس، وزعم الشافعي: أنه
يعطى الرجل من ذوي القربى سهمين والمرأة سهمًا، وخالفه أصحابه المزني، وأبو ثور،
وجميع الناس قالوا: الذكر والأنثى في ذلك سواء.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهذا هو الصحيح؛ لأنهم إنما أُعْطُوا بالقرابة، وذلك لا يوجب
التفضيل، كما لو أوصى لقرابته بخلاف المواريث، فإن الله جَلَّ وَعَزَّ قسمها على
أمور مختلفة.
وهذا الحديث حجة للشافعي أن ذوي القربى الذي يسهم لهم من الخمس هم بنو هاشم وبنو
المطلب خاصة دون سائر قرابته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وبه قال أبو ثور، وقال
ابن الحنفية: سهم ذوي القربى هو لنا أهل البيت. وقال عمر بن عبد العزيز: هم بنو
هاشم خاصة، وقال أصبغ: قيل هم قريش كلها.
(بابُ: مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأَسْلاَبَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمِّسَ، وَحُكْمِ الإِمَامِ فِيهِ)
(1/272)
3141
- حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،
قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي
وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ
أَسْنَانُهُمَا، فتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا،
فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ رَأَيْتُهُ لاَ
يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا.، فَتَعَجَّبْتُ
لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ
نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فقُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا
صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي عَنْهُ فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا
فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟». فَقَالَ: كُلُّ
%ج 5 ص 20%
واحدٍ أنا قتلْتُهُ. [خ 3141]
فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالا: لا، فَنَظَرَ فِي
السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلاكُمَا قَتَلَهُ، وأعطى سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو
بْنِ الجَمُوحِ»
(1/273)
قال
محمد: سمع يوسفُ صالحًا وإبراهيمَ أباه، يشبه أن يكون هذا الحديث منقطعًا فيما بين
يوسف وصالح بيانه قول الْبَزَّارِ، حَدَّثَنا محمد بن عبد الملك القرشي وعلي بن
مسلم، قالا: حَدَّثَنا يوسف بن أبي سلمة الماجشون، حَدَّثَنا عبد الواحد بن أبي
عون، قال حَدَّثَنِي صالح بن إبراهيم به وقال: هذا الحديث لا نعلمه يُروى عن عبد
الرحمن بن عوف عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا من هذا الوجه بهذا
الإسناد.
وعبدُ الواحد بن أبي عون رجل مشهور ثقة. انتهى.
ثم إنا وجدنا عفان بن مسلم لما رواه عن يوسف قال: أَخْبَرَنَا صالح؛ فإنْ صَحَّتْ
هذه الرواية فيكون قد سمعَه عنه أولًا، ثم سمعه منه آخرًا.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: وقوله: (إِنَ ابْنَي عَفْرَاء ضَرَبَاهُ حَتَّى بَرَد)
وَهْمُ؛ الْتَبَسَ على بعض الرواة معاذُ بن الجموح بمعاذ بن عفراء ومعوذ أخيه عند
السكوت عن ذكر عمرو والد معاذ بن عمرو بن الجموح.
وقال أبو الفَرِج: ابن الجموح ليس مِن ولد عفراء، ومعاذ بن عفراء ممن باشر قتلَ
أبي جهل، فلعل بعض إخوته حضره أو أعمامه أو يكون الحديثُ ابنَ عفراء، فغلطَ الراوي
فقال: ابنا عفراء.
قال أبو عمر: أصح من هذا حديثُ أنس بن مالك: «إِنَّ ابنَ عَفْرَاءَ قَتَلَهُ».
قال ابن التِّين: يَحْتَمِل أن يكونا أخوين لأم، أو يجوز أن يكون بينهما رضاع.
وعند ابن إسحاق: ضَرَبَ مُعَاذُ بنُ عَمْرو بنِ الْجَمُوحِ أَبَا جَهْلٍ ثُّمَّ
مَرَّ بِهِ وَهُوَ فَقِير مُعَوِّذُ
%ج 5 ص 21%
بْنُ عَفْرَاء فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ فَمَرَّ
بِهِ ابنُ مَسْعُود، حين أمر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ
يُلْتَمَسَ فِي القَتْلَى. فعلى هذا يصح قول من يقول ابنا عفراء وهما معاذ ومعوذ.
انتهى.
ابنا عفراء معاذ ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن
مالك بن النجار.
(1/274)
ذكر
أبو عُمر: أن معوذًا قُتِل ببدر وكذلك خرجه عوف، وعند الداودي معاذ آخرهما، شارك
في قتل أبي جهل وتوفي في أيام صفِّين.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: ونظره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى سيفيهما دليل أنه لم
يعطِ السَّلَبَ إلا لمن أثخنه، وله مزيّةٌ في قتله، وموضع الاستدلال منه: أنه رأى
في سيفيهما مبلغَ الدم من جانبي السيفين، ومقدار عمق دخولهما في جسم أبي جهل ولذلك
سألهما: هَلْ مَسَحَاهُما ليعتبر مقدار وُلُوجِهما في جسمه.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: وهو أول دليل على صحة مذهب مالك وأبي حنيفة، وزعم من خالفنا:
أن هذا الحديث منسوخ بما قاله يوم حنين، وهو فاسد لوجهين:
الأول: أن الجمع بينهما ممكن فلا نسخ.
الثاني: روى أهل السير وغيرهم أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال يوم بدر:
«مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُه» كما قاله يوم خيبر، وغايته أن يكون من باب
تخصيص العموم.
ومنها أن بعض الشافعية قال: إنما فِعْلُه ذلك؛ لأنه استطاب نفس أحدهما، وكيف
يستطيب نفس هذا بإفساد قلب الأخر.
ومنها أنه رأى سبب أحدهما من الأثر مالم يرَ على الأخر، وقال: (كِلاهُمَا
قَتَلَهُ) تطييبًا لقلب الآخر وهو غير جيد؛ لأن ظاهر قوله: (كِلاهُمَا قَتَلَهُ)
المشاركة فيما نَسبَ
%ج 5 ص 22%
إليهما، وقول هذا القائل يلزم منه أنه يجوز على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
التورية في الأحكام، والقول بذلك باطل لا يجوز والله أعلم.
قال ابن التِّين: يحتمل أن يكون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنده في ذلك علم من
الْمَلَكِ، ويحتمل أن يكون إعطاءُ ابنِ الجموح السَّلَب؛ لأن القتل كان من جهته
أكبر، قال: وذُكِر أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَفَّلَهُما سَلَبَه.
(1/275)
وعند
أبي داود أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لما أجهز عليه ابنُ
مسعود نَفَّلَه سيفَه, ولما ذكر البيهقي هذا الحديث في باب السلب للقاتل قال:
الاحتجاج بهذا الحديث في هذه المسألة غير جيد؛ لأنا أسلفنا كيفية الغنيمة يوم بدر
حتى نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] وإنما الحجة
في إعطائه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ للقاتل السلَبَ بعد وقعة بدر, وذلك بيّنٌ
في حديث أبي قتادة يعني الآتي بعدُ.
وقد اختلف العلماء في حكم السلب:
فقال مالك: لا يستحق القاتلُ سَلَبَ قتيله إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال
فينادي ليحضَ الناس على القتال، أو يجعله مخصوصًا لإنسان إذا كان جَهِدَه، وبه قال
أبو حنيفة والثوري، وحملوا الحديثَ على هذا، وجعلوا هذا اطلاقًا منه صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ وليس بفتوى وَإخبار عام.
وعن مالك يُكره أن يقول الإمام قبل القتال من قتل قتيلا فله سلَبُه.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: لئلا تَفسُدَ نيات المجاهدين، قالوا: وإنما قال صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ هذا القول بعد أن بَرد القتال.
وقال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور: السَّلَبُ للقاتل على كل حال سواء قال
ذلك الإمام أو لم يقله؛ لأنها
%ج 5 ص 23%
قضية قضى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في مواطن شتى، فلا يحتاج إلى
إذن الإمام فيها.
وحديث الباب يُبيِّن أن ذلك كان قبل يوم حنين.
قال أصحاب الشافعي: الرجلان إذا أثخن أحدهما المشركَ بالضربِ وذبحه الآخر كان
السَّلَبُ للمثخن لا للذابح.
واحتج الإمام مالك بأنه إنما قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُه» بعد أن
برد القتال يوم حنين ولم يُحفظ ذلك عنه في غير يوم حنين ولم يحُفظ ذلك ولا بلغني
عن الخليفتين. انتهى.
فقد تقدم قول القرطبي ببطلان هذا القول فيُنظرْ.
(1/276)
قال:
وليس السَّلَبُ للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسَّلبُ غنيمة، وحكمه حكم
الغنائم؛ لأن الأربعة الأخماس للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك
الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخُمُس.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: وعن مسروق إذا التقى الرجلان فلا سلب له, إنما النفل قبل أو
بعدُ ونحوه.
قال نافع والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبي بكر بن أبي مريم والشاميون، وقال
أحمد: السَّلَبُ للقاتل على كل حال.
قال في «شرح المُهذَّب»: والأصح أن القاتل لو كان ممن له رُضَحْ ولا سهم له
كالمرأة والصبي والعبد استحق السَّلَب.
وقال مالك: لا يستحقه إلا المقاتل فإن قتل امرأةً أو صبيًا أو شيخًا فانيًا أو
ضعيفًا مَهينًا ونحوهم لم يستحق سَلَبَه، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا.
وفي قوله: (كِلاكُمَا قَتَلَه) دلالة أن السلب لو كان مستحقًا بالقتل لكان يجعله
بينهما؛ لأنهما اشتركا في قتله ولا ينزعه من أحدهما، فلما قال: (كِلاكُمَا
قَتَلَه) ثم قضى بالسَّلَبِ لأحدهما
%ج 5 ص 24%
دخول الآخر، ألا ترى أن الإمام لو قال: من قتل قتيلا فله سَلَبُه، فقتل رجلان
قتيلًا إنَّ سَلَبَه بينهما نصفين؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثل ما
لصاحبه؛ فلما أعطى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سَلَبَ أبي جهل لأحدهما، دلَّ أنه
كان أولى به منهما؛ لأنَّه لم يكن قال حينئذ: من قتل قتيلًا فله سلبه، ويجاب عن
قول ابن مسعود: قتل الله أبا جهلٍ فحلَّفه ثلاثا؛ بأن الأنصاريَين بلغا به
المبْلَغَ الذي يعلم أنه لا يجوز بقاؤه بَعدُ فجاء عبد الله يُخبِرُ أن نفسه التي
كانت ....... خرجت؛ فلهذا قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (مَنْ يَعْلَمُ لِي
خَبَرَ أَبِي جَهْل) يعني مآل حاله بعد ذلك الإثخان.
(1/277)
قَالَ
القُرْطُبِيُّ: قوله: (أضْلَعَ) كذا هو أيضًا في مسلم، بالضاد المعجمة والعين
المهملة، ووقع في بعض روايات البخاري: «أَصْلَح» بصاد وحاء مهملتين، والأول
الصواب، ومعناه من الضِلاعة وهي القوًّة، وكأنه استضعفهما؛ لصغر أسنانهما.
وقوله: (لا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَه) أي: شخصي شخصَه، وأصله أن الشخص يُرى على
البعد أسودَ.
وقوله: (حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا) أي: الأقرب أجلًا، وهو كلام مستعمل
يُفهم منه أن يلازمه ولا يتركه إلى وقوع الموت بأحدهما، وصدور هذا الكلام في حال
الغضب والانزعاج؛ يدل على صحة العقل والتثبت الوافر والنظر في العواقب، فإن مقتضى
الغضب أن يقول: حتى أقتلَه؛ لكن العاقبة مجهولة.
وقوله: (فَلَمْ أنشَبْ) أي لم ألبث ولم أشتغل بشيء بعد، وهو من نَشَبْتُ بالشيء
إذا دَخَلْتُ فيه وتعلقت به.
وقوله: (يَزُولُ) أي
%ج 5 ص 25%
يجول ويضطرب في المواضع ولا يستقرّ على حال، وفي رواية ابن ماهان (يَجُول) بالجيم،
وعند مسلم: «ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَك» بالكاف أي سقط على الأرض،
وفي رواية <بَرَد> بالدال أي مات، وقول أبي جهل - لعنه الله- (هلْ فوقَ رجلٍ
قَتَلْتُمُوه) أي: لا عار عليَّ من قتلكم إياي، وفي مسلم: «لو غيرَ أكّارٍ
قَتَلَني» يُعَرّضُ لعنه الله بابني عفراء؛ لأنهما من الأنصار أصحاب الزروع
والنخل؛ يعني لو كان قاتلي غير فلاح وهو الأكَّار كان أحبُّ إليّ وأعظم لشأني، ولم
يكن نقصٌ، وسيأتي الكلام عليه أيضا في غزوة بدر.
واختلفوا في تخميس السَّلَب:
فالصحيح عند الشافعي ألا يُخَمَّسُ وهو قول أحمد ومحمد بن جرير في أخرين.
وقال مالك والأوزاعي يُخمَّس وهو القول الضعيف للشافعي.
وعن عمر بن الخطاب وابن راهَويه يُخمَّس إذا كان كثيرًا، وعن مالك روايةٌ أن
الإمام مخير فيه.
وحديث أبي قتادة تقدم في البيوع والذي يتعلق بالكلام عليه هنا.
(1/278)
قوله:
(فكَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ) بفتح الجيم أي خفةٌ ذهبوا فيها، يقال جَال
واجتال إذا ذهب وجاء ويُعنى به انهزام من انهزم من المسلمين يوم حنين.
وقوله: (فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ قد عَلاَ رَجُلًا مِنَ
المُسْلِمِينَ) يعني ظهر عليه وأشرف على قتله أو صرعه وجلس عليه ليقتله.
وقوله: (عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ) يريد به العنق والكاهل، وقيل هو حبل الوريد،
والوريد عرق بين الحلقوم والعِلباوَين.
وقوله: (فَضَمَّنِي ضَمَّةً وجَدْتُ مِنْها رِيحَ المَوْتِ) أي: ضمني ضمة شديدة
أشرفت بسببها على الموت، وذلك أن مَنْ قرب
%ج 5 ص 26%
من الشيء وجد ريحه، ويحتمل أنه أراد شِدَّةً كشدةِ الموت.
وقوله: (لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ) قال بظاهره الشافعي والليث، وبعض أصحاب الحديث
زادوا (أو شاهدٌ ويمين). وقال الأوزاعي: ليست البينة شرطًا.
قال ابن قدامة: ويحتمل أن يُقبَلَ شاهد بغير يمين؛ لأن سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين انتهى.
هذا لم يشهد له إنما اعترف بأن السَّلَبَ عنده.
قال ابن قدامة: ويجوز أن تُسلَبَ القتلى وتركهم عراة، قاله الأوزاعي وكرِهَه
الثوري وابن المنذر.
وقوله: (لاَهَا اللهِ إِذًا) كذا الرواية بالتنوين، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: والصواب
منه لاها الله ذا بغير ألف قبل الذال، ومعناه لا والله، يجعلون الهاءَ مكان الواو
يعني لا والله لا يكون ذا.
وقال الْمَازِرِيُّ: معناه لاها الله ذا يميني، أو ذا قسمي، وقال أبو زيد: ذا
زائدة وفي (ها) لغتان المد والقصر قالوا: ويلزم الجزم بعدها كَمَا يلْزم بعد
الْوَاو، وَقَالُوا: وَلَا يجوز الْجمع بَينهمَا، فَلَا يُقَال: لَاها وَالله، وفي
هذا ما يدل على أن هذه اللفظة تكون يمينًا، قال أصحاب الشافعي: إن نوى بها اليمين
كانت يمينًا وإلا فلا.
(1/279)
وقوله
(لا يَعْمِدُ) ضبطوه بالياء والنون وكذا قوله بعده: (فيعطيك) بالياء والنون وكلام
أبي بكر هذا لم يكن لأحد فعلَه بحضرة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
غيرُه على كثرة المفتين في زمنه، فمنهم عمر وعثمان وعلي وعبدالرحمن وابن أم عَبْد
وعمار وأُبَي بن كعب ومعاذ وحذيفة وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وسلمان وأبو موسى
الأشعري رضي الله عنهم.
(بَابُ: مَا كَانَ يُعْطِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 5 ص 27%
الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُم وغيرَهم من الخُمُسِ وَنَحْوِه)
رواه عبد الله بن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
هذا التعليق رواه البخاري في «صحيحه» فقال: حَدَّثَنا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنا
وهب، حَدَّثَنا عمرو بن يحيى عن عَبَّاد بن تميم عن عبد الله بن زيد، قال: «لْمَّا
أفاءَ الله عَلَى رسولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِي
المُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهُمْ ولَمْ يُعْطِ الأنْصارَ شَيْئًا». الحديث.
وحديث حكم بن حزام تقدم في الزكاة.
وقوله في حديث أبي النعمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع: «أنَّ عُمَرَ بنَ
الْخَطَابِ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إِنَّه كان
عَلَيَّ اِعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّة». الحديث. وفيه: «وأَصَابَ عُمَرُ
جَارِيَتَيْن» وفيه: قال نافع: «ولم يَعْتَمِرْ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مِنَ الْجعْرَانَةِ، ولو اعْتَمَرَ لم يخفَ على عبد الله». قال: ورواه
مَعمر، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في النذر ولم يقل يوم هذا.
(1/280)
التعليق
رواه في كتاب المغازي عن ابنِ مُقَاتِلٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ قالَ: «لَمَّا قَفَلْنَا
مِنْ حُنَيْنٍ، سَأَلَ عُمَرُ عَنْ نَذْرٍ» وقال الدَّارَقُطْني: واختُلِف على ابن
عُيينة عن أيوب في أمر الجاريَتين، فأرسلهُ عنه قوم ووصله أخرون، قال: وفي بعض
أسانيده إرسال وتعليق، وسائرها مسندة.
وقال الجياني: كذا رُوي مرسلًا عند ابن السكن وأبي زيد، وعند أبي أحمد الجرجاني
أيوب عن نافع عن ابن عمر؛ وذلك وهمٌ، والصواب الارسال من رواية حماد بن زيد.
قال البخاري: وزاد جَرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: «مِنَ الخُمُس».
حديث جرير هذا رواه مسلم في «صَحيحه» عن أبي الطاهر،
%ج 5 ص 28%
أخبرنا ابن وَهَب، حَدَّثَنا جرير أن أيوب حدثه فذكره.
وقال البخاري في المغازي: أيضًا رواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة عن أيوب انتهى.
التعليق عن حماد رواه مسلم عن عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارِمي، حَدَّثَنا
حَجَّاجُ بنً الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنا حماد عن أيوب، قال: وحَدَّثَنَا يحيى بن
خَلف، حَدَّثَنا عبد الأعلى عن محمد بن اسحق عن نافع عن ابن عمر بهذا الحديث في
النذر وفي حديثهم جميعًا اعتكاف يوم.
ذكر في «الأطراف» أن رواية حجاج هذه عن حماد بن سلمة، وذكر أبو الفضل بن طاهر
أيضًا في رجال الشَيخَين: أن حجاج بن منهال سمع حماد بن سلمة في النذور من رواية
الدارمي عنه.
قال البخاري: وقال بعضهم حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، هذا التعليق رواه مسلم
عن أحمد بن عَبْدَه، حَدَّثَنا حماد بن زيد، حَدَّثَنا أيوب عن نافع، قال: «ذُكِرَ
عندَ ابنِ عمرَ عُمْرَةُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنَ
الْجِعْرَانَةِ» قال مسلم: ثم ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب.
(1/281)
وقول
البخاري إثرَ حديث الحسن عن عمرو بن تغلب: «أَعَطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِين». الحديث. زاد أبو عاصم عن جرير سمعت
الحسن قال: حَدَّثَنا عمرو بن تَغْلب «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أُتِي بِمالٍ أو بِسَبيٍ فَقَسَمَهُ بِهَذا».
هذا التعليق يقدم في العيدين عن محمد بن معمر عن أبي عاصم.
وحديث ابن عُمر أن عمر أجلى اليهود تقدم في المزارعة.
المؤلفة قلوبهم جماعة منهم أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ،
والحارثُ بنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الجُمَحِي، وَحُوَيْطِبُ بْنُ
عَبْدِ الْعُزَّى، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، والعَلَاءُ
بنُ جَارِيَةَ.
قال ابن إسحاق:
%ج 5 ص 29%
أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بَعير، وأعطى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مخرمة بن
نوفل وعُمير بن وهب الجمحي وهشام بن عمر والعامري.
قال ابن إسحاق: ولا أدري كم أعطاهم، وأعطى سعد بن يربُوع خمسين بعيرًا وعباس بن
مرداس أباعر قليلة.
وقال أبو عُمر: وقد ذكرَ منهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كَلْدة، وعُيَيْنَة بن
حِصن، ووهب بن أبي أمية المخزومي، وسفيان بن عبد الأسد، والسائب بن أبي السائب،
ومطيع بن الأسود، وأبو جهم بن حذيفة، ونوفلُ بن معاوية.
وعند أبي الفرج البغدادي: الأقرعَ بن حابس، وعبد الرحمن بن يربوع، وزيد الخيل،
وعلقمة بن علاثة، والجَدُّ بنُ قيس، وجبير بن مطعم، وحَكيم بن طَليق بن سفيان بن
أمية بن عبْد شمس، وخالد بن قيس السهمي، وعبد الرحمن بن يربوع، وعمرو بن مرداس
السُّلمي، وأبو السَّنابل بن بَعْكَك، وقيس بن عدي السهمي. انتهى.
ذكر عبد الرزاق في تفسيره: أَخْبَرَنَا معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: المؤلفة
قلوبهم عَدَّي بن قيس السهمي فيُنظر.
قال أبو الفرج: وقيس بن مخرمة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد
المطلب.
(1/282)
وعند
ابن طاهر في «إيضاح الإشكال»، وعَمرو بن الهيثم، وعند أبي محمد الحسن ين محمد
الصنعاني، وأُبي بن شريق، وكعب أبو الأخنس، وأُحَيْحَة بن أمية بن خلف، وحرملة بن
هَوْذَة، وخالد بن أسيد بن أبي العيص، وخلف بن هشام، وخالد بن هَوْذة العامري،
وسُهيل بن عمرو بن عبد شمس، وشَيبة بن عثمان الجُمَحي، وعكرمة بن عامر العبدري،
وعُمَيْرُ بنُ وَدَقَةَ، وقَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ بنِ الْمُطَّلِبِ، ولبيد بن
ربيعة العامري، والمغيرة
%ج 5 ص 30%
بن الحارث بن عبد المطلب، وهشام بن الوليد أخو خالد بن الوليد.
وذكر أبو عبد الله ابن النَقْيب في «تفسيره»: كانت المؤلفة قلوبهم قسمان على عهد
سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مؤمن لم يَستقرَّ الإسلام في قلبه
فلم يزل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يعطيهم حتى استقر الإيمان في قلوبهم، وجماعة
من أهل الكتاب وغيرهم كان يتألَّفُهم اتِّقاء شرهم.
وقال جماعة من أهل العلم: المؤلفة قلوبهم قوم كانوا في صدر يظهرون الإسلام
ويُسِرُّون الكفر، كانوا يتألفون بدفع سهم من الصدقة لضعف يقينهم.
وقال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيًا.
قال واختلف العلماء في بقائهم:
فقال عمر والحسنُ والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعزِّ الإسلام وظهوره وهو مشهور
مذهب مالك وأبي حنيفة.
وقال بعض الحنفيين: لما أعز الله الإسلام وقطع دابر الكافرين اجتمعت الصحابة في
خلافة أبي بكر رضي الله عنه وعنهم أجمعين على سقوط سهمهم.
وقال:
%ج 5 ص 31%
محمد بن ادريس الشافعي رضي الله عنه: هذا الصنف مفقود في هذا الزمان، فإن وُجدوا
أَخَذُوا.
وقال جماعة: هم باقون ثم إن سهمهم يرجع إلى ما في الأصناف.
وقال الزُهري: يُعطى نصف سهمهم لعمارة المساجد، وقال أبو بكر الرازي: كانوا
يتألفون لجهات ثلاثة:
إحداها: الكفار؛ لدفع معرَّتهم وكف أذاهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم
من المشركين،
(1/283)
الثانية:
لاستمالة قلوبهم إلى الدخول في الإسلام ولئلَّا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات
على الإسلام.
الثالثة: لأنهم حديثي عَهْدٍ بُكفرٍ فَيُخشى من رجوعهم إليه.
وفي قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (وترجعون برَسُول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِلَى رحالِكُمْ) يَعِظُهم بذلك وأعظِم بها عطيةَ.
وفيه ترجيح لجيران الملك على من بعد، وإن الرجل العالم والإمام العادل خيرٌ من
المال الكثير، وأن الأنصار لا حقّ لهم في الخلافة؛ لأنه عرَّفهم أنهم سيرثه عليهم،
والمُؤثَر يجب أن يكون غيرهم، ألا ترى إلى قوله: (فاصِبرُوا حَتَّى تَلْقَوا اللهَ
ورسولَه)؛ لأنه عرَّفهم أن ذلك حالهم إلى آخر الدهر.
وقوله: (حَدِيثِي عَهْدٍ) قال ابن التِّين: هو جارٍ على مذهب سيبويه وحده في قوله:
مررت برجلٍ حَسَنٍ وجهُهُ، والجماعة لا يُجيزونه على إضافة حسن إلى الوجه.
وزعم ابن المنذر أن في قول جُبير: (علِقَتِ الأعْرَابُ يَسْألُونَهُ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ القَسَمَ) دليل أن الإمام بالخيار إن شاء قسم الغنائم بين أهلها
قبل أن يرجع إلى دار الإسلام، وإن شاء أخَّره على قدر فراغه أو على ما يراه من المصلحة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وآثار
%ج 5 ص 32%
هذا الباب تَردُّ قول الشافعي من حيث أنه ذكر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: إنما كان يعطي المؤلفةَ وغيرَهم من خُمسِ الخُمُس.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: كان إعطاؤه إياهم من الخُمُس؛ لأنه ليس للمؤلفة ذكر
في الخُمس ولا في الفيء، إنما ذُكِروا في الصدقات.
وقال مالك: يُعْطَوا من الخُمُس وإن أبوا عليه، وقيل مما لله ولرسوله من الخُمُس.
وذكر الطبري عن بعضهم: أن إعطاءهم كان من جملة الغنيمة لا من الخمس.
قالوا: لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان له أن يمنع مَن شاء ممن حضر القتال
ويُعطيها من لم يحضر، قال: وهذا قول مردود بالآثار الثابتة وبدلائل القرآن العزيز.
(1/284)
(بَابُ:
مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ)
3153 - حَدَّثَنا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: «كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ
خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ،
فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَاسْتَحْيَيْتُ
مِنْهُ». [خ 3153]
3154 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ
وَالعِنَبَ، فَنَأْكُلُهُ وَلاَ نَرْفَعُهُ». عند الإسماعيلي من حديث جرير بن حازم
عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: «أَصَبْنَا يَوْمَ اليَرْمُوكِ طَعَامًا
وَأَعْنَابًا فَلَمْ تُقْسَم». [خ 3154]
وعند أبي نعيم من حديث يُونُس بن محمد، حَدَّثَنا حمادُ بن زيد عن أيوب عن نافع عن
ابن عمر عن عُمر قال: «كُنَّا نُصِيبُ في مَغَازيِنا والعِنَبَ والعَسَلَ
والفَوَاكِهَ».
وعند أبي داود عن ابن عُمر: «أنَّ جَيشًا غَنِمُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ طَعَامًا وعَسَلًا فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُم الخُمُس».
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قول ابن عمر هذا كالإجماع من الصحابة، واختلفوا في البقر
والغنم والإبل فقال: مالك هو مباحٌ كالطعام. وقال الشافعي: لا يُذبحُ إلا لضرورة
عند عدم الطعام.
(1/285)
3155
- حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنا
الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ أَبِي أَوْفَى، يَقُولُ: أَصَابَتْنَا
مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي
الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ القُدُورُ نَادَى
مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أنْ أَكْفِئُوا القُدُورَ،
ولاَ تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا» قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْنَا:
«إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ» قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ:
«حَرَّمَهَا البَتَّةَ» وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: «حَرَّمَهَا
البَتَّةَ». [خ 3155]
وعند الطحاوي من حديث أبي يوسف عن أبي إسحاق ... الشيباني، ورُوِّينَّا موجز في
«كتاب الأطعمة» لعُثْمان بن سعيد الدَّارِمي بسند صحيح أن سعيد بن جُبير قال: إنما
نهى عنها أنها كانت تأكل القَذَر.
وعن ابن أبي أَوفى: «لما نادى المنادي قلنا: حرمها تحريم ماذا، فتحَدَّثَنَا بيننا
فَقُلْنَا: حَرَّمَهَا البتّةَ أو حَرَّمَهَا منْ أجلِ أَنَّهَا لَمْ تُخَمَّس».
ورُوينا في «كتاب المنسوخ» لأبي حُفْص البغدادي بسند صحيح استدل به على نسخ تحريم
الحمر الأهلية: عن البراء بن عازب قال: «أَمَرنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يومَ خَيبَر أن نُلْقِي الحُمُرَ الأَهْلِيةَ نِيْئِةً ونَضِيجَةً ثم أُمِرْنا
بها بعد ذلكَ».
وصحَّ عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه قال: إنما كُرِهت إبقاءً على الظَهْرِ.
(1/286)
وعند
أبي داود بسند صحيح عن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنا عُبَيْدُ
اللهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عُبَيْدٍ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ الشيبانيِّ عَنْ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ قال:
«كُنًّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِخيَبر يأتي أحدُنا إلى
الطَعَامِ مِن الغنيمةِ فيَأْخذُ منه حاجَته» قال
أبو جعفر: وخالف هذا حديثٌ آخر رواه ابن لُهَيعة عن جعفر شُعَيب عن أبي مَرْزوق عن
حَنَشٍ عن رُويفِع بن ثابت يرفعه أنه قال يومَ خَيْبَر: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَأْخُذْ دَابَّةً مِنَ الْمَغْنَمِ
فَيَرْكَبَهَا حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا إِلَى الْمَغَانِمِ, ومَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلا يَلْبَس ثَوبَاُ مِنَ الْمَغَانِمِ
حتى إذا أخْلَقَهُ رَدَهُ فِي الْمَغَانِمِ».
وقال أبو يوسف: معناه من فعل ذلك وهو عنه غنيٌ بَقي بذلك ثوبه أو دوابّه أو لحائه،
وأما المحتاج فلا بأس له أن يأخذ من ذلك ما احتاج إليه.
وقال أيضا محمد عن غالب بن أبجر أنه قال: «يا رسولَ اللهِ لمْ يَبْقَ في مالي
شَيءٌ أُطعِمُ أَهْلِي إلا حُمُرٌ لي، فقالَ أَطْعِم أهلَكَ من سمين مَالِك».
الحديث.
قال أبو داود: رواه شعبة عن عُبيد عن عبد الرحمن بن بشر عن عبد الرحمن بن معقل عن
ناس من مُزينةَ من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّ سَيِّدَ
مُزَيْنَةَ أَبْجَرَ -أَوِ ابنَ أَبْجَرَ- سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
وفي «علل أبي محمد»: قال أبو زُرعة: الصحيح حديث شُعبة انتهى.
(1/287)
عبد
الرحمن بن مَعْقِل هذا ذكره ابن حبان في «كتاب الثقات» ووصفه غير واحد من الأئمة
بالرواية عن غالب، فسُقوطه من السند وثبوته سيَّان، ومنصور ليس بدون شُعبة في
الحِفظ والإتقان، وعُبيد ليس مُدَلِّسًا ولكنه لم يُصرِّحْ بسماعه من ابن مَعْقِل،
فلعله سمعه عنه أولًا ثم سمعه منه آخرًا.
لمنصور متابعين منهم مِسْعَر بن كدَام فيما رواه أبو داود فقال: حَدَّثَنا
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ
عُبَيْدٍ، عَنْ مَعْقِلٍ، عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ عُوَيْمر، وَالْآخَرُ غَالِبُ بْنُ أَبْجَرِ فذكره، وفي كتاب ابن بطة
متابعًا آخر لمنصور وهو أبو عُمير رواه عن عبيد عن ابن معقل عن غالب، وشُعبة نفسُه
تابعه أيضًا.
قال أبو القاسم البغوي: حَدَّثَنا أحمد بن إبراهيم العَبْدي، وعمرو بن عبد الله
الأزدي، قالا حَدَّثَنا وكيع، حَدَّثَنا مِسْعَر وشعبة عن عُبيد عن ابن معقل أوقفه
مِسْعَر، وقال شعبة: «عن ناس من مزينة الطاهرة، عن غالب» يعني شعبةُ بالناس ما
ذكره أبو داود في رواية ابن العَبْد وغيره بأن الناس صحابه.
ثم إن شعبةَ اضطرب في إسناده فرواه كما تقدم، ورواه أبو داود الطيالسي في «مسنده»
عنه عن عُبيدٍ عن عبد الله بن بشر عن ناس من مزينة، وعند أبي عُمر من حديث شُعبة
أيضًا عن عُبيد الله بن الحَسن عن عبد الرحمن بن مَعْقِل عن عُمير بن مريم الكوفي
قال: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: لِمْ يَبْقَ مِنْ مَالِنَا شَيءٌ إِلا الحُمُرُ
الأَهْلِيِّة».الحديث.
(1/288)
ومنصورًا
لم يضطرب، ووجدنا لحديث غالبٍ أيضًا شاهدًا رواه إبراهيم بن المختار الرازي، عن
محمد بن اسحاق، عن عاصم بن عُمر بن قتادة عن أم نصر المحاربيَّة قالت: سَأَلَ
رَجُلٌ رَسَولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ لُحًومِ الحُمُرِ
الأَهْلِيَّةِ فَقَالَ: «أَلَيْسَ تَرْعَى الْكَلَأَ وتَأكُلُ الشَّجَرَ» قَالَ
بَلَى، قَالَ: «فَأصِبْ مِنْ لُحُومِهَا» قال ابن عبد البرِّ: تفرد به إبراهيم عن
ابن اسحاق وليس ممن يُحْتَجُّ به انتهى كلامه.
وفيه نظر في موضعين: الأول: إبراهيم هذا لا ينبغي أن يطلق عليه هذا القول؛ لأن أبا
داود لما سُئِلَ عنه قال: ليس به بأس، وقال سلمة بن قاسم في «كتاب الصِّلَة»: كان
نعم الرجل، ولما ذكره ابن شاهين في «كتاب الثقات» قال: قال يَحْيَى بن معين: هو
لين يقدمه الرَّازيون على جماعة، وقال أبو أحمد الجرجاني: هو ممن يُكتَب حديثه،
وقال أبو حاتم الرازي صالح الحديث هو أحبُّ إليَّ من سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد.
الثاني: وُجِد له متابعًا حديثه عند الجماعة، ذكره ابن أبي شيبة في «المصنف» فقال:
حَدَّثَنا يحيى بن وَاضح، عن ابن إسحاق عن عاصم به، وسمّى أمَّ نَصرٍ سلمى بنت نصر
فصحَّ على هذا الحديث؛ على أنك لا تُعدم قائلا يسأل عن حديث غالب فتقول: هو حديث
ضعيف من غير رَوِّيةٍ ولا تحقيق، كما قال أبو الأسود الدؤلي لحارثة:
~ يقولون أقوالًا ولا يَعْرِفونها ... ولو قيل هاتوا حَقِّقوا لم يُحققوا.
(1/289)
وقال
ابن التِّين: عند البغداديين من أصحاب مالك إن تَحريمَها تحريمُ كراهةٍ، وأما ابن
عباس فجوَّز أكلها محتجًا بقوله جَلَّ وَعَزَّ {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145] وفي حديث سَلَمة
بن الأكوع يرفعه: «اكْسِرُوا القُدُور» في لفظ: «إِنَّها رِجْسٌ» وقد نبهت على هذا
مطولًا شواهده في كتابي «الزهر الباسم في سِيَر أبي القاسم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ».
قال صاحبُ «المنتهى»: الجِرابُ بالكسر، والعامة بفتحه والجميع أَجرِبَةٌ وجُرْبٌ
وجُرُبٌ. وفي «المحكم» هو الوعاء وقيل هو الْمِزْوَد، وسمعت شيخنا أبا حيان رحمه
الله تعالى يقول: لا تفتح الجِرَاب، ولا تكسر القَصْعَة.
وقال القاضي عياض: أجمع العلماء على إباحة أكل طعام الحربيين مادام المسلمون في
دار الحرب فيأكلون منه قدر حاجتهم، والجمهور في ذلك لا يحتاجون إلى إذن الإمام.
وعن الزهري: أنه لا يجوز إلا بإذن الإمام.
والجمهور على أنه لا يجوز إخراج شيء منه إلى عمارة دار الإسلام، فإن أَخْرَجَه
لزمه رده إلى المَغنم. وقال الأوزاعي: لا يلزمه، ويجوز أن يركَب دوابهم ويلبس
ثيابهم ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بالإجماع، ولا يفتَقِرُ إلى إذن الإمام خلافًا
للأوزاعي.
قال: الطحاوي: ذهب جماعة منهم الأوزاعي إلى أنه لا بأس أن يأخذ الرجلُ السلاحَ من
الغنيمة فيقاتل به في معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينظر برده الفراغَ
من الحرب فيُعَرضُه للهلاك وانكسار الثمن في طول مكثه في دار الحرب.
وفي حديث ابن معقل جواز أكل شحوم ذبيحة اليهود المحرمة عليهم، وهو مذهب أبي حنيفة
والشافعي، وقال مالك: هي مكروهةٌ، وقال أشهب وابن القاسم وبعض أصحاب أحمد: هي
محرمة، وحُكِي أيضا عن مالك.
(1/290)
(كِتَابُ:
الْجِزْيَةُ وَالْمُوَادَعَةُ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ والحربِ، وَمَا جَاءَ فِي
أَخْذِ الْجِزْيَةُ مِنَ الْيَهُودِ والنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ)
قال الماوَرْدي في كتابه «الأحكام السلطانية»: اسمها مشتق من الجزاء؛ إما جزاء على
كفرهم لأخذها منهم صَغَارًا، وإما جزاء على أمانِنا لهم وأخذها منهم رفقًا.
وفي الكتاب «الْمُغْرِب»: لأنها تجري عن الذمي، وفي «المحكم»: الجزية خراج الأرض،
والجمع جِزًى وجِزْيٌ.
وقال أبو علي: الجِزى والجِزْي واحد كالمِعَى والمِعْي لواحد الأمعاء والجمع
جَزاء، وجزية الذمي منه.
وفي قول البخاري: المجوس والعجم نظرٌ، من حيث أن المجوس جنس يندرج تحته أنواع منها
العجم، فلو اقتصر على الجنس لما افتقر إلى ذكر النوع، أو يُحمل على أنه ذكرَ العام
ذكر الخاص، وهذا لا إيراد عليه فيه.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ: قُلْتُ
لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ
وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذلِك مِنْ أجلِ
الْيَسَارِ) ..............
هذا التعليق رواه ابن عيينة في تفسيره الذي سبق إسنادنا إليه: حَدَّثَنا علي بن
عبد الله، حَدَّثَنا سفيان قال سمعت عمرًا قال: «كنت جالسًا مع جابر بن زيدٍ وعمرو
بن أوس فحدثهما بَجَالَةُ سنة سبعين - عام حج مصعب بن الزُبير بأهل البصرة- عند
درج زمزم، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - عَمِّ الأحْنَفِ -
فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا
بَيْنَ كُلِّ مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ
مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ».
(1/291)
هذا
الحديث رُوي بألفاظٍ غَير ما ذكره منها هو على شرطه, وهو أحسن سياقًا مما ذكره
وأتمُّ وأوضح وهو ما أخبرنا به يُونس بن عبد القوي قرأه عليه عن ابن المُغَيَّر،
عن الحافظ أبي الفضل البغدادي، أخبرنا الشيخان أبو سعيد إسماعيل بن أبي سعيد ين
مَلَّة وأبو الرجاء الحداد قراءةً عليهما، قالا حَدَّثَنا أبو طاهر محمد بن أحمد
بن جعفر بن عبد الرحيم الكاتب، قال أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن
جعفر بن حيَّان بجميع كتاب شروط أهل الذمة، أخبرنا أبو يعلى، حَدَّثَنا أبو الربيع
الزهراني، حَدَّثَنا أبو معاوية الضَرير، حَدَّثَنا حجاج عن عمرو بن دينار عن
بَجَالَة قال: «كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَجَاءَنَا كِتَابُ
عُمَرَ: اُنْظُرْ أَنْ تَأخُذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوْسِ؛ فَإِنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَخَذَ مِنَ المَجُوْسِ الجِزْيَةَ».
قال أبو يعلى وحَدَّثَنَا أبو خَيْثَمةَ، حَدَّثَنا ابن عُيينة عن عمرو سمع
بَجَالة يقول: «كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ: أَنِ
اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ وَفَرِّقُوا
بَيْنَ كُلِّ مُحْرمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَانْهَهُمْ عَنِ الزَّمْزَمَةِ، قال:
فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ، وَجَعَلْنَا نُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْأَةِ
وَحَرِيمِهَا فِي كِتَابِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَصَنَعَ طَعَامًا كَثِيرًا
فَدَعَا الْمَجُوسَ وَعَرَضَ السَّيْفَ عَلَى فَخِذِهِ، فَأَلْقَوْا وِقْرَ بَغْلٍ
أَوْ بَغْلَيْنِ مِنْ وَرِقٍ وَأَكَلُوا بِغَيْرِ زَمْزَمَةٍ». انتهى.
ذَكَرَ الحميديُّ أنَّ البَرْقَانيَّ خرَّجَ هذا اللفظَ في صحيحِهِ.
(1/292)
قالَ
أبو الشيخ: وحدثنا محمدُ بنُ أبَّان، حدثنا محمدُ بنُ مسكين، حدثنا يحيى بنُ
حَسَّان، حدثنا هُشَيْم ح، وحدثنا عيسى بن محمد، حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا خضر
بن محمد بن شجاع، حدثنا هُشَيْم، حدثنا داود بنُ أبي هندٍ، عن يُسَيْر بن عَمْرو،
عن بَجَالَة، عن عبد الرحمن بن عوف: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ».
قالَ ابنُ عباسٍ: «أَمَّا أنَا فَتَبِعْتُ صَاحِبَهُمْ حِيْنَ دَخَلَ عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: مَا
قَضَى فِيكُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ: شَرٌّ، قُلْتُ:
مَهْ؟ قَالَ: الْقَتْلُ، أَوِ الْإِسْلَامُ.
قَالَ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وتركوا قولي».
وما حدثنا أبي رجاء: جاء لحماد بن سلمة عن الأعمش، عن زيدِ بن وَهْبٍ، قال عبدُ
الرحمنِ بنُ عوفٍ: أَشْهَدُ بِاللهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: «إِنَّمَا الْمَجُوسُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، فَاحْمِلُوهُمْ عَلَى مَا تَحْمِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ».
قال أبو الشيخ: وحدثنا محمدُ بنُ إبراهيمَ بنُ أبي شيبة، حدثنا أبو أيوب
الشَّاذَكُونِيّ، حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش، حدثني أبو سعدٍ عن عيسى بنِ عاصمٍ، عن
فَرْوَةَ بن نوفل، عن علي، قال: «المَجُوْسُ أًهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ َ أَخَذَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ أَهْلِ هَجَرَ».
(1/293)
وذكر
أبو عمرَ من حديثِ الزُّهريِّ عن سعيدٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا مٍنْ
مَجُوْسِ السَّوَادِ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا منَ البَرْبَرْ». وقال: كذا رواه
ابنُ وَهْبٍ، عن يونُسَ عن ابنِ شهاب، وأما مالكٌ ومَعْمَرٌ فجعلاه عن ابن شهاب،
لم يذكرا سعيدًا، رواه ابن مَعْمَرٍ عن مالكٍ عن الزهريِّ عن السَّائبِ بنِ يزيدٍ.
وفي «الموطَّأ» عن جعفرِ بنِ محمدٍ عن أبيهِ، أنَّ عمرَ ذكرَ المجوسَ، فقال عبدُ
الرحمنِ. الحديث.
ورواهُ أبو علي الحنفي عن مالكٍ، فقال: عن أبيهِ عن جدهِ، وهو منقطعٌ أيضًا؛ لأنَّ
عليَ بنَ حسينٍ لم يلقَ عُمَرَ، ولا عبدَ الرحمنِ، انتهى.
ذكر عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ في «تفسيرِهِ» بسندٍ صحيحٍ عن الحسنِ الأشيبِ، حدثنا
يعقوبُ بنُ عبدِ الله، حدثنا جعفرُ بنُ أبي المغيرةَ، عن عبدِ الرحمنِ بن أَبْزَى،
قال: قال علي: «كَانَ المَجُوْسُ أًهْلَ كِتَابٍ، وَكَانُوا مُتَمَسِّكِيْنَ بِهِ»
الحديث.
وفيه ردٌ لقولِ أبي عمر، روى عن عليٍ: «أنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ»، وفيهِ
ضعفٌ؛ لأنَّه يدورُ على أبي سعيدٍ البقَّالِ سعيدِ بنِ المَرْزُبَان، وأما زيادة
من زاد في آخره: «غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ»
فزيادةٌ منكرةٌ، ذكرَهُ أبو الفرجِ البغدادي.
(جَزْء) بنُ مُعاويةَ بنِ حُصَين بنِ عُبَادة بنِ النَزَّالِ بنِ مُرَّةَ بنِ
عُبَيْدٍ بنِ مقَاعِسٍ، واسمُهُ الحَرثُ بنُ عمروٍ بنِ كعبٍ بنِ سعدٍ بنِ زيدِ
مَنَاةَ بنِ تميمٍ، عمُّ الأحنفِ بنِ قيس، قال أبو عمر: لا تصحُّ له صحبةٌ، وكان
عاملًا لعمرَ بن الخطاب على الأهواز.
وقيلَ فيهِ: جَزِي بزاي مكسورة بعدها ياء وجيم مفتوحة، وقال الدَّارَقُطْني: أصحاب
الحديث يكسرون جيمه، وقال الخطيب: بسكون الزاي.
(1/294)
و
(بَجَالَة) هو ابنُ عَبْدَة بفتحِ الباءِ الموحدةِ، وفي «ثقاتِ ابنِ حبان»:
يُقَالُ ابنُ عبدٍ، وفي «تاريخ البخاري»: بَجَالَةُ بنُ عبدٍ أو عبدُ بنُ
بَجَالَةَ.
وأما (المجوسُ) فذكرَ أبو عمر في كتابِه «القصد والأمم» أنهم من ولدِ لاوِد بنِ
سامٍ بنِ نوحٍ صلى الله عليهما وسلم.
وقال عليُّ بنُ كيسان: هم من ولدِ فارسِ بنِ عامورِ بن يافث، قال أبو عمر: وقالَ
ذلك غيرُهُ، وهو أصحُّ ما قيل عنهم، وهم ينكرونَ ذلك ويدفعونَهُ، ويزعمون أنَّهم
لا يعرفون نوحًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا ولدَهُ ولا الطوفانَ، وينسقون
ملكَهُمْ من جيُومَرْت الأوَلِ، وهو عندُهُم آدمُ صلوات الله عليهم وسلامه، وقد
نسبَهُم قومٌ من علماءِ الإسلامِ والأثرِ إلى أنهم من ولدِ سامٍ، وكان دينَهُمُ
الصابئةُ ثم تمَجَّسُوا وبنَوا بيوتَ النيرانِ.
وعند المسعوديِّ: فارسٌ أخو نَبيطٍ ولدِ ناسورِ بنِ سامٍ بنِ نوحٍ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ومنهُمْ مَنْ زعَمَ أنَّهُمْ مِنْ ولدِ هذرامَ بنِ أرفخشدَ بنِ
سامٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأنَّهُ وَلَدَ بضعةَ عشرَ رجلًا، فكانَ كلهم
فارسًا شجاعًا، فَسَمُّوا الفُرْسَ بالفروسيةِ، وقالَ آخرونَ: أنهم مِنْ ولدِ
بَوَّانَ صاحبِ شعبِ بَّوان، أحدُ بِزَّة الدنيا بنِ إيْرَان بنِ لاودْ بنِ سامٍ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وعندَ الرّشاطيِّ: فارسُ الكُبْرَى بنِ كيومرْت- ويقال: جَيُومَرْتِ، وجامر معرب،
وتفسير كيومرت: الحي الناطق الميت- بنِ أرمِيم بنِ لاود بنِ سامٍ، فمَنْ نسبَ
الفرسَ الأولى إلى سامٍ فهذا نسبُهَا، ومن نسبَهَا جُمْلَةً إلى يافثٍ قال: هم
ولَدُ جيومرت بنِ يافث.
(1/295)
وذكرَ
صاعدٌ في كتابِهِ «طبقات الأمم» أنَّ كيومرت هذا يزعُمُ الفرسُ أنَّهُ آدمُ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالَ: وذكرَ بعضُ علماءِ الأخبارِ أنَّ الفرسَ في أولِ
أمرِها كانت موحدةً على دينِ نوحٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى أن أتى برداسف
المشرقي إلى طيمورَت ثالثِ ملوكِ الفرسِ بمذهبِ الصابئةِ فقبلَهُ منه، وقصرَ
الفرسَ على التشرعِ بهِ فاعتقدوه نحوَ ألفِ سنةٍ وثماني مئةِ سنةٍ إلى أن
تمجَّسُوا جميعًا.
وسببُهُ: أنَّ زرادَشت الفارسيَّ ظهرَ في زمنِ بستاسب ملكِ الفرسِ، فدعا الناسَ
إلى المجوسيةِ وتعظيمِ النارِ وسائرِ الأنوارِ، والقولِ بتركيبِ العالمِ من النورِ
والظلمةِ، واعتقادِ القدماءِ الخمسةِ التي هي عندهم الباري جل وعلا عما يقولون
علوًّا كبيرًا، وإبليسُ -لعنه الله ولعنهم- والهيُوليُّ، والزمانُ، والمكانُ،
وغيرِ ذلك من البدعِ، فقبلَ ذلكَ بستاسب، وقاتلَ الفرسَ عليهِ حتى انقادوا جميعًا
إليهِ ورفضُوا دينَ الصابئةِ، واعتقدوا زرادشت نبيًا مرسلًا، وذلك قبلَ ذهابِ
مُلْكِهِم على يدِ أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه بقريبٍ من ألفٍ
وثلاثِ مائةِ سنة.
وفي «بغية السامة شرح لحن العامة» لإبراهيم بن المفرح الأنصاري: الفارسيُّ منسوبٌ
إلى فارسٍ، وهي أرضٌ وقد بنَتْهَا البسوس، وهي أمةٌ كانت بعد النّبط، وزعمَ بعضُ
العلماءِ أنهم مِنْ ولدِ يوسفَ بنِ يعقوبَ بنِ إبراهيمَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، قال جرير: يفخر على قَحْطَان
~ ويَجْمَعُنَا وَالغُرَّ أبناءَ فارسٍ؟ أبٌ لا نُبَالِي بَعْدَهُ مَنْ تأخرا
~ أبُوْنَا خَلِيْلُ اللهِ وَاللهُ رَبُّنَا رَضِيْنَا بِمَا أَعْطَى الإِلَهُ
وَقَدَّرَا
(1/296)
وذكرَ
عبدُ الملكِ بنُ عبدونَ الحضريُّ في كتابِهِ «كمامة الزهر وصدفة الدُّرِّ» أنَّهم
مِنْ ولدِ فارسٍ بنِ ناسورٍ بنِ سام، وأنه وُلِدَ له بضعةَ عشرَ رجلًا كلُّهُم
كانَ فارسًا شجاعًا فسَمُّوا الفرسَ بذلك، وفي ذلك يقول حَطَّانُ بنُ المُعَلَّى
الفارسي:
~ وَبِنَا سُمِّيَ الفَوَارِسُ فُرْسَانًا وَمِنَّا مَنَاجِبُ الفتيان.
قال: وزعمَ قومٌ أنهم مِنْ ولَدِ طوط من ابنتيه رشى وريبوشى، وزعمَ بعضُهُم أنَّهم
مِنْ وَلَدِ ايْرَان بنِ أفيريدور، قالَ: ولا خلافَ بينَ الفرسِ أنَّهُم مِنْ
وَلَدِ كيومرت، وهذا هوَ المشهورُ، وإليهِ ترجعُ بنسبَتِها، كما ترجعُ
المروانيَّةُ إِلى مروان والعباسِيَّة إلى العباس.
وعندَ ابنِ حزمٍ: المجوسُ لا يعرفونَ موسى ولا عيسى ولا أحدًا من أنبياءِ بني
إسرائيل، ولا محمدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولا يُقِرُّونَ لأحدٍ منهم
بنبوةٍ.
وقد اختَلَفَ الناسُ فيمَنْ يُؤخَذُ منهُ الجزيةُ، فروى ابنُ القاسمِ عنْ مالكٍ
أنَّ الجزيةَ تؤخَذُ منهم ومِنْ أهلِ الكتابِ وعبدةِ الأوثانِ وكلِّ المشركينَ
غيرِ المرتدين، وحكى الطحاويُّ عن أبي حنيفةَ وأصحابِهِ أنَّ الجزيةَ تُقبَلُ مِنْ
أهلِ الكتابِ ومِنْ سائرِ كفارِ العجمِ حاشا مشركي العرب فإنَّهُ لا يُقبَلُ منهم
إلا الإسلامُ أو السيفُ.
وقالَ الشافعيُ: لا تُقبَلُ الجزيةُ إلا من أهلِ الكتابِ عربًا كانوا أو عَجَمًا،
والمجوسُ كانَ لهم كتابٌ فرُفِعَ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ منكرًا لهذا القول: لو كانوا كذلك لكان لنا أن نأكلَ
ذبائحَهُم وننكِحَ نساءَهُم، وهذا لا يقولُهُ أحدٌ. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ لِما ذكرَ أبو عمر بن عبد البر من أنَّ سعيدَ بنَ المسيبِ كانَ لم يرَ
بذبحِ المجوسيِّ لشاةِ المسلمِ إذا أمرَهُ المسلمُ بذبحِهَا بأسًا، وذكرَ أبو
محمدُ بنُ قدامة أنَّ أبا ثورٍ كان يرى حِلَّ نسائِهِم وذبائِحِهِم.
(1/297)
وفي
«المصنَّفِ» عن الثقفي، حدثنا مثنى، عن عمرو بن شعيب، عن ابنِ المسيب، قالَ: لا
بأسَ أن يُقرِيَ الرجلُ بالجاريةِ المجوسيةِ، وحدثنا عبيدُ اللهِ عن مثنى، قال:
كان عطاءٌ وطاووسُ وعمرو بن دينار لا يرون بأسًا أن يتسرى الرجلُ بالمجوسيةِ.
قال أبو عمر: وقولُهُ: (سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَاب) ِ خرجَ مخرجَ
العمومِ، وهو يريدُ الخصوصَ؛ لأنَّهُ إنما أراد في الجزيةِ لا في غيرِها.
وفي قولِهِ: هذا دليلٌ أنهم ليسُوا أهلَ كتابٍ، وعلى ذلك جمهورُ الفقهاءِ، وبقول
من يقول أنهم أهل كتاب في قوله: (سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَاب) ِ
الذين يُعْلَمُ كتابهم على ظهورٍ واستقامةٍ، وأما المجوسُ فَعُلِمَ كتابُهُم على
الخصوصِ، وفي حديث أبي عُبيدةَ المذكورِ عندَ البخاريِّ في هذا البابِ دليلٌ على
أخذِ الجزيةِ من المشركين.
وقولُهُ فيه: (أَمِّلُوْا) الأملُ الرجاءُ، يُقالُ أمَّلْتُهُ فهو مأمولٌ.
وقولُهُ: (فَتَنَافَسُوهَا) يريدُ المشاحَّةَ والتنازعَ.
وفيه التحذيرُ من فتنةِ الدنيا، فإنَّ مَنْ طلبَ منها فوقَ حاجتِهِ لم يجدْهُ، ومن
قنعَ حصلَ له ما يطلبُ.
قال ابنُ الجوزي: وما الدُّنيا إلا كما قيلَ:
~ إنَّ السلامةَ من سلمى وجارَتِهَا أَنْ لا تَمُرَّ على حالٍ بوادِيها
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: معنى قولِهِ: (أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا) أي أمِّلُوا أكثرَ ما
تظنون من العطاء؛ لأنَّهم لم يعرفوا مقدارَ ما قَدِمَ به أبو عبيدةَ، فبشِّرْهُمْ
بأكبرَ مما يظنُّون.
وفيهِ إخبارُهُ عن المغيباتِ في قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَخْشَى
عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا» يعني بالفتوحاتِ وشبهِهَا.
(1/298)
وقالَ
ابنُ المنيرِ: إن أرادَ البخاريُّ بالموادعةِ عقدَ الذمةِ لهم بأخذِ الجزيةِ
والإعفاءِ بعدَ ذلكَ من القتلِ فهذا هو حكمُ الجزيةِ، والموادعةُ غيرُ ذلك، وإن
أرادَ تركَ قتالِهِم مع إمكانِهِ قبلَ الظفرِ بهم، وهو معنى الموادعةِ، فما في
أحاديثِ البابِ ما يطابقُهَا إلا ما ذكرَهُ من تأخرِ النعمانِ بن مقرنٍ عن مقابلةِ
العدوِّ وانتظارِه زوالَ الشمسِ وهبوبَ الريحِ فهي موادعةٌ في هذا الزمان مع
الإمكانِ للمصلحةِ والله تعالى أعلم.
وقد اختلفَ العلماءُ في مقدارِ الجزيةِ:
فعندَ أبي حنيفة يُؤخَذُ من الغنيِّ ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، ومن المتوسطِ أربعةٌ
وعشرون، ومن الفقيرِ اثنا عشر درهمًا، وهو قولُ أحمدٍ أخذًا بما رواه إسرائيلُ عن
أبي إسحاقَ عن حارثةَ بنِ مُضربٍ، عن عمرَ: «أنه بعثَ عثمانَ بنَ حنيفٍ فوضعَ
الجزيةَ على أهلِ السوادِ كذلك».
وعن الشافعيِّ: الواجبُ دينارٌ في حقِّ كلِّ أحدٍ أخذًا بحديثِ معاذٍ من عندِ أبي
داود: «أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أمرَهُ أن يأخذَ من كلِّ
حالمٍ دينارًا».
وعن مالكٍ: أكثرُهَا أربعةُ دنانير على أهلِ الذهبِ، وعلى أهلِ الوَرِقِ أربعون
درهمًا، ولا حدَّ لأقلِّها أخذًا بما رواه نافعٌ عن أسلمَ: «أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ
ضربَ الجزيةَ على أهلِ الذهبِ والوَرِقِ» كذلك رويناه في شروطِ أهلِ الذمةِ لأبي
الشيخ الأصبهاني بسندٍ جيدٍ.
وعن أحمدٍ: يُرجَعُ في ذلك إلى اجتهادِ الإمامِ، وفي روايةٍ أقلُّها مقدَّرٌ
بدينارٍ، وأكثرُها غيرُ مقدَّرٍ، فتجوزُ الزيادةُ ولا يجوزُ النقصانُ؛ لأنَّ عمرَ
رضي الله عنه زادَ على ما فرضَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولم
يُنقِصْ منه، وروي أنه زادَ فجعلَهَا خمسين، وهو اختيارُ أبي بكرٍ من أصحابِ أحمد.
(1/299)
وعندَ
أبي حنيفةَ يجبُ بأولِ الحولِ، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ بآخرِهِ ولا يؤخذُ من صبيٍ
ولا امرأةٍ ولا مجنونٍ ولا فقيٍر غيرِ معتملٍ، وعن الشافعيِّ يجبُ عليه، ولا
يُؤخَذُ مِن شيخٍ فانٍ ولا زَمِنٍ ولا أعمى، وفي قولِ عندَ الشافعيِّ عليهِمُ
الجزيةُ ولا على سيدِ عبدٍ عن عبدِهِ إذا كان السيدُ مسلمًا، ولا جزيةَ على أهلِ
الصوامعِ من الرهبانِ، وفي قولِ عندَ الشافعيِّ يجبُ عليهم، وروي أيضًا عن عمرَ
بنِ عبدِ العزيز أنَّه فرضَ على رُهبان الديارات
على كلِّ واحدٍ دينارين.
وفي قولِهِ: (فَرِّقُوا بَيْنَ كلِّ ذِيْ مَحْرَمٍ منَ المَجُوْسِ) احتمالاتٌ:
قالَ المهلَّبُ: أحدُها أنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ لم يأمرْ بأخذِ الجزيةِ إلا مِن
أهلِ الكتابِ، وأهلُ الكتابِ لا ينكحُونَ ذواتِ المحارمِ، فإذا استعملَ عليهم
قولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»
احتُمِلَ أن لا يَقبَلَ مِنْهُمُ الجزيةَ إلا أن يَسُنَّ بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ
في مناكِحِهم أيضًا.
الثاني: أن يكونَ عمرُ غلبَ على المجوسِ عنوةً ثمَّ أبقى لهم في أموالِهِم عبيدًا
يعملون فيها، والأرضُ للمسلمين، ثم رأى أن يُفرِّقَ بين ذواتِ المحارمِ من عبيدِهِ
الذين اسْتَبْقَاهُمْ على حكمِهِ واجتهادِهِ، وإن كانَ منعقدًا في أصلِ
استحيائِهِم واسْتِبْقَائِهِم، ويكونُ اجتهادُه في نفرٍ ثقةٍ بين ذواتِ المحارمِ،
مستنبطًا من قوله: «سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ» أي: ما كَانَ أهلُ
الكتابِ يحملونَ عليهِ في مناكِحِهم فاحملُوا المجوسَ عليهِ.
وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أرادَ عمرُ أنهم يُمنعُون من إظهارِ هذا للمسلمين وإفشائه
في مشاهدِهِم، وهذا كما شُرِطَ على النصارى ألا يُظهِرُوا صُلبانَهُم.
(1/300)
وعن
مالكٍ: أرى أن يُنفَقَ من بيتِ المالِ على كلِّ مَن احتاجَ مِن أهلِ الذمةِ إن لم
يكن لهم حِرْفَةٌ ولا قوةٌ، وعلى يتاماهم حتى يبلغوا، قال مالكٌ: بلغني أنَّ عمرَ
بنَ الخطابِ كانَ ينفقُ على رجلٍ من أهلِ الذمةِ حين كبرَ وضعفَ عن العمل والخراج.
البابُ الذي فيهِ إذا وادعَ الإمامُ ملكَ القريةِ هل يكون ذلك لبقيتهم؟
3161 - حديثُهُ أنَّ ملكَ أَيْلَةَ أهدى بغلةً بيضاءَ تقدمَ في الخرصِ من كتاب
الزكاة، واسمُهُ يُوحَنَّا بنُ رُؤْبَة
صالَحَهُ على الجزيةِ، وعلى أهلِ جَرْبا وأدْرُجٍ بلدين بالشام. [خ 3161]
والذي يُذكَرُ هنا أن العلماءَ أجمعوا على أنَّ الإمامَ إذا صالَحَ ملكَ القريةِ
أنَّه يدخلُ في ذلكَ الصلحِ بقيتُهُم؛ لأنَّه إنَّما صالحَ عن نفسِهِ ورعيتِهِ ممن
يشتملُ عليهِ بلدُهُ.
واختلفوا إذا أَمَّنَ طائفةً منهم هل بدخلُ في ذلك الأمانِ العاقدُ للأمانِ أم لا؟
فروى الفزاريُّ عن حُميدٍ الطويل، قال: حدثني أبو حبيبٍ يحيى، وكان مولى أبي موسى،
عن خالدِ بنِ يزيد قالَ: حاصرَ أبو موسى حصنًا بتُسْتَرَ أو بالسوسِ، قالَ
صاحبُهُ: أتؤمِّنُ مئةً من أصحابي وأفتحُ لكَ الحُصْنَ، قال: نعم، فقالَ أبو موسى:
أرجو أنْ يُمَكِّنَ اللهُ منه وينسى نفسَهُ، فعدَّ مئةً ونسيَ نفسَهُ فقتلَهُ أبو
موسى.
وعن النخعيِّ لما ارتدَّ الأشعثُ في زمنِ أبي بكرٍ بحصنٍ هو ومَن معَهُ في قصرٍ ثم
طلبَ الأمانَ لسبعين رجلًا فأُعطيَ فلما نزلَ عدَّ السبعين ولم يعدَّ نفسَه فيهم،
فقالَ له أبو بكر: إنه لا أمانَ لكَ إنَّا قاتلوكَ فأسلم.
وفي «تاريخ دمشقَ» لما أخذَ الأمانَ للسبعينِ من أهلِ النُّجير عدُّوْهُم، فلما
بقيَ هو قامَ رجلٌ إليه فقال: إنَّا معك قالَ: إنَّ الشرط على سبعين، ولكن كن أنت
فيهم، وأنا أتخلَّفُ أسيرُ معهم.
(1/301)
وقال
أصبغ وسحنون: يدخلُ العلج الأخذُ للأمانِ وإن لم يعدَّ نفسَه فيهم لأنَّا نعلمُ
أنه لم يأخذِ الأمانَ لغيرِهِ إلا وقد صحَّ للأمانِ لنفسهِ.
قالَ ابنُ المنير: ليسَ في حديثِ ملكِ أيلةَ لنفسِهِ طلبه الموادعةَ هل ْكانَ
لنفسِهِ أو لهم أو للمجموعِ، لكنه نسبَ الهدنةَ إليهِ خاصةً والموادعةَ للجميعِ
فأُخِذَ من ذلك أنَّ مهادنةَ الملكِ لا يدخلُ فيها الرعيةُ إلا بنصٍ على التخصيصِ.
وعن أبي الخطابِ الحنبليِّ: ما أهداهُ المشركون لأميرِ الجيشِ أو لبعضِ قُوَّادِه
فهو غنيمةٌ إن كان ذلكَ في حال الغزوِ، وإن كان من دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ
فهي لمن أُهديَت له، سواء كان الإمامُ أو غيرُهُ، لأن سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَبِلَها فكانت له دون غيره، وهو قول الشافعي ومحمد بن
الحسن، وقال أبو حنيفة هي للمُهْدَى له على كل حال.
(باب الوَصَاة بِأَهْلِ ذِمَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)
والذِّمَّةُ: العهدُ، والآلُ: القرابةُ.
3162 - حَدَّثَنا آدَمُ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنا أَبُو جَمْرَةَ، قَالَ:
سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ
الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقُلْنَا: أَوْصِنَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،
قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللهِ جلَّ وعزَّ، فَإِنَّهُ ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ،
وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ» [خ 3162]
تَفَرَّدَ البخاريُّ بهذا الحديثِ، وفي موضعٍ آخرَ لما ذَكَرَ الشورى: «وَأُوْصِي
الخَلِيَفَةَ بَعْدِيْ بِذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُوِلِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَنْ يُوْفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتِلَ مِنْ وَرَائِهِم،
وَلا يُكَّلَفُوا إِلا طَاقَتَهُم).
(1/302)
وَرُوِّيْنَاهُ
في الجعديَّاتِ عَنْ شعبةَ مُطَوَّلًا: أخبرنا أبو جمرة، سمعتُ جويريةَ بنَ قدامةَ
قالَ: حججْتُ فمررْتُ بالمدينةِ، فخطبَ عمرُ، فقالَ: (إِنِّي ْرَأَيْتُ دِيكًا
نَقَرَنِي نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ)، فَمَا كَانَ جمعةً أو نَحْوَهَا حَتَّى
أُصِيْبَ، قال: وأذن للصحابة ثم لأهل المدينة ثم لأهل الشام ثم لأهل العراق، قال:
وكنا آخر من دخل، فقلنا: أَوْصِنَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ الْوَصِيَّةَ أَحَدٌ
غَيْرُنَا، فقال: «أُوْصِيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ» الحديث، وفيهِ: «وَأُوْصِيْكُمْ
بِذِمَّتِكُمْ، فَإِنَّهَا ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ، قُوْمُوْا
عَنِّيْ» فَمَا زَادَ على هَؤُلاءِ الكَلِمَاتِ.
وَرُوِّيْنَا في «كتابِ فتوحِ» مصرَ لابنِ عبدِ الحكمِ من حديثِ ابنِ لهيعةَ
والليثِ بنِ سعدٍ، عن عمرِو بنِ الحارثِ، عن يزيدِ بنِ أبي حبيبٍ، أنَّ أبا سلمةَ
بنَ عبدِ الرحمنِ حدَّثَهُ: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أوصى
عندَ وفاتِه أن نُخْرِجَ اليهودَ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ وقالَ: «اللهَ اللهَ في
قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُوْنَ عَلَيْهِمْ وَيَكُوْنُوْنَ لَكُمْ
عُدَّةً وَأَعْوَانًا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ تَعَالَى».
قالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: وحدَّثنا عبدُ الملكِ بنُ سلمةَ، حدثنا ابنُ وَهْبٍ، عن
موسى بنِ أيوبَ الغافقي، عن رجلٍ من الرَّبَذِة أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ مرضَ فأُغميَ عليهِ، ثُمَّ أفاقَ فقالَ: «اسْتَوْصُوْا بِالْأُدُمِ
الجُعدِ»، ثُمَّ أُغميَ عليه الثانيةَ، ثمَّ أفاقَ فقالَ مثلَ ذلكَ، ثمَّ أُغميَ
عليهِ الثالثةَ فقالَ مثلَ ذلكَ، فقالَ القومُ: لو سألناه مَنِ الأُدْمُ الجُعْدُ،
فلمَّا أفاقَ سألوه، فقالَ: «قِبْطُ مِصْرَ، فَإِنَّهُمْ أَخْوَالٌ وَأَصْهَارٌ».
الحديث.
(1/303)
وحدثنا
عبدُ الملكِ مَسْلَمَة، حدثنا ابنُ وَهْبٍ، عن أبي هاني الخَوْلاني، عن الحُبليِّ
وعمرو بنِ حبيبٍ وغيرِهِما، أنَّ النبيَّ قالَ: «إِنَّكُمْ تَقْدُمُونَ عَلَى
قَوْمٍ جُعْدٌ رُؤُوْسُهُمْ فَاسْتِوْصُوْا بِهِمْ خَيْرًا».
وفي «صحيحِ مسلمٍ» من حديثِ أبي ذرٍ يَرْفَعُهُ: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُوْنَ
أَرْضًا يُذْكَرُ فِيْهَا القِيْرَاطُ، فَاسْتَوْصُوْا بِأَهْلِهَا خَيْرًا
فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا».
ورُويَ عن عمرَ، عنِ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مثلَهُ من طريقٍ فيها ابنُ
لهيعة، وبسندٍ صحيحٍ عن عبدِ اللهِ بنِ كعب بنِ مالك، وهو مذكورٌ في الصحابةِ عند
العسكريِّ وأبي فتحون مثله، وبسندٍ فيهِ ضعفٌ عن رجلٍ منَ الصحابةِ يرفعُهُ:
«اتَّقُوا اللهَ فِي القِبْطِ»، ومن طريقٍ ضعيفةٍ عن سليمانَ بنِ يسارٍ، قال
النبيُّ: «اسْتَوْصُوْا بِالْقِبْطِ، فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُوْنَهُمْ فِيْهِمُ
الْأَعْوَانُ».
ومن حديثِ أبي لهيعةَ، عن عمرَ مولى غفرة أنَّ النبيَّ قالَ: «اللَه اللهَ فِيْ
أَهْلِ
الذِّمَّةِ، أَهْلِ المَدَرَةِ السَّوْدَاءِ» الحديث.
(بابُ: مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنَ البَحْرَيْنِ،
وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ البَحْرَيْن وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الفَيْءُ وَالْجِزيَةُ؟)
حديثُ أنسٍ تقدمَ في الشربِ، وحديثُ جابرٍ تقدمَ في الخُمْسِ.
ويُذكَرُ هنا أنَّ الصحابةَ اختلفوا في قَسْمِ الفيءِ:
فرُوِيَ عن أبي بكرٍ التسويةُ فيه بين الحرِّ والعبدِ والشريفِ والوضيعِ، وهو
مذهبُ عليِ، وإليه ذهبَ الشافعيُّ.
وأمَّا ابنُ الخطابِ فكان يُفضِّلُ أهلَ السوابقِ ومَنْ له من سيدِنا رسولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قرابةٌ في العطاءِ، وفضَّلَ الزوجاتِ على النَّاسِ،
ولم يُلحِقْ بهنَّ أحدٌ إلا العباسَ، وذهبَ عثمانُ أيضًا إلى التفضيلِ، وبهِ قالَ
مالكٌ.
(1/304)
وعندَ
أبي حنيفة الأمرُ فيهِ إلى اجتهاِد الإمامِ، إن رأى التفضيلَ فضَّلَ، وإن رأى
التسويةَ سَوَّى، والحديثانِ يدلانِ على التفضيلِ.
(بابُ: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ)
3166 - حَدَّثَنا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنا
الحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنا مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ
يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ
عَامًا». [خ 3166]
هذا الحديثُ منقطعٌ فيما بينَ ابنِ عمرٍو ومجاهدٍ، بيَّنَ ذلكَ البرديجي في
كتابِهِ «المتصل والمرسل» بقولِهِ: مجاهد عن ابنِ عمرٍو ولم يِسْمَعْ منه، وروى
مروانُ بنُ معاويةَ الفزاريُّ فقال: حدثنا الحسنُ بنُ عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن جنادةَ
بنِ أبي أميةَ، عن عبد اللهِ بنِ عمرٍو، قالَ الدَّارَقُطْني: وهو الصوابُ.
وزعمَ الجيانيُّ أنَّ في نسخةِ أبي محمد الأَصِيلي: عن أبي أحمدٍ، عن عبدِ اللهِ
بنِ عمرَ -يعني ابنَ الخطابِ- ولم يذكرْ خِلافًا عن أبي أحمدٍ وأبي زيدٍ.
وعندَ الإسماعيلي: «وَإِنَّ رِيْحَهَا لَيُوْجَدُ مِنْ سَبْعِيْنَ عَامًا».
وعندَ الترمذيِّ مُصَححًا عن أبي هريرةَ يرفعُهُ: «أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا
مُعَاهِدَةً لَهَا ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُوْلِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ
اللهِ، فَلَا يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيْحَهَا لَيُوْجَدُ مِنْ
مَسِيْرَةِ سَبْعِيْنَ خَرِيْفًا».
وعند النسائي عن أبي بَكْرَةَ بسندٍ صحيحٍ نحوَهُ.
وقالَ أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ حنبل: أربعةُ أحاديثَ تدورُ في الناسِ ولا أصلَ
لها عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ
آذَارَ بَشَّرْتُهُ بِالجَنَّةِ».
و «مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
(1/305)
و
«نَحْرُكُمْ يَوْمَ فِطْرِكُمْ».
و «لِلسَّائِلِ حَقٌ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ».
وقالَ ابنُ الجوزيِّ: اختلفتِ الروايةُ في (يرحْ) على ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: فتحُ الياءِ وكسرُ الراءِ.
الثاني: ضمُ الياءِ وكسرُ الراءِ.
والثالثُ: بفتحِهِما، قالَ: وهو اختيارُ أبي عبيد، وهي الصحيحةُ.
قالَ المهلَّبُ: في الحديثِ دليلٌ أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذمِّيِّ؛ لأنَّ
الوعيدَ للمسلمِ في الآخرةِ لم يَذكرْ قصاصًا في الدنيا، وسيأتي هذا مُشْبعًا في
موضعِهِ إن شاء اللهُ تعالى.
ولما اختلفت ألفاظُ الحديثِ في مسافةِ ريحِ الجنةِ، ففي روايةٍ كما سبق: أربعونَ،
وفي أخرى: سبعونَ، وفي «الموطأ» خمسمائةِ عامٍ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: يُحتمَلُ
-والله أعلم- أنَّ الأربعينَ هي أقصى أشدِّ العمرِ في قولِ الأكثرين، فإذا بلغَهَا
ابنُ آدمَ زادَ عملُهُ ويقينُهُ، واستحكمت بصيرتُهُ في الخشوعِ للهِ والندمِ على
ما سلفَ، فكأنَّهُ وجدَ ريحَ الجنةِ التي تبعثُهُ على الطاعةِ، وتمكن من قلبِهِ
الأفعالَ الموصلةَ إلى الجنةِ، فبهذا وجدَ ريحَ الجنةِ على مسيرةِ أربعين عامًا،
وأما السبعون فإنها آخرُ المعترَكِ، ويَعْرِضُ للمرءِ عندها منَ الخشيةِ
والندمِ لاقترابِ أجلِهِ ما لم يعرِضْ له قبل ذلك، ويزدادُ طاعتُهُ بتوفيقِ اللهِ
فيجدُ ريحَ الجنةِ من مسيرةِ سبعين عامًا، وأما وجهُ الخمس مائةِ فهي فترةُ ما بين
بينٍ وبين فيكونُ مَن جاءَ في آخرِ الفترةِ واهتدى باتباعِ النبيِّ الذي كانَ قبلَ
الفترةِ ولم يضره طولها فوجد ريح الجنة على خمس مائة عام. انتهى.
قوله: (فترة ما بين بين وبين) يحتاج إلى نظر وتوقيف.
(1/306)
وقولُ
البخاريِّ: وَقَالَ عُمَرُ، عَنِ النَّبِيِّ: «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ
اللهُ». تقدمَ مُسنَدًا في المزارعةِ، وقولُهُ أيضًا في الباب، حدثنا محمدُ، عن
ابنِ عيينةَ، فذكرَ حديثَ ابنَ عباسٍ المتقدمَ في الجهادِ، ذكرَ الجيَّاني أنَّ
أحدًا من رواةِ الكتابِ لم ينسبْ محمدًا هذا، وقد ذكرَ البخاريُّ في الوضوءِ:
حدثنا ابنُ سلام، ثنا ابنُ عيينةَ، وقالَ في عدة مواضع: عن محمدِ بنِ يوسفَ البيكندي،
عن ابنِ عيينةَ.
وروى الإسماعيليُّ حديثَ البابِ، عن الحسنِ بنِ سفيان، عن محمدِ بنِ خلادَ
الباهليِ، عن ابنِ عيينة.
قالَ الطبريُّ: في حديثِ البابِ بيانٌ للأمةِ إخراجُ كلِّ مَنْ كانَ بغيرِ دينٍ من
كلِّ بلدةٍ للمشركين، سواءٌ كانت تلكَ البلدةُ من البلادِ التي أسلمَ عليها
أهلُها، أو كانت من بلاد العُنْوةِ إذا لم يكن بالمسلمين ضرورةٌ إليهم، ولم يكن
للإسلامِ يومئذٍ ظهورٌ في غير الجزيرةِ ظهورُ قهرٍ، فإن كانت لهم بهم ضرورةٌ
فأكثرُ مُقامِهِم ثلاثةُ أيامٍ ولياليها كالذي فعلَ عمرُ وغيرُهُ.
فإن قيلَ: فقد أقرَّ عمرُ المجوسَ في السوادِ، والنصارى في بلادٍ قهرَهُم فيها.
قلنا: ليسَ كما ذكرتَ فإنَّ عمرَ لم يُقِرَّ أحدًا من أهلِ الشركِ في أرضٍ قد
قَهَرَ بها الإسلامُ وغلبَ، ولم يتقدمْ قبلَ ذلكَ قهرُهُ إياهم منه لهم أو من
المؤمنِ عقدُ صلحٍ على التركِ فيها إلا لضرورةِ المسلمين إلى إقرارهم فيها لضرورةِ
العمارةِ كما فعلَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ [168/أ]
مع اليهود حين أقرهم ثم أمر بإجلائهم عند الاستغناء عنهم.
(1/307)
وقد
حدثنا أبو كريب، حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا تَصْلُحْ قِبْلَتَانِ في الأرضِ»، فإذا صح هذا فالواجب
على الإمام إذا أقر بعض أهل الكتاب في بلاد المسلمين لحاجتهم إليها ألا يدعهم معهم
أكثر من ثلاثٍ، وأن يسكنهم خارج مصر كالذي فعل عمر وعلي، وأن يمنعهم اتخاذ الدور
والمساكن في أمصارهم, فإن اشترى منهم مشتر في مِصْرٍ من أمصار المسلمين دارًا أو
ابتنى به مسكنًا، فالواجب على الإمام أن يأخذه ببيعها كما يجب عليه لو اشترى
مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه، ويلتحق بهذا المسلم المجاهر بالفسق إذا شهد عليه
بذلك أو بأذى جيرانه فللحاكم إخراجه وإن كانت له دار أكراها عليه فإن لم يجد من
يكتريها باعها عليه، وعن ابن القاسم تكرى ولا تباع، وحديث من غير وجه أن الشيخ نجم
الدين بن الرفعة استفتى شيخنا ابن تيمية في مثل هذا فأجاب بأنه لا خلاف بين
المسلمين أن الحالتين لا تبقي مطلقًا إلا أن يرى الأمام في ذلك مصلحة أو كلاما هذا
معناه
(بَابُ: إِذَا غَدَرَ المُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ، هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ)
3169 - حَدَّثَنا ابنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا» الحديث. وفيه: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي
هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟،
قَالُوا: أَرَدْنَا أنَّ نعلمَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ منكَ، وَإِنْ
كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ». [خ 3169]
وعند مسلم: «مَا كانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكَ على ذلكَ». سعيد هذا هو المقبري.
[168/ب].
وأخرج أبو داود حديث الشاة من طريق ابن شهاب عن جابر ولم يسمع منه.
(1/308)
وفي
آخر المغازي قال البخاري: وَقَالَ يُونُسُ عَنِ عُرْوَةَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:
«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي
مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ
بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ»، وهو
تعليق أسنده الإسماعيلي فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد الواسطي،
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عَنْبَسَةَ بن خالد عن يونس فذكره.
وقال الحاكم في «الإكليل»: أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد، حدثنا يوسف بن موسى،
حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، الحديث.
وعند البخاري من حديث أنس قالوا: يا رسول الله ألا نَقْتُلُهَا -يعني التي سَمَّتْهُ؟
- قال: «لا»، قال: فما زلت أعرفها في لهواته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وعن ابن إسحاق: «فَدَعَا بالتي سَمَّتْهُ فَاعْتَرَفَتْ».
وعند أحمد عن ابن مسعود: «كُنَّا نَرَى أنَّه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سُمَّ
في ذراعِ الشَّاةِ، وأَنَّ الْيَهُودَ سَمُّوهُ».
وعن ابن عباس: «أنَّ النبيَّ احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ منْ أَكْلةٍ أَكَلَهَا منْ
شاةٍ مسمومةٍ».
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أنَّ أُمَّ
مُبَشِّرٍ دخلتْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيه، فقالت:
مَا تَتَّهِمُ على نفسك؟، قال: «الطعامُ الذي أَكَلَه ابنُكِ بِخَيْبَرَ، وهَذَا
أَوَانُ قطع أَبْهَرِي».
(1/309)
وعند
الواقدي عن الزهري أن زينب التي سَمَّتْهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هي ابنة
أخي مَرْحَب، وإن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال لها: «مَا
حَمَلَكِ عَلَى هَذَا»؟ قالت: قَتَلْتَ أَبِي وَعَمِّي وَزَوْجِي وَأَخِي، قال
محمد: فسألتُ إبراهيمَ بنَ جعفرٍ عن هذا، فقال: أبوها الحارثُ، وعَمُّهَا يَسَارٌ،
وَكَانَ مِنْ أَجْبَنِ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ مِنَ الرَّفِّ، قال: وَأَخُوهَا
زُبَيْرٌ وَزَوْجُهَا سَلَّامُ بْنُ مُشْكِمٍ.
وهذا [169/أ] يردُّ قول السُّهَيلي هي أخت مَرْحَب.
قال محمد بن عمر: والثبت عندنا أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قتلها ببشر بن البراء بن معرور-يعني الآكل معه منها- وأمر بلحم الشاة فأحرق.
وهذه المسألة سأل عنها مالك ابن أنس الواقديَّ، قال المنتجالي: وذلك أن مالكًا
سُئِلَ عنها ولم يكن عنده فيها شيء، فرأى الواقدي وهو إذ ذاك شاب، فسأله عنها،
فقال: الذي عندنا أنه قتلها، فخرج مالك إلى الناس فقال: سألنا أهل العلم فأخبرونا
أنه قتلها.
وعن الزهري قال: قال جابر: «احتجمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يومئذٍ علَى
الكَاهِلِ» حجمه أبو طَيْبَةَ بالقرن والشفرة، وقيل بل حجمه أبو هند، واسمه عبد
الله وفي «كتاب الطب» لأبي نُعَيْمٍ الحافظ عن عبد الرحمن بن عثمان: «احتجمَ
النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تحتَ كَتِفِهِ اليُسْرَى منَ الشَّاةِ التي
أَكَلَ يومَ خَيْبَرَ».
وعن عبد الله بن جعفر: «احتجمَ عَلَى قَرْنِهِ بعدَ مَا سُمَّ». في إسنادهما ضعف.
قال الواقدي: وألقى من لحم تلك الشاة لكلب فما تبعت يد رجلًا حتى مات.
وعند أبي داود: «أَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ». وفي لفظ: «قَتَلَهَا وصَلَبَهَا».
وفي «جامع معمر» عن الزهري: لما أسلمت تركها، قال معمر: كذا قال الزهري: أسلمت,
والناس يقولون قتلها وأنها لم تسلم، وكانت أهدت الشاة الْمَصْلية لصفية.
(1/310)
وقال
السُّهَيلي: قيل أنه صفح عنها، والجمع بين القولين: أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
كانت عادته أنه لا ينتقم لنفسه فلما مات بشر بعد ذلك بحول فيما ذكره البيهقي، وعند
القرطبي لم يبرح من مكانه حتى مات قتلها به، وعن ابن عباس دفعها إلى ولدا بِشْرٍ
فقتلها، ومن ذلك الحين لم يأكل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من
هدية تُهْدَى له حتى يأمر صاحبها [169/ب]
أن يأكل منها, جاء ذلك في حديث رويناه في «معجم ابن مُطَيْرٍ» بسند جيد قال: حدثنا
عبد الله بن أحمد بن حنبل , حدثنا سعيد بن أحمد, حدثنا أبو تميلة, حدثنا محمد بن
إسحاق, حدثنا عبد الملك بن أبي بكر عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عَنِ ابنِ
الْحَوْتَكِيَّةِ -يعني يزيد- عن عمار بن ياسر فذكره.
وذكره أيضًا أبو القاسم الدمشقي فيما رويناه عنه في «تاريخه» في ترجمة سَلْم بن
قتيبة, قال: حدثني أبي, حدثنا يحيى بن الحُصَين بن المنذر عن أبيه -أي سَاسَان-
قال: سمعت عمارًا به, وكان الملك الناصر محمد سأل عن هذه المسألة قديمًا على لسان
بعض خواصه جماعة العلماء يومئذ فكلهم ولا أحاشي أحدًا أجاب بأنه لم يرو من هذا
الباب شيء إلا كاتب هذه العجالة فإنه أجاب بما تقدم.
قال القرطبي في هذا الحديث: أن القتل بالسُّمِّ كالقتل بالسلاح الذي يوجب القصاص،
وهو قول مالك وقال الكوفيون: لا قصاص فيه، وفيه الدية على العاقلة، قالوا: ولو
دَسَّه في طعام أو شراب لم يكن عليه شيء ولا على عَاقِلَتِه.
وقال الشافعي: إذا فعل ذلك به وهو مكره ففيه قولان:
أحدهما: عليه القود وهو الصحيح.
والثاني: لا قود عليه.
وفي الحديث من علامات النبوة ما هو ظاهر من كلام الجماد، وأنَّ السم لم يؤثر فيه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حتى كان عند وفاته لتجتمع له النبوة مع الشهادة
مبالغة في كرامته، ورفع درجته.
(1/311)
وفيه
أن السموم لا تؤثر بذاتها بل بإذن الله تعالى ومشيئته، ألا ترى أنَّ السُّمَّ أثر
في بِشر ولم يؤثر في سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلو كان يؤثر
بذاته لأثر فيهما في الحال.
وعن الْمُهَلَّبِ يعفى عن المشركين إذا غدروا بمن يُسْتَدْرَكُ إصلاحه وجبره إذا
رأى ذلك الإمام، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم
بما يؤدي إليه اجتهاده، وأما إذا غدروا بما لا يستدرك جبره كالقتل وشبهه فلا سبيل
إلى العفو كقضية العرنيين، وإن كان قد قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا
زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادُّنِي حَتَّى الآن» لكنه عفا عنهم حتى إذا دنا
أجله وجد ألم السم، فلذلك لم يعاقبهم. انتهى.
التي سَمَّتْهُ إما أن تكون قتلت أو أسلمت، وفي كلا الحالتين لا سبيل إلى عقوبتها
حين وفاته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ولقائل أن يقول: ترك قتلها أو قتلهم لتأولهم، إذ قالوا: (أَرَدْنَا أنْ نعلمَ إنْ
كنتَ نَبِيًّا) الحديث.
أو يحمل على ما قررناه من أنه كان لا ينتقم لنفسه.
وفي دعائه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على الكفار في القنوت؛ لأنهم نقضوا عهده
وغدروا، أو أنه يئس من إيمانهم ورجوعهم من ضلالتهم، وأما الكفار الذين كان يرجو
إنابتهم وإقلاعهم عما هم عليه فكان لا يدعو عليهم بِشر.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ألا ترى أنه لما سُئِلَ أن يدعو على دَوْسٍ دعا لهم بالهدى،
وكذا قومه فأجيبت دعوته، وقد تقدم في الوتر، وكذا أمان النساء تقدم في الطهارة.
وقول البخاري في بَاب ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ، حَدَّثَنَي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنا
وَكِيعٌ.
فذكر الحديث المتقدم في الحج، قال الجياني: نسبه ابن السكن بن سلام، وقال الكلاباذي:
محمد بن مقاتل، ومحمد بن سلام، ومحمد بن نمير رووا في «الجامع» عن وكيع بن الجراح.
(بَابُ: إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا، وَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا)
(1/312)
قَالَ
ابنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ».
هذا التعليق رواه البخاري في المغازي مسندًا
فقال: حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي
جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا:
أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ
مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، فَلَّمَا قَدِمْنَا ذَكَرْنَا ذلك للنبيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فقالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»
مرتين. انتهى.
ومقصود البخاري من هذا: لفظة: (صَبَأْنَا)، وكأنه أحال على أنه معروف في الحديث.
قال: (وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ مَتْرَسْ فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
الأَلْسِنَةَ)
هذا التعليق ذكره مالك في «الموطأ» بلفظ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَامِلِ
جَيْشٍ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يَطْلُبُونَ الْعِلْجَ، حَتَّى إِذَا
أَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ، وَامْتَنَعَ، قَالَ رَجُلٌ: مَتْرَس، يقولُ: لا تَخَفْ،
فَإِذَا أَدْرَكَهُ قَتَلَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا
فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
قال مالك: وليس على هذا العمل.
قال: (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَكَلَّمْ لَا بَأْسَ)
(1/313)
هذا
التعليق رواه ابن أبي شيبة، عَنْ مروانَ بنِ مُعَاويةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: حَاصَرْنَا تُسْتَرَ فَنَزَلَ الْهُرْمُزَانُ عَلَى حُكْمِ عُمَرَ
بنِ الخَطَّابِ، فلَمَّا قدم به عليه استعجم، فَقَالَ له عمرُ: تَكَلَّمْ لَا
بَأْسَ عليكَ، فكانَ ذلكَ عَهْدًا وتَأْمِيْنًا منْ عمرَ.
قال ابن المنير: مقصود الترجمة أن المقاصد تعتبر بأدلتها، كيف ما كانت الأدلة
لفظية أو غيرها على وفق لغة العرب أو غيرها.
و (مَتَرْس) بفتح التاء وسكون الراء، ضبطه هكذا الأَصِيلي، وضبطه غيره:
<مَتَرس> وعند أبي ذر: <مِتْرَس> وأهل خراسان كانوا يقولون ليحيى بن
يحيى في «الموطأ»: «مِطْرس». قال القاضي: معناها في لسان العجم: لا بأس.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: يؤخذ من هذا أنه سواء خاطبنا العجم بلغتهم أو بلغتنا على
معنى الأمان، فقد لزم الأمان وحرم القتل.
ولا خلاف بين العلماء أن من أمَّنَ حربيًا بأي كلام يُفْهَمُ منه الأمان فقد تمَّ،
ومنهم من يجعل الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول مالك والشافعي وجماعة.
قالَ الْمُهَلَّبُ: لم يفهم خالد من قولهم: (صَبَأْنَا) إسلامًا، وإنما قالوا ذلك؛
لأن قريشًا كانت تسمي المسلمين الصُباة، فلهذا إنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عذر خالدًا ولم يَقِدْ منه.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنما نقم على خالد استعجاله؛ لأن الصبأ مقتضاه الخروج من
دين إلى دين، أو يحتمل أن يكون خالد لم يكفَّ عنهم ظنًا منه إنما عدلوا عن اسم
الإسلام إلى صبأنا أنفةً من الاستسلام والانقياد، فلم يره إقرارًا بالدين.
(1/314)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: لا خلاف أن القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن
كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط والضمان لازم عند عامة
أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في ضمان ذلك، فإن كان في قتل أو جراح ففي بيت المال،
وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقالت طائفة: هي على عاقلة الإمام أو
الحاكم، وهذا قول الأوزاعي ومحمد وأبي يوسف والشافعي، وقال ابن الماجشون: ليس على
الحاكم شيء من الدية في ماله ولا على عاقلته ولا في بيت المال.
وذكر ابن حبيب، عن ابن الماجشون: أن ذلك من عمر تشديد، وعن بعض العلماء أنه جعل
قيمته في المغنم.
وقول مالك: وليس على هذا العمل، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: يعني قتل المسلم بالكافر،
وأما جواز التأمين فعليه العمل.
والصَّابِئ: من خرج من دين إلى دين، يقال: صبأ فهو صابئ وهم الصابئون؛ وذلك لأنهم
خرجوا من اليهودية إلى النصرانية، وقيل: إنما يقال: صبأ يصبو بغير همز فهو صابئ
بالهمز.
وقول عمر: ما صبوت، يدل على ترك الهمز، ويجوز أن يكون هذا على تخفيف الهمز، ذكره
القَزَّازُ.
وفي «المحكم»: يزعمون أنهم على دين نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بكذبهم،
وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار، قال عياض: ومنهم من يعبد الملائكة ومنهم
من يعبد الدراري، وقد تقدم شيء منه.
الباب الذي بعده تقدم حديثه في الصلح.
(بَابٌ: هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ؟)
وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّهُ سُئِلَ:
أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ فَقَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ
يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ».
(1/315)
هذا
التعليق ذكره ابن وهب في «جامعه»: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثَنا
يَحْيَى، عَنْ هِشَامٌ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ
صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ».
وفي رواية: «حَتَّى كانَ ذاتَ يومٍ دَعَا وَدَعَا» ثم قال: «أَشَعَرْتِ أَنَّ
اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي، أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا
عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا
وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ
الْأَعْصَمِ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ
هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» وفيه: «فَقَالَتْ: هَلَّا اسْتَخْرَجْتَهُ؟
فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُؤَثرَ ذَلِكَ
عَلَى النَّاسِ شَرًّا» ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ.
في «مختلف الحديث» لابن قتيبة: أن عليًا استخرج السحر، فكلما حلَّ عقدة وجدَ
النبيُّ خفةً، فلما انتهى
قام كأنما نشط من عِقَال.
قرأت على المسند المعمر أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد القوي، أخبرنا
الإمام تاج الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن علي، أخبرنا الإمام أبو الحسين محمد بن
أحمد بن جبير، عن أبي عبد الله محمد بن أبي محمد عبد الله التميمي، أخبرنا أبو
الفضل اليَحْصُبِي رحمه الله تعالى، قال: فإن قلت فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سُحِرَ، وذكر حديث الباب، ثم قال: وفي رواية أخرى:
«حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يأتي النِّسَاءَ ولا
يَأِتِهِنَّ».
وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حالُ سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في ذلك؟، وكيف جاز عليه وهو معصوم؟.
(1/316)
فاعلم
أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الْمُلْحِدة وتذرعت به، لسخف عقولها
وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع، وقد نَزَّه الله جلَّ وعزَّ الشرعَ
والنبيَّ عما يدخل في أمره لبسًا، وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز
عليه بأنواع الأمراض مما لا ننكر ولا يقدح في نبوته.
وأما ما ورد أنه كان يُخَيَّلُ إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل
عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في شيء من صدقه، لقيام الدليل
والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُرُوءُه عليه في أمر دنياه التي
لم يُبْعَثْ بسببها، ولا فُضِّلَ من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر،
فغير بعيد أنْ يُخَيَّلُ إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم يتخلَّى عنه كما كان.
وأيضًا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله: «حَتَّى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
أَنَّه يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِهنَّ».
وقد قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر،
ولم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول، بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم
يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات.
وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشيء أنه فعله وما فعله، لكنه تخيل لا
يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السداد وأقواله على الصحة، هذا ما وقفت عليه
لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث، وقد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد عن
مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن
ابن المسيب وعروة، وقال فيه: «سَحَرَ يهودٌ منْ زُرَيْقٍ رسولَ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ
يُنْكِرَ بَصَرَهُ، ثم دَلَّه الله جل َّوعزَّ على ما صنعوا فاستخرجه منَ البئرِ».
(1/317)
وذكر
عن عطاء الخراساني، عن يحيى بن يَعْمر قال: «حُبِسَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عَنْ عائشةَ سنةً، فبينا هو نائمٌ أَتَاهُ ملكانِ فَقَعَدَ أحدُهُمَا
عندَ رأسهِ والآخرُ عندَ رجلَيْهِ» الحديث.
قال عبد الرزاق: حُبِس رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن عائشة -خاصة- سنة
حتى أنكر بصره، فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره
وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وَطاءِ
نسائه، ويكون معنى قوله: (يُخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتهن)، أي: يظهر له من
نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء، وإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر، فلم يقدر
على إتيانهن كما يعتري من أُخذ واعتُرض.
ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة:
إنه ليخيل إليه
أنه فعل الشيء وما فعله من باب ما اختل من بصره، كما ذكر في الحديث، فيظن أنه رأى
شخصًا من بعض أزواجه أو شاهد فعلًا من غيره، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه
في بصره وضعف نظره، لا لشيء طرأ عليه في مَيْزِه، وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من
إصابة السحر له، وتأثيره فيه ما يُدخل لبسًا ولا يجد الملحد المعترض أنسًا.
قوله: (مَطْبُوبٌ) أي مسحور، يقال منه: طُبَّ الرجل، والاسم الطِب بالكسر، وفي
الحديث: «فَلَعَلَّ طِبَّا أَصَابَهُ)، ثم نشره بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ} [الناس: 1]، وقال ابن الأسلت فيما أنشده أبو المعاني:
~ ألا من مبلغ حسان أني أطب كان ذلك أم جنون
وسيأتي الكلام على الطب في موضعه.
والمشاطة: ما سقط من الشعر عند المشط.
الكلام عن السحر تقدم في الوقف.
وقولها: (أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ) يعني: السحر أو لبيد بن الأعصم.
وفيه: حجة لمالك ومن قال بقوله أن الساحر يقتل إذا عمل بسحره، وإنما تركه؛ لأن
اليهود كانوا في عهد منه وذمة. انتهى.
(1/318)
كيف
يتصور عهدهم مع فعلهم هذا ولا عهد لهم به؟! والظاهر أنما ترك قتله لما ذكر في
المنافقين وهذا يرجح قول من قال: كان لبيد منافقًا.
(بَابٌ: مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ)
3176 - حَدَّثَنا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا
عَبْدُ اللهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ،
سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِي قُبَّةِ أَدَمٍ
فَقَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ
فِيكُمْ كَعِقَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى
الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى
بَيْتٌ مِنْ بيوتِ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ
ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا». [خ 3176]
عند أبي داود: قال عوف: يا رسول الله، أدخل كلي قال: «كُلُّكَ» قال عثمان بن أبي
العاتكة: إنما قال: أدخل كلي من صغر القبة.
ورويناه في «كتاب الطبراني»، عن إبراهيم بن دُحيم، حدثني أبي، حدثنا الوليد بن
مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء، حدثني زيد بن واقد، عن بُسر، قال: حدثني أبو
إدريس، قال: حدثني عوف بن مالك فذكره.
وعن الطبراني رواه أبو نعيم في «مستخرجه» كما رواه البخاري؛ لم يذكر زيدًا.
ورواه الإسماعيلي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ابن دُحيم كذلك، قال: وحدثنا ابن
ناجية، حدثنا ابن المثنى، حدثنا الوليد فذكره كذلك.
(1/319)
فينظر
في الذي ذكرناه عن الطبراني فإنه ثابت في الأصل، فإن صحَّ فهو خدش في حديث
البخاري؛ لأنَّ دُحَيْمًا يحفظ حديث أهل الشام، وإليه فيه يرجع فينظر.
وعنده أيضًا من طريق خالد بن مَعْدَان، وعبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف
بزيادة: «وفُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا
الْغُوطَةُ؛ مَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ».
وعند أبي داود - بسند جيد - من حديث ذِي مِخْبَرٍ بيان سبب غدرهم، قال: سمعت النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «سَتُصَالِحُكُمُ الرُّومُ صُلْحًا آمِنًا،
ثُمَّ تَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ، ثُمَّ
تَنْصَرِفُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْج ذِي تُلُولٍ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الصَّلِيبِ الصَّلِيبَ، فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَيَقُومُ إِلَيْهِ فَيَدْفَعُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ، وَيَجْمعُونَ
لِلْمَلْحَمَةِ فَيَأْتُونَ تَحْتَ ثَمَانِينَ رَايَةٍ، تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ
اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فَيَثُورُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ فَيُكْرِمُ
اللهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ بِالشَّهَادَةِ» وعن ابن بسر مرفوعًا: «بَيْنَ
الْمَلْحَمَةِ وَفَتْحِ الْمَدِينَةِ سِتُّ سِنِينَ، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي
السَّابِعَةِ».
قال أبو داود: وهو أصح، يعني من حديث معاذ مرفوعًا: «الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى،
وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ».
(1/320)
وعند
ابن دِحْيَة من حديث حذيفة مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْسِلُ مَلِكَ
الرُّومِ، وَهُوَ الْخَامِسُ مِنْ آلِ هِرَقْلَ يُقَالُ لَهُ: ضُمَارَة،
فَيَرْغَبُ إِلَى الْمَهْدِيِّ فِي الصُّلْحِ، وَذَلِكَ لِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيُصَالِحُهُ إِلَى سَبْعَةِ أَعْوَامٍ، فَيَضَعُ
عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَلَا يُبْقِي لِرُومِيٍّ
حُرْمَةً، وَيَكْسِرُون لَهُمُ الصَّلِيبَ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى
دِمَشْقَ، فَبَيْنا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا بِرَجُلٍ مِنَ الرُّومِ قَدِ الْتَفَتَ فَرَأَى
أَبْنَاءَ الرُّومِ وَبَنَاتِهِمْ فِي الْقُيُودِ، فَرَفَعَ الصَّلِيبَ وَرَفَعَ
صَوْتَهُ، وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ فَلْيَنْصُرْهُ،
فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقُولُ:
اللهُ أَغْلَبُ وَأَعَزُّ، فَحِينَئِذٍ يَغْدِرُونَ، وَهُمْ أَوْلَى بِالْغَدْرِ،
فيَجْتَمِعُ عِنْدَ ذَلِكَ مُلُوكُ الرُّومِ خُفْيَةً، فَيَأْتُونَ إِلَى بِلَادِ
الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ مُقِيمُونَ عَلَى الصُّلْحِ، فَيَأْتُونَ
إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَايَةٍ، تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ
اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَبْعَثُ الْمَهْدِيُّ إِلَى أَهْلِ
الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْعِرَاقِ
يَسْتَنْصِرُوهُمْ، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِ أَهْلُ المشَّرْقِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَنَا
عَدُوٌّ مِنْ خُرَاسَانَ شَغَلَنَا عَنْكَ، فَيَأْتِي إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَيَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ،
وَقَدْ مَكَثَ الرُّومُ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُفْسِدُونَ وَيَقْتُلُونَ،
فَيُنْزِلُ اللهُ صَبْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ» الحديث.
(1/321)
وعند
ابن برجان في كتاب «الإرشاد» بسند فيه ضعف، عن حذيفة يرفعه: «إِنَّ دُونَ أَنْ
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا خِلَالًا سِتًّا: أَوَّلُهَا مَوْتِي، وفَتْحُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، ثُمَّ يَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ
فَيَسْخَطُهَا، وَمَوْتٌ كَعِقَاصِ الْغَنَمِ، وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي الْأَصْفَرِ
يَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ كَنَبَاتِ الشَّهْرِ، وَفِي الشَّهْرِ كَنَبَاتِ
السَّنَةِ».
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «فَيَرْغَبُ فِيهِ قَوْمُهُ
فَيُمَلِّكُونَهُ وَيَقُولُونَ: نَرْجُو أَنْ يُرَدَّ بِكَ عَلَيْنَا مُلْكُنَا»
الحديث.
(الْمُوتانِ) قال ابن الجوزي: يغلط بعض أصحاب الحديث في هذا فيقول: مَوَتان - بفتح
الميم والواو - وإنما ذلك اسم للأرض التي لم تحيا، وفيها لغة أخرى: فتح الميم
وإسكان الواو، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث أن اللِّحْياني حكى في «نوادره»: وقع في المال مُوتان ومَوَات.
قال ابن درستويه في شرح كتاب «الفصيح»: الموتان والموَات كثرة الموت والوباء.
وقال عياض: ضم الميم لغة بني تميم، وغيرهم يفتحها وهو اسم للطاعون، وعند ابن
السكن: موتتان، ولا وجه له هنا.
و (القُعَاصِ) بقاف مضمومة وبعد العين المهملة والألف، صاد مهملة – داء يأخذ الغنم
لا يلبثها، قال في «الموعب»: هو داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق، وقال بعضهم:
هو بالسين من العقص، وهو: انتصاب النحر وانحناؤه نحو الظهر، والعقاص أيضًا: داء
يأخذ الدواب تسيل منه أنوفها، وقد قُعصت فهي مقعوصة.
و (الْهُدْنَة) أصلها السكون، يقال: هدنت أهدن، فسمي الصلح على ترك القتال هدنة
ومهادنة؛ لأنه سكون عن القتال بعد التحرك فيه.
(1/322)
قال
الجواليقي: غايةً ورايةً واحد؛ لأنها غاية المتبع إذا وقفت وقف وإذا مشت تبعها،
ورواه بعضهم: غابة - بباء موحدة - وهي: الأجمة، شَبَّه كثرة الرماح بالأجمة، ذكره
القاسم بن سلام.
قال أبو سليمان الخطابي: استعيرت للرايات وما معها من الرماح.
قال الْمُهَلَّبُ: هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وقد ظهر كثير من هذه العلامات.
الباب الذي بعده تقدم في الحج.
وأما بَابُ: إِثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ، ففيه حديث ابن عمر وقد تقدم في
كتاب الإيمان والثاني في الحج.
قال البخاري:
3180 - وَقَالَ أَبُو مُوسَى: حَدَّثَنا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنا إِسْحَاقُ
بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا
لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ قِيلَ لَهُ: أوَ تَرَى ذَلِكَ
كَائِنًا؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ
الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللهِ
وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَيَشُدُّ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ
قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ». [خ 3180]
كذا هذا الحديث معلق في أكثر نسخ الجامع، وقاله أيضًا أصحاب الأطراف والإسماعيلي
والحميدي في «الجمع بين الصحيحين» وأبو نعيم الحافظ، وقد وقع لنا هذا في بعض
الأصول، قال البخاري: حدثنا أبو موسى متصلًا.
قال الْمُهَلَّبُ: الغدر بأهل الذمة لا يجوز؛ لأنهم معايش المسلمين وأرزاق عيالهم،
ثم أعلمهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنهم متى ظلموا منعوا ما في أيديهم واشتدوا
وحاربوا وعادوا للفتنة، فلم يجد المسلمون شيئًا، فضاقت أحوالهم وقلت أموالهم، وهو
أيضاَ من علامات النبوة.
ولما ذكر الحميدي هذا الحديث في أفراد البخاري قال: قد أخرج مسلم معناه بلفظ آخر
وَجَبَ تَفْرِيْقُهُ، وإلا فهو في المعنى متفق عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق